التضمين النحوي وأثره في توجيه مشكل القرآن

يُعَدّ التضمين النحوي أحد الأساليب العربية التي وظّفها بعضُ أهل العلم في توجيه بعض المَواطن من مشكل القرآن الكريم؛ وهذه المقالة تُعرِّف بالتضمين، وتذكر أنواعه، وتستعرض عدّة نماذج للمسائل المتعلّقة بالتضمين النحوي في كتب مشكل القرآن، والمقالة مستلّة من كتاب (أثر البلاغة في توجيه مشكل القرآن).

التضمين النحوي وأثره في توجيه مشكل القرآن[1]

  التضمين لغة: الإيداع والإدخال، قال ابن فارس: «الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جَعْلُ الشيءِ في شيءٍ يحويه، من ذلك قولهم: ضَمَّنْتُ الشيءَ، إذا جعلتَه في وِعَائه»[2].

 وفي الاصطلاح يطلق التضمين على عدّة معانٍ:

1- ففي علم العروض: «أن تتعلق قافية البيت بالبيت الذي بعده»[3]، وهو من عيوب القافية.

2- وفي علم البديع: «أن يُضَمَّن الشعرُ شيئًا من شعرِ الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورًا عند البلغاء»[4].

3- وفي علم النحو: «إشرابُ لفظٍ معنى لفظٍ وإعطاؤه حُكمه»[5].

وهذا المصطلح الثالث هو المقصود هنا، وقد عُني به بعضُ البلاغيين كالزمخشري وغيره، وسمّاه العِزُّ مجازَ التضمين، وغاب ذِكْره في أكثر كتب البلاغة[6].

وغالبًا ما يكون في الفعل، وإن كان يجري أيضًا في الاسم والحرف.

مثاله: قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 187]، فالرفث يتعدّى بـ(الباء)، فلمّا عُدِّي بـ(إلى) عُلِمَ أنه مُضَمَّنٌ معنى الإفضاء.

فتبيّن بذلك أنّ الكلمة أدَّت مؤدَّى كلمتين؛ إحداهما مذكورة، والأخرى استُدِلَّ عليها بحرف الجر، وبهذا تتضح فائدة التضمين وهي الإيجاز.

وله فائدة أخرى عند البصريين، فإنهم يقولون بعدم تناوب الحروف، وأنه ليس للحرف إلا معنى واحد أصليّ يؤديه على سبيل الحقيقة، وما ورَدَ على خلاف ذلك فإنه يخرج على أوجهٍ، منها: التضمين.

وقد اختُلِف في كون التضمين مجازًا أم حقيقةً على ثمانية أقوال؛ منها:

الأول: أنه مجاز مرسل؛ لأنّ اللفظ استُعْمِل في غير معناه لعلاقةٍ.

الثاني: أنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو على طريقة الأصوليين؛ لأن القرينة عندهم لا يشترط فيها أن تـمنع من إرادة المعنى الأصلي.

الثالث: أنّ اللفظ المذكور مستعمَلٌ في معناه الحقيقي، ولكن تبعه لفظٌ آخر يناسبه من غير أن يُستعمل هو فيه، ومن غير أن يُستعمل له لفظٌ آخر، فيكون الـكلام من باب الـحقيقة التي قصد منها معنى آخر يناسبها، ويتبعها في الإرادة.

الرابع: أنّ اللفظ المذكور مستعمَل في معناه الـحقيقي، والمعنى الآخر دلّ عليه عاملٌ محذوف.

فهذه الأقوال من أحسن ما قيل، وبقيت أربعة أقوال أخرى[7].

واختُلِف في التضمين: أقياسيٌّ هو أم سماعيّ؟ وقد يكون الـخلاف مبنيًّا على المسألة السابقة، فمَن يرى أنّ التضمين حقيقة فهو عنده سماعي، ومَنيرى أنه مجاز فهو عنده قياسي، وهو موضع تأمل، والمقصود أنهم اختلفوا على قولين:

- الأوّل: أنه قياسي، وهو قول ابن جنّي، ونسبه أبو حيان إلى الأكثرين[8]، ونقله عنه المرادي وخالد الأزهري[9].

