بحث: بعض المظاهر شبه الكتابية في قصة هاروت وماروت
لجون سي. ريفز
عرض وتقويم
تمهيد:
تُشَكِّل علاقة القصص القرآني بقصص أهل الكتاب مسألة أساسية في الدراسات الاستشراقية المعاصرة. وفي هذا السياق، تأتي دراسة الباحث جون سي. ريفز لتنظر في علاقة القصص القرآني بالنصوص الكتابية وشبه الكتابية السابقة على الإسلام، من خلال تحليله لقصة الملَكَيْن هاروت وماروت. ويسعى جون سي. ريفز في هذه الدراسة إلى الكشف عن المصادر التي أسهمتْ في تشكّل القصة القرآنية وبنائها، والمرويات التفسيرية اللاحقة، من خلال تحليل عناصر القصة القرآنية السردية، والبحث في ورود هذه العناصر في النصوص الكتابية السابقة، والكشف عن كيفيات تطوّر هذه العناصر، قبل أنْ تجد صياغتها النهائية لدى المفسّرين.
وتأتي هذه المقالة لتقدّم أبرز النتائج التي توصَّل إليها ريفز، والخطوات المنهجية التي اتبعها في دراسته، وتقويم هذه الخطوات والنتائج.
أولًا: أبرز قضايا الدراسة:
يقارب الباحثُ جون سي. ريفز في هذا البحث العلاقة بين قصة هاروت وماروت الإسلامية والنصوص شبه الكتابية التي سبقت النصّ المعتمد للكتاب المقدّس. ويندرج بحثه في السياق العام الذي يبحث في صلة القرآن بالنصوص الكتابية، والمصادر المحتملة لها، وهو هنا يتجاوز النظر في المصادر المعتمدة لينفتح على المصادر الأخرى التي سبقت التشكّل النهائي للنصّ المعتمد، وهي التي يسمِّيها بالنصوص شبه الكتابية. ويستند الباحث إلى التراكم البحثي الاستشراقي منذ أبراهام جيجير حول المصادر الشفهية أو الكتابية «التي تعزّز رواية القرآن أو تقاليده التفسيرية»، وقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- الشاهد الأكثر أهمية على ما قد يشكّل معارف كتابية أصيلة في منطقة الحجاز في أوائل القرن السابع الميلادي[1]. وللتمثيل على هذا الافتراض الأساسي للباحث، عمد إلى دراسة قصة هاروت وماروت، وروايات المفسّرين حولها، من خلال تحليلها والبحث في مصادرها المحتملة. وقد بدأ بحثه بإبراز أن القصة في القرآن الكريم جاءت موجزة، ومجملة؛ فقد ذَكَرَتْ -بإجمال شديد- تعليمَ الشياطين للناس السحرَ وما أَنزل اللهُ على الملَكين هاروت وماروت، وأنّ الملَكَين يحذّران كلَّ راغب في تعلُّم ما أُنْزِل عليهما من الكفر قبل تعليمه.
بعد هذا، انتقل الباحثُ إلى عرض الروايات الإسلامية للقصة، والتي ترتبط بالمرويات الإسرائيلية، والمقارنة بين تفاصيلها، ليكشف عن بنيتها السردية، التي تبدأ من محفّز أساسي، هو تعجُّبُ الملائكة من خطايا بني آدم، ثم نزول الملَكين إلى الأرض ليحكمَا بالعدل بين الناس، ثم افتتانهما بامرأة فائقة الجمال هي (الزهرة)، ثم عجزهما عن الصعود إلى السماء ولجوؤهما إلى رجل صالح -ذكرتْ بعض الروايات أنه إدريس النبي- ليشفع لهما، ثم تخيير الله تعالى لهما بين العذاب الدنيوي أو الأخروي، ثم اختيارهما للعذاب الدنيوي.
