الترادف وعلاقته بتوجيه مشكل القرآن

كان لموضوع الترادف حضورٌ في عدد من مسائل مشكِل القرآن، وهذه المقالة تسلِّط ضوءًا على هذا الموضوع، فتدرس عددًا من الأمثلة، كاشِفة عن علاقة الترادف بتوجيه المشكل، بعد مقدمة في تعريفه واختلاف العلماء فيه، والمقالة مستلّة من كتاب (أثر البلاغة في توجيه مشكل القرآن).

الترادف وعلاقته بتوجيه مشكل القرآن[1]

الترادف لغة: الركوب خلف الراكب[2]، واصطلاحًا: ما اختَلَف لفظُه واتّفَقَ معناه[3].

والعلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي: أنّ المعنيين قد يترادفان على اللفظ الواحد كما يترادف الراكبان على الدّابة الواحدة[4].

وقد اختلف العلماءُ في وجوده[5]: فأنكره ابن الأعرابي وثعلب وابن فارس، وأثبته الجمهور، وقولهم هو الصحيح؛ إِذْ لا يمكن التفريق بين جميع المترادفات إلا بضربٍ من التكلّف، ذلك أنَّ أكثر المترادفات ترجع لاختلاف لغات القبائل، وهذا أمرٌ طبعيٌّ؛ إِذْ تضع قبيلةٌ للشيء اسمًا وتضع له قبيلةٌ أخرى اسمًا آخر من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان ويخفى الواضعان.

وعلى ذلك فالصحيح ثبوت الترادف في اللغة، لكنه قليل، فالأصل أنَّ الألفاظ متباينة، فإذا لم يوجد بين اللفظين فرقٌ ظاهر فهما مترادفان.

والترادفُ خلافُ الكثير الغالب؛ إِذ الغالب أن يختصّ كلُّ لفظ بمعنى معيّن.

ومع أنَّ الجمهور قالوا بالترادف في اللغة إلا أنّ كثيرًا منهم نفى وجوده في القرآن خاصةً، وعلى ذلك فنقول: الترادف في اللغة ثابت لكنه «قليلٌ، وأمّا في ألفاظ القرآن فهو إمّا نادر وإمّا معدوم، وقلّ أن يُعَبَّر عن لفظ واحدٍ بلفظٍ واحدٍ يؤدِّي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن»[6].

وللمترادف فوائد للبليغ، منها[7]:

1- أن تكثر الوسائل إلى الإخبار عمّا في النفس، فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عَسُر عليه النطق به، كتجنّب ألثغ نُطْق الرّاء.

2- التوسّع في سلوك طرق الفصاحة وأساليب البلاغة في النَّظْم والنثر؛ وذلك لأنَّ اللفظَ الواحد قد يتأتّى باستعماله مع لفظ آخر السَّجْعُ والقافيةُ والتجنيسُ والترصيعُ وغيرُ ذلك من أصناف البديع، ولا يتأتّى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ.

3- قد يكون أحدُ المترادفين أجلى من الآخر فيكون شرحًا للآخر الخفيّ، وقد ينعكس الحال بالنسبة إلى قومٍ دون آخرين.

4- استعمال المترادفين للتوكيد، وسمّاه أبو هلال العسكري (الإطناب بالتذييل)، وقال: «هو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه ويتوكّد عند مَن فهمه»[8].

وقد كان موضوع الترادف سببًا لكثير مما يُتوهم من مشكلات القرآن، وفيما يأتي دراسةٌ لبعضها، وبيانٌ لأثر البلاغة في حَلِّها:

1- قوله تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: 2].

الإشكال ووجهه[9]:

الضلال والغواية واحدة، فما فائدة قوله تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾؟

توجيه الإشكال:

الضلال: الجهل، والغواية: اتّباع الهوى، فقد نفاهما -سبحانه وتعالى- عن نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، فبالضلال تَرِد الشبهات، وبالغواية تَرِد الشهوات، وقد دار المفسِّرون حول هذين المعنيين بإشارات مجملة، وحقّق المقصود بما لا مزيد عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية وتلميذُه ابنُ القيم فقالَا ما حاصله: فساد الدِّين يقع من أحد أمرين: الشبهات، أو الشهوات، قال تعالى عن المنافقين: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة: 69]. فالاستمتاع بالخَلاق: اتّباع الشهوات، والخوض: اتّباع الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرًا ما يجتمعان، فقَلَّ مَن تجد في اعتقاده فسادًا إلا وهو يَظهر في عمله.

