د. عبد البديع أبو هاشم وجهوده في التفسير
ما زال نهرُ العطاءِ في مجال تفسير القرآنِ الكريم يزخر بالجديد فياضًا جوادًا كريمًا، فمع إشراقة كلّ صباح، يولَد مفسِّرٌ ويوجد تفسيرٌ، يُنعم الله بهما في هذا الحقل المبارك على دارسِي القرآن الكريم وقُرَّائه ومحبّيه.
والعناية برصد مظاهر هذا العطاء واجبة؛ فإنّ فيها الحثّ على التعرُّف إلى معاني القرآن التي لا تنتهي، والدفعَ إلى الوقوف على الجهود التي تتفانى في خدمة الكتاب الكريم، والوفاءَ بحقوق هؤلاء المجتهدين فيها، والعنايةَ بإبراز سِيَرِهم وجهودِهم ومناهجِهم وآثارِهم، وغيرَ ذلك من الفوائد والعوائد كثير.
وقد أنعم اللهُ على حقل تفسير القرآن الكريم في العصر الحديث بعددٍ من المفسِّرين الذين أثروه بكثرة عطائهم وعلومهم وتنوّع فنونهم ومعارفهم وجميل تناولهم، ومن هؤلاء شيخنا فضيلة الدكتور عبد البديع أبو هاشم النوري -رحمه الله تعالى-.
وفي هذه المقالة أتعرض للحديث عن شيء من سيرته الذاتية والعلميّة، وأبحث منهجه ومزاياه في تفسير القرآن الكريم، كلّ ذلك بحسب ما يسمح به المقام، لا سيما ولم أرَ أحدًا من الباحثين تناول الحديث عن جهود فضيلة الشيخ أو منهجه في التفسير، رغم أهميتها البالغة المتمثلة في مكانته الرفيعة ومنزلته العالية، وآثاره المتميّزة وعطائه المتنوّع في هذا الحقل الطيب الكريم.
ومن ثمّ يجيء هذا المقال بهدف الإشارة إلى جملة هذه الأشياء ليلفت نظرَ الباحثين إلى جَدْوَلٍ سخيٍّ جارٍ قد أمدَّ نهرَ التفسير بالعطاء بسخاء، متناولًا أُفقين اثنين: الحديث عن حياة الشيخ الذاتية والعلميّة باقتضاب، وإفساح المجال بعض الشيء للحديث عن جهوده في التفسير ومنهجه ومزاياه فيه، فنكون بذلك قد قدَّمنا تعريفًا بالشيخ يخدم بابَ تراجم المفسرين، وقدمنا كذلك حديثًا عن جهوده يخدم بابَ مناهج المفسرين[1]، وهذا أول الشروع في المقصود:
أولًا: سيرة ومكانة:
رُزق فضيلة الشيخ الدكتور عبد البديع أبو هاشم سيرة طيبة وصُنِع صناعة كريمة، هي موضع أسوة وقدوة لمن رام تنشئة ولدٍ صالح وإعداد ابنٍ متميِّزٍ، وفيما يلي نورد نُبَذًا من سيرته الذاتية والعلميّة، تكون لأَعيُن الناظرين فيها العبرة والأسوة.
- سيرة فضيلة الشيخ الذاتية:
فضيلة الشيخ -عليه سحائب الرحمة- صاحبُ أثرٍ عظيمٍ في الدعوة إلى الله -تعالى- في القاهرة خاصّة، ومصر عامّة كتأثيرٍ مباشرٍ، وغيرها من بلدانِ العالمِ الإسلاميّ كتأثير غير مباشر؛ من خلال طلابه الدارسين لديه من أكاديميين وغيرهم.
وهذا لأن نشأة الشيخ الكريم كانت في بيئة القرآن فتخرّج فيها مثالًا ونموذجًا يُقتدى به في أخلاقه ومعاملاته وسلوكه، وكذلك رأى أن تكُون نشأة الأجيال اللاحقة بها وعليها؛ إذ هي الطريق الذي يراه إلى رفعة هذا الدين.
وُلد شيخنا أبو محمد عبد البديع أبو هاشم محمد علي النوري المصري في يوم الاثنين 16 من جمادى الآخرة لسنة 1380هـ الموافق 5 من شهر ديسمبر لعام 1960م بقرية القُرين بمحافظة الشرقية.
وعاش فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم -رحمه الله تعالى- مع الدعوة ولها، في رحاب القرآن الكريم وبه، فأفنى فيهما وبهما حياته، وكما قيل بحقٍّ: «من عاش على شيء مات عليه»، وقلتُ: «صادرات الحياة -أي: ما يصدره الإنسان طوال حياته- هي واردات الوفاة»، فكانت موتة الشيخ مع الدعوة كما عاش حياته مع الدعوة، ففي يوم الجمعة 26 جمادى الأولى لعام 1432هـ الموافق 29 من شهر إبريل لعام 2011م خطب الشيخ المفوّه الجمعةَ في مسجد من مساجد محافظة (بورسعيد) ودخل في غيبوبة نقل على إثرها إلى المستشفى، ولم يفق من غيبوبته إلى الجمعة التي بعدها، وفيها توفي -رحمه الله- وكان ذلك يوم الجمعة 3 من جمادى الآخرة لعام 1432هـ الموافق 6 من شهر مايو لعام 2011م.
ليرحل قمرٌ من أقمار الدعوة وداعية من أهل السنّة تبكيه المنابر وروّادها، وتسألُ اللهَ فيه العِوَض، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، فللّه درّه من مبارك؛ كم كان رحيمًا، وكم كان عطوفًا، وكم كان خلوقًا، وكم كان وفيًّا، صاحب أحوال مع ربه؛ كما يشهد به المقرّبون، مجاب الدعاء عن قريب.
اللهم اجعل قبر شيخنا عبد البديع أبو هاشم روضة من رياض الجنة، ومدّ له في قبره مدًّا، ومتّعه بالنظر إلى وجهك الكريم أبدًا.
- حياة فضيلة الشيخ العلميّة:
نشأ شيخنا نشأة إسلاميَّة قرآنية، يظلّلها أبوه فضيلة الشيخ المُقرئ العلامة: (أبو هاشم محمد علي النوري) محفّظ القرآن الكريم، ومعلّم التجويد، ومجيزُ القراءات العشر، ومفتش العلوم الشرعيّة بالمعاهد الأزهرية، وعلى يدي والده الكريم حفظ شيخنا عبد البديع القرآن الكريم ولما تبلغ سنُّه العاشرة.