بعد هذا التحديد لعناصر القصة كما تَرِد في الروايات الإسلامية، انتقل الباحث إلى الكشف عن المصادر المحتملة للقصة في النصوص الكتابية وشبه الكتابية. وقد بدأ بحثه بالسردية الأغاداتية اليهودية المعروفة بـ: (مدراش شمهازي وعزازيل) التي تحضر في أربع صيغ عبرية وصيغة آرامية؛ ليستنتج أنّ «الرواية الإسلامية المعدّة على المستوى الكرونولوجي تسبق المرويات اليهودية في المدراش عن شمهازي وعزازيل»[2]، وأنّ أقدَم هذه الروايات لا تتجاوز القرن الحادي عشر الميلادي، مما يقضي بتأثّر المرويات اليهودية بالمرويات الإسلامية[3].
غير أنّ هذه الأسبقية -حسب الباحث- لا تعني عدم استفادة القصة الإسلامية من الروايات الإسرائيلية؛ فعزازيل وشمهازي اللذان يقابلان هاروت وماروت يرِد ذكرُهما في عدّة شذرات آرامية ويونانية من التقاليد الأبوكريفية عن الفساد الجنسي لعددٍ غير معلوم من الكائنات الإلهية مع نساء آدميات قبل الإسلام؛ هذه التقاليد هي التي اندمجت في ما سُمِّي لاحقًا بـ: (سفر أخنوخ الأول)؛ وأيضًا يُظْهِر سِفر أخنوخ وجود معرفة محظورة نقلتها الملائكة إلى البشر؛ أيضًا ورَد في السِّفر عقاب عزازيل بسجنه في صحراء الدديل وهو ما يذكّر -حسب الباحث- بمصير هاروت وماروت في بابل، الأمر الذي دفعه إلى وجود تحوير صوتي في لفظة الدديل لتصير بابل؛ وأيضًا فالملائكة في سِفر أخنوخ لجؤوا إلى أخنوخ ليتكلّم نيابة عنهم، وهو نفسه ما ذُكِر في الرواية الإسلامية[4].
لكن رغم هذه التطابقات، تظلّ هناك اختلافات بين الروايتين: ففي سفر أخنوخ كان الدافع الأساسي للملائكة هو الاشتهاء الجنسي للمرأة، خلافًا للرواية الإسلامية التي كان الدافع فيها: الغيرة من البشر، وأن اشتهاء المرأة جاء بعد النزول إلى الأرض؛ وأيضًا فعدد الملائكة المتورّطين أكثر من اثنين في السِّفر، ولم يتم تعيين امرأة بعينها خلافًا للرواية الإسلامية التي عيّنَت الزهرة.
وإلى جانب سِفر أخنوخ، ثمة مصادر أخرى محتملة للقصة القرآنية؛ فهناك نصوص أخرى في كتاب اليوبيلات العبري، وهو مصدر غير معتمد يُنسب لموسى، ويَرجع إلى القرنين الثاني أو الثالث قبل الميلاد، وهو يوازي سِفري التكوين والخروج. وفي هذا السّفرِ الإلهُ هو مَن أرسل الملائكة، لا أنها هي من اقحمتْ نفسها ابتداءً.
ثم يعود الباحثُ إلى مصدرٍ آخر محتمل للقصة الإسلامية لهاروت وماروت، وهو كتاب اليوبيلات المنسوب إلى موسى -عليه السلام-، والذي يوازي سِفري التكوين والخروج، ويعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وفيه يَلحظ الدارس أنّ الملائكة أُرسلوا ابتداءً بمهمّة تعليمية، لا أنهم هم مَنْ طلبوا النزول إلى الأرض؛ وهنا يستنتج الباحث أن هذا العنصر يشكّل أصلًا مفهوميًّا لما سيصبح هاروت وماروت. ومن العناصر الأخرى التي يمدّنا بها كتاب اليوبيلات -حسب الباحث- إخباره لنا بزوجته نُعَم ووالدته أزورا؛ وبعد بحث لغوي فيلولوجي يتوصّل الباحث إلى أن تسمية المرأة في الرواية الإسلامية بالزهرة، يعود إلى هذه الأصول الكتابية التي تسمِّي زوجة أنوش-إدريس بـ: نوريا (في العبرية واليونانية)، ونهريتا (في المصادر المندائية)، ونوريا (في الآرامية)؛ إِذْ يوحي الأصل السامي لهذه الأسماء (ن و ر) على الضوء والسطوع والنور[5].