ولهذا نفاهما الله -سبحانه وتعالى- عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾، فنزّهه عن الضلال وهو الجهل الذي ترِد منه الشبهات، وعن الغواية وهي اتّباع الهوى الذي ترِد منه الشهوات. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في خلفائه من بعده: (عليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين مِن بعدِي)[10]. فالراشد: ضد الغاوي، والمهدي: ضد الضال. ولهذا كان السلف يقولون: «احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكلّ مفتون». فهذا يشبه المغضوب عليهم، الذين يعلمون الحقّ ولا يتّبعونه، وهذا يشبه الضالّين الذين يعملون بغير علم.

وقد وصفَ اللهُ أئمة المتقين فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]. فبالصبر تُترَك الشهوات، وباليقين تُدفَع الشبهات. ومنه قوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3]، وقوله: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45][11].

ومما تقدَّم يَظهر فنٌّ من فنون البديع في التعبير بالضلال والغواية، وهو (حسن التقسيم)، وقد اتّكأ على لفظين ظاهرهما الترادف.

2- قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23].

الإشكال ووجهه[12]:

التولّي والإعراض واحد، فما فائدة قوله تعالى: ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾؟

توجيه الإشكال:

التولّي والإعراض معناهما واحد في معاجم اللغة[13].

ومعنى الآية: ولو عَلِمَ اللهُ في هؤلاء المشركين المكذِّبين خيرًا لأسمعهم سماعًا ينتفعون به، ولكنه عَلِمَ أنه لا خير فيهم، ولو أسمعهم -على سبيل الفَرْض وقد عَلِم أنه لا خير فيهم- لتولَّوا وهم معرضون.

ويمكن أن يُجاب عن الآية بجوابَيْن:

الأول: أنّ هذا من باب التوكيد ذمًّا لحالهم، فقد أفاد قوله: ﴿لَتَوَلَّوْا﴾، أنّ الله تعالى لو أسمعهم سماع تفهُّم لتولّوا عنه، وأفاد قوله: ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾، أنَّ هذا الإعراض والتولّي لم يزل شأنهم وعادتهم، وهي مُشعرة بالتعليل لسبب تولّيهم، وعلى هذا فاللفظان مترادفان، لكن أُتِيَ في الأول بالفعل لتعلّقه بِفَرْضٍ معيّن وهو قوله: ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾، وعُبِّر في الثاني بالاسم للدلالة على الاستمرار والدوام والتعليل لما قبله.

وقال ابن عاشور: «وصوغ هذه الجملة بصِيغَة الجملة الاسمية للدلالة على تمكّن إعراضهم، أي: إعراضًا لا قبول بعده، وهذا يفيد أنّ من التولّي ما يعقبه إقبال، وهو تولّي الذين تولَّوا ثم أسلموا بعد ذلك؛ مثل مصعب بن عمير»[14].

وإنما لم يُعَد لفظ التولِّي بعينه لأمرين: تجنبًا للتكرار، ولأنّ في صوغ الاسم منه ثقلًا؛ ولذلك لم يرِد في القرآن: (مُتَوَلُّون).

وعلى ذلك فجملة: ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ حالية مؤكِّدة.

فإن قيل: الجملة الحالية المؤكِّدة يمتنع اقترانها بالواو مطلقًا.

فيُقال: هذا مقتضى إطلاق كثير من النحاة، ويحتمل التفصيل؛ وهو أن المنع خاصّ بالجملة الحالية المؤكِّدة لمضمون الجملة، أمّا المؤكِّدة لمعنى عاملها كهذه الآية فيجوز اقترانها بالواو، وهو ما يُفهم من كلام ابن هشام[15].

ويمكن أن تكون الواو استئنافية، وهو متعيِّن عند من يمنع عطف الجملة الاسمية على الفعلية.

ويمكن أن تكون اعتراضية، وهو يصدق على اصطلاح البيانيين لا النحاة، كما بيّنه القزويني بقوله: «فرقة لا تشترط فيه -أي: في الاعتراض- أن يكون واقعًا في أثناء كلام أو بين كلامين متّصلين معنًى؛ بل يجوز أن يقع في آخر کلام لا يليه كلام، أو يليه كلام غير متصل به معنًی»[16].

