اختلاف السلف في التفسير؛ نماذج تطبيقية (3)

تمثل قضية تعدد الأقوال ظاهرة بيّنة في تفاسير السلف، ومن ثَمَّ كانت دراسة هذه الأقوال وبيان طبيعة الاختلاف الحاصل بينها أمرًا له أهميته الكبرى في ضبط التعامل مع تفسير السلف وحسن فهمه، خاصّة مع مركزيته التي لا تخفى في التفسير؛ ومن هنا تأتي أهمية تسليط الضوء على كتاب «اختلاف السلف في التفسير بين التنظير والتطبيق» لمؤلفه د. محمد صالح سليمان، والذي قام بدراسة هذا الاختلاف نظريًّا وحشد فيه العديد من التطبيقات، حيث يستعرض أقوال السلف في تفسير الآية، ويناقشها، ويحدِّد سبب الاختلاف ونوعه وكيفية التعامل معه. وفي هذه السلسلة نستعرض أهم النماذج التطبيقية من هذا الكتاب بشيء من الاختصار والتصرف.

قوله تعالى: {الم}[البقرة: 1][1]

الأقوال الواردة في المقصود بقوله تعالى: {الم}:

  1. اسم من أسماء القرآن. عن قتادة، وزيد بن أسلم، وابن جريج، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
  2. فواتح يفتح الله بها القرآن. عن مجاهد من طريق سفيان وابن جريج وابن أبي نجيح، وعن الحسن بنحوه.
  3. أسماء للسور. عن زيد بن أسلم.
  4. اسم الله الأعظم. عن ابن عباس من طريق السدي، وعن ابن مسعود.
  5. أنا الله أعلم. عن ابن عباس من طريق أبي الضحى، وعن سعيد بن جبير، والضحاك.
  6. حروف مقطعة إذا وُصِلت كانت اسمًا من أسماء الله:

- حرف اشتُقَّ من حروف هجاء اسم الله. عن ابن عباس من طريق أبي صالح، وعن ابن مسعود، وبنحوه عن السدي.

- {الم}، {حم}، {ن} اسم مقطّع. عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وبنحوه عن سالم بن عبد الله.

- اسم من أسماء الله مقطّعة بالهجاء، فإذا وصلْتَها كانت اسمًا من أسماء الله. عن الشعبي.

  1. قَسَمٌ أقسم الله به، وهي من أسمائه. عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وبنحوه عن عكرمة.
  2. هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها الألسن كلّها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم؛ فالألف مفتاح اسمه الله، واللام لطفه، والميم مَجْده؛ والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة. عن أبي العالية، والربيع بن أنس.
  3. لكلّ كتاب سرّ، وسرّ القرآن فواتحه. عن الشعبي من طريق داود بن أبي هند.

بيان نوع الخلاف:

اختلاف تنوع.

سبب الخلاف:

اختلاف التمثيل لمقصد الحروف المقطعة ومَغْزَاها؛ على ما رجَّحه الباحث واختاره من أقوال العلماء.

الترجيح:

كان عمل المفسرين المتأخرين عن عصر السلف في هذه المسألة هو الترجيح بين أقوالهم، وتفاوتت آراؤهم في كيفية فهمها.

وبالنظر نجد أنّ لهم في تعاملهم مع أقوال السلف وفهمها هنا اتجاهات:

الاتجاه الأول: هذه الحروف مما استأثر الله بعلمه، ولا يجوز لأحد الخوض في معانيها:

فَهِم أصحابُه من بعض أقوال السلف أن هذه الحروف مما استأثر الله بعلمه، وصار هذا عندهم هو قول السلف، وبَنَوْا وجهتهم على أمور:

  1. أن هذه الحروف لم يَرِد فيها بيان عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا يقطع فيها بشيء، فضلًا عن مخالفتها لبقية كلمات القرآن نطقًا، وعدم وضوح معنى محدد لها[2].

وهذا ليس دليلًا قاطعًا على كونها مما استأثر الله بعلمه، وإنما احتمال يَقْوَى ويضعف بما يقوم معه من قرائن وأدلة.

  1. ما ورد عن بعض الصحابة والتابعين من الآثار التي تؤيد كونها مما خفي علمه عن العباد واستأثر الله بعلمه، من نحو قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: «وسرّ الله تعالى في القرآن أوائل السور»، وقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: «عجزت العلماء عن إدراكها»، وما ناظره[3].