ثم التحق بالتعليم وتدرّج في مراحله المختلفة، إلى أن تخرج في كلية أصول الدين جامعة الأزهر عام ١٩٨٣م، قاطعًا هذه المراحلَ بتميّزٍ ملحوظٍ بين أقرانه، قاده إلى تميّزٍ مستمرٍّ في طريق الدعوة إلى الله تعالى وفي مجاله الذي اختار لزومه وهو التفسير وعلوم القرآن الكريم.
ثم عمل أوّل أمره بعد التخرُّج مدرّسًا لمادة اللغة العربية والدِّين بمدرسة عبد الله الشرقاوي بالقرين محافظة الشرقيّة، لمدة سنة، إلى أن جاءه بعدها (1985م) التكليفُ من جامعة الأزهر بالعمل معيدًا في الكليّة التي تخرّج فيها (أصول الدين- القاهرة)، وحيث سلك هذا الخطّ في التدريس الجامعيّ فقد أقبل على عدّته الجامعيّة يستكملها؛ في عام (1986م) انتهى من الدراسات العليا -تمهيدي الماجستير- بقسم التفسير وعلوم القرآن، وفي عام (1987م) سجّل موضوعه لرسالة التخصص -الماجستير- بعنوان: (الاتباع في ميزان القرآن الكريم)، وحصل على درجة الماجستير عام (1989م) بتقدير امتياز.
كما حصل على درجة العالمية -الدكتوراه- عام (1993م) عن رسالته القيّمة: (أقوال أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- في التفسير - جمعًا ودراسة)، بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف؛ ليصير مدرّسًا بالكليّة، فأستاذًا مساعدًا، ثم أستاذًا حتى توفي -رحمه الله تعالى- وهو في هذه الدرجة العلمية.
- شيوخه:
تتلمذ فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى- على كثير من الأعلام في داخل الأزهر الشريف وخارجه، ومنهم: فضيلة الدكتور أحمد أبو السعادات، والأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم القيعي، والأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي، الأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة، الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، وغيرهم كثير، بارك الله في أعمالهم أجمعين[2].
- مكانته العلميّة، وثناء العلماء عليه:
كان فضيلة الشيخ عبد البديع أبو هاشم -رحمه الله تعالى- مفسرًا وداعية ومعلمًا من طراز متميّز، أجاد علوم التفسير، وحاز مؤهلات الدعوة، وجمع أدوات المعلِّم الماهر.
وبخصوص التفسير، فقد كان الشيخ -رحمه الله- مهتمًّا به غاية الاهتمام، معتنيًا بكتبه والمؤلفات فيه في القديم والحديث، لا يملّ التعلّم والاطلاع في علومه المختلفة، فقد كان آثر كتابٍ لدى شيخنا -رحمه الله- هو: المصحف الشريف؛ فهو مِن أَخبرِ النّاس به:
- حفظًا، حفظه في التاسعة من عمره، على يد والده الشيخ (أبو هاشم) عالم القراءات وصاحب مكتب تحفيظ القرآن الكريم الذي تخرج على يديه فيه أُلوف الطلاب.
- وتلاوة، فقد كان الشيخ -رحمه الله- من قرّاء القرآن الكريم وله به صوتٌ عذبٌ يشنِّف الأسماع ويُطرب الألباب، وله مصحف تلاوة منشور، مشهور، سُجِّل من صلاة الشيخ بالنّاس التراويحَ في رمضان، الأمر الذي ظلّ يتكرر لمدة ثلاثين سنة تقريبًا، وكان الشيخ يختم ختمة في كلّ عام، وربما ختم مرة في التراويح، وختمة أخرى في التهجد.
- وتفسيرًا وتدبُّرًا، فقد كان تفسير الكتاب العزيز وتدبّره ملءَ حياة الشيخ -رحمه الله تعالى- في الدرس والمنبر والمحاضرات واللقاءات، وفي الكتب والدراسات والمقالات، وفي القراءة والبحث والمطالعات.
ولا غرو فقد كان أوّل تفسير وقع له وأفاد منه في قراءته الأولية ثم في خطبه وكلماته الأولى هو: (تفسير الحافظ ابن كثير)، مع ربطه بين مشكلات العصر بِحُلولٍ من القرآن، والحرص على توقيع النصوص على الأحوال والوقائع، وعنايته بتقريب المعاني للأفهام عن طريق تسهيل اللغة وضربٍ للأمثال، في منهجٍ سلفيٍّ واضح وأسلوبٍ عصريٍّ مستقيم، كان له عظيم الأثر في سامعيه، وترك بصمته فيهم.
وقد تنوّع تناوله للقرآن الكريم مكانًا وزمانًا واتجاهًا، فتناول القرآن في الجامعة والمعهد والمسجد، وتناول التفسير تحليليًّا وإجماليًّا وموضوعيًّا وعلميًّا ودعويًّا. ولقد أظهر خلال ذلك قدرة وتميُّزًا؛ ولهذا تعدَّدَ ثناء العلماء وتنوّعَ على فضيلته وعلى عطائه مما يُظهر مكانته ويوضح منزلته بين علماء عصره، الأقربين منه وغيرهم:
- فمن كلام والده فضيلة الشيخ أبو هاشم النوري أستاذ القراءات في الأزهر الشريف عن ولَدِه: «حفَّظتُ ولدي عبدَ البديع القرآنَ الكريمَ حِفظًا تامًّا وهو في العاشرة من عمره تقريبًا، فكان يقرؤه؛ البقرةَ والفاتحةَ سواء... وكان ذكيًّا لماحًا وكان متميّزًا يحفظ قدرًا كبيرًا في اليوم ويستوعبه استيعابًا جيِّدًا، وظلَّ هكذا في تفوُّقٍ دائمٍ بمراحل التعليم المختلفة، وأشهد أنه كان مستقيمًا متدينًا مطيعًا لربّه، بارًّا بوالديه، معاونًا لإخوانه، متقنًا لفنّه، عاملًا بعلمه، داعية لما يعتقده، رحمه الله رحمة واسعة»[3].
- ويقول عنه فضيلة الشيخ محمد حسين يعقوب: «كان فضيلة الشيخ عبد البديع من العلماء العاملين، له جهود طيبة كبيرة في الدعوة إلى الله، وهو من النوادر الذين جمعوا بين العلم والتنظير والدعوة، أسهَم في المسجد، وفي الإذاعة، وفي القنوات الفضائية، وفي الجامعة، وفي كلّ مكان، نفع الله به في أحوال كثيرة، أسأل الله أن يجزيه عن الإسلام خير الجزاء»[4].
- ويقول عنه فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو هاشم أستاذ التفسير بجامعة الأزهر فرع الزقازيق: «كان عبد البديع -رحمه الله- متميّزًا في حياته العلميّة، سميعًا مطيعًا، وكان عالمًا ذا منهج واضح متميز في تناول تفسير كتاب الله عز وجل»[5].