الثاني: أنّ التولِّي بالقلب، والإعراض بالبَدن؛ لأنَّ مَن أعرضَ فقد أبدى عَرْضَه، أي: ناحيته، وعلى ذلك فاللفظان متباينان هنا، ولا يمنع أن يُستعمَلَا بمعنى واحد إذا افترقَا، وهو كثير في القرآن، فيكونان كلفظتي الفقير والمسكين؛ إذا افترقَا اجتمعَا وإذا اجتمعَا افترقَا. والله أعلم.

3- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: 77].

الإشكال ووجهه[17]:

الخوف والخشية واحدٌ في اللغة، فكيف قال تعالى: ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾؟

توجيه الإشكال:

فَسَّرت المعاجم الخوف بالخشية[18]، والصحيح أنهما متقاربان لا مترادفان، بدليل العطف، وهو في الأصل يقتضي المغايرة؛ ولذلك نقول: بينهما فرقٌ، فالخشية أخصُّ من الخوف، وذلك من وجهين[19]:

الأول: أنّ الخشية تكون بسبب عَظمة المخشيّ، بخلاف الخوف فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف.

الثاني: أنّ الخشية تكون مع العلم بالمخشيّ وحالِه، والخوف قد يكون من الجاهل.

وهكذا جاء قوله تعالى: ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾، فقد فسَّره ابنُ عباس -رضي الله عنه- وجميع المفسِّرين: «لا تخاف من فرعون دركًا، ولا تخشى من البحر غرقًا»[20].

فعُبِّر مع فرعون بالخوف، لهوانه على الله، ولأنّ الخوف منه ناشئ من الأتباع لا من حقيقة حاله، بخلاف البحر فإنه جنديٌّ عظيم من جنود الله، أهلك اللهُ به فرعون وقومَه، وأهلك قومَ نوح بالطوفان، فلعظمته عُبِّر معه بالخشية.

فإن قيل: الأصل أنَّ المعنى: لا تخاف دركًا ولا تخشی دركًا، فمِن أين قَدَّرُوا (غرقًا)؟

فيُقال: حُذِف المفعول للعِلْم به، بدلالة السياق، ولقوله تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ [الشعراء: 60- 66]. وهو من تفسير القرآن بالقرآن. ولأنّ الكلام إذا دار بين التأسيس والتوكيد فَحَمْلُه على التأسيس أَوْلى.

وغَرَضُ حَذْفِ المفعول هنا: الإيجاز، وإفادة العموم؛ ليدخل فيه البحر وغيره، ورعاية الفاصلة.

4- قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 80].

الإشكال ووجهه[21]:

النَّجْوى هو السِّرُّ، فكيف عُطِفُ عليه؟

توجيه الإشكال:

اختُلف في لفظي (السِّرّ) و(النَّجْوَى) على قولين:

القول الأول: أنهما مترادفان[22]، وإنما جُمع بينهما من باب التوكيد.

ويُناقَش: بأنّ الترادف خلاف الأصل، كما أنّ أحدهما عُطف على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة؛ ولذلك كان عطف المترادف معيبًا عند البلاغيين[23].

القول الثاني: أنهما متباينان، واختَلَف القائلون بذلك في وجه الفرق بينهما:

فقيل: السِّرُّ: حديث النفس، والنَّجوى: ما تَكَلَّمُوا به فيما بينهم بطريق التناجي[24].

وقيل: السِّر: ما حَدَّث به الرجل نفسه أو غيره في مكانٍ خالٍ. والنَّجْوَى: ما تكلّموا به فيما بينهم. ذكره الزمخشري وغيره[25].

ويلاحَظ أنّ الفريقين متّفقان على أنَّ النجوى تُطلق على التناجي بحضرة الآخرين، ومتّفقان أيضًا على أنّ السّر يُطْلَقُ على حديث النفس.

وإنما اختَلفوا في إطلاق النجوى على التناجي في المكان الخالي، واختلفوا كذلك في إطلاق السِّر على حديث الغير:

فأمّا إطلاق النَّجْوى على التناجي في المكان الخالي، فالصحيح الذي يثبت على السَّبْر وتنتظمه جميع الآيات هو ما ذهب إليه الزمخشري، وهو أنّ التناجي لا يكون إلا بحضرة الغير، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ [طه: 62]، ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المجادلة: 10]، ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80].