ولم يُوقفْ على إسناد لهذه الآثار التي يسردونها لهذا المعنى، وقد أشار ابن عاشور إلى ضعفها[4]؛ فليس لها أصل ولو ضعيف حتى يُثبت لهم مقتضاها، إلا قول ابن عباس، ولا إشكال في كون العلماء عجزوا، وأنها سرّ من أسرار القرآن، ولا مانع مع ذلك من الاجتهاد في معرفتها ومحاولة الوصول إلى معانيها، وقد أكّد هذا المعنى ابن فارس[5] والخطيب الإسكافي[6]، وهذا بالفعل ما ثبت  عن ابن عباس نفسه من تفسير لها حيث فسرها بـ: «أنا الله أعلم»، فالأثر الوحيد الثابت في تأييد كون الأحرف المقطعة مما خفي علمه عن العباد واستأثر الله بعلمه مُعَارَض بغيره بل وبما صح عن ابن عباس نفسه.

كما أن هذه الآثار -لو وُجد لها أصل- يعارضها ما ورد عن بعضهم من تفسير للحروف المقطعة، وذلكم من أقوى الأدلة على أنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعمله؛ إذ لو كان، ما تكلم فيها الصحابة والتابعون ولَمَا خفي ذلك عنهم.                               

  1. الاختلاف الواقع بين الأقوال الواردة في تحديد معناها وصل إلى حدّ الاضطراب والتناقض، وهذا يؤدي إلى إسقاط هذه الأقوال جميعها، ويكون الأسلم -بنظرهم- عدم الخوض في بيان معانيها؛ لأنها والحالة هذه تكون مما استأثر الله بعمله[7].

وليس ثَمّ تناقض في أقوال السلف حقيقةً، إنما وقع التعارض مِن حَمْل أقوال بعضهم على مراد استئثار الله بعلم هذه الحروف، وليس ثَمّ ما يقطع بذلك عنهم -رحمهم الله-؛ فيكون الارتباك ناشئًا عند المتأخرين من فرض إثبات ما لم نجد فيه البيّنات عنهم.

والظاهر -والله أعلم- أن هذا القول قال به بعض المتأخرين حينما رأى كثرة الأقوال الواردة في الحروف المقطّعة، وظنّ بينها التعارض والتناقض؛ فآثر الخروج إلى الحمل على المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

الاتجاه الثاني: هذه الحروف ليست من المتشابه الذي لا يعمله إلا الله، ولها معنى معلوم:

رجَّحَ أصحابُه أن السلف عَيَّنوا معاني لهذه الحروف، فرجّحوا أن لها معنى، لكنهم اختلفوا في تحديده؛ فاختارت كلّ طائفة قولًا من أقوال السلف، وردّت ما عداه.

وتمثلت حجتهم في أن الحروف لها معنى في:

أنه لو لم يكن لها معنى لوقع في القرآن ما لا يكون مفهومًا للمخاطَبين، وهذا منافٍ -بنظرهم- للمقصود من إنزال القرآن؛ إذ المقصود من إنزاله تدبّر معانيه، وهو كتاب هداية وإرشاد وهدى وشفاء ورحمة، وكلّ هذا يُخِلُّ به كونُ الحروف ليس لها معنى.

والحقيقة أنه يُسلَّم بهذا إن كانت الحروف هذه لا معنى لها ولا مقصد من ورائها، أَمَا والجميع متفق على أن لها حِكَمًا ومقاصد فلا يُسلَّم بهذا؛ إذ الهداية حاصلة بمقاصدها وحِكَمها، بل هي أدلّ على إعجاز القرآن هكذا.

كذلك فإن «اشتمال القرآن على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافي وصفه بأنه بيان للناس وهدى ورحمة، فإن هذه الأوصاف يكفي في تحققها وثبوتها للقرآن باعتبار جملته وموضوعه لا تفصيله وعمومه الشامل لكلّ لفظة فيه»[8].

ثُم إنهم حاولوا التماس معانٍ لحروف مفردة مقطّعة، هي من حيث الوضع لا تُفِيدُ معنى، ولا تؤدِّي باستقلالها دَلالة، فإنك لا تظفر في كلام من ادّعى أن لها معنى بأي معنى مفهوم، وكلّ ما ذكروه على أنه معنى خارج عن حدّ المعاني حقيقةً، إضافة إلى أن هذه الأقوال الواردة في معنى هذه الحروف لا يعضدها دليل يُقْطَع بصحته ويوجِب التسليم به، كما أن دعوة التمكن من معرفة معانيها «تستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم»[9]، وهذا كلّه مما يُضْعِف هذا الاتجاه عمومًا.

أما من حيث التفصيل فإن كلّ مفسِّر قد تبنَّى قولًا من هذه الأقوال على وجه التعيين واجتهد في ردّ غيره، وكلّ هذه الأقوال لم تخْلُ من مطعن، ولم تَسْلم من مقال[10].