- ويقول عنه فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي: «الدكتور عبد البديع: النُّبل والكرم والحياء والتواضع خلقًا، والغزارة والرسوخ والدقة علمًا، والوسطية والاعتدال والربانية مسلكًا، والجد والاجتهاد والإخلاص دعوةً، والعلم والعمل والتفوق والسعي حتى إنه سبق أساتذته وأنا منهم أشهد أنه سبقني في الدعوة والتخصص، أشهد بذلك له؛ لأني كنت أقرب الناس له، وكان مني بمنزلة الولد وهو أيضًا التلميذ والزميل والصفيّ والحبيب»[6].
هذا هو فضيلة الشيخ الدكتور عبد البديع أبو هاشم في منزلته ومكانته وفي عيون علماء عصره[7]، وقد كان لائقًا بهذا المكان عن حقّ، وكان هذا الثناء عليه من عارفيه في محله، وهذا ما يلمسه المتابع لجهوده في العلم والدعوة إلى الله عامة، ونقف عليه هنا في جهوده بحقل التفسير خاصَّة، وهو محور حديثنا في النقطة التالية.
ثانيًا: جهود فضيلة الشيخ في التفسير:
الدكتور عبد البديع أبو هاشم -رحمه الله تعالى- أستاذٌ من أساتذة التفسير وعالمٌ من علمائه الذين أثرَوا حقل التفسير بجهود عظيمة، وقد دفعَت الشيخ إلى ذلك دوافعُ وأهدافٌ، أوضحها فيما يلي باختصار:
دوافعه للاشتغال بالتفسير:
دفع الشيخ -رحمه الله تعالى- للاشتغال بالتفسير عدة أمور، منها:
- نشأته في أسرة مهتمة بالقرآن الكريم حفظًا وفهمًا، والفتى ينشأ على ما عوّده ذووه.
- ميله إلى التفسير منذ نعومة أظفاره، والمرء ابن عادته، ولكلّ امرئ من دهره ما تعودا.
- تخصص الشيخ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب أثناء دراسته العلميّة، وأحرى أن يدعو المرء إلى ما تمكن منه.
- تلخَّصت رؤيته في أن ربط الأمة بالقرآن الكريم الكتاب العزيز ضرورة للخروج من أزمتها واستعادة ريادتها.
ومن ثمَّ اشتغل شيخنا بالتفسير، وسخَّر جميعَ جهودِه في حقله.
أهدافه من الاشتغال بالتفسير:
وقد رسم شيخنا للوصول إلى هذه الغاية من اشتغاله بالتفسير أهدافًا، ومن هذه الأهداف:
- التعريف بمقاصد القرآن الكريم وأهدافه العامة وقضاياه الرئيسة، في مجالات التواصل مع المسلمين.
- العمل على تربية جيل يتمثّل القرآن في حياته واقعًا، من خلال طلابه وجمهور المدعوين.
لقد كان شيخنا يقيم جسرًا بين القرآن والأمة وبين الأمة والقرآن، يربطهما معًا، وذلك من خلال تناول الأحداث في التفسير دون تكلّف، يظهر خلاله العلة والدواء، والمرض والعلاج والمشكلة والحلّ، على كلّ المستويات الشخصية والعامة، آملًا أن تكون تلك الأطروحات ذات نفع على مستوى الأمة عامة فتستهدي في جميع شؤونها بالقرآن الكريم، وعلى مستوى الدعاة والخطباء فيقتفون ذلك الأثر في طريقهم بالدعوة عسى هذه الدعوة تجد أذنًا صاغية من الأمة بفضلهم.
ومن ثم تعدَّدت وتنوعت هذه الجهود، فأسهَم في جوانب كثيرة؛ منها مشاركته في الحقل التعليمي حيث كان مدرسًا فأستاذًا للتفسير بجامعة الأزهر، وأيضًا عن طريق اللقاءات المباشرة في الإذاعات والفضائيات والخطب والدروس والندوات، وكذلك عن طريق الكتابة والتصنيف بما قدّمه للمكتبة الإسلاميَّة من مؤلفات، فقدّم شيخنا -رحمه الله تعالى- بذلك في حقل التفسير جهودًا عظيمة، وفيما يلي نتعرّض لهذه الجهود بشيء من البيان، تحت فروع:
الفرع الأول: الدروس واللقاءات:
اهتم الشيخ -رحمه الله- بالتفسير واعتنى ببثِّه في مجالس كانت ثابتة في ساحات المساجد دروسًا وخطبًا، وكذلك عبر عَقْد اللقاءات المباشرة حوله في الإذاعة والفضائيات، وبيان جهوده فيها على النحو التالي: فكان من حصيلة ذلك درس اشتمل على توضيح معاني ألفاظ القرآن الكريم، وآخر اشتمل على بيان معاني القرآن الكريم مجملة، ومجموعة من اللقاءات عني خلالها بأنواع من الموضوعات القرآنية، كما كان للشيخ خطب منبرية تناول خلالها مقاصد سور القرآن الكريم بالبيان ونوضح ذلك بشيء من التفصيل فيما يلي:
أولًا: درس التفسير:
وانصبَّ جُهد فضيلة الشيخ فيه -كما أشرنا- على نوعين:
1- دروس تفسير القرآن التحليليَّة.
2- دروس توضيح معاني القرآن مجملة.
وهما على النحو التالي:
1- دروس تفسير القرآن التحليليَّة:
فأما دروس تفسير القرآن التي فسر فيها قصار السور، فهي عبارة عن دروس جماهيرية في تفسير القرآن الكريم، أقامها فضيلته في مسجده، وكانت بواقع درس واحد أسبوعي، يتناول شيخنا فيها تفسير القرآن الكريم تحليليًّا، وقد بدأها فضيلته من تفسير سورة الناس حتى وصل إلى تفسير سورة لقمان، وعندها وافته المنيّة -رحمه الله تعالى-.
وكانت رؤيته في البداية من قصار السور في آخر المصحف تتمثّل في ثلاث نقاط:
- أن جميع المفسرين يبدؤون مجالسهم في تفسير القرآن الكريم من أول سورة الفاتحة فالبقرة وهكذا، فيبدؤون بنشاطٍ كبيرٍ، ثم يقلّ ذلك النشاط مع مرور الأيام، وبعضهم يتوقف بسبب الموت أو غيره، فلا يكمل التفسير، فأحب الشيخ أن يستغلّ نشاطه في أوله بالتوفّر على تفسير أواخر القرآن، وبهذا يكون عمله مُتمِّمًا لعمل من لم يُتِمَّ التفسير من السابقين.