وأمّا إطلاق السِّر على حديث الغير، فالأقرب فيه أيضًا مذهب الزمخشري، فقد تتبعْتُ ورود هذه المادة في القرآن، وظهر لي صحة مذهبه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ [التحريم: 3]. وقول نوحٍ -عليه السلام-: ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 9]. فهاتان الآيتان صريحتان في إطلاق السِّر على الحديث مع الغير.

فإن قيل: يَرُدُّ هذا المذهبَ قولُه تعالى: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾ [يوسف: 77]، فقد دَلَّت الآيةُ على أنّ السر يُطْلَقُ على حديث النفس؟

فيُقال: هذا المعنى للسِّر لا نخالف فيه، فقد دلّت عليه آيات أصرح منها، كقوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ [يونس: 54]. والندم عملٌ قلبيّ.

وإنما الخلاف بيننا في إطلاق السِّر على الحديث مع الغير، والآية المذكورة دليلٌ لنا؛ ذلك أنّ الله تعالى قَيَّد إسرار يوسف -عليه السلام- بقوله: ﴿فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾، ولو كان الإسرار إنما يدلّ على حديث النفس فقط لم يُحتج إلى التقييد بذلك، لكن لمّا كان محتملًا للأمرين قُيِّد.

ومن ذلك إطلاق الإسرار على الفعل مجازًا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ [البقرة: 235]. وهو الزِّنَى على ما رجّحه ابنُ جرير، واستَشهَد عليه بشواهد من شعر العرب[26].

ونظيره قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [المجادلة: 8]، فإنّ القول في الأصل يُطلَقُ على اللفظ، فإذا أطلق على حديث النفس قُيِّد به.

إذا تقرّر ذلك فنعود إلى الآية موضع الإشكال، وهي قوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 80]، فنقول: النّجوى: التناجي، وأمّا السِّر فهو محتمل لحديث النفس، أو للحديث مع الغير، ولا مانع من حمل الآية على المعنيين جميعًا من باب حمل المشترك على معنييه، والمعنى: أيظنُّ هؤلاء المشركون بالله أنّا لا نسمع ما يحدِّثون به أنفسَهُم مِن كيدِ محمد، وما يتسَارُّون به، وما يتناجون به دون غيرهم؟ بلى نسمع ذلك، وحَفَظَتُنا عندهم يكتبون. والله أعلم.

5- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14].

الإشكال ووجهه[27]:

كيف جاء التمييز أولًا بالسَّنَة وثانيًا بالعام؟

توجيه الإشكال:

الإجابة عن ذلك فرعٌ عن معنى السَّنَة والعام، وقد اختُلف فيهما على قولين:

القول الأول: أنهما بمعنى واحد[28]، وعلى ذلك فقد كُرّر المعنى للتوكيد، وخُولف بين اللفظين للتفنّن وكراهة إعادة اللفظ بعينه، وفي ذلك يقول الزمخشري: «فإن قلت: فلِمَ جاء المميِّز أوّلًا بالسَّنَة وثانيًا بالعام؟ قلتُ: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيقٌ بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلِّم من تفخيمٍ أو تهويلٍ أو تنويهٍ أو نحو ذلك»[29]. وتابعه على ذلك البيضاوي وأبو حيان وابن عاشور[30].

وعلى هذا فيكون نوح -عليه السلام- قد لبث في قومه تسعمائة وخمسين عامًا، ويكون الاستثناء متصلًا.

وعلى هذا القول يرِد إشكال، وهو سبب التعبير بهذه الصيغة دون: (فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عامًا).

الجواب[31]: أنّ في قوله: ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾، إيحاء بطول المدة، لكون أوّل ما يباشِر السَّمْعَ ذِكْرُ الأَلِف، فتشعر بعظيم جهاد نوح -عليه السلام-، وما كابده من طول المصابرة، وفي ذلك تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يلقاه من أُمّته وتثبيت له، وتمهيد العُذرِ لنوحٍ -عليه السلام- في الدعاء على قومه.

كما أنّ في هذه الصيغة إزالةً للتوَهُّم، فلو قلنا: (تسعمائة سنة وخمسين عامًا)، لأوهم أنَّ ذلك على سبيل المبالغة لا التمام، أمّا لفظ القرآن فجاء بالاستثناء وهو يرفع احتمال التوَهُّم المجازي، ولا يحتمل الزيادة عليه ولا النقصان منه، فإنّ إخبارَك عمّن سكن دارًا ثلاثين يومًا بأنه سكنَ عشرين يومًا صادقٌ؛ لأنه سكنَ العشرين وزيادة، بخلاف قولك: سكن أربعين إلا عشرة أيام، فإنّ هذا اللفظ لا يحتمل الزيادة. ويسمى هذا الأسلوب عند البلاغيين: (الاستثناء)، وشرط كونه من البديع أن يتضمن ضربًا من المحاسن زائدًا على ما يدل عليه المعنى اللغوي.

