مناظرات القرآن الكريم ومحاوراته
(2-1)

الكاتب : منير القاضي
اشتمل القرآن الكريم على عددٍ من المناظرات والمحاورات البليغة في مواضيع جوهريّة شتّى، وهاتان المقالتان تعرضان لهذا الموضوع من خلال عرض نماذج المناظرات والمحاورات في القرآن، وتأتي المقالة الأولى لتتناول مقدِّمات الموضوع ومناظرات القرآن.

مناظرات القرآن الكريم ومحاوراته[1]

(1- 2)

  المناظرة والمحاورة ضربان من ضروب الأدب، يعتمد على كلّ منهما العلماءُ والأدباء في إبداء ما يَرْمُون إليه من المقاصد والأغراض، بأسهل الطرق وأوسعها؛ فالمناظرة تحقّق المطلوب بالدليل البرهاني أو الإقناعي الخطابي، والمحاورة تكشف وتُقَرِّب الوصول إلى مطلب يُراد جِلاؤه.

والمناظرة: هي توجُّه المتخاصِمَيْن في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب، أيْ أنّ المتخاصِمَيْن اللذَيْن مطلب أحدهما يغاير مطلب الآخر، إذا توجّه كلٌّ منهما إلى إثبات مطلبه، من طريق النقل الصحيح عمّن لا يردّ عليه، أو بإقامة الدليل المؤلَّف من مقدّمتين: صُغرى وكبرى، على شكل من الأشكال المنطقية، وكان غرضهما من هذا التوجّه إظهار الصواب؛ فهو المناظرة. مأخوذة من النَّظِير، بمعنى أن يَعُدّ أحدهما نفسه نظيرًا للآخر في مقام المناقشة والتعليل والإثبات المتّصل بالموضوع. أو هي مأخوذة من النَّظَر، أي الإبصار من حيث إنّ كُلًّا من المتخاصمَيْن ينظر إلى الآخر عند المباحثة. أو هي مأخوذة من النَّظِرة، من حيث إنّ كلًّا منهما ينتظر الآخر ريثما ينتهي من كلامه فيتوجّه إليه بالردّ أو التسليم. أو هي مأخوذة من التناظُر أي التقابُل، بمعنى أنّ أحدهما يقابل الآخر عند المناقشة.

ومهما كان الاشتقاق فالغرض هو إظهار الصواب، أيْ: صواب أحد مطلبي المتخاصِمَيْن، فكلّ منهما يسعى لإثبات دعواه باعتبار أنها هي الصواب. فإذا ادّعى زيد أن القول: «إنما الأعمال بالنيات» حديث صحيح، وأنكر خالد هذه النسبة، أي: كون هذا القول حديثًا صحيحًا، وأصرّ كلّ منهما على رأيه، فتوجّه زيد لإثبات دعواه برواية هذا القول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسند الصحيح، وتوجّه خالد إلى دفعِ ذلك؛ كان هذا الحال بينهما مناظرة. وكذلك إذا ادّعى زيد أنّ نشر العلوم في الأمة واجب، فأنكر خالد ذلك زاعمًا أنه مستحسَن وليس بواجب، فأصرّ زيد -المدَّعِي- على دعواه مستدلًّا بأنّ نشر العلوم في الأمة واجب، فالدليل هنا مؤلَّف من قضيتين: صغرى، وهي: (نشر العلوم في الأمة إعداد لقوّة فيها). وكبرى، وهي: (وكلّ إعداد لقوّة فيها، واجب)، وكلٌّ من قضيتي الدليل -أي الصغرى والكبرى- مسلَّم بها بلا شك.