- أنّ البداية بالسّور القصار يتيح الفرصة لتناول أمور العقيدة وترسيخها وتجذيرها في القلوب وهي أَوْلى وأهَمُّ ما يحتاجه الناس في هذا الزمان، لا سيما وأن أغلب السور القصار من القرآن المكي والذي يظهر فيها الاهتمام بمعالجة مسائل العقيدة وترسيخها في النفوس.
- أن البدء بتفسير قصار السور يجعل العامة -وهم جمهور المسجد- يُقبِلون على سماع التفسير، ويرتبطون بمتابعة معاني القرآن الكريم، وهذا هدف بذاته، وأما خاصة الطلاب فلهم عوض بمجالس ومناهل أخرى غير ذلك، لا سيما مع وجود الشيخ في الجامعة والمعهد، وغير الشيخ متوافرون، والحمد لله.
وقد حقق الله تعالى أمنية الشيخ هذه، فأتم تفسير القرآن من بداية سورة الناس إلى سورة لقمان، وهو جزءٌ كبيرٌ، يقف دون إكماله كثير من المفسرين، ونفع الله تعالى بهذه المجالس جميع من حضرها وسمعها بعد ذلك، وما زال النفع بها مستمرًّا من خلال وجودها على الإنترنت، وفي الأقراص المدمجة.
2- دروسٌ في بيان معاني القرآن الكريم:
وأما الدروس التي أقامها شيخنا -رحمه الله- لبيان معاني القرآن، فتمثلت في التفسير المجمل الذي تناوله في الدروس، والتفسير المقاصدي الذي تناوله في الخُطب، وبعض الموضوعات المتعلقة بالتفسير تناولها الشيخ في لقاءات مباشرة في الفضائيات والإذاعات وغيرها، ونعرض لبيان طبيعة كلّ منها باختصار، فيما يلي:
أ. التفسير المجمل:
وهو عبارة عن ستين درسًا، قدَّم فضيلة الشيخ خلالها تفسيرًا مجملًا لمعاني القرآن الكريم، تناول خلال كلّ درس منها حزبًا من أحزاب القرآن يوضّح معانيه الإجمالية ومحاوره وأهدافه الرئيسة، وكان حصيلة ذلك ستين درسًا في التفسير، تناولت القرآن الكريم كلّه، كلّ درس منها يختص حزبًا من الأحزاب، ويكون مع ما بعده جزءًا من الأجزاء، وتجتمع من مجموعها أجزاء القرآن الثلاثين، وكان تقديم شيخنا لهذه الدروس بمسجده العامر: (مجمع عمر بن الخطاب - حي العرب بالقاهرة).
ب. اللقاءات المباشرة:
وهناك جهود للشيخ -رحمه الله تعالى- أخرى في التفسير تضمها مكتبته الصوتية والمرئية منها خطب منبرية ودروس وبرامج إذاعية وفضائية في موضوعات من موضوعات القرآن الكريم، متفرّقة، ويقف في برنامج (تلفازيّ) مع آيات هي من جوامع الكلم في القرآن الكريم، يهدف من ورائها إلى ترسيخ مفهوم أو تصحيح تصوّر أو بناء سلوك، في سلسلته: (وقفة مع آية).
ويقرّب علمَ أسباب النزول إلى النّاس ليعيشوا أحوال الصحابة وقت نزول القرآن الكريم ويتعرّفوا العصر والظرف الذي نزل فيه، من خلال برنامجه: (هنا نزلت).
ويقدّم القرآن للنّاس علاجًا ربّانيًّا وشفاءً إلهيًّا من خلال خطبه: (سلسلة الاستشفاء بالقرآن).
وغيرها من برامج في الإذاعات والقنوات ومقالات في الصحف والمجلات، يعجز هذا المقال عن استيعابها، ويقصر جهد كاتبه عن الإحاطة بها.
هكذا ارتبط الشيخ بالقرآن فأفنى -رحمه الله- عمره كلّه في خدمة كتاب الله تعليمًا وتفهيمًا وتربيةً للنّاس عليه، وكان مثالًا للدأب في ذلك، والحرص عليه بكلّ ما آتاه الله من قوّة، فكان لذلك عظيم الأثر في توثيق صلة المستمعين إليه -وهم كُثُر- بالقرآن الكريم حفظًا وتدبُّرًا، مع الإشارة إلى كافّة العلوم من خلال إشارات القرآن الكريم المحيطة بكلّ شيء: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: 38]، وكان في ذلك -رحمه الله- مفسِّرًا يَحتذي طريقَ المفسِّرين المتقدِّمين.
ثانيًا: الخطب المنبرية في التفسير:
وهي عبارة عن مجموعة من الخطب المنبريّة، دارت حول موضوع (مقاصد سور القرآن الكريم)، في هذه السلسلة يعرض شيخنا لسور القرآن الكريم سورةً سورةً، يعرّف المستمعين على مقصدها، وعلى هدفها الأساس والرِّسالة المختصرة التي بَعث اللهُ تعالى بها إلينا خلال هذه السورةِ الكريمةِ، حيثُ إنَّ كلَّ سورة من القرآن جاءت تبلِّغُ رسالةً مختصرةً، ويوضّح خلال ذلك الموضوعات الأساسية لها، ويبيّن الأهداف الكبرى لكلٍّ منها، ويحطُّ الرّحْل بالقارئ الكريم عند الإفادات والعِظات المنتجة في الحياة من خلال السورة وكما تسوقها، ويعالج بحنان ورفق أمراضَ الأمة: مجتمعاتٍ، وأُسَرًا، وأفرادًا، كما في عيادتها وصيدليتها؛ يشخّص الدّاء ويقدّم الدواء، وقد غلَّف ذلك كلّه وبطّنه بألفاظه العذبة وجمله الواضحة وعباراته الرائقة السهلة، ما يلمسه السامع الكريم في كلّ خطبة تناولت سورة منها.
وقد استغرقت السلسلة الكريمة قُرابة العامين إلقاءً على المنبر في مسجد عمر بن الخطاب بحي العرب بالقاهرة، فجاءت في (91) خطبة، تضمنت كلّ خطبة منها الحديث عن مقاصد سورة من سور القرآن الكريم، وذلك بداية من أول سورة في القرآن الفاتحة فالبقرة... حتى سورة الشمس، وتوفي فضيلة الشيخ -رحمه الله رحمة واسعة- بعد ذلك بأسبوع واحد، أجزل الله له المثوبة[8].
