مصادر النصّ المحقَّق وأثرُها في تقويم النصّ
نصوص علم القراءات أنموذجًا

يحاول هذا المقال الكشف عن أهمية الرجوع إلى مصادر النصّ المحقَّق؛ من خلال تسليط الضوء على ثلاثة طُرُق من طرق معرفة مصادره، مع التمثيل بنصوص علم القراءات، وذكر أمثلة يتجلَّى فيها أثرُ الوقوف على هذه المصادر وأهميته في تقويمها.

  تتعدَّدُ الصعوباتُ التي تُواجِهُ المُتصدِّين لتحقيق النصوص، وخاصةً نصوص القراءات وعلومِها؛ لِمَا لهذا العلمِ من عظيمِ الشأنِ، وجليلِ الخطبِ، مما يَستَدْعِي التريُّثَ الشديدَ عند التعامُلِ مع نصوصِه.

ومن أكثرِ هذه الصعوبات إغلاقُ النصِّ، وعدمُ ظهورِ وجهِ الصوابِ فيه، وذلك لِمَا قد يعتري المخطوطاتِ من السقطِ والتحريفِ وغيرِ ذلك من الآفات، ويزدادُ ذلك صعوبةً عند التحقيق بالاعتماد على نسخةٍ فريدةٍ.

قال الجاحظ (ت255هـ) في كتابِه الحيوان: «ولربَّما أرادَ مؤلِّفُ الكتاب أن يُصلِحَ تصحيفًا أو كلمةً ساقطة، فيكون إنشاءُ عشرِ ورقاتٍ من حُرِّ اللفظِ وشريفِ المعاني أيسَرَ عليه من إتمامِ ذلك النقصِ حتى يرُدَّه إلى موضعِه من اتِّصالِ الكلامِ» اهـ[1].

وقريبٌ من إغلاقِ النصِّ -بسببِ آفاتِ النُّسَخِ- غرابةُ معناه، وعدمُ وقوفِ المُحقِّقِ على ما يؤيِّدُه في غيره من المصادر، مع كونِه سالمًا لفظًا.

ونصوصُ القراءاتِ كغيرِها من النصوص، مرتبطةٌ بما كُتِبَ قبلَها وبعدَها من النصوص، أفادَ مصنِّفوها من أسلافِهم، كما أفادَ مَن جاءَ بعدَهم من هذا النّتاجِ العلميِّ الممتَدِّ عبرَ التاريخ، فكما أنَّ للنَّصِّ مصادرَ استُقِيَتْ منها فوائدُه، له كذلك موارِد حُفِظَت فيها دُرَرُه وفرائدُه.

وتتعدَّد طُرُقُ معرفةِ مصادرِ النصِّ المحقَّقِ؛ فمنها أن يكون النصُّ متعلِّقًا بالمصدر، كأن يكونَ شرحًا أو تلخيصًا له، أو نحو ذلك مما يُعْرَفُ بـ: «عائلة النصّ»، ومنها أن ينقُلَ مؤلِّفُ النصِّ عن المصدر صراحةً، ومنها ما لا يتبيَّنُ إلَّا بالمقارنة والاستقراء، وهو أدقُّ هذه الطُّرُق.

ويتناولُ هذا المقالُ الحديثَ عن هذه الأنواعِ الثلاثة -مع ذكرِ أمثلةٍ لها- مما تجلَّتْ فيه أهميةُ الوقوفِ على مصادرِ النُّصوص، وقُوِّمَتْ فيها النصوصُ بالرجوعِ إليها.

أولًا: ما كانَ النصُّ فيه متعلِّقًا بالمصدرِ:

ومما يتعلَّقُ بهذا النوعِ: الشروحُ والاختصاراتُ والحواشي والمنظوماتُ ونحوها مما يُبنى فيه النصُّ على نصٍّ آخَرَ أو يتَعلَّقُ به، وفيه يكونُ النصُّ ضمنَ عائلةٍ يُمكِنُ الاهتداءُ بأيٍّ من عناصرِها -إذ قد تتعدَّدُ سابقةً ولاحقةً- لحَلِّ مُغْلَقِه، وفتحِ مُقْفَلِه.