والدليل هنا مرتَّب على الشكل الأول من الأشكال الأربعة للدليل في علم المنطق، وبموجبه تظهر النتيجة بحذف المكرّر في القضيتين، وهو (إعداد القوة فيها)، فإذا حُذِف هذا المكرّر في هذا الدليل تكون النتيجة: (نشر العلوم في الأمة واجب)، وللخصم -السائل- أن يعارض دليلَ المدّعِي بدليل مقابل يُنتج خلاف دليله، أو يَنقض الدليل بدليل آخر، أو يمنع دليل خصمه، أي: أن يطلب من المدّعِي دليلًا على صحة إحدى مقدمتي دليله: صغراه وكبراه. وهكذا تستمر المناقشة بين الطرفين المتناظرين -المدّعِي والسائل- على الوجه المذكور، مع التحلِّي بالأدب والاحترام المقابل، إلى أن يعجز أحدهما عن إثبات مراده فيخضع بالتسليم لدعوى خصمه، لظهور الصواب في جانبه.

هذا إنْ كان المطلوب بين المتخاصمَيْن إظهار الصواب، وهو الأصل والركن المهم في المناظرات بين طلاب الوصول إلى الحقائق، أمّا إذا كان الغرض من المنازعة بين الطرفين مجرّد إلزام الخصم وإفحامه غير ناظرين إلى كونها تؤدّي إلى ظهور الصواب أو عدمه؛ فتسمّى (مجادلة) لا (مناظرة)، ومثل هذه المجادلة تقع غالبًا بين رؤساء المذاهب الذين تقرّر عند كلّ منهم مذهبه، معتقدًا صوابه، بحيث لا يطمع فيه أن يتحوّل عنه، وتجري أيضًا بين رؤساء الأحزاب وبين المرشحين في الانتخابات، استكثارًا لأتباع المذهب أو الناخبين، أو أعضاء الحزب، بغية تكبير العدد المؤدّي إلى قوّة في المذهب أو الحزب، أو إلى رجحان بعض المرشحين عل بعض في الانتخابات، ويكفي في المجادلة أن ينقطع أحد الخصمين عن الجواب في النهاية، ويقع في ربقة الإلزام، سواء أكان دليل خصمه مقنعًا في الحقيقة والواقع، أم كان غرضًا للطعن والتزييف في نفس الأمر والحقيقة.

فالغرض من المجادلة ومحطّ النظر فيها هو الوصول إلى إلزام الخصم وإفحامه لا غير، ويشترط في المجادلة ما يشترط في المناظرة من التمسك بالآداب المقرّرة المعروفة الواجب العمل بها عند المناقشة بين الطرفين، إلى أن يتحقق الغرض وتنجلي النتيجة.

{وَلَا ‌تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46].

وإذا لم يُقصد من المنازعة بين الطرفين إظهار الصواب ولا إلزام الخصم، بل شيء آخر كإظهار المنازِع نفسَه عالمًا، وكَستْرِ جهله في أعين السامعين، فإنها تسمّى «مكابرة»، فالمكابِر لا يطلب من منازعته ومخاصمته إظهار الصواب ولا إلزام خصمه، فقد يظهر الصواب جليًّا فلا يسلِّم به، بل يبقى راكبًا رأسه يتشبّث بالحشيش، ويستقوي بالحطام، ويستدلّ بفارغ القول ولَهْو الحديث، وقد تلزمه الحُجّة فلا ينقطع عن الكلام، ولا يمسك عن القول، ليستر جهله ويتمسّك بأذيال التمويه والمغالطة، ليغطِّي نقصه ويُخفي عيبه. وقد لا يُرْجَى من المخاصمة في القول ظهور صواب أو تحقيق إلزام أو تثبيت مرام، بل مجرّد مراجعات في الكلام ومباراة في الاستدلالات الفارغة؛ للمباهاة أو التضليل، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله}، ومثل هذا يدخل في باب الهذيان والهذر.

فالمخاصمات الكلامية الجارية في الآراء، والمذاهب، والمطالب الأخرى لا تخلو من أن تكون مناظرة أو مجادلة أو مكابرة. وكلّها من ضروب الأدب والبحث القَيّم، وما عداها من القول في المخاصمات الكلامية هُراءٌ ولهوٌ، ولا يتقبله الأدب الصحيح، وتستثقله الأسماع، وأعلاها المناظرة فالمجادلة، والواهن منها المكابرة.