- الثاني: أنه سماعيّ، وعزاه أبو حيان إلى البصريين، قال: «التضمين لا ينقاس عند البصريين، وإنما يُذهب إليه عند الضرورة»[10]. وانتصر لهذا الرأي في مواضع، ومن ذلك قوله: «التضمين لا يجوز بقياسٍ في الكلام، وإنما يجيء في الشِّعْر للضرورة، وإن جاء شيء منه في الكلام حفظ، ولم يُقَس عليه لقلّة ما جاء منه»[11].

والقول الوسط في المسألة ما انتهى إليه مجمع اللغة العربية، وهو أنّ التضمين قياسيّ بشروطٍ ثلاثة:

- الأوّل: تحقُّق المناسبة بين الفعلين.

- الثاني: وجود قرينة تدلّ على ملاحظة الفعل الأخير، ويؤمَن معها اللَّبْس.

- الثالث: أن يكون هناك غرض بلاغيّ يهدف إليه[12].

وفرّقَ الشيخ الخضر حسين بين العارف بأسرار العربية فإنّ التضمين يُقبل منه، بخلاف العامّي وشبيهه[13]، والأقرب أنه لا حاجة لذلك، فإنّ الشروط المذكورة لا تجتمع إلا لعارفٍ بأسرار العربية قاصدٍ للتضمين، ولو افترض اجتماعها على لسان العامّي من غير قصدٍ فهو مقبول؛ إذ الأسلوب إذا ثبتت صِحّته فلا ينبغي ردّه لأن القائل لم يقصده، ثم إنّ العامّي قد يكون استعمله مِن تقليد بعض البلغاء.

والتضمين نوعان: نحوي وبياني؛ قال الصبّان: «التضمين النحوي: إشراب كلمة معنى أخرى بحيث تؤدِّي المعنيين، والتضمين البياني: تقدير حال يناسبها المعمول بعدها لكونها تتعدّى إليه على الوجه المذكور، وهو قياسي اتفاقًا؛ لكونه من حذف العامل لدليل»[14]. وذكر هذا التفريق التفتازاني والشريف الجرجاني[15].

وردَّه ابن كمال باشا فقال: «الحقُّ أنّ التضمينَ البياني هو التضمين النحوي، وإنما جاء الوهم للسعد من عبارة الكشّاف حيث قَدَّر: (خارجين عن أمره)، فتَوهّم أنه تقدير لعاملٍ آخر، وليس كذلك، بل هو تفسير للفعل المضمَّن»[16].

ووافقه د. الأمين الخضري، فقال: «وبالتأمل لا نجد بين النحاة والبيانيين خلافًا جوهريًّا. والفرقُ الوحيد هو فرار البيانيين من الجمع بين الحقيقة والمجاز، إلى جعلِ المعنى المضمَّن محذوفًا مدلولًا عليه بما هو مِن متعلَّقاته»[17]. ثم ذكر أنّ التفريق فُهِمَ من كون الزمخشري يقدِّر حالًا غالبًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185]، قال الزمخشري: «وإنما عُدِّي فعلُ التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مُضَمَّنًا معنى الحمد، كأنه قيل: (ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم)»[18]. فلكونه غالبًا ما يقدِّر الحال صار ذلك عَلَمًا على مذهبه، وظنّوا مخالفته للنحاة، وليس الأمر كذلك. وحسبنا أنّ غاية التضمين عند النحاة والبيانيين واحدة، كما في بحث المجمع اللغوي: (والتحقيق يسوّي بين التضمينَيْن البياني والنحوي من حيث الإفادة العربية)[19].