- وفيما يأتي مثالٌ لهذا النوعِ:

شرحُ غايةِ ابنِ مِهْرانَ للأَندَرابيِّ (ت470هـ):

تُوجَدُ لهذا الشرحِ نسخةٌ خطيَّةٌ فريدةٌ، وهي في مكتبة رشيد أفندي بتركيا، وتاريخُ نسخِها هو عام 1203هـ، أي: إنَّ ما بينَ نسخِها ووفاةِ المُصنِّفِ ما يزيدُ على 700 سنة، ولا تُعْرَف له نسخةٌ أخرى.

ومن الأخطاءِ الواقعةِ بهذه النسخةِ: الأسقاطُ البصريةُ، وهي التي ينتقِلُ فيها نظَرُ الناسخِ من كلمةٍ ما إلى موضعٍ تالٍ للكلمةِ نفسِها، متجاوزًا ما بينَهما من كلامٍ في أثناءِ النسخِ، وهذا يحتاجُ كشفُه -ابتداءً- إلى انتباهِ المُحقِّقِ لمعنى النصِّ، وحرصِه على الاستيثاقِ من صحةِ سياقِه.

وحيثُ إنَّ الأندرابيَّ في شرحِه للغايةِ كانَ كثيرًا ما لا يتجاوَزُ إيرادَ عبارةِ ابنِ مِهْرانَ كما هي في الغايةِ إذا كانَتْ من الوضوحِ بمكانٍ، فإنَّ الرجوعَ إلى أصلِ النصِّ -وهو الغايةُ- هو العلاجُ الأمثَلُ لتدارُكِ بعضِ هذه الأسقاطِ.

فمن ذلك ما جاءَ في النسخةِ الخطِّيَّةِ (18/ ب) عندَ كلامِ المصنِّفِ على هاءِ {وَيَتَّقْهِ}[النور: 52]: «وقرأ يزيد وقالون غير أبي نشيط، ويعقوب غير زيد {وَيَتَّقْهِ} بإسكان القاف وكسر الهاء غير مشبعة».

فهذا النصُّ بشكلِه الحاليِّ مُخالِفٌ لجميعِ كتُبِ القراءات، حيثُ لم يَنُصَّ أحدٌ أنَّ للمذكورِينَ إسكانَ القافِ وقصرَ الهاءِ في {يَتَّقْهِ}.

وبالرجوعِ إلى مصدرِ هذا النصِّ من الغايةِ (ص215) يتبيَّنُ أنَّ الناسخَ قد انتقَلَ نظَرُه من {يَتَّقْهِ} في سياقِ حكمِها عند يزيد -وهو أبو جعفر- وقالون ويعقوب، إلى {يَتَّقْهِ} في سياقِها عند حفصٍ، مُسقِطًا ما بينَهما من حكمِها عند المذكورِينَ.

وعليه فإنَّ صوابَ عبارةِ شرحِ الغايةِ -وهو ما في الشرحِ المُحقَّقِ (ص205)- كما يأتي:

«وقرأَ يزيدُ وقالونُ غيرَ أبي نشيطٍ، ويعقوبُ غيرَ زيدٍ {وَيَتَّقِهِ} [بكسرِ القافِ والهاءِ مُختلَسةً. وقرأَ حفصٌ عن عاصمٍ {وَيَتَّقْهِ}] بإسكانِ القافِ وكسرِ الهاءِ غيرَ مُشبَعةٍ».

فبإضافة ما بينَ معقوفَين -معزوًّا لمصدرِه، وهو هنا الغايةُ لابنِ مِهْرانَ- يصحُّ النصُّ، ويستقيمُ لفظًا ومعنًى.