ومن المناظرات نوع يقوم الدليل في إثبات الدعوى فيها على إجراء أعمال تشهد على صحّتها أو تؤدي إلى تحقيقها فعلًا، ولنا أن نسمي مثل هذه المناظرة بالمناظرة العملية، وما المعجزات التي يأتي بها الرُّسل والأنبياء إلا من هذا القَبِيل، وكذلك التجارب والاختبارات التي يقوم بها العلماء لإثبات الدعاوى العلمية من هندسية ونحوها.

ومن المناظرات نوع يقوم على المبادرة بالدعوى مقرونة بدليلها الذي يستحيل أو يتعسّر على الخصم أن يدافعه؛ لأنه عين الواقع وعين الحقيقة التي يسلِّم بها الخصم، فهو محجوج من أوّل الأمر، وفاشل في زعمه، ومفحَم في مناظرته، أو بالدعوى التي هي من الضروريات الأوّلية؛ والضروري الأوّلي ما يستلزم نفس تصوره حصول التصديق به، على حَدّ قولنا: الواحد نصف الاثنين. ولنا أن نسمي مثل هذه المناظرة بالمناظرة المنتصرة الدعوى، مثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ ‌إِلَّا ‌مِنْ ‌بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[آل عمران: 65]، وقول الأعرابي: «الأثر يدلّ على المسير؛ سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا تدلّ على السميع البصير؟!».

وفي القرآن الكريم مناظرات من الأنواع الثلاثة: القولية، والعملية، وذات الدعوى المنتصرة.

والأصلُ في المناظراتِ القوليةُ المستندةُ إلى الأدلة العقلية، فتجري المناقشات بين العقول، وتنتهي عندما تقنع العقول بصحة الدعوى أو بطلانها، ولا يركن إلى الفعلية إلا إذا لم يكن للعقل وحده مجال لإثبات الدعوى، بل لا بد أن تقترن حركته بعمل يقوم به صاحب الدعوى، كما هو الأمر في المعجزات وفي الدعاوى الهندسية، والتجربية الاختبارية، وإلا إذا لم يملك الخصم عقلًا قادرًا على مُدَارَأَة أدلة الدعوى ولا أهلية له في ذلك، فيلجأ صاحب الدعوى إلى إقناعه بإجراء أعمال تقنعه أو تلزمه فينتصر المدعِي ويخيب الخصم السائل.

أمّا المحاورة: فهي المراجعة في الكلام، أي المجاوبة؛ ومنه التحاور، أي التجاوب، مِن حار يحور، بمعنى: رجع يرجع، والاسم: الحوير والحوار.

فالمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة. وهي ضرب من ضروب الأدب الرفيع العليِّ، وأسلوب من أساليبه: فيها استنطاق، وفيها استفهام، وفيها بيان، وفيها شرح وإيضاح، وفيها شكوى البثّ والحزن، وفيها بثّ ما في الضمير وكشف السرائر، وفيها وفيها، وفي كتب الأدب فصول طويلة في المحاورات البليغة. وقد أصبح للمحاورة في الأدب الغنائي في العصر الحاضر شأنٌ ذو بال.

وللمحاورة في أدب الدِّين آثار تَستجلب العِظَة، وتُوزِع النفوس الجامحة، وتنبّه القلوب الغافلة، وتستبصر البصائر؛ فما ألطف محاورة أيوب -عليه السلام- مع أصدقائه وهو غارق في بلواه، وما أدقّ ما فيها من أدب رفيع وفلسفة قويمة، وتغلغل في أعماق الأرواح والنفوس، وقد حاق به الصبر، واستأسرته الأمراض، وأناخت عليه الكوارث، وما أبرع مناجاته لربّه وهو حائر في توجيه الخطاب، ولاذع العتاب، حتى وقف بيانه، وانعقد لسانه، إِذْ نادى رَبَّه أني مسَّني الضر وأنت أرحم الراحمين، معترفًا بالضراعة، مستجيرًا بربه من الضراوة، مقرًّا أنه قد انحرف عن قاعدة أهل الصبر واليقين طالبًا الرحمة من ربّ العالمين، محاورة بليغة بين نبي مُبتلَى وزمرة من أهل الحقيقة الصادقين. سطرتها كتب الدِّين القديمة، وأشار إليها القرآن العظيم بإجمال بليغ وتعبير دقيق.