القول الثاني: التفريق بين اللفظين، وأنهما «وإن اتسعت العرب فيهما، واستَعملت كلّ واحد منهما مكان الآخر اتساعًا، ولكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقًا»[32]واختلف هؤلاء في وجه الفرق بينهما على أقوال:

الأول: قال الجواليقي: «العام والسَّنَة لا يفرِّقُ عوامُّ الناس بينهما، ويضعون أحدهما موضع الآخر، فيقولون لمن سافر في وقتٍ من السَّنة إلى مثله أيّ وقتٍ كان: سافر عامًا. وذلك غلط، والصواب ما أُخبِرْتُ به عن أحمد بن يحيى، أنه قال: (السَّنَةُ مِن أيِّ يومٍ عددتَها فهي سَنَة، والعام لا يكون إلا شتاءً وصيفًا). فالعامُ أخَصُّ من السَّنَة، فعلى هذا نقول: كلّ عامٍ سَنَة، وليس كلُّ سَنَة عامًا»[33]. وذكره أيضًا عبد اللطيف البغدادي[34].

وهذا تفريق لغوي يمكن اعتباره، لكن لا تظهر مراعاته في الآيات القرآنية، وإنما رُوعي فيها معنى آخر سيأتي، ولا مانع من أن يكون بين الكلمتين أكثر من فرق.

الثاني: السَّنة: السنة الشمسية، وهو حساب العَجَم؛ والعام: السَّنة القمرية، وهو حساب العرب. والسَّنة الشمسية أطول من القمرية، ذكره السهيلي، وجَوَّز لأجل ذلك أن يكون الله سبحانه قد عَلِمَ أَنّ عُمْرَ نوحٍ كان ألفًا إلا أنّ الخمسين منها كانت أعوامًا، فيكون عُمره ألف سنةٍ يَنقُصُ منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة؛ لأنّ الخمسين عامًا بحسب الأهلّة أقلّ من خمسين سَنة شمسية بنحو عام ونصف[35].

وفيه نظر؛ إِذْ لو كان المقصود ذِكْر الفرق بين الحسابين في المدة كلِّها لقال: (ألف سنةٍ إلا ثلاثين عامًا)، وهي فرق ما بين السنتين الشمسية والقمرية، فإنّ عِدَّةَ السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا، وهي تزيد على السنة القمرية بأحد عشر يومًا، وبذلك وُجِّه قوله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ [الكهف: 25]. فكانت ثلاثمائة شمسية وثلاثمائة وتسع قمرية.

ولعدم انضباط الحساب جعل السهيليّ الفرق في الخمسين فقط، فيكون نوح -عليه السلام- قد لبث في قومه ألفَ سنةٍ بالقمرية، وألفَ سنةٍ إلا عامًا ونصف العام بالشمسية، ولا يصح أيضًا؛ إِذْ يترتب على ذلك أن يكون الاستثناء متصلًا ومنقطعًا معًا.

الثالث: أنَّ السَّنة تُطلق على الحَوْلِ الذي فيه الشِّدَّة؛ ولذلك يُعبَّر عن الجَدْبِ بالسَّنَة، والعام فيما فيه الرخاء، وعلى هذا فنكتة التعبير بهذين اللفظين: أنّ نوحًا -عليه السلام- كان في شِدَّةٍ في تسعمائة وخمسين عامًا وهي زمن دعوته قومَه، ثم عاش في رغدٍ وخصبٍ بعد الطوفان بإيمان المؤمنين[36].

وهذا أقوى ما قيل، وهو الذي ذكره غير واحد من أهل اللغة[37]، وبه تُعرَف أسرار ورودهما في القرآن دون تكلُّف، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ﴾ [الأعراف: 130]، وقوله: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [المائدة: 26]، وقوله: ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: 42]، وقوله: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ [الكهف: 25]، وقال تعالى لموسى -عليه السلام-: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ [طه: 40]، وقد كان حينذاك أجيرًا راعيًا. ومن أظهر الآيات في التفريق بين اللفظين قوله تعالى: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾... ثم قال: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 49].

