دراسة مخطوط المصحف المحفوظ بالمكتبة الملكية ببرلين برقم (Hs.or.3036)

للقرآن الكريم عدد كبير من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرف بأحد المخطوطات المحفوظة بالمكتبة الملَكية ببرلين، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بها.

الحمد لله مستحق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه، وبعد:

فقد تدرَّجت مراحلُ كتابة المصاحف مِن القرن الأول حتى نهاية عهد المخطوط بين نُسخ مبكِّرة تمازجت فيها الأصالة، ونُسخ متأخرة استقرت عليها المقالة.

وبين أيدينا في هذه المقالة نسخة مما اختلطت به أقلام النُّسَّاخ، سنحاول التعرض لها من جانبَيْها المادي والعلمي.

الجانب المادي:
1) بيانات الحفظ والورق والحجم والخط.
2) الزخرفة والتذهيب.
3) حالة النسخة.
4) بيانات النَّسخ.

الجانب العلمي:
1) أعداد آيات السور الموجودة في النسخة.
2) الرسم العثماني.
3) تطور الخطوط.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والورق والحجم والخط:

هذه النسخة من محفوظات المكتبة الملكية ببرلين تحت رقم قيد «Hs.or.3036»، متوزعة على ست وأربعين ورقة قديمة أفقية الشكل، مُتَّبع بها نظام التَّعقيبة، في أربعة أسطر للصفحة الواحدة، بخط مُلفَّق بين كوفي ونسخ كبير، بلون أسود للحروف وأحمر للحركات الإعرابية، وأزرق لعلامات الوقوف والشدَّات، وأخضر للهمزات.

2- التجليد والزخرفة والتذهيب:

جُلِّدت النسخة بتجليد جلدي قديم أفقي، مُلوَّن بالحمرة من جوانبه وباقيه بالسواد، يحفُّه إطارٌ ذهبي تتوسطه قلادة مفرَّغة بجوانبها قلادتان صغيرتان حمراوان، وببطانته لون الجلد بالأحمر ثم البُنِّي يُحيطه الذهب، وتتوسطه قلادة مُغطَّاة بورق أبيض حديث.

وأُطِّرت الأوراق بإطارين: الأول ملون بالسواد والحمرة، والثاني بالذهب. وزُخرفت فواتح السور على شكل كتيبة ملونة بالذهب يحيطها إطار ملون بالسواد بداخله دوائر متضافرة يتلوها زخرفات محمرَّة مُذهَّبة على أرضية مقشَّشة مكتوب عليها اسم السورة ونوعها، وتتصل بالكتيبة قلادة مُذهَّبة ومُزركشة بالأشكال النباتية.

ورُسمت رؤوس الآيات على شكل دوائر مطموسة بها خمسة خطوط سوداء، والأجزاء وأنصافها وأرباعها مكتوبة بالحُمرة بخط ثُلثٍ جَليٍّ داخل إطار أسود، ورُسمت الخموس على شكل دوائر مُحدَّدة الزاوية مطموسة بالذهب، والعُشور على شكل دوائر مُقَبَّبة مُؤَطَّرة بالزُّرقة مُلوَّنة بالذهب بداخلها مكتوب بالكوفي «عشر».

3- حالة النسخة:

هذه النسخة ناقصة مبتورة من أولها وآخرها وبها خُروم، ابتدأت بآخر جملة من الآية الأخيرة، وهي السادسة والسبعون بعد المائة من سورة النساء إلى الآية الثانية والثمانين من سورة المائدة عند قوله: {الذينَ قَالُوا إنَّا نصَارَى}. وقد أشار في نهايتها إلى أول الجزء السابع، وهي بمجملها تحتوي على أغلب الجزء السادس الذي يبدأ من الآية المائة وثمانية وأربعين من النساء إلى الثانية والثمانين من المائدة.