الفرع الثاني: جهوده في التأليف والكتابة:
قدّم شيخنا -رحمه الله تعالى- العديد من الكتابات التي تخدم التفسير، وشيخنا في كتاباته ومؤلفاته ينحو طريقة التسهيل والتيسير والإيجاز، بغية الوصول بالفائدة إلى أكبر شريحة من القراء، وكان من خطّته في التأليف التي صرّح بها وَضْعُ كتابٍ ميسَّر في كلّ علم من العلوم الإسلاميّة، يُعنى بشرح مبادئه وتوضيح أصوله ومجمل مسائله بلُغة سهلة وأسلوب عصريّ، وقد قدّم هذه السلسلة للمكتبة وطبع بعضها، أذكر منها: (مبادئ علوم القرآن)، (مبادئ علم العقيدة)، (مبادئ علم التفسير)، (مبادئ علم الحديث).
ومن يطالع مؤلفات فضيلته -ما ذكرناه منها وما نذكره بعدُ- يلمس هذا الهدف -التسهيل والتيسير والاختصار- فيها بوضوح، ومن هذه المؤلفات: (إمتاع الجنان بعلوم القرآن)، و(سحر البيان في أسلوب القرآن)، و(فضائل سور القرآن الكريم)، و(فيض الرحمن بعلوم القرآن)، وفيما يلي إشارة موجزة إلى أسمائها، وتعريف موجز بموضوعها:
1- الاتباع في ميزان القرآن:
وهي رسالة شيخنا لنيل التخصص (الماجستير) في التفسير، وذلك في عام 1987م، حيث حصل على درجة الماجستير بتقدير امتياز، عام 1989م.
2- أقوال أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- في التفسير - جمعًا ودراسة:
وهي رسالة شيخنا لنيل العالمية (الدكتوراه) في التفسير، وذلك في عام 1993م، نوقش فضيلته فيها حيث حصل على الدرجة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
3- تفسير سورة الممتحنة:
تناول فيه شيخنا الدكتور سورة الممتحنة بالتفسير والتفصيل، تحليليًّا، وهو كتاب صغير الحجم قليل الورقات، في مائتي صفحة تقريبًا، وهذا الكتاب كان من أبحاث ترقِّي شيخنا في السُّلَّم الوظيفي إلى درجة أستاذ مساعد في الجامعة، ثم توسّع فيه شيخنا ونشره، وهو مطبوع.
4- العبر والعظات في سورة النازعات:
وهو تفسير تحليلي، لسورة النازعات، مطبوع، يقع في 120 صفحة.
5- من آداب الأسرة والمجتمع في القرآن الكريم من خلال سورتي النور والتحريم:
أوضح فيه شيخنا الدكتور الآداب التي اشتملت عليها هاتان السورتان الكريمتان فيما يخصّ الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، وهو كتاب صغير الحجم قليل الورقات، يزيد عن مائة صفحة قليلًا.
وهذا الكتاب -أيضًا- كان من الأبحاث اللازمة للترقِّي إلى درجة أستاذ مساعد، ثمّ توسّع فيه شيخنا بعض الشيء فنشره ودرَّسه، وهو مطبوع.
منهجه في التفسير:
ومن خلال كتب فضيلة الشيخ ودروسه في تفسير القرآن الكريم يمكن توضيح منهجه في التفسير مجملًا ليقف القارئ الكريم على معالم هذا المنهج الرئيسة على النحو التالي:
- العناية بالتفسير المأثور: يهتم شيخنا -رحمه الله تعالى- في تناوله التفسير بالمأثور عن سلفنا الصالح فيه، فهو يعتمد في تفسير القرآن على القرآن كما في تفسيره قول الله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}[البقرة: 14]، بقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ...}[البقرة: 76]. ثم على الحديث كما في تفسيره قول الله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7]؛ قال: همُ اليهودُ. {وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7][9]؛ همُ النَّصارى، ثم بالاعتماد على أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين، نقلًا من كتب العلماء المحققين لأقوال مفسريهم من أمثال الطبري وابن كثير، ويقدّم خلاصة وافية عنها، سواء اعتنى بعزو الأقوال، أو لم يفعل كما في بعض الأوقات.
- موقفه من مسائل الاعتقاد: مذهب فضيلة الشيخ العقدي كما أثبته من خطّه هو بلفظه: «مذهب أهل السنة والجماعة: إثبات ما أثبته الله لنفسه مما يليق به مع التفويض لله فيما أراد»، وعليه سار فضيلته في تناول آيات الصفات أثناء تفسيره للقرآن الكريم.
- العناية بتوضيح المعنى الإجمالي وإبراز السياق العام للآيات: يحرص شيخنا على بيان المعنى الإجمالي للآيات التي يتعرض لتفسيرها قبل الدخول في تفاصيلها، مع إبراز ارتباط الآيات بالسياق العام للسورة.
- العناية بإبراز المقاصد العامة للقرآن الكريم وكذلك مقاصد السور: فمن أهداف الشيخ -رحمه الله- في تفسيره النَّظَرُ في مقاصدِ القرآن بعامة ومقصد كلّ سورة من سوره بخاصة؛ ولذلك يقف مع كلّ سور القرآن قبل الشروع في تفسيرها، سورةً سورةً، يتعرَّفُ على مقصدها، وعلى هدفها الأساس والرِّسالة المختصرة التي شرَحَها اللهُ تعالى فيها ويجلِّيها للمستمعين. ويتبنَّى شيخنا أن مقصد السورة يوضحه اسمها، وفاتحتها وخاتمتها، فمتى استطعنا الوصل بين معنى الاسم ومعاني المطلع وهو بداية السورة، والمقطع وهو نهاية السورة، فسوف نصل إلى مقصدها الأساس وموضوعها الرئيس ونقف عليه بجلاء ووضوح.
- موقفه من الحروف المقطّعة أوائل السور: يذهب إلى أنها أحرفٌ ذكرها الله في كتابه هكذا مفردة كلّ حرفٍ يُقرَأ وحده على أنه كلمة؛ إعجازًا للخلق، وإثباتًا أن القرآن من عند الله -عزّ وجل-، كما يقول -مثلًا- في بداية سورة النمل: «هذه الحروف المقصود منها الإعجاز، أن الله يقول للكفار: هذه حروف القرآن وهي نفسها حروف كلامكم فإن كان القرآن من عند محمدٍ أو يعلمه بشر أو يُلقَّاه من ساحرٍ أو من جنٍّ أو غير ذلك، فاصنعوا أنتم مثل القرآن، فهذه حروفه التي يتركب منها، وأنتم أقدر على ذلك من محمد البشر -صلى الله عليه وسلم-، ستأتون بخيرٍ مما أتى به إن كان هذا من عنده؛ فلم يستطيعوا أن يأتوا بشيء».