والقرآن الكريم طوى في صحائفه القويمة طائفة من المناظرات العجيبة، والمحاورات البليغة، في مواضيع جوهرية شتّى، دفعني حُبّ استجلاء بعض حقائق القرآن إلى تتبّعها، وإفرادها بالبحث، وإليك نماذج مما وصل إليه فهمي، منها:

المناظرات:

1- {أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الَّذِي ‌حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}[البقرة: 258].

(حاجّ) حاجَج، أي: ناظَر، أُدغمت الجيم الأولى في الثانية. (بُهِت) انقطع وسكت وتحيَّر، وهذا الفعل من الأفعال الملازمة لبناء المجهول، على الأرجح.

موضوع المناظرة: دعوى إبراهيم -عليه السلام- (أنّ الله تعالى هو الربّ)، وقد استدلّ على ذلك بأنه يُحيي ويُميت، أي: يهب الحياة لما يشاء من الأجسام فتنمو أو تنمو وتتحرك، فتؤتِي ثمارًا مادية ومعنوية، وتختصّ بميزان الحياة المعروفة في علم الأحياء، ثم ينزع منها الحياة فتموت وتعود إلى سيرتها الأولى؛ وترتيب الشكل المنطقي هكذا:

الله يُحيي ويُميت، وكلُّ مَن يحيي ويميت فهو الربّ -والترتيب من الشكل الأول-، وعند حذف الوسط وهو (يحيي ويميت) تكون النتيجة: الله هو الربّ، وقد عارضه خصمه الملِك بدليل مماثل -على زعمه- فقال: أنا أُحيي وأُميت؛ لأني أَعفو عمّن يستحق الإعدام فأكون قد أحييتُه، أي: وهبتُه حياة، وأعدِم من أشاء من الناس فأكون قد أمَتُّه، أي: سلبتُ منه الحياة، وترتيب دليل المنطقي على الشكل الأول أيضًا: أنا أُحيي وأُميت، وكلّ مَن يُحيي ويُميت فهو الرب؛ فالنتيجة: أنا الربُّ. ولم يشأ إبراهيم -عليه السلام- أن يدخل في إبطال دليل خصمه بأنه مغالطة؛ فإنّ الإحياء والإماتة اللَّتَيْن يقدر عليهما، هما غير الإحياء والإماتة الحقيقيين الواقعيين في الموجودات التي يصبح بها المعدوم موجودًا ثم يعود إلى طيّته؛ لأنّ خصمه سيذهب إلى مغالطة تلو مغالطة لئلا يضطر إلى التسليم؛ لذلك عدل إلى دليل آخر واضح المعنى لا تتأتّى المغالطة فيه، فقال:

إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق، (أي) وكلُّ من يأتي بالشمس من المشرق فهو الربّ، النتيجة: (الله هو الربّ)، فإنْ كنتَ ربًّا فَأْتِ بها من المغرب، لكنك لا تقدر على ذلك فلستَ بربّ، وهو قياس استثنائي اقتراني، وهو من الأقيسة المنطقية الصحيحة، ولم يقل له: فَأْتِ بها من المشرق إنْ كنتَ ربًّا؛ لأن كون ذلك من فعل الله تعالى أمر مسلَّم به، يسلِّم به الخصم نفسه، فإنها تطلع من المشرق من قبل أن يوجد الخصم.