ثانيًا: منهجية البحث:
يعتمد الباحثُ في دراسته على مقاربة بحثية متنوّعة، توظّف آليات التحليل النصّي المقارن، والفيلولجيا، وتأريخ النصوص؛ نظرًا لطبيعة بحثه التي ترتكز حول الكشف عن أصول تشكّل القصة الإسلامية لهاروت وماروت. وقد تجلّت هذه المقاربة البحثية في عدّة خطوات منهجية، أهمها:
أ- التحليل النصّي المقارن: حلَّل الباحث روايات قصة هاروت وماروت كما وردت في: القرآن الكريم، وفي مرويات المفسّرين. وعمل على تحديد العناصر السردية المشتركة في مختلف هذه الروايات، ثم العناصر التي تنفرد بها رواية عن أخرى. كما قام بالعملية نفسها عند بحثه عن ورود هذه العناصر السردية في النصوص الكتابية وشبه الكتابية السابقة على الإسلام.
ب- إثبات التشابه: من خلال المقارنة بين عناصر قصة الملَكين ببابل، والقصة المذكورة في الأسفار الكتابية، وقف الباحث على عدّة من عناصر التشابه والاختلاف بين القصّتين في النصوص الكتابية أو في القرآن.
ت- البحث في تاريخ النصوص: من خلال بيان أسبقية المصادر الكتابية على تاريخ ظهور القرآن، ذلك أن أسبقيتها تعزّز فرضية الأخذ والنقل.
ث- إرجاع الصور الصوتية لبعض الألفاظ إلى صور أخرى من خلال الإبدال: حيث يحلّل الباحث صوتيًّا لفظة بابل لبيان مدى التحريف أو التغيير الذي لحق صورتها الصوتية، مفترضًا أنها تحريف للفظة: الدديل الواردة في سفر أخنوخ.
ج- التحليل الدلالي لاسم المرأة التي أغوت الملَكين: ومن خلال هذا التحليل يرصد الباحث المشترك الدلالي بين مختلف تسمياتها في روايات القصة، والتي ترتكز على الضوء والنور والسطوع، وهي صفات للكوكب (تحوّلت المرأة في إحدى الروايات إلى كوكب الزهرة).
ثالثًا: تعقيبات منهجية:
لا شكّ أن لهذه الدراسة إضافات مهمّة؛ فهي تعطينا صورة عن الأصول والمصادر الكتابية التي تشكّلت منها الإسرائيليات المتداولة لدى مفسّرينا القدامى، (مع التحفّظ طبعًا على كونها مصادر للقرآن الكريم نفسه). إلى جانب أهميتها في البحث في تاريخ النصوص الكتابية وتشكّلها وتطوّرها، وعلاقة النصوص المعتمدة بالنصوص شبه الكتابية وغيرها من قضايا النقد النصّي.
غير أنّ هذه الدراسة تثير بعض الإشكالات المنهجيّة المتعلقة بطبيعة القصص القرآني، ويهمّنا منها في هذا السياق ما يتعلّق بإهمال الدراسة طبيعة حضور القصة في القرآن، والبحث في العلّة التي لأجلها أُوجزت، وعلاقتها بباقي أخبار الملائكة في القرآن، إذ اكتفت ببيان أوجه التشابه والاختلاف بين الرواية الإسلامية لهاروت وماروت، وإبراز المصادر المحتملة لتشكّل القصة القرآنية، دون أن تنظر في طبيعة التوظيف القرآني للقصة. وإذن: فقد ركّزَت الدراسة على تسييق القرآن ضمن التراث الديني الكتابي للشرق الأدنى، لكن لم تركز على موقعها ضمن السياق النصّي القرآني.