ثانيًا: ما كان النقلُ فيه عن المصدَر بالتصريحِ:

وهذا النوعُ هو أكثر الأنواع شيوعًا؛ إذ كثيرًا ما يتوخَّى المُصنِّفون في العلومِ الإسلاميَّةِ -وفي القراءات خصوصًا- إسنادَ النصوص إلى مصادرها، ولا سيَّما إذا دَقَّ متعلِّقُها كوجوهِ القراءات ورواياتِها.

- ومن أمثلة هذا النوع:

1- نشرُ القراءاتِ العشرِ للإمامِ ابنِ الجزريِّ (ت833هـ):

لكتابِ النشرِ مكانةٌ عظيمةٌ بينَ كُتبِ القراءات، وعليه معتمَدُ القُرَّاءِ من لَدُن تصنيفِه إلى يومِنا، وقد حفَلَ النشرُ بنقولٍ عِدَّةٍ من مصادرَ متنوِّعةٍ، في القراءات والتجويد وغيرِهما.

ومن هذه النقولِ ما أوردَه الإمامُ ابنُ الجزريِّ في مقدِّمةِ النشرِ (الفقرة 77) نقلًا عن ابنِ قُتَيبةَ (ت276هـ) قوله في الوجه الرابع من وجوهِ اختلافِ القراءات: «أن يكونَ الاختلافُ في الكلمةِ بما يغيِّرُ صورتَها ومعناها، نحو: {طَلْعٌ نَضِيدٌ}[ق: 10] في موضعٍ، وَ{طَلْحٍ مَنْضُودٍ}[الواقعة 29] في آخَرَ».

وقد عقَّبَ ابنُ الجزريِّ على كلامِ ابنِ قُتَيبةَ بقولِه: «وهو حسنٌ كما قُلْنا، إلّا أنَّ تمثيلَه بـ{طَلْعٌ نَضِيدٌ}، وَ{طَلْحٍ مَنْضُودٍ} لا تعلُّقَ له باختلافِ القراءات، ولو مثَّلَ عِوَضَ ذلك بقولِه: {بِضَنِينٍ}بالضادِ و{بِظَنِينٍ} بالظاءِ، و{أَشَدَّ مِنْكُمْ}و{أَشَدَّ مِنْهُمْ}؛ لاستقامَ، وطلَعَ بدرُ حُسْنِه في تمامٍ» اهـ.

والأمرُ كما قالَ ابنُ الجزريِّ -رحمَه اللهُ-، فإنّ هذا النصَّ المنقولَ عن ابنِ قُتَيبةَ بوضعِه الحاليِّ لا تعلُّقَ له باختلافِ القراءات، فإنهما آيتان لا قراءتان؛ الأولى بسورةِ قاف، والأخرى بسورةِ الواقعةِ.

وهذا النصُّ الذي نقلَه ابنُ الجزريِّ -رحمَه اللهُ- مصدرُه كتابُ تأويل مُشكِلِ القرآنِ لابنِ قُتَيبةَ وقد جاءَ فيه كما يأتي: «أن يكونَ الاختلافُ في الكلمةِ بما يُزِيلُ صورتَها ومعناها، نحو قولِه: (وطَلْعٍ مَنضُودٍ) في موضع {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}»[2].

ونصُّ مُشكِلِ القرآنِ -بهذه الصورةِ- مستقيمٌ لفظًا ومعنى، ومرادُ ابنِ قُتَيبةَ ما رُوِيَ في قولِه تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}[الواقعة: 29] من القراءةِ بالعينِ، وهي قراءةٌ مرويَّة عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- وغيرِه.