وفي هذه النسخة خُروم؛ حيث توقَّف من الآية الثالثة: {فَلَا تَخْشَوْهُم} في [4/ب] ثم في الورقة التالية [5/أ] استأنف مِن الآية الرابعة: {مُكَلِّبِينَ تعلّمونهنّ}، ثم توقَّف مِن منتصف الآية الخامسة: {وَطَعَامكم حِلٌّ لَهُم} في [5/ب] إلى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شيئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابنَ مَرْيَم} مِن الآية السابعة عشرة في أول [6/أ].

وهذه النسخة كما يبدو لي تعرضت للتفكك والنقصان من قبل، ثم أُدخلت فيها أوراق كُتب عليها ما نقص منها بخط نسخ، ثم كُتبت التَّعقيبة على جميعها لترتيبها.

وأُصيب التجليد بالتمزق والتآكل من أطرافه بفعل الرطوبة والقدم، وتأثَّر كثيرٌ من أوراقها بالبلل والرطوبة، فظهرا على الورق والحبر في بعض مواضعها، مما اضطر إلى الترميم في عدد من الأوراق.

4- تاريخ النسخ:

ليس على النسخة ما يشير إلى زمن الكتابة ولا إلى اسم ناسخ أو علم من الأعلام المعروفين، ولكن الخط الأصل الذي كُتبت به والورق الذي كُتبت عليه والحبر المستخدم في ذلك، كل هذا يدل على أنها بشكل تقديري قد نُسخت في القرن الثالث أو الرابع الهجري.

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- أعداد آيات السور الموجودة في النسخة:

قال الفيروز آبادي: «اعلم أن عدد سور القرآن -بالاتفاق- مائة وأربع عشرة سورةً. وأما عدد الآيات فإن صدر الأمة وأئمة السلف من العلماء والقراء كانوا ذوي عناية شديدة في باب القرآن وعلمه؛ حتى لم يبق لفظ ومعنًى إلا بحثوا عنه، حتى الآيات والكلمات والحروف، فإنهم حصروها وعدوها. وبين القراء في ذلك اختلاف؛ لكنه لفظي لا حقيقي»[1].

والمعتمد الذي عليه مدار القول في ضبط العدد هو قول الكوفي، والبصري، والشامي، والمكي، والمدنيين.

وفي هذه النسخة لم يتسنَّ لنا معرفة غير عدد آيات سورة المائدة من افتتاحيتها، وهي عند الكوفي مائة وعشرون، وعند المدنيين والمكي والشامي مائة واثنتان وعشرون، وعند البصري: ثلاث وعشرون[2]، وقد التزم الناسخ هنا قول المدنيين والمكي والشامي.

2- الرسم العثماني:

رسم المصحف يراد به -كما يقول الزرقاني- الوضع الذي ارتضاه عثمان -رضي الله عنه- في كتابة كلمات القرآن وحروفه[3]، ولعل مستنده في ذلك هو ما كان من اختلاف الفريق الذي كان مكلَّفًا من قبل عثمان بنسخ المصاحف على كلمة: (تابوت)؛ فكان زيد -رضي الله عنه- يرى أنها تكتب (التابوه) والنفر القرشيين من الفريق يرونها (التابوت)، فرفعوا الأمر إلى عثمان فاختار ما اختاروه.

ولهذا الرسم قواعد تميزه عن الرسم الإملائي الذي تُكتب به اللغة العربية بشكل يوافق المنطوق من الكلام، وهذه القواعد تتلخص في الحذف والزيادة والإبدال والوصل والفصل والهمزة.

وفي نسختنا هذه ظهرت بعض المخالفات لهذا الرسم الذي يتميز به القرآن عن غيره، والذي جرى الخلاف في عدم جواز مخالفته، ومثاله:

مع ملاحظة أن كلمة (أبنـٰؤا) مما اختلفت المصاحف في رسمه كما ذكره الداني[4].