وعلى هذا فقد لبث نوح -عليه السلام- في قومه ألفَ سنةٍ، ويكون الاستثناء منقطعًا.

ويضاف إلى ذلك أن التعبير بالاستثناء هنا أفاد تعظيمًا بذِكْر الأَلْفِ، وفيه تمهيد العُذْرِ لنوحٍ -عليه السلام- في دعائه على قومه، وبيان استحقاقهم العذاب الذي نزل بهم.

تلك خمسةٌ كاملةٌ هي كالأعلام يُهْتَدَى بها في التعامل مع محتمِل الترادف[38].

 

 

[1] هذه المقالة من كتاب (أثر البلاغة في توجيه مشكل القرآن)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1444هـ، ص155 وما بعدها. (موقع تفسير).

[2] الصحاح (ردف).

[3] ينظر: كتاب سيبويه (1/ 24)، البحر المحيط، للزركشي (2/ 355)، المزهر (1/ 402).

[4] ينظر: التعريفات، للجرجاني، ص280.

[5] الصاحبي، ص60، المزهر (1/ 403).

[6] مجموع الفتاوى (13/ 341).

[7] المزهر (1/ 406).

[8] كتاب الصناعتين، ص373. وأنبه على أن من المصطلحات البلاغية (الإرداف) ولا علاقة له بالترادف، وإنما هو من الكناية، أو من ائتلاف اللفظ مع المعنى. ينظر: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، ص54.

[9] أنموذج جليل، ص485، الروض الريان (2/ 450)، فتح الرحمن، ص538.

[10] رواه الترمذي (2676) وصححه، وابن ماجه (44)، من حديث العرباض بن سارية.

[11] اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 118)، مجموع الفتاوى (3/ 384)، مفتاح دار السعادة (1/ 109).

[12] أنموذج جليل (167).

[13] ينظر: تهذيب اللغة (15/ 325)، الصحاح (ولي)، المفردات للراغب (ولي)، اللسان (ولي).

[14] التحرير والتنوير (9/ 309).

[15] ينظر: أوضح المسالك (2/ 289).

[16] الإيضاح (2/ 363).

[17] أنموذج جليل، ص329، فتح الرحمن، ص366.

[18] العين (4/ 284)؛ تهذيب اللغة (7/ 194)، اللسان (خشي).

[19] المفردات للراغب (خشي)، مدارج السالكين (1/ 508)، القول المفيد (2/ 73).

[20] تفسير الطبري (16/ 121)، التفسير البسيط (14/ 473).

[21] تأويل مشكل القرآن، ص240.

[22] تأويل مشكل القرآن، ص240، الصحاح (نجا)، اللسان (نجا)، القاموس (نجا).

[23] ينظر: المثل السائر (3/ 35).

[24] تأويل مشكل القرآن، ص240، الفروق، لأبي هلال، ص63، تفسير البيضاوي (5/ 97).

[25] الكشاف (4/ 265)، تفسير الرازي (27/ 644)، البحر المحيط (9/ 389).

[26] ينظر: تفسير الطبري (4/ 279).

[27] أنموذج جليل، ص391، الروض الريان (2/ 306)، فتح الرحمن، ص346.

[28] المحكم، لابن سيده (4/ 219)، القاموس (عوم).

[29] الكشاف (3/ 445).

[30] تفسير البيضاوي (4/ 190)، البحر المحيط (8/ 347)، التحرير والتنوير (20/ 222).

[31] الكشاف (3/ 445)، المثل السائر (2/ 165)، تحرير التحبير (335).

[32] الروض الأنف (3/ 174).

[33] تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة، ص50.

[34] ذيل فصيح ثعلب، ص4.

[35] الروض الأنف (3/ 177).

[36] الدر المصون (9/ 13)، البرهان، للزركشي (3/ 386)، نظم الدرر (14/ 404).

[37] تهذيب اللغة (12/ 267)، المفردات، للراغب (سنة).

[38] وتنظر أمثلة أخرى: تأويل مشكل القرآن، ص233، أنموذج جليل، ص323، 327، 577، 572، الروض الريان (2/ 611)، فتح الرحمن، ص358، 621، 627.

الكاتب

الدكتور ياسر بن حامد المطيري

حاصل على الدكتوراه من قسم البلاغة بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود، وعضو هيئة التدريس بجامعة الأمير سطام بن عبد العزيز.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))