ولبيان هذه الملاحظة نقول: إنّ القرآن نفسه يؤكّد على مواطأته لأخبار أهل الكتاب، وإنبائه لهم بما في كتبهم، بل ويعتبر هذا الإنباء دليلًا على صدق النبوّة، لكنه في الآنِ ذاته، يتّهم أهل الكتاب بالتحريف والزيادة والنقص؛ لذلك، فهو يضع (تصحيح التحريفات الكتابية) هدفًا له. وبخصوص قصة هاروت وماروت: يلاحظ الناظر في النصوص الكتابية أنّ ثمة وصفًا للملائكة والأنبياء بما ينافي العصمة. وإذا نظرنا في قصة هاروت وماروت -في نسختها الكتابية- سنجد ما ينافي عصمة الملائكة، ففي سِفر أخنوخ: يعذَّب عزازيل في صحراء الدديل، وفيه أنّ الملائكة المخطئين لجؤوا إلى أخنوخ ليتحدّث مع الله نيابة عنهم، وفيه أنّ الدافع الأساس للملائكة هو الاشتهاء الجنسي لا الغيرة من البشر أو الخوف من عصيانهم[6]، وأمّا في القرآن: فإنه حين ذكر قصة هاروت وماروت، ذكرها في سياق تنزيهي؛ إِذْ جاء خبر الملَكين معطوفًا على خبر تنزيه النبيّ سليمان -عليه السلام- من تهمة السحر: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 102].
فلا بدّ إذن من استحضار هذا السياق التنزيهي عند فهم قصة الملَكين في القرآن؛ والملاحظ هنا أن هذه الآية اقتصرت على ما يأتي:
- إنزال معرفة ضارّة على الملَكَيْن ببابل.
- تعليم الملَكَيْن للناس هذه المعرفة الضارّة.
- تحذير الملَكَيْن للراغب في تعلُّم هذه المعرفة أنها {فِتْنَة} وأنها تقوده للكفر.
والسؤال المطروح هنا: لماذا سكتت الآية عن مصير الملَكَيْن؟ ولماذا لم تذكر تدخُّل الملائكة واقتراحها النزول إلى الأرض؟ ولماذا لم يرِد فيها إغواء المرأة للملَكَيْن؟ وهل كان الملكان عاصيين بتعليمهما للناس؟
بداية، تحدّد الآية الهدف من إنزال الملكين: وهو فتنة الناس واختبارهم. وبوضع هذه الفتنة في السياق القرآني، نجد القرآن كثيرًا ما يصف اختبارات الله بالفتنة؛ يقول تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه: 131]، ويقول أيضًا: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام: 53]؛ ويقول أيضًا: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان: 20]؛ ويقول: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 1- 3]؛ ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35]. وإذن: فالقرآن يؤكّد على الوظيفة الابتلائية، وعلى فتنة الناس واختبارهم، بل جوهر الوجود الإنساني ابتلائي بطبيعته. لذلك: فأوامر الله وأحكامه ابتلائية في طبيعتها، تهدف إلى فتنة الناس واختبارهم، وهنا يمكننا فهم قول الملَكَيْن: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}[البقرة: 102]، فتعليم الملكين للناس لم يكن تمردًا ولا عصيانًا، بل أداءً للوظيفة الأساس للوحي: الابتلاء.
وثانيًا: هل نال الملَكَيْن عقابٌ على هذا التعليم؟ لم تذكر الآيات أنهما عُوقبا، بل إنّ ما ذكرناه من تحذيرهما للمتعلِّم منهما من الكفر، وإخبارهما له أنهما فتنة يجعلهما مطيعَيْن لله، ومبلِّغَيْن عنه رسالته، ومؤدّيَيْن لدورهما الاختباري؛ والعقاب لا يكون إلا للعصاة، لا للمطيعِين. ويزداد هذا الاستنتاج قوّة بما ورَد في القرآن من مدحٍ للملائكة، وكونهم متمحّضِين للطاعة، ولا يعصون الله مطلقًا. وهذا الاستنتاج هو ما رجّحه الطبري، حيث يقول في تفسيره: «فإنِ التبَس على ذي غباء ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلِّم الناسَ التفريق بين المرء وزوجه؟! أم كيف يجوز أن يُضاف إلى الله -تبارك وتعالى- إنزال ذلك على الملائكة؟!