- موقفه من الحديث النبوي في التفسير: يعتمد شيخنا الأحاديث النبوية في تفسير القرآن الكريم وبيان معانيه، وهو إذ يورد نصوص هذه الأحاديث يعتني بذكر درجة صحتها، كما في تفسيره لسورة طه، فكلمة: (طه) ليست من أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما يفهم البعض، إنما الحديث في ذلك ضعَّفه أهل الحديث وهم أصحاب وأرباب هذا الفنّ، يُؤخذ بقولهم في ذلك، ولم يعرف اسم (طه) على ألسنة الصحابة ولا التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وإن كانت بعض الأحاديث التي وردت في تفسيره ضعيفة، إلا أنها ليست بالموضوعة، لا سيما وهو -رحمه الله- ينبّه كثيرًا على ما ليس بصحيح أو ينصّ على أنه ليس شديد الضعف، وإن وقع بعضها بخلاف ذلك.
- موقفه من الأقوال والترجيح بينها: يعتني شيخنا في تفسيره بذكر أقوى الأقوال في الآية الكريمة، وكثيرًا ما يكتفي بقولين اثنين، ونادرًا ما يَعْدوهما إلى غيرهما، بل عادةً يقول: «وقيل غير ذلك»، ثم يرجح أحد الأقوال ويتبنّاه إلا في القليل الذي يقف منه على الحياد فلا يُعْمِل فيه عامل الترجيح، وهو إذ يعبّر عن الراجح يقول: والصواب كذا، والمختار كذا، والراجح كذا.
- اهتمامه بأسماء السور: يذهب شيخنا إلى القول بأن كُلّ سورِ القرآنِ قد سَمَّاهَا اللهُ -سبحانه وتعالى- من عندِهِ؛ ولذلكَ مَرَّتْ عبرَ العصورِ، وتناقلَتْ بينَ الأماكنِ والبلدانِ، وتتابعَتْ عليها أجيالُ البشريةِ، وتعددَتْ فيها نظراتُ الأئمةِ الأعلامِ، ولم يتغيَّر اسمُ سورة مِن سورِه، كُلُّ سورةٍ باسمها الذي ذَكرها به رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وصحابَتُه الكرامُ، وإلى الآن وإلى أنْ تقومَ الساعةُ إنْ شاءَ اللهُ؛ دلّ ذلك على أنَّ الأسماءَ توقيفية[10]؛ أوقفَنا اللهُ عليها فلا يجوزُ لنا أنْ نُبَدِّلَ أو نُؤَخِّرَ، وإنْ كان العلماءُ قد أضافوا بعضَ الأسماء أحيانًا؛ لبيانِ معنَى آخر في السورةِ، لكن ما قصدوا تبديلًا ولا تغييرًا، رحمةُ اللهِ عليهم أجمعين[11]. كما في نصّ كلامه عند تفسير أول سورة البقرة.
- اهتمامه بالمكي والمدني: يهتم شيخنا -رحمه الله تعالى- بذكر المكي والمدني في أول تفسيره ويبني في ذلك على نقل ثقات المفسرين، ويناقش ما يمكن مناقشته منها، وربما جمع بين الآراء وربما رجّح أحدها على الآخر بالحجة، ويؤكد شيخنا في كلّ مرة يرد فيها ذكر للمكي والمدني على سمات وضوابط القرآن المكي والمدني، ويطبّق ذلك على السورة الكريمة، يندر أن يفوته في ذلك سورة من السور، ويعتني بعد ذلك بتحديد الزمن الذي نزلت فيه من هذين العهدين، من خلال الآثار أو من خلال المعاني التي اشتملت عليها السورة.
- اهتمامه بأسباب النزول: يُولي شيخنا أسباب نزول السورة أو أسباب نزول بعض آياتها -إن وجدت- اهتمامًا خاصًّا لكن بشرط صحته وتحقيق كونه سببًا لنزول السورة أو الآيات، ثم يعتمد على هذا السبب في إظهار المعنى، كما يقول شيخنا في تفسير سورة الروم: «وتمضي الآيات في بيان هذا الارتباط كما قال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}[الروم: 39]، هذه الآية بسبب نزولها إشارة إلى أكلِ أموال الناس بالباطل».
- موقفه من فضائل السور: يذكر شيخنا فضائل السور أو شيئًا منها، كما في سوقه فضائل الفاتحة في أولها وفضائل البقرة وآل عمران، ثم لما أتى إلى سورة النساء بيَّن أن فضلها الكريم من جملة فضائل القرآن العامة، وإن لم يرد إلينا شيء خاصّ في شأنها...؛ إذ لا يثبت فضل لسورة إلَّا من قول رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مبلّغًا عن الله في القرآن أو بلفظه في السنّة، وكل القرآن عظيم، كلّ القرآن كلام الله؛ والله قال عن القرآن كلِّه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}[الزمر: 23]. وكلّ سورة في القرآن تعتبر وحدها معجزة؛ سواءٌ لها فضلٌ خاصّ أو ليس لها؛ فهي معجزة تثبت أن القرآن من عند الله»، ولشيخنا مؤلف خاصّ في فضائل القرآن الكريم.
- مذهبه الفقهي: شيخنا شافعي المذهب، لكن ذلك لا يظهر أثره في تناوله لآيات الأحكام في تفسيره؛ إذ يعمد إلى بيان وتوضيح الأحكام الفقهية عامة من الآيات ولا يدخل في تفاصيل المذاهب الفقهيّة.
- موقفه من ترتيب سور القرآن الكريم: يذهب شيخنا -رحمه الله تعالى- إلى القول بأن ترتيب سور القرآن توقيفية، فهو من عندِ اللهِ، والله هو الذي أوحى بترتيبِ هذا المصحفِ بهذه الطريقةِ، ويقول: «كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يُعَلِّمُ أصحابَه هذا الترتيب، وإذا قرأ به في الصلاة قرأ بهذا الترتيب، وحينما كان يراجعه جبريل في العشرِ الأخيرِ من رمضانَ من كلِّ عامٍ ما نزلَ عليه من القرآنِ؛ كانَ يقرأُ على شيخِهِ جبريل ويسمِّعُ عليه بهذا الترتيب، وهوَ الترتيبُ الذي رَتَّبَ به اللهُ سورَ القرآنِ في اللَّوحِ المحفوظِ، اعلموا هذا جيدًا، وإنْ كانت هناكَ آراءٌ أخرى، إلَّا أنّ هذا هوَ الرأي الذي رجحَ عندَ العلماءِ والذي تؤيدُه الأدلةُ والبراهينُ»، ويكاد شيخنا يكرر معنى هذا الكلام حول ترتيب سور القرآن الكريم وأنه توقيفي لا اجتهادي، في مطلع كلّ سورة.