وليلاحظ أن الأقيسة المنطقية -حملية كانت أو شرطية- تعتبر صحيحة لا مناص من قبول نتائجها، إن جاءت وفق الشروط المقرّرة لها في علم المنطق فهي عندهم كالنتائج الرياضية قطعية لا تحتمل الشك.

2- {الشَّيْطَانُ ‌يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ ‌يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 268].

دعوى المخلص: الشيطان عدوّ لكم لأنّه يدعوكم إلى الفقر ويطلب منكم الفحشاء ويأمركم بها، وكلّ مَن يعدكم الفقر ويأمركم ويطلب منكم الفحشاء فهو عدوّ لكم، فالنتيجة: الشيطان عدوّ لكم، أي: والعدوّ يجب أن يجانب ويخالف ولا يطاع، وكأنَّ الخصم يمنع ضرورة اللجوء إلى غير أليفه الذي يُلزمه الدليل بمفارقته والتجافي عن سلوك طريقه، فأقام المُدَّعى دليلًا على هدم هذا المنع الذي لا سند له، فقال:

الله يعدكم بالمغفرة والفضل (أي: ويدعوكم إلى التمسك بأسبابها)، وكلّ مَن يعدكم بالمغفرة والفضل فهو الذي يجب أن يُطاع ويُلجأ إليه، وعند حذف الوسط تكون النتيجة: الله هو الذي يجب أن يُطاع ويُلجأ إليه.

3- {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ ‌وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران: 20].

(حَاجُّوكَ) ناظروك، أي: في الدِّين. (أَسْلَمْتُ ‌وَجْهِيَ لِلَّهِ) أخلصتُ نفسي لله وحده، أو أخلصتُ اتجاهي في ديني لله وحده. (الْبَلَاغُ) التبليغ، أي: إيصال الأمر لمن يُراد إيصاله إليه.

وجه المحاجّة: الدعوى أنَا على الهدى لا أنتم؛ لأنني أخلصتُ وجهي لله، وكذلك مَن اتبعني؛ وكلّ من أخلص وجهه لله فهو على الهدى، والنتيجة: أنا على الهدى.

وكلّ من المقدمتَيْن واقعية مسلَّم بها، فالنتيجة قطعية، فإنّ المقدمة الأولى (الصغرى) واقعية مسلَّم بها؛ لأنه جاء لنشر التوحيد الخالص، فلا شريك ولا وثن.

وكذلك المقدمة الثانية (الكبرى) واقعية مسلَّم بها، إِذْ لا يشكّ أحد في أنّ مَن أخلص دينه لله فهو على الهدى، فالنتيجة إذًا قطعية منطقًا، فلله الدين الخالص لا أنتم، أي: لستم على هدى لأنكم لم تخلصوا دينكم لله، لأنكم بين مشرك أو وثني، وكلّ من لم يخلص دينه لله فليس على هدى، والنتيجة: لستم على هدى، بل في ضلال مبين. وكلّ من المقدمتين واقعية مسلَّم بها، فإنَّ كون الخصوم إمّا مشركًا أو وثنيًّا -وهي المقدمة الصغرى- أمرٌ واقعي لا نكران فيه، فلا إخلاص لهم في دينهم، وكذلك المقدمة الكبرى وهي: (كلّ من لم يخلص دينه لله فليس على هدى)، أمرٌ يسلِّم به كلُّ ذي دِين أو عقل سليم، فالنتيجة إذًا قطعية منطقًا، فالخصم في هذه المناظرة مضطر إلى الإذعان والتسليم إلا إذا كان مكابرًا معاندًا، والمكابر المعاند ليس بذي بال، ولا يحسب له حساب.

4- {فَمَنْ ‌حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61].

(حَاجَّكَ) ناظرَك، أي: طلبَ مناظرتك. (نَبْتَهِلْ) ندعو بإخلاص واجتهاد ونتضرّع إلى الله جاعلين في دعائنا لعنة الله على الكاذب منّا في دعواه، مناظرة دليل الدعوى فيها طلب أداء عمل نتائجه خطيرة جدًّا على الخصم، وهي تَحقّق لعنة الله على الكاذب في دعواه.

