دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بالمكتبة الوطنية برقم (7263) - باريس

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بها.

  لم تعرف البشرية كتابًا حظي بالاهتمام والعناية ككتاب الحقّ -تبارك وتعالى- وكانت تلك الحظوة تستقي إمدادها من رغبةٍ في فهم تلك المعاني وكشف تلك الأسرار، وحتى تكتمل تلك الرغبة كان من الضروري أن تتّضح صور كتابة الكلمة القرآنية كما هي حتى تُفهم وفق مراد مُنزِلها سبحانه، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك آلَى فريقٌ من العلماء على أنفسهم أن يتجهوا لتحقيق هذه الضرورة من ناحية الرسم والضبط والشَّكْل، فقعَّدوا لذلك قواعدَ مُحدَّدةً ترجمَتْها نَسَخةُ المصاحف في نُسَخِهم مخالفين أو موافقين لعامل الزمان والمكان، فمنها نُسخ مبكّرة متقدمة على التقعيد، ومنها نُسخ مكتوبة في مكان تختلف قواعده عن غيره؛ كخلاف المشارقة مع المغاربة في إعجام الفاء والقاف. وعليه؛ فإن النُّسَخ المنتشرة في مكتبات الشرق والغرب تحثُّنا على دراستها وتحليلها؛ من أجل معرفة مخبوئها وكشف مكنونها، وبين أيدينا نسخة من تلك النُّسخ سنحاول أن نعاينها من جانبيها؛ المادي والعلمي.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والورق والحجم:

هذه النسخة من النسخ المحفوظة لدى المكتبة الوطنية بمدينة باريس في فرنسا، تحت رقم حفظ «7263»، متوزعة على إحدى وأربعين ورقةً في ستة أسطر متباعدة للصفحة الواحدة، بمِداد أسود للنصّ القرآني ونقط الإعجام، وأحمر لنقط الإعراب، وزيتي للشَّدَّة والهمزة، ومُذهّب لفواتح السور، بخط كوفي كبيرٍ واضحٍ، على ورق بُنّي اللون.

2- الزخرفة والتذهيب:

جُلِّدت هذه النسخة بتجليد قديم أحمر قرمزي من الجلد، في داخله ثلاثة إطارات دقيقة وثخينة على شكل مستطيلات تحوي بعضَها، مُزخرفةٌ زخرفةً نباتيةً مضغوطةً، تتوسطها دائرة مزخرفة بالشكل النباتي على هيئة قلادة، ويتصل بوجهه الآخر لسانٌ عريض مزخرف زخرفةً نباتيةً مضغوطةً.

ثم ابتدَأ النُّسْخة بلوحة استهلالية على شكلِ كتيبة مُذهّبة مُزخرفة بالشكلِ النباتي، يتوسَّطها ثلاث دوائر مكتوبٌ بها لفظ الجلالة بالكوفي المذهّب، لُوِّنَت كلُّ دائرة بلونٍ مختلِف عن الآخر، تتصل بها قلادة مزخرفة بالأشكال النباتية الملونة بالذهب والحُمرة، وزَخرَف فواتح السور والأسباع والسجدات بالذهب بخط كوفي يختلف عن النصّ، وزخرف العُشور بدوائر ملونة بالحُمرة والخُضرة حولها الذهب، ومنقَّطة بالحمرة من جوانبها.

 3- حالة النسخة:

هذه النسخة ليست لكامل القرآن الكريم، وإنما للجزء التاسع من ثلاثين جزءًا منه، المبدوء بالآية الثامنة والثمانين من الأعراف المُختتَم بالأربعين من الأنفال. بأولها وآخرها كلام غير مفهوم بحبرٍ متأخِّر عن حِبر النسخة ولعلها طلاسم، وقد أصيبت هذه النسخة في بعض أوراقها فتقطَّع بعض الجِلد من أسفله وتآكلت بعض أطرافه، وأثَّرت الرطوبة وبعض البلل على بعض أوراقها مما أظهر تغيُّرًا في لون الورقة في بعض المواضع، وفي بعضها كان التأثير محدودًا ويسيرًا، وتناولَت الأَرَضَةُ النزرَ القليل بالتأثير وتكاد تندرُ، مع بعض البُّقَع، وكلّ ذاك لم يُلحِق بالنسخة نقصانًا في الجسم والهيكل أو خللًا في الحبر.

