القول البلاغي في بديع القرآن؛ مراجعات منهجية
أ.د. محمود توفيق سعد
يَعمَدُ هذا البحث إلى مناقدة مسلك المتأخرين في تدبّر أساليب البديع خاصّة في القرآن الكريم، ويثير مراجعات منهجية حول تناولهم له، مسلِّطًا الضوء على أثر البديع في تكوين المعنى وتمكينه.
ممّا هو حقيقٌ بمزيد الاعتناء به في بابٍ من أبواب العلم المراجعةُ المنهجيةُ لما أُثِر عن بعض أهل العلم وما دَرج عليه جمعٌ من طلابه؛ ليُبيَّن ما هو جديرٌ بأنْ يُستثمَر، فيُستخرَج به ممَّا هو موجودٌ ما ليس بموجود؛ خدمةً للعلمِ وأهلِهِ وطَلَبته، فذلك هو السبيل الملحَّبُ المحبَّبُ.
وهذه الأوراق ليس همّها الرَّئيس أنْ تعمَدَ إلى تأويل وتدبر شيءٍ من أساليب البديع في البيان العليّ المعجِز (بيان القرآن)؛ بل هي إلى مناقدة المنهج الذي يسلك إلى تحقيق تدبّر هذه الأساليب فيه مناقدةً متّسمةً بأنَّها مفسِّرة حينًا وبأنها مقوِّمة حينًا، ومَن فسَّر شيئًا فقد حكم عليه ضِمنًا على ما عليه الأعيان من أهل العلم، وبأنَّها هادية إلى الحُسنَى حينًا، فهي مناقدةٌ أشبه بالنّاصِبةِ المُقيمةِ معالم على الطريق إلى ما تحسب أنّه الحسَنُ والإحسانُ معًا.
وإذا ما كان بذل الجهد في تحقيق النَّصيحة لكتاب الله تعالى من الدّين، وكان من تلك النّصيحةِ النّصيحةُ في حُسن اتخاذ المنهج الأمثل في تدبّر بيان القرآن الحامل معاني الهدى إلى العباد؛ ليقوموا بين يدي رب العالمين قانتين مستعذبين قيامهم بين يديه -سبحانه وبحمده-، إذا ما كان هذا فإن هذه الأوراقَ شاءت أن يكون ما يسمَّى عند أهل العلم بالبيان بأساليب (البديع) في القرآن مجالَ اجتهادها تفسيرًا وتقويمًا وإرشادًا إلى التي هي أقوم، ذلك أنه لم يلقَ بابٌ من أبواب علم البلاغة العربي في صُورته التي جاء بها علماؤنا فيما بعد القرن السادس الهجري من القَدْحِ والثّلبِ والسّلب من غيرِ قليلٍ من المُحدَثِين المُحدِثين المشتغلين بالنَّظر في علوم العربية كمثل ما لقِيَ بابُ البديع.
ومن أهل العلم في زماننا مَن قام إلى هذا العلم (علم البديع) في مدونة متأخري البلاغيين، فنظر نظرة منصِفة إلى هذا العلم، ولم يره دون قرينيه: (علم المعاني)، و(علم البيان) -منزلةً في صِناعة صُورة المعنى المكنون في الصدور؛ لأنّه عَلِم أنّ الأعيان من أهل العلم ينظرون إلى ما سمي (علم البديع) على إنه جماع العِلْمَين: (المعاني، والبيان) معًا، فهو فسطاطهما، ولا قيام له إلا بهما، فأنّى لأسلوبٍ بديعٍ لا يشتمل على تركيب ومنهاج دلالة (تصوير)؟! وأنَّى لنا أن نوفّي أسلوبًا من أساليب البديع حقَّه في التّبصر والتّدبر والتذوق معزولًا عمّا قام فيه من تركيب وتصوير، فكما أن (علم البيان) ليس قسيمًا لـ(علم المعاني) بل هو جزءٌ من منظومة كُلِّية؛ كذلك (علم البديع) ليس قسيمًا لـ(علم المعاني)، ولا لـ(علم البيان) بل هو الذي لا يقوم إلا إذا قَام فيه مِن العِلْمَين ما يحقِّق له وجوده الفاعل في الإعراب عن المعنى.
هذه الرؤية إذا ما استُحضرت في فقه معاني الهدى في القرآن من خلال الوعي الجمعي لمكونات الصورة ومساقاتها المحققة قدرتها إلى إِيصال المعنى إلى القلب وتمكينه فيه كانت هذه الرؤية ذات مقامٍ مكينٍ ثمينٍ في تحقيق القيام ببعض فريضة النصيحة لكتاب الله -جلّ جلاله-.
واقتصار المتأخرين على القول في كلٍّ دون استحضار الآخر في أثناء التأليف لطلاب العلم أو في أثناء التدريس إنما هو نهجٌ اقتضته أصول التعليم والتربية، فهو مرهونٌ بها، ولا يمثل حقيقة العلاقة بين الأبعاد الثلاثة: التركيب، والتصوير، والتحبير (تحسين المعاني في النفوس) لما يُعرِب عن المعنى إعرابًا يتَّسم بالصّدق والأمانة كما هو سَمْت كلّ كلام بليغ.
محصل القول أنّ هذه الأوراق تسعَى إلى أن تكون رؤيةُ المتدبر البيان القرآني قائمةً على أنّ كلَّ مكوّن من مكونات صورة المعنى أيًّا كان قدره ولو صوت حركةٍ على حرف مبنى ذو أثر مكين في تكوين المعنى وتمكينه، ولعلّ مقالة أهل العلم: إنّ كلَّ قراءة بمثابة آية جديدة، مما يقرِّر هذه الحقيقة؛ لأن عُظْمَ القراءات القرآنية قائمة في الأداء، وقلما تجد قراءة متواترة تخالف أخرى بتقديم كلمة أو تأخيرها أو حذف كلمة، أو زيادتها، ممّا يهدِي إلى أهمية الاعتناء تأويلًا وتلقّيًا بما تتنوع به القراءات المتواترة، ولو كان صوتًا صائتًا على حرف من حروف مباني الكَلِم.