الاتجاه الثالث: الحروف المقطعة ليس لها معنى وضعي، ولكن لها مقصد إعجازي، وكلّ الأقوال الواردة عن السلف تُحمل على هذا المقصد:

رجَّحَ أصحابُه أنّ هذه الحروف ليس لها معنى وضعي في لغة العرب، إلا أن لها حِكَمًا ومقاصد فَهِمَها المخاطَبون بالقرآن، وهذا هو ما أراده السلف، وكانت أقوالهم كلّها مُرادًا بها التمثيل لهذا المقصد، والقولُ بهذا يؤدي إلى قبول كلّ الأقوال الواردة عن السلف في الحروف المقطعة، خصوصًا أن ردّها كلّها مع ثبوت صحة بعضها عن قائلها من السلف يُوقِع في حَرَجٍ كبيرٍ، وقد سلك هذا الاتجاه كبار المفسرين كابن قتيبة[11]، والراغب الأصفهاني[12]، والبيضاوي[13]، وهو ظاهر صنيع الطبري[14]، وابن فارس[15]؛ فلم ينظروا إلى الأقوال الواردة أنها تبيين لمعنى هذه الحروف، ولم يجعلوا قولًا منها مخصِّصًا للحروف المقطعة نافيًا ما عداه، وعدُّوها تمثيلات لهذه الحروف باعتبار أن تركيب كلّ كلام وقوامه لا يكون إلا من هذه الحروف، ويدخل في هذا أسماء الله وأسماء السور وأسماء القرآن، ويكون المقصود بمجيء الحروف المقطعة على هذا النحو التنبيه على إعجاز القرآن، وأن العرب عاجزون عن معارضته، مع كون كلّ كلام وكلّ تخاطب لا يكون إلا على مقتضى هذه الحروف؛ فمثلًا: «أنا الله أعلم» ليس تعيينًا للمعنى من ابن عباس -رضي الله عنهما-، وإنما مرداه هذه الحروف هي أجزاء ذلك الكتاب.

ومن هنا كان صنيع أصحاب هذا الاتجاه ارتضاء كافة ما ورد عن السلف في الحروف المقطعة، والجمع بينها كأمثلة للمقصد من هذه الحروف دون تخصيص لها بقولٍ دون قولٍ، ومن يتأملْ قول الربيع بن أنس يَلُحْ له أن ذلكم كان مراد السلف، فضلًا عن أن ذلك المسلك يدفع كلّ الإيرادات والتعقبات التي أُوردت على أقوالهم.

وبما عرضنا له؛ يتضح تَقَوِّي الاتجاه الثالث؛ لما فيه من جمْعٍ بين أقوال السلف، ودفعٍ لكلّ ما أُورِد عليها، وهو قول وسط بين قولِ من جعلها من المتشابه المطلق، وقول من جعل لها معاني لا دليل عليها، كما أنه منجاة عن الخروج بالكلية عن أقوال السلف.

 

[1] اختلاف السلف في التفسير بين التنظير والتطبيق (ص: 296)، ويلاحظ أننا قمنا باختصار المادة التي عرضها الكتاب في هذا الموطن، واكتفينا فقط بعرض الأقوال التفسيرية الواردة في المقصود بالآية، وذكر سبب الخلاف بينها ونوعه، والراجح منها، وكذا ما أورده من اجتهادات أخرى في غير أقوال السلف ومناقشتها.

[2] ينظر هذا المعنى في: فتح القدير للشوكاني (1/ 106).

[3] تنظر هذه الأقوال في: تفسير السمرقندي (1/ 47)، والوسيط (1/ 75)، وزاد المسير (1/ 20)، وتفسير البغوي (1/ 58)، وتفسير أبي السعود (1/ 32)، وروح المعاني (1/ 100)، وغيرها.

[4] التحرير والتنوير (1/ 207).

[5] الصاحبي في فقه اللغة، له (ص163).

[6] كتاب المجالس للخطيب الإسكافي (ص54، 55).

[7] ينظر هذا المعنى في فتح القدير (1/ 107).

[8] مناهل العرفان (1/ 192)، وينظر في هذا المعنى: ترجيح أساليب القرآن، لابن الوزير المرتضى اليماني (ص126).

[9] إيثار الحق على الخلق في ردّ الخلافات إلى المذهب الحقّ من أصول التوحيد، لابن الوزير اليماني (ص97).

[10] لمراجعة التعقبات على هذه الأقوال ينظر: تفسير الطبري (1/ 212، 213)، مقدمة جامع التفاسير (ص148)، تفسير البيضاوي (1/ 85)، المجالس (ص: 43، 44، 54)، الموافقات (3/ 369)، تفسير ابن كثير (1/ 37، 38)، حاشية زاده (1/ 69)، مفاتيح الغيب (1/ 365)، حاشية الشهاب (1/ 262)، التحرير والتنوير (1/ 209 : 211)، فتح القدير (1/ 104)، وغيرها.

[11] تأويل مشكل القرآن (ص309).

[12] مقدمة جامع التفاسير (ص142، 148) بتصرف.

[13] تفسير البيضاوي (1/ 56).

[14] تفسير الطبري (1/ 220).

[15] الصاحبي في فقه اللغة (ص 164).

الكاتب

فريق موقع تفسير

موقع مركز تفسير للدراسات القرآنية

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))