4- تاريخ النَّسْخ:

ليس على هذه النسخة ما يُلمح أو يُصرِّح لزمن كتابتها أو الناسخ، ولكن من خلال مسح كثير من نسخ المصاحف بشكلٍ عامٍّ، وهذه النسخة بشكلٍ خاصٍّ، ومن خلال الورق والخط المستخدَم في الكتابة وشكلِ علامات الضبط والإعجام التي لم تَستخدِم حركاتِ الفراهيدي المتوفَّى في أواخر القرن الثاني التي شاع استخدامها كثيرًا للتشكيل، ويتضح أنّ الهمزاتِ والشدَّات المرسومة بخط ولون مخالِف متأخرةٌ عن زمن كتابتها؛ لذلك يقدَّر أنها من منسوخات القرن الثالث أو الرابع على أبعد تقدير.

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- أعداد الآيات في السور:

هذه النسخة كما أسلفنا الذكر هي الجزء التاسع من المصحف من تجزئة ثلاثين جزءًا، والذي تميّزت به هو خُلوّها عن رؤوس الآيات؛ فلم يُفصَل بين آية وأخرى بأيّ فاصل أو إشارة؛ ولذلك يعسر ضبط العدد الذي اعتمدت عليه، وإن كانت العُشور تَضبط رؤوس كلِّ عشر آيات إلا أنّ العشرَ غيرُ محدِّدٍ للعدد النهائي للسورة، ولكن السورة الوحيدة التي ذُكِرَت افتتاحيتها في النسخة هي سورة الأنفال، فذكر أنها مدنيّة، وأنها سبعون وستُّ آياتٍ وهو قول المدنيّين والمكّي والبَصْري؛ فهي سبعون وخمسُ آياتٍ في الكوفي، وسَبْعٌ في الشامي[1].

2- الرسم العثماني:

تميز الرسم العثماني عن الرسم القياسي أو الإملائي بظواهرَ خمسٍ تُجرَّد بها الألفاظ المكتوبة برسمها العثماني عن الألفاظ المكتوبة برسمها الإملائي العادي، وهذه الظواهر هي: (الحذف، والزيادة، والإبدال، والوصل أو الفصل، وكتابة الهمزة). وفي نسختنا هذه محلّ الدراسة سنضرب أمثلةً لمواضع خالَف فيها الناسخُ الرسمَ العثماني بما اصطُلِح عليه من كتابة الكلمات وفقًا لظواهره التي تشكِّل القاعدةَ التي يقوم عليها[2]:

الظاهرة
الرسم العثماني
رسم النسخة
الصورة

الحذف

الراحِمِين

الراحِمِين

الإبدال

كلمتُ

كلمةُ

الوصل والفصل

عَن مَّا

عَمَّا

3- النَّقْط والإعجام:

كان المصحف مجرّدًا من علامات النقط في أول كتابته، ولما دَرَج الكَتَبة على إدخاله في المصاحف اعترض بعضُ الصحابة على ذلك مخافةَ الاختلاط والالتباس، وعنهم -رضي الله عنهم- نقولات في ذلك[3]، فلما فَسدَت الألسُن ودخل اللَّحْن صارت الحاجة ملحّةً له فأجازوه واستساغوه، بشرط تلوينه بلونٍ مختلِف عن الحروف[4]، ثم صار الخوفُ من تداخلِ الأحرف المتماثلة وعدمِ التمييز بينها دافعًا لاختراع وسيلةٍ تنضبط فيها الحروف المتشابهة عن بعضها فأعجموا القرآن ثم بيّنوا مواضع الشدّات والهمزات.