فلعلَّ النسخةَ الخطِّيَّةَ التي وقعَتْ للإمامِ ابنِ الجزريِّ من تأويل مُشكِلِ القرآنِ كانَتْ مصحَّفةً بهذا الموضعِ، حيثُ أبدلَ ناسخُها «نضيد» بـ«منضود»، ثم زادَ في آخرِ النصِّ عبارةَ: «في آخَر» فزادَها إشكالًا، وهو ما جعَلَ الإمامَ ابنَ الجزريِّ يستغرِبُ هذا الكلامَ من ابنِ قُتَيبةَ، أو يُمكِنُ أنّ السهوَ في النقل كان من الإمامِ ابنِ الجزريِّ نفسِه، وهو ما جعَلَ هذا النصَّ بهذه المنزلةِ من الغرابة.

وعلى كُلٍّ فقد كان الرجوعُ إلى مصدرِ هذا النصِّ كفيلًا بفتحِ مغلَقه، وإزالةِ إشكالِه.

2- المُحَرَّرُ الوجيزُ لابنِ عطيَّةَ (ت542هـ):

يُعَدُّ المحرَّرُ الوجيزُ -إلى جانبِ كونِه موسوعةً في التفسيرِ وإعرابِ القرآن- مصدرًا مهمًّا من مصادرِ القراءاتِ: مشهورِها وشاذِّها، ذلك أنَّ ابنَّ عطيَّةَ عُنِيَ فيه بنقلِ القراءات، وتصدَّى لتوجيهِها وبيانِ عللِها.

ومما جاءَ فيه (1/ 367) قولُ ابنِ عطيَّةَ: «وَحَكَى المَهْدَوِيُّ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: (فَإِنْ كَانَ) بِالْفَاءِ، {ذُو ‌عُسْرَةٍ} بالواوِ» يعني: في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}[البقرة: 280].

كذا نسَبَ هذه القراءةَ -وهي ما عُبِّرَ عنها بالمصحفِ لمُخالَفتِها للرسمِ- لأبي العبَّاسِ المَهْدويِّ (ت نحو 440هـ)، وقد تَبِعَه في ذلك -نصًّا- القُرْطبيُّ[3] وأبو حيّانَ[4] في تفسيرَيْهما.

وبالرجوعِ إلى كتابِ المَهْدويِّ: التحصيل لفوائدِ كتابِ التفصيلِ[5] فإننا نجدُه يقول: «وذكَرَ بعضُهم أنَّها في مصحفِ عثمانَ -رضي الله عنه-: (وَإِن كَانَ ذَا عُسْرَةٍ)» فمرادُ المَهْدويِّ إذَنْ أنَّ القراءةَ المنسوبةَ لعثمانَ هي بالألفِ في (ذا)، لا بالفاءِ في (وإن) كما نسبَه إليه ابنُ عطيَّةَ وتَبِعَه عليه القُرْطبيُّ وأبو حيَّانَ، والقراءةُ بالألفِ في (ذا) مرويَّةٌ عن عثمانَ وغيرِه في عدَّةِ مصادر؛ كالكشَّافِ (1/ 322) والمُغني للنوزاوازيِّ (1/ 550) وغيرِهما.

فالظاهرُ أنَّ هذه القراءةَ قد وقَعَتْ لابنِ عطيَّةَ مُصحَّفةً عن المَهْدويِّ فذكرَها ثم نُقِلَتْ عنه كذلك، أو يكون السهوُ في النقل قد وقَعَ منه هو، وعلى كِلَا الاحتمالَين فإن الوقوفَ على مصدرِ هذا النقلِ قد أزالَ إشكالًا كبيرًا؛ فإنَّ هذه القراءةَ المذكورةَ -أعني (فَإِنْ كَانَ ذُو ‌عُسْرَةٍ)- لم تَرِدْ في المصادر إلَّا في نقلِ ابنِ عطيَّةَ -ومَن تَبِعَه- عن المَهْدويِّ، فهي قراءةٌ ناشئةٌ ابتداءً مِن خطأ في النقل، أفادَ الوقوفُ على مصدرها في معرفة أصلِها، وبيانِ أنَّها في حكمِ المعدومِ، واللهُ أعلمُ.