وهذه من المناظرات التي طلب أحد الطرفين فيها فعل شيء يؤدِّي إلى إثبات دعواه، فانسحب الطرف الثاني عن ذلك لما ظهر له من أن ذلك الفعل يسوقه إلى الخسران المبين.

وهذه الواقعة جرت بين رسول الله وبين وفد نجران الذين وفدوا إلى المدينة لمناظرته في أمر رسالته، ولمّا كانت دعوى النجرانيين لا يمكن مناقشتها من ناحية العقل، ولأنّ الوفد لا يحمل عقلًا يقوى على المناظرة العقلية؛ طلب -عليه السلام- من خصومه أن يقوموا بالمباهلة فانسحبوا من الخِصام.

5- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ‌لِمَ ‌تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}[آل عمران: 65- 66].

هذه مناظرة من النوع الثالث التي تكون دعوی الخصم فيها ساقطة بذاتها؛ فلا تحتمل المناقشة وإقامة الدليل؛ لأن سقوطها من البديهيات الواضحة لكلّ أحد، ودعوى المُدَّعِي هي المنتصرة، فهنا ادَّعى الإسلام أنّ إبراهيم كان حنيفًا أي مسلمًا، وادَّعت طائفة أن إبراهيم كان يهوديًّا، وادَّعت طائفة أنه كان نصرانيًّا، فجاءت المناظرة مقرِّرة سقوط الدعوتَيْن بنفسهما من نفسهما، وثبوت الدعوى الأولى؛ لأن اليهودية إنما جاءت بنزول التوراة، والنصرانية إنما حصلت بنزول الإنجيل، وكلّ من التوراة والإنجيل إنما نزل بعد إبراهيم بعصور فكيف يعقل أن يكون إبراهيم يهوديًّا أو نصرانيًّا؟! ولهذا ختم الكلام بتقريع الخصم بأنه يناظر بلا تثبّت في الأمور فهو يناظر فيما له علم به وفيما ليس له به علم، وليس هذا من شأن المناظر الذي هدفه إظهار الحقائق لا طمسها، والمناقشة في أمر يمكن أن يتخيّل حصوله، لا في أمر محال بالبداءة والضرورة.

6- {‌وَحَاجَّهُ ‌قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...}[الأنعام: 80- 82].

(حَاجَّهُ) جادله قومه. (يَلْبِسُوا) يخلطوا. (إِلَّا أَنْ...) لكن مشيئة الله هي التي تكون. (سُلْطَانًا) حجةً ودليلًا، وأصل السلطان القوة.

الدعوى: الخوف عليك من أصنامنا.

 الدليل: لأنّ أصنامنا آلهة، وكلّ الآلهة يُخاف منها.

الجواب بمنع الصغرى: الإله هو الله وحده؛ لأنه هو العالم بكلّ شيء -وسِعَ كلّ شيء علمًا- وأصنامكم جماد لا تعرف شيئًا حتى نفسها، وكلُّ مَن كان جمادًا لا يعرف حتى نفسه ليس بإله، ولا خوف منه، فأصنامكم لا خوف منها، فلا أخاف ما تشرکون بالله من غير دليل تقيمونه ولا حُجّة تعتمدون عليها، فأنتم أَوْلى بالخوف من العاقبة لا أنَا، فأيّ الفريقين أحق بالأمن؟ ولهذا ختم الكلام بقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}[الأنعام: 83].

وللخصم المدّعِي أن يمنع دليل السائل أو أن يعارضه أو أن ينقضه، ولكنه عاجز عن كلّ ذلك هنا؛ لأنّ دليل السائل المجيب أمورٌ قطعية واقعية لا يستطيع الخصم نكرانها والمناقشة في ثبوتها.

7- {‌إِذْ ‌قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}[الأنعام: 91].

(الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى) التوراة. (القرطاس) الكاغد والصحيفة من كلّ شيء. (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ) أي: تجعلون التوراة أجزاء مفرّقة مقطّعة تخفون على الناس منها ما يكون حُجّة عليكم وتبدون الباقي.

الدعوى: لستَ نبيًّا، ولم يَنزِل عليك شيء.

الدليل: لأنك بشر ولا يُنزِل اللهُ على بشر شيئًا.

نقض الدليل: لو كان الله لا يُنزِل على بشر شيئًا لمَا أنزل على موسی کتابًا، لكنه أنزل على موسی کتابًا تؤمنون به؛ فيه بيان، وفيه هداية، وموسی بشرٌ، فدليلكم منقوض، فنقض دليل الخصم جاء هنا بقياس استثنائي لا يستطيع الخصم المدّعِي إنكاره أو معارضته، فهو مُلزِم في مجادلته.

8- {وَأُمِرْتُ ‌أَنْ ‌أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا...أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}[غافر: 66- 69].

(‌أَنْ ‌أُسْلِمَ) أنْ أُخلص ديني لربّ العالمين.

(أَنَّى يُصْرَفُونَ) كيف يَقبلون الانصراف عن التوحيد مع قيام الدليل عليه من أنفسهم.

الدعوى: حق الدِّين أن يكون خالصًا لله.

الدليل: لأنه هو الذي خلق الإنسان أطوارًا: من تراب ثم نطفة ثم علقة، ثم وثم، إلى أن صار شيخًا، وكلُّ مَن كان كذلك فحقّ الدّين أن يكون خالصًا له، لا حقّ لأحد آخر أن يشاركه فيه.

وللخصم المناظر أن يعارض في دليل المدَّعِي أو أن ينقضه إن استطاع، أو أن يمنع مقدمة من مقدماته، ولكن كلّ ذلك يتعذر عليه هنا؛ إذْ كلّ أحد يعترف بأن لا خالق غير الله، إلّا الملاحدة المنكرين، والكلام ليس معهم -وليسوا في الحسبان- وإذا أُريد مناظرتهم فهناك أدلة أخرى تتوارد في مناقشهم وتفحمهم حتمًا.

9- {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}[الأعراف: 194- 198].

(كِيدُونِ) الكيد: المكر والحيلة. (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) أي: ترى الأصنام كأنها تنظر إليك لدقّة صنعها ولكنها لا تُبصِر شيئًا لأنها لا حياة فيها.

الدعوى: إنّ الأصنام التي تدعونها عِبادٌ لا آلهة.

الدليل: لأنها ناقصة في ذاتها؛ لا تمشي ولا تبطش ولا تبصِر ولا تسمع ولا تستطيع نصرًا لنفسها، وكلُّ مَن كان كذلك فهم عِباد لا آلهة.

النتيجة: الأصنام التي تدعونها عِباد لا آلهة.

ودليل عملي آخر -ومناظرة عملية-: هي الطلب من الخصم أنْ يدعو أصنامه فلتستجب لهم ولكنها لا تستجيب بلا شك، وأنْ يستنصروا بها فلتنصرهم ولكنها لا تنصر أحدًا بلا شك، وأنْ يرشدوها إلى الطريق، ولكنها لا تسمع كلامهم فضلًا عن أن تهتدي، ثم ليتدبروا في أصنامهم فيروا أنها صور ودُمى كأنها تنظر ولكنها لا تبصر، فكلّ هذه الأعمال المطلوبة من الخصوم هنا تدلّ نتائجها على نفي الألوهية أو أيّ أثر منها عن تلك الأجسام الميتة.

10- {أَمْ يَقُولُونَ ‌افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 38].

(افْتَرَاهُ) اختلقه وتقوَّله. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: إن كنتم صادقين في دعواكم افتراء القرآن فأقيموا الدليل على ذلك، فدعوى الافتراء ممنوعة.