وفي النسخة محلّ الدراسة هذه رسَمَ الحروفَ ونقَّطَها؛ فجعَلَ بين الحرف نقطةً دلالةً على الضم، وفوقه نقطةً دلالةً على الفتح، وتحته نقطةً دلالةً على الكسر، بلون أحمر، وهو العمل الذي قام به أبو الأسود الدؤلي إبّان فساد اللسان ودخول اللحن[5]، ثم أَعجمَ الحروفَ فوضع على الذّال نقطةً وأهمل الدّال، وعلى الفاء نقطةً وعلى القاف نقطتين وهكذا، بنفس صيغ الحروف، وهو ما كان قد فعله نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني بأمر الحجّاج في زمن عبد الملك بن مروان[6]، ورسَمَ الشدّات والهمزات بخط ولون مختلف.

4- رحلة المخطوط:

هذه النسخة الشريفة لم يُشَر إليها بتاريخ نَسْخ، أو اسمِ ناسِخ أو متملِّك، أو ختمِ واقفٍ أو واهب أو مستصحب أو مستعير أو وارث، أو أيّ وسيلة من وسائل إثبات الحيازة لشخص أو جهةٍ ما.

ولكن التقدير الذي ذكرناه لنَسْخِها ينسبها إلى مكتوبات القرن الرابع أو الخامس، ومن ثَمَّ بقيَتْ محفوظةً بيد أحدهم إلى أنْ كُتِبَ بأولها كلامٌ غير واضح متقطّع مُفادُه أنها موقوفةٌ «على مسطره» كذا، ثم اسم «أميرتي بن أبي العباس رحمها الله وغفر لها». ولم يُعرَف لها تاريخ، ثم انتهى مستقرّها الآن في المكتبة الوطنية بأرض فرنسا.

خاتمة:

نسختنا هذه التي بين أيدينا نسخةٌ نفيسة استقَتْ نفاستَها من قيمتها التاريخية التي تضافرت الأدلة على أنها نسخة عتيقة ألْفيّة، ومن قيمتها العلمية التي أكّدَت في بنودها -التي شرحناها- على رسوخ القواعد التي أرساها العلماء من حيث أعداد الآيات والرسم والنَّقْط والإعجام.

والحمد لله رب العالمين

 

[1] ينظر: البيان في عدِّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة: الأولى، 1414هـ-1994م. ص158.

[2] الحذف: ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد - المدينة المنورة، 1423هـ-2002م، ج3، ص729.
الإبدال: قال أبو عمرو: «وكلّ ما في كتاب الله -عزّ وجل- من ذكر (الكلمة) على لفظ واحد فهو بالهاء، إلّا حرفًا واحدًا في الأعراف: {وتمَّتْ كلمتُ ربك الحسنى}؛ فإن مصاحف أهل العراق اتفقَتْ على رسمه بالتاء». ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ج1، ص83.
الوصل والفصل: قال أبو عمرو: «وفي الأعراف كتبوا: {إنّ لنا لأجرًا} بغير ياء، وكتبوا: {قال ابن أمّ} مقطوعة، وكتبوا: {فلما عتوا عن ما نهوا عنه} مقطوعة ليس في القرآن غيره». ينظر: المقنع، الداني، ج1، ص89.

[3] من هذه النقولات: «عن ابن عمر أنه كان يكره نقط المصاحف»، «قال عبد الله بن مسعود: جرِّدوا القرآن»، ينظر: المحكم في نقط المصاحف، أبو عمرو الداني، دار الفكر - دمشق، الطبعة: الثانية، 1407هـ. ص11.

[4] قال أبو عمرو: «فأما نَقْط المصاحف بالسواد من الحِبر وغيره فلا أستجيزه بل أنهَى عنه وأُنكِره اقتداءً بمَن ابتدأ النقط من السلف واتباعًا له في استعماله لذلك صبغًا يخالف لون المداد؛ إِذْ كان لا يُحدِث في المرسوم تغييرًا ولا تخليطًا، والسواد يُحدِث ذلك فيه، ألا ترى أنه ربما زيد في النقطة فتوهّمت لأجل السواد الذي به ترسم الحروف أنها حرف من الكلمة فزيد في تلاوتها لذلك؛ ولأجل هذا وردت الكراهة عمن تقدم من الصحابة وغيرهم في نقط المصاحف».ينظر: المحكم، الداني. ص18.

[5] ينظر: مختصر التبيين، سليمان بن نجاح، ج1، ص227. المحكم، الداني. ص4.

[6] ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة: الثالثة، ج1، ص406.

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))