3- تطور الخطوط:

الخط: «وهو علم تُتعرف منه صور الحروف المفردة، وأوضاعها، وكيفية تركيبها خطًّا أو ما يُكتب منها في السطور، وكيف سبيله أن يُكتب، وما لا يُكتب، وإبدال ما يُبدَل منها في الهجاء، وبماذا يُبدَل»[5].

ولقد كان أول العهد بخطوط المصاحف هو المكي أو الحجازي المائل، ثم صار إلى الكوفي أو كما كان يسمى بالجليل أو الجليل الشامي إلى أيام بني أمية، الذي تفرَّع إلى أربعة أقلام على يد ابن قطبة، ثم إلى اثني عشر قلمًا في بداية العهد العباسي، والخط المغربي مشتقٌّ من الكوفي ولكنه أكثرُ ميلًا إلى الاستدارة وأشدُّ لينًا، وقد تطوَّر في بلاد المغرب والأندلس، وفي عهد المأمون ظهر خط النسخ ومِن أبرز مَن اشتهر منهم ابن مقلة وابن البواب والمستعصمي[6]، ثم تفرَّعت الخطوط إلى أنواع كثيرة متعددة.

ثم إن هذه النسخة كُتبت بعدة خطوط متأخرة ومتقدمة، بسبب النقص الذي لحقها، فكُتب الأصل بالخط الكوفي القديم، الذي رُسمت فيه الأحرف بشكل مبسوط حتى إنك لترى بعض الكلمات قد كتب قسم منها في السطر الأعلى وباقيها في السطر الذي تحته، وأعجَمها جميعًا بنقط الإعجام المستقرة عند المشارقة وزاد عليها علامات الإهمال، فيضع تحت السين ثلاث نقاط، ثم أكمل ما نقص منها بخط نسخ متأخِّر عن الأول في بعض المواضع التي يتضح منها جِدةُ الورق ورشاقة الحبر عن الأصل.

خاتمة:

لعل في هذه النسخة خرومًا ونقصًا يسلب هذه النسخة نفاسةً محققةً لها بسبب مرحلتها التاريخية المقدرة لها، ولكن المتصفح لها يلحظ بعين الناقد طريقةَ الكتابة واستعمالَ الخطوط وتشكيلَ الكلمات وإعجامَ الحروف في أوراق الأصل، مما يُكسبها قيمةً غير مستغنًى عنها؛ لذلك أشرت في هذه المقالة إلى تفصيل بياناتها كاملة ثم وصف زخرفتها وتبيان حالتها المادية وما اعتراها من آفات، ثم ما اتضح من مذهبه الذي اعتمده في عد الآيات واختلاف رسم بعض كلماتها عما هو متبع في الرسم العثماني، ثم العطف نهايةً على المراحل التي تدرجت فيها من خلال الخطوط المكتوبة عليها فتأخر أحدها عن الآخر.

فحُفِظَتْ لها نفاستُها التي تمتَّعت بها، ولم تضطرب أو تختلّ بسبب ما أصاب بعض مواضعها من نقص أو آفة من الآفات المادية.

 

[1] ينظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروز آبادي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة. ج1، ص558.

[2] ينظر: البيان في عد آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث – الكويت، الطبعة: الأولى، 1414هـ-1994م. ص149.

[3]  ينظر: مناهل العرفان، الزرقاني، ج1، ص369.

[4] قال أبو عمرو الداني: وفي المائدة في بعض المصاحف: {نحن أبنٰؤا الله} بالواو والألف، وفي بعضها: {أبناء الله} بغير الواو. ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ج1، ص97.

[5] ينظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القلقشندي، دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، ص6.

[6] ينظر: رسم المصحف إحصاءً ودراسةً، صالح محمد صالح عطية، منشورات الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس - ليبيا، 2001-1430، ص236، 237.

الكاتب

حمزة موفق العائدي

باحث شرعي، نال شهادة الليسانس من كلية الشريعة بجامعة دمشق، ويعمل في مجال المخطوطات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))