والدليل هنا على منع دعوى الافتراء هو أنْ يأتوا بسورة واحدة مثله معنًى وبلاغةً وحلاوةً وحكمةً، على أنّ لهم أن يستعينوا في ذلك بمن شاؤوا من دون الله، وكان قد تحدّاهم قبل هذا بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات؛ فعجزوا، ثم تحدّاهم هنا بأن يأتوا بسورة واحدة مثله؛ فعجزوا أيضًا، فلو كان القرآن افتراءً لسَهُل عليهم الإتيان بمثله؛ لأنّ الافتراء مكسب سهل ولكنه مفضوح.

وهذه مناظرة عملية بَيْن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبلغاء العرب في زمانه، فإنهم ادّعَوا أنّ القرآن افتراء على الله، ونازعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مبطِلًا دعواهم بأنْ طلَبَ منهم أن يأتوا بسورة مثل سور القرآن، وهم عرب مثله، فعَجْزُهم دليلٌ على بطلان دعواهم، وامتناعُهم عن محاولة الإتيان بمثله دليلٌ على صحة أنه وحيٌ يُوحَى، علّمَه شديد القوى على حدّ ما جاء في مناظرته لعلماء نجران، إذ قال لهم: تعالوا نَدْعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، فإذ لم يتقبلوا الدخول في المباهلة، وانسحبوا من المناظرة؛ ثبت أنه هو الصادق الأمين، وهم الكاذبون في مزاعمهم.

11- {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ ‌لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء: 22].

المدَّعِي: الموحِّد.

الخصم السائل: المشرك من وثني وغيره.

الدعوى: الإله واحد في السماوات والأرض وهو الله واجب الوجود.

الدليل: لو كان في السماوات والأرض إله غير الله تعالى لفسدتا، ولكنهما قائمتان -إلى ما شاء الله- لم تفسدا، بدليل الحسّ والمشاهدة، فليس فيهما إله غير الله.

وشرحُ هذا الدليل الموجز العبارة، القوي الإشارة، الدقيق المعنى، الأصيل المبنى: أنه لو كان للعالم إلهان، فإمّا أنْ يتفقَا في إرادتيهما، فلا معنى إذًا ولا موجب للتعدّد لأنّ إرادة أحدهما کافية على هذا الفرض، فلا وجه لتصوّر إله آخر، وإمّا أنْ يختلفا في الإرادة، وحينئذ إمّا أن تغلب إرادة أحدهما إرادة الآخر؛ فالمغلوب عاجز والعاجز ليس بإله، وإمّا أن تكون إرادتاهما متعادلتين في القوة، فيحصل التصادم بينهما، هذا يريد أن تبقى الجبال -مثلًا- أوتادًا، وذاك يريد أنْ يدکّها دكًّا؛ فيتصادمان وكلٌّ منهما قادر على تنفيذ إرادته، فيفسد العالم، ولكن العالم قائم لم يفسد، فلا تصادُم ولا تعدُّد، بل هو إله واحد وهو الله تعالى.

والخصم ليس في مقدوره أنْ يعارِض أو يمنع أو ينقض الدليل؛ لأن المشاهدة تكذِّبه، والحسّ يردُّه، فإنَّ العالم قائم غير فاسد، وصالح مؤسّس على نظام دقيق، تتجدّد عجائبه كلّ يوم، وتكشف غوامضه حينًا بعد حين، وتنجلي دقائقه للناظرين؛ فهو مِن صنعِ واحدٍ عليمٍ حكيم.

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «المجمع العلمي العراقي»، مج8، مارس 1961م، ص3. وقد قسَّمناها إلى قسمين؛ حيث ركزت هذه المقالة على المقدِّمات ونماذج مناظرات القرآن، وتناولت المقالة الثانية نماذج محاورات القرآن. (موقع تفسير).

الكاتب

منير القاضي

أديب حقوقي، وشغل منصب رئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق، وتوفي عام 1389هـ/ 1969م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))