- اهتمامه بالمناسبات بين السور: وفي ختام السورة يركّز شيخنا على ثلاث رسائل: أن يلخص هدف السورة في عجالة، وأن يربط القلوب به، ويربط بين السورة والسورة التي سبقتها أو مجموعة السور التي تقع بينها إن كانت من نوع واحد يجمعها اسم (آل حاميم، المسبّحات... إلخ)، وينطلق شيخنا إلى الربط بين السور من خلال تبني القول بتوقيف الله تعالى نبيّه -صلى الله عليه وسلم- على ترتيب سور القرآن الكريم، ولا شك أن القول بالمناسبات بين السور مبني على القول بأن ترتيبها توقيفي.
- عنايته بإبراز الفوائد والدروس: يستخرج شيخنا أثناء تفسيره وبيانه معاني القرآن الكريم الدروس المستفادة من النصّ القرآني ويشير إلى عِبَرِهِ وعِظاته للحياة والأحياء ليسيروا على هدي منها فتنفعهم في الدنيا والآخرة.
ولهذه النقاط جميعها في تفسير شيخنا شواهد أكثر من هذا يجدها قارئه ظاهرة بادية، ولولا خشية الإطالة والمقام لا يحتمل لتناولت أمثلة أكثر لكلّ منها، لكن بحسبنا إلقاء الضوء بمثال، لمن يأتي عليه في رسالة علمية متخصصة -مثلًا- فعليه هو التفصيل.
مسلكه في تفسيره:
يبدأ شيخنا تفسيره السورة بذكر اسمها، وما عرف عنها من أسماء متعددة، ومعنى كلّ منها، ويتتبع ورود هذا الاسم في السورة وفي سور القرآن الكريم ومعانيه، ويذكر المناسبة التي لأجلها سميت به هذه السورة، ثم يذكر مكيتها أو مدنيتها، ومتى نزلت تحديدًا، وما يكون من سبب نزولها، أو فضلها، ويقف على مقصدها ويوضح الموضوعات التي تعالجها، ثم يتتبع مقاطعها، فآياتها، ثم جملها، وكلماتها، ثم يذكر مناسبتها للسورة التي قبلها أو السور التي تضمها وغيرها تحت اسم واحد أو لون واحد، آل حاميم، السبع الطوال... إلخ، ومناسبة آخرها لأولها، ومناسبتهما معًا لمقصدها وهدفها، ويحرص شيخنا خلال ذلك على بيان الدروس والعظات والعبر بالإشارة أو بالنصّ عليها مباشرة أحيانًا وأحيانًا، كلّ ذلك بِلُغة سهلة قريبة من إدراك المستمع العادي، وأحيانًا يتنزل فيتكلم بالعامية.
خصائص تفسيره ومميزاته:
تميّز تفسير شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم بمزايا عديدة من أهمها:
1) جمعه بين الناحيتين العلمية والدعوية: يجمع تفسير شيخنا الدكتور عبد البديع بين القيمة العلمية والقيمة الدعوية، فهو تفسير محرّر علميًّا، نافع دعويًّا، ونادرة هي التفاسير التي خرجت بهذين الوصفين وحظيت بتينك الحسنتين، حيث نجد كثيرًا من التفاسير كتبت بيد عالم محررة تحريرًا طيبًا، لكن نجدها خالية عن الأسلوب الذي يصل سريعًا إلى شغاف القلوب ويُعنى بعلاج مشكلات الواقع، وكثير مما كُتب منها بقلم الداعية والأديب لم يحظ بالتحرير الواجب مراعاته مع كتاب الله حتى لا يغزوه الدخيل، ولا يتسرَّب إليه الواهي والضعيف.
2) ربطه بين القرآن والواقع: من مزايا تفسير شيخنا في درس التفسير حرصه على ربط الواقع بالدرس القرآني وعنايته بتقديم العلاج النافع من خلاله لما انتشر في الواقع من أمراض، ويجيب عن ما يثار من مشكلات وإشكالات، ومن ذلك ما يفتتحه ببيان يثير الانتباه إلى ما لطريقة القرآن وما لبيانه من أهمية، بمثل قوله: «ثم تمضي السورة إلى بيان أحكام بعض الأمور الشائعة في المجتمعات مما يؤثر على الفرد بدنيًّا وعقليًّا وعلى المجتمع أخلاقيًّا وعلى البلاد اقتصاديًّا...».
3- سهولة لغته وقرب طريقته للعامّة مع إفادته للخاصّة: وأسلوب تفسيرِه جميعُه أسلوبٌ سهل ولغته لغة سلسة، يحرص الشيخ من خلالها على الربط المباشر بين أجزائه من آيات ومقاطع، وبين معانيه من افتتاحيات وصلب وخاتمة، وينص نصًّا مباشرًا على الفكرة والهدف في كلمات، من مثل قوله في بعضها: «الحزب الرابع إنما هو في آياتٍ يُحمِّل الله تعالى من خلالها هذه الأمة رسالة الإسلام؛ ولذلك تعدّد فيه النداء بــ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، والتي -هذه الجملة- قال فيها ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-: «إذا سمعت: يا أيها الذين آمنوا. فأرعها سمعك؛ فإنما يتبعها أمرٌ بمعروفٌ أو نهيٌ عن منكر»[12].
4- ربطه بين اسم السورة ومقاصدها وأهدافها: يقرّر شيخنا في بداية كلّ سورة من سور القرآن الكريم أن تسميتها من عند الله تبارك وتعالى، فهو يذهب إلى القول بالتوقيف في مسألة أسماء السور، وأنه كان بوحي من الله تعالى لنبيّه -عليه الصلاة والسلام- من مثل قوله في سورة البقرة، ثم إنه يتطرّق إلى تفسير هذا الاسم من ناحية اللغة، ومعانيه المختلفة، مع توضيح وتقريب للمعنى إن كان بعيدًا عن الأذهان، ومع أنه يذكر الأسماء الأخرى للسورة إن وجدت، لكنه يذهب إلى ترجيح ما ذكره أولًا بشهرته، وبالنصّ عليه في المصحف المشرقيّ، وأيضًا يؤيد ذلك بما ورد من أحاديث في كثير من أسماء السور الكريمة، ثم يتتبع الاسم الكريم في سور القرآن الكريم ومعانيه هناك ويربط بينه وبين اسم السورة الكريمة، ويتلمس شيخنا لِمَ سُمِّيت السورة الكريمة بهذا الاسم من دون كلمات كثيرة وردت فيها ومن بين أسماء كريمة محتملة لها أيضًا، ويُظهر في ذلك بعض الأسباب والحِكَم.