وقد جعل ابن القيم التضمين من طرق حلّ المشكلات ومن بديع العربية ومحاسنها، فقد ذكر فعل الـهداية واختلاف تعديته في القرآن، ثم قال: «والفرق بين هذه المواضع تَدِقُّ جدًّا عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدةً تشير إلى الفرق، وهي: أنّ الفعل المعدَّى بالحروف المتعددة لا بد أن يكون له مع كلّ حرف معنى زائدٌ على معنى الحرف الآخر، وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأمّا فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، فَيُشْرِبون الفعل المتعدِّي به معناه. هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى، وطريقة حُذّاق أصحابه. وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذِّهْن. وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها»[20].

وسأذكر أسئلةً متعلقةً بالتضمين وردَت في كتب المشكل:

1- قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌مَنْ ‌يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].

الإشكال ووجهه[21]:

كيف قال: ﴿أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، ولم يقل: (أذلّة للمؤمنين)، وإنما يقال ذَلّ له، لا ذَلّ عليه؟

توجيه الإشكال:

قوله تعالى: ﴿أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: جمع ذليل، قال عليّ -رضي الله عنه-: «أهلُ رِقَّة على أهل دينهم». وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: «الذلّة: الرحمة»[22]. قال الزجاج: «معنى (أذلة) جانبهم ليِّنٌ على المؤمنين، لا أنهم أذلّاء مُهانون»[23]. قال الراغب: «الذلّ متى كان من جهة الإنسان نفسِه لنفسه فمحمودٌ»[24].

وقد كان الظاهر أن يُقال: (أذلّة للمؤمنين)، كما يقال: تذلّل له، ولا يقال: تذلّل عليه؛ للمنافاة بين التذلل والعلوّ، فَلِمَ عُدِّي بـ(على)؟ اختُلف في ذلك على أقوال:

الأول: أن يضمَّن الذلّ معنى الحنوّ والعطف، كأنه قيل: (عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع)[25].

الثاني: للتنبيه على أنهم مع شرفهم وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم[26]. وفيه نظر؛ فإنه لا يصحّ إلا على تقدير مضاف: (على فضلهم على المؤمنين)[27]، والتقدير خلاف الأصل، فلا يصار إليه وقد صحّ الـكلام دونه.

الثالث: لِمُشاكَلَة (عَلى) في قوله: ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[28]. وفيه نظر؛ فإنّ مراعاة المعنى أَوْلَى من مراعاة اللفظ، كما قال الزمخشري عند قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الإسراء: 46]: «فإن قلت: هلّا قيل: (على قلوبنا أكنّة)، كما قيل: (وفي آذانِنَا وَقْرٌ)؛ ليكون الـكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد. وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني»[29]. وليس معنى هذا أن الزمخشري لا يقول بالمشاكلة اللفظية مطلقًا، بل قال بها في مواضع، وإنما المقصود أنه إن أمكن عود الغرض إلى المعنى فهو أَوْلى من عوده إلى مجرّد اللفظ. والأقرب الأول، فهو الموافق لقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]. والموافق لقول السَّلَف في الآية، ويضاف إليه (المشاكلة)؛ إِذْ لا مانع من اجتماعهما.

والمقصود أنه لما كان الذلّ يحمل معنى قهر الذليل واستكانته -وهو ما لا يليق بالمسلم أن يتصف به إلا أن يعطيه بنفسِه لنفسه، خضوعًا لله تعالى أو عطفًا على إخوانه المؤمنين- جاء حرف الاستعلاء مشيرًا إلى أنه ذلٌّ محمودٌ يزيد قدر المؤمن شرفًا، ويكسبه رفعةً وسموًّا، وهو التواضع لإخوانه المؤمنين والرقّة عليهم، وليس هو ذلّ الضعيف المستكين المقهور، كيف والله يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].

وأمّا قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 24]، فإنّ المراد: (كن كالمقهور لهما)[30] المنقاد لأوامرهما، وليس في الذلّ للأبوين ذَمٌّ، ولا في الخضوع لهما عيبٌ؛ لأنّ طاعتهما من طاعة الله، كما أنه ليس للاستعلاء عليهما مكان، وهما منبع الشرف ومصدر رفعته.