قيل له: إنّ الله -جل ثناؤه- عَرّف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به ويُنهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون -جلّ ثناؤه- علّمَه الملَكَيْن اللذَيْن سمّاهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم -كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلّم ذلك منهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}- ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحّص المؤمن بتركه التعلُّم منهما، ويُخزي الكافر بتعلُّمِه السحر والكفر منهما. ويكون الملَكان في تعليمهما مَن عَلَّمَا ذلك -لله مطيعين، إذْ كانا = عن إذن الله لهما بتعليم ذلك مَن علّمَاه = يعلِّمان. وقد عُبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرًا، إِذْ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عُبد بعضُهم والمعبودُ عنه ناهٍ. فكذلك الملَكان، غير ضائرهما سِحْرُ مَن سَحَرَ ممن تعلَّم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، إِذْ كانا قد أدَّيَا ما أُمِرَا به بقيلهما ذلك»[7].
ويقول الزمخشري: «{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} عطف على {السِّحْرَ}، أي: ويعلمونهم ما أُنزِل على الملَكَيْن. وقيل: هو عطف على {مَا تَتْلُو}، أي: واتَّبَعُوا ما أُنزِل. {هارُوتَ وَمارُوتَ} عطف بيان للملَكَيْن عَلَمَان لهما، والذي أُنزل عليهما هو علمُ السحر ابتلاء من اللَّهِ للناس؛ مَنْ تعلّمَه منهم وعمل به كان كافرًا، ومَن تجنّبه أو تعلّمه لا ليعمل به ولكن ليتوقّاه ولئلا يغترّ به كان مؤمنًا: (عَرَفْتُ الشرَّ لا للشرِّ لكِنْ لِتَوَقِّيه)؛ كما ابتلى قوم طالوت بالنهر: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}[البقرة: 249]. على أنّ المنزل عليهما علم السحر كانَا ملكين ببابل. وما يعلِّم الملكان أحدًا حتى ينبِّهاه وينصحاه ويقولا له: {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ}، أي: ابتلاء واختبار من اللَّه، {فَلَا تَكْفُرْ}: فلا تتعلَّم معتقِدًا أنه حقّ فتكفر، {فَيَتَعَلَّمُونَ}: الضمير لما دلّ عليه {مِنْ أَحَدٍ}»[8].
خاتمة:
وإذن، نخلص من هذه المناقشة إلى وجوب قراءة قصص القرآن في ضوء الهدف العام الذي أعلن عنه: وهو تصحيح التحريف، وإعادة بناء القصص بتخليصها مما علق بها من إضافات وتحريفات، وفي ضوء هذا الهدف، نستطيع أن نفهم عمليات الحذف التي يوظّفها القرآن حين يستعيد القصص نفسه من النصوص الكتابية، وعمليات الإضافة التي لم ترِد فيها. فكما ألمعنا، لم يكن سكوت القرآن عن مصير الملَكَيْن ونيلهما العقاب سكوتًا مفاجئًا، بل فيه إشارة إلى كونهما مطيعين في ما يعلِّمانه من التفريق بين المرء وزوجه، ولم يكونا متمردَيْن. وبهذا، يُعِيد القرآن من خلال هذه القصة -وغيرها من الأخبار القرآنية المتعلّقة بالملائكة- تصحيح تصوّر أهل الكتاب عن هذه الكائنات النورانية، وعن عصمتها، وكونها مبرأة مما نُسِب إليها في مروياتهم ونصوصهم ومسروداتهم.
[1] بعض المظاهر شبه الكتابية في قصة هاروت وماروت، جون سي. ريفز، ترجمة: مصطفى الفقي، موقع تفسير للدراسات القرآنية، ص9. tafsir.net/translation/60.
[2] بعض المظاهر شبه الكتابية في قصة هاروت وماروت، جون سي. ريفز، ص39.
[3] بعض المظاهر شبه الكتابية في قصة هاروت وماروت، جون سي. ريفز، ص40.
[4] بعض المظاهر شبه الكتابية في قصة هاروت وماروت، جون سي. ريفز، ص43.
[5] بعض المظاهر شبه الكتابية في قصة هاروت وماروت، جون سي. ريفز، ص67.
[6] بعض المظاهر شبه الكتابية في قصة هاروت وماروت، جون سي. ريفز، ص44، فما بعدها.
[7] جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 2000، (2/ 426- 427).
[8] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، جار الله الزمخشري، دار الكتاب العربي - بيروت، ط3، 1407هـ، (1/ 172- 173).