ثالثًا: ما عُرِفَ مصدرُه بالمُقَارنةِ والاستقراءِ:

ويُعَدُّ هذا النوعُ أدَقَّ أنواع الوقوفِ على مصادرِ النصوص؛ لِمَا يعتريه من عدمِ نصِّ المؤلفِ على مأخَذِ النصِّ، أو إشارتِه إلى أصلِ النقل، وفي هذه الحالةِ يلزَم الباحثَ المقارنةُ بينَ النصوصِ وملاحظةُ تسلسُلِها ومواطنِ الاتفاقِ والاختلافِ بينَها في اللفظِ والمعنى.

- ومن أمثلةِ ذلك النوعِ ما يأتي:

كنزُ المعاني للجَعْبريِّ (ت732هـ):

يُعَدُّ كنزُ المعاني للإمامِ الجَعْبريِّ أحدَ أهمِّ شروحِ الشاطبيَّةِ، إن لم يكُنْ هو أهمَّها؛ فهو موسوعةٌ في القراءاتِ وتوجيهِها، وكذلك في التجويدِ والرسم.

كما أجادَ الجَعْبريُّ في الكنزِ كذلك في تراجمِ القراءِ السبعة، وأتى بالفوائدِ التي لا تكادُ توجَدُ عند غيرِه، فكان مصدرًا مهمًّا من مصادرِ تراجمِ القُرَّاءِ السبعةِ ورواتِهم، حتى إنَّ ابنَ وَهْبانَ الحنفيَّ (ت768هـ) -وهو معاصِرٌ للجَعْبريِّ- قد اعتمَدَ عليه اعتمادًا تامًّا في تراجِمِ القُرَّاءِ السبعةِ في كتابِه المسمى: أحاسن الأخبارِ في محاسنِ السبعةِ الأخيارِ.

ومن النُّصوصِ التي انفردَ بها الجعبريُّ بالكنزِ (تحقيق اليزيدي 2/ 87) في هذا الصدد قولُه في ترجمةِ عاصمٍ: «ولحِقَ أربعةً وعشرين صحابيًّا».

كذا قالَ -رحمَه اللهُ-، وبالرجوعِ إلى كُتبِ الطبقاتِ والتراجمِ والتواريخِ لم أجِدْ ما يؤيِّدُ ذلك:

فقد عدَّ ابنُ سعدٍ في الطبقاتِ[6] -وغيرُه- عاصمًا في الطبقةِ الثالثةِ بعدَ الصحابةِ، وهم أتباعُ التابعين الذين روايتُهم عن كِبَارِ التابعين.

وعدَّه ابنُ حجرٍ في تقريبِ التهذيبِ[7] من الطبقةِ السادسةِ، وهُم مَن عاصروا صغارَ التابعين، ولم يثبُتْ لهم لقاءُ أحدٍ من الصحابةِ.

ولو كانَ عاصمٌ قد لَحِقَ هذا العددَ من الصحابةِ لكانَ ينبغي أن يكونَ عِدادُه في كبارِ التابعين أو الطبقةِ الوُسْطى منهم.

وأعلى ما قِيلَ في طبقةِ عاصمٍ أنه لَقِيَ صحابيَّين أو ثلاثةً، هُم: رفاعةُ بنُ يَثْربيّ التميميُّ، والحارثُ بنُ حسَّان البَكْريُّ، والأسودُ بنُ هلالٍ، على اختلافٍ في الأخيرَيْن، كما ذكرَ الذهبيُّ في سير أعلامِ النبلاء[8]، والمِزِّيُّ في تهذيب الكمالِ[9].