5- مخاطبته العقل والقلب: وأخيرًا فلُغة الشيخ في التناول لغة عربية فصحى، سهلة، سلسة، قريبة من الأسماع، واضحة العبارة، قصيرة الجُمل، تلامس شغاف القلوب، ولا تبعد عن قناعات العقول، قد جمَعت بين حُسن الصياغة والاشتمال على البرهان، قادرة على الوصول إلى جميع الأعمار، فيها الكثير من العبارات الرشيقة المخترعة التي تصلح للاقتباس.
مصادر الشيخ في تفسيره:
ينهل شيخنا -رحمه الله تعالى- من أنهار تفاسير القرآن الكريم عامّة، على اختلاف مشاربها وألوانها، قديمها وحديثها، يقطف من زهورها ويتلمس عبيرها، إلا أني لاحظت اهتمامه بأربعة تفاسير، يعتمد عليها كثيرًا، وهذه التفاسير هي:
- تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير.
- تفسير التحرير والتنوير للعلامة الطاهر ابن عاشور.
- تفسير في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب.
- خواطر فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي.
غير أنه في هذه التفاسير كلها، يأخذ ويدع، ويقبس ويناقش، ويتداول أقوال أصحابها بنظر ثاقب فاحص يميز بين المقبول منها والمردود.
المؤاخذات على تفسيره:
ويؤخذ على شيخنا -رحمه الله- في تفسيره عدة أشياء، منها: قلة عنايته بالقراءات، فلم يهتم بها إلا في النادر جدًّا، كما يؤخذ عليه ذكر بعض الأحاديث الضعيفة في تفسيره، وإن كانت تلك الأحاديث منحصرة في دائرة الضعيف فقط دون الموضوع والمنكر، ومنها إيثاره العامِّية في بعض تراثه المسجَّل مما صعب الوصول إلى تحريره وتقديمه للجمهور في كتاب مطبوع، ولعلّ عذر الشيخ -رحمه الله- في ذلك أنه كان يخاطب الجمهور الغالب في الدرس ويريد أن لا يحرمهم من الارتباط بالقرآن، وكسب فئة لَطالما حُرِم درس التفسير منها وحُرمت منه بسبب علوّ مستواه على إدراكهم ووعيهم.
خاتمة:
لقد كان شيخنا عبد البديع أبو هاشم -رحمه الله- من العلماء العاملين، أسهم بدور فعال في إثراء التفسير بجهود كبيرة مفيدة نافعة، ويظهر ذلك من خلال كتبه وتسجيلاته في هذا الفنّ الجليل، وتفاسيره بتنوعها وتفننها تعدُّ إسهامًا كبيرًا في مجال ربط الجماهير بالقرآن الكريم وتقريب تفسير القرآن للعامة، إضافة إلى إفادة المهتمين بالتفسير منها.
فرحمه الله تعالى رحمة واسعة ونفع بجهوده ورفع بها. آمين.
[1] لم أطّلع على أحد قبلي تكلّم عن جهود فضيلة الشيخ في بحث مستقل، أو مقال منشور فيما أعلم، ولعلّ ذلك يرجع إلى بعض الصعوبات التي يواجهها الباحث في آثار فضيلة الشيخ، فكثير منها مخطوط أو محفوظ في التسجيلات، لكن شاء الله تعالى لكاتب هذا المقال أن يقوم على إخراج بعض هذه المؤلفات والعناية بتحقيقها والاستفادة منها، وأن يطَّلع على الأعمال التي طُبعت منها حديثًا، وكذلك وقفت على جملة من الدراسات التي قدمها فضيلته، مع حبٍّ وشغفٍ وتلمذة طال عمرها وكثر خيرها، كلّ هذه العوامل حملتني جميعًا على العناية بتراثه -رحمه الله- وفاء بحقه وعرفانًا بجميله، فهذه الكتب والدراسات والأعمال والتسجيلات هي مصادري فيما أكتبه هنا، فالحمد لله على ما وفق إليه ونسأله تعالى المزيد، إنه جواد كريم.
[2] وفي سيرة شيخنا العلمية دروس وعبر كثيرة، منها:
- العناية بالولد منذ الصغر، فمن رام لولده مكانة رفيعة فليبكّر معه بما يخدم هدفه ويحققه وليحافظ عليه ويحميه مما يعطله ويبدده.
- أهميّة البيئة في توجيه الطالب إلى معالي الأمور وتنشئته النشأة الصالحة.
- تعويد الطالب على التفوّق في مراحل التعليم المختلفة يرقيه في جميع أهدافه بمجالات الحياة المختلفة ويصير التفوّق سجيّة وطبعًا في شعور المرء يسعى إليه ويحققه.
[3] نقلته من حديث الشيخ (أبو هاشم) رحمه الله تعالى، في رثاء ولده عبد البديع، أذيعت ضمن ثلاث حلقات عن سيرة الشيخ وحياته في العلم والدعوة، من برنامج أعلام الأمة.
[4] نقلته من حديث الشيخ يعقوب -حفظه الله تعالى- من كلمة في رثاء الدكتور عبد البديع أذيعت إثر وفاته، على قناة الناس الفضائية.
[5] نقلته من كلمة فضيلة الدكتور محمد أبو هاشم -حفظه الله تعالى- في رثاء أخيه عبد البديع أذيعت ضمن ثلاث حلقات عن سيرة الشيخ وحياته في العلم والدعوة، من برنامج أعلام الأمة.
[6] نقلته من حديث فضيلة الدكتور عبد الحي -رحمه الله تعالى- من كلمة في رثاء تلميذه عبد البديع من خلال درس في مسجد عمر بن الخطاب، عن سيرة الشيخ وحياته في العلم والدعوة.
[7] وقد جمعت هذه الزهور في ترجمة شيخنا من كتابي: (قطوف من حياة علماء وشيوخ عرفتهم)، نشر بعضها في مقالات عبر شبكة الألوكة، ثم جمعته في كتاب يصدر قريبًا بمشيئة الله تعالى.
[8] وفقني الله تعالى لجمعه ودراسته وتحقيقه، ويخرج في ثلاثة مجلدات، عن دار المازري، بتونس، قريبًا.
[9] انظر: تفسير القرطبي (1/ 149)، وتفسير ابن عطية (1/ 9)، والحديث صحيح لغيره، أخرجه أحمد في مسنده (19381)، والطبراني في الأوسط (3813)، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه-.
[10] قال السيوطي: «وقد ثبتت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك». الإتقان: (1/ 186)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن: (2/ 276).
[11] انظر: أسماء القرآن الكريم وأسماء سوره وآياته معجم موسوعي ميسر، د. آدم بمبا، (ص: 51)، أسماء سور القرآن وفضائلها، د. منيرة محمد ناصر الدوسري (ص: 76، 77).
[12] أخرجه أحمد في الزهد (ص158)، وابن المبارك (ص12)، انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1/317)، وتفسير ابن كثير (1/ 374).