وبتتبُّعِ ما أوردَه الجَعْبريُّ في الكنزِ بتراجمِ القُرَّاءِ يَظهَرُ أنَّ قدرًا كبيرًا منه مصدرُه هو كتابُ المستنير لابنِ سِوَارٍ (ت496هـ) ، وبالرجوعِ إلى ترجمةِ عاصمٍ به[10] نجدُ نصًّا يَظهَرُ أنه هو مصدرُ الجَعْبريِّ فيما انفرَدَ به، وهو قولُ ابنِ سِوارٍ عن عاصمٍ: «قالَ فيه أبو إسحاقَ السَّبِيعيُّ: ما رأيتُ رجُلًا كان قطُّ أقرَأَ للقرآن من عاصمٍ، ما أستثنِي أحدًا»، ثم قال ابنُ سِوَارٍ: «وقولُ أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ حُجَّةٌ؛ لأنَّه من أجِلَّاءِ التابعين، لَقِيَ ثلاثةً وعشرين رجلًا من أصحابِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-» اهـ.

فمن هذا النصِّ يظهَرُ أنَّ ما ذكرَه الجَعْبريُّ إنما هو سهوٌ، منشؤه قولُ ابنِ سِوارٍ: «لَقِيَ ثلاثةً وعشرين رجلًا من أصحابِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-»؛ فإنَّ ابنَ سِوَارٍ يعني به أبا إسحاقَ السَّبِيعيَّ، بينَما ظنَّ الجَعْبريُّ أنه عَنى به عاصمًا، فنسبَه له، مُضِيفًا إلى هؤلاء الثلاثةِ والعشرين صحابيًّا آخَرَ هو الحارثُ بنُ حسَّان، حيث ذكرَه ابنُ سِوَارٍ قبلَ هذا النصِّ، وهو ما يفسِّرُ جَعْلَ الجعبريِّ العددَ أربعةً وعشرين لا ثلاثةً وعشرين، واللهُ تعالى أعلمُ.

وفي مثلِ هذه الحالةِ فإنه يجِبُ على المُحقِّقِ -خدمةً للنصِّ وقارئه- التعليقُ على النصِّ ببيانِ ما وقعَ به من وهمٍ، وتقويمُه بذكرِ الصوابِ فيه، وهو من كمالِ التحقيق.

والأمثلةُ في هذا البابِ كثيرةٌ، وفيما أوردتُ كفايةٌ إن شاءَ اللهُ.     

خلاصةُ القولِ: إنَّ للوقوفِ على مصادرِ النصوصِ المُحقَّقةِ أهميَّةً كبيرةً، حتى إنه ربَّما يكونُ نصفَ التحقيقِ أو أكثرَ؛ وعليه، فإنَّ عودةَ المحقِّقِ لمصادرِ النصوصِ وتوثيقَها منها هو من صميمِ عملِه، وهو أوجَبُ ما يكونُ إذا كانَ التحقيقُ بالاعتمادِ على نسخةٍ فريدةٍ، كما أنَّ من كمالِ التحقيقِ التعليقَ على النصوصِ المُغلَقةِ والمسائلِ المُشكِلة بما يحُلُّها ويُزِيلُ إشكالَها، وذلك بالرجوعِ إلى مصادرِها، والوقوفِ على أصولِها.

وختامًا؛ فإنه ينبغي أن لا يُغْفَلَ عند تنبيهِ المحقِّقِ على أوهامِ المُصنِّفين في القراءاتِ ما لهؤلاء الأئمَّةِ الأجلّاءِ من عظيمِ المنزلةِ، وكبيرِ الفضلِ على الأُمَّةِ الإسلاميةِ، حيثُ أوصلوا لها الحروفَ والرواية، مَحْفوفةً بوجوهِ الضبطِ والدِّراية.

  والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلى اللهُ على سيِّدِنا ونبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين.

 

[1] (1/ 79).

[2] (ص31).

[3] (3/ 373).

[4] (2/ 717).

[5] (1/ 601).

[6] (6/ 316).

[7] (ص285).

[8] (5/ 256).

[9] (13/ 474).

[10] (1/ 307).

الكاتب

أحمد محمد فريد

محاضر بكليّتَي الحديث الشريف والدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية، وله عدد من البحوث والتحقيقات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))