فإن قيل: إذا كان (الذلّ) مُضمَّنًا معنى الرقّة فلِمَ لم يقُل: (أَرِقَّاء)؟

فالجواب: أنّ (الذلّ) فيه دلالة زائدة على مجرَّد الرقّة والعطف، وهي الطواعية، فالمؤمن سهلٌ مِطواع على أخيه؛ ولذلك استُعيرت هذه اللفظة للدلالة على قُربِ ثمار الجنة مِن أهلها: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ [الإنسان: 14]، فينالها القائم والقاعد والمضطجع.

2- قوله تعالى: ﴿‌وَمِنْهُمُ ‌الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 61].

الإشكال ووجهه[31]:

لِـمَ عُدِّي فعلُ الإيمان إلى الله تعالى بالباء، وإلى المؤمنين باللام فيقوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؟

توجيه الإشكال:

اختُلف في ذلك على أقوال:

القول الأول: قال ابن قتيبة: «الباء واللام زائدان، والمعنى: يصدِّقُ الله، ويصدِّقُ المؤمنين»[32].

القول الثاني: أن اللام زائدة، وهو مقتضى قول ابن جرير: «يصدِّق بالله، ويصدِّق المؤمنين»[33]. كقوله تعالى: ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: 72].

واختُلف في غرض زيادة اللام:

فرأى العكبري والبيضاوي أنها للتفرقة بين يؤمن بمعنى يصدِّق، ويؤمن بمعنى يثبت الأمان[34].

وذكر الآلوسي أنها للتوكيد، وجمَعَ بين معنيي التصديق والأمان فقال: «هو بمعنى: جعلهم في أمان من التكذيب، فاللام فيه مزيدة للتقوية؛ لأنه بذلك المعنى متعدٍّ بنفسه. كذا قيل. وفيه أنّ الزيادة لتقوية الفعل المتقدِّم على معموله قليلة»[35].

القول الثالث: قال ابن عطية: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾: يصدِّق بالله، ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: يصدِّق للمؤمنين فيما يخبرونه به، فهذه التي معها اللام في ضمنها باء، كقوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: 17]، أي: وما أنت بمؤمِنٍ لنا بما نقوله لك[36].

فيرى ابن عطية أنّ التعديةَ باللام في ضِمنِها تعديةٌ بالباء.

القول الرابع: قال الزمخشري: «قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر، فعدّي بالباء، وقصد الاستماع للمؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولون فعدّي باللام، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: 17]، ما أنبأه عن الباء، ونحوه: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ [يونس: 83]، ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: 111]، ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ [طه: 71][37].

القول الخامس: أن الإيمان إذا عُدِّي بالباء ضُمِّن معنى الإقرار والطمأنينة، وإذا عُدِّي باللام ضُمِّن معنى الاستجابة والانقياد[38].

وهذا أقرب الأقوال؛ ولذلك لا يتعدّى الإيمان بالباء إلا في الإيمان بالله، وكذلك في الإيمان بالكتب والرسل؛ إذ الكتب كلام الله، والرُّسل رسله بوحيه.

وما عدا ذلك فإنه يتعدّى باللام، ومعناه الميل والاستجابة، كما فيقوله تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ [يونس: 83]. فإن قيل: إذا كان الإيمان على ما تقدَّم بمعنى التصديق، فَلِمَ لم يقُل: (يصدِّق اللهَ ويصدِّق المؤمنين)؟

فيقال: ذكرَ شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ لفظ الإيمان ليس مرادفًا للفظ التصديق، بل يفارقه لفظًا ومعنى، وذلك من وجوه:

1- التصديق يُستعمل في كلّ خبر، فيقال لمن أخبرَ بالأمور المشهورة مثل: الواحد نصف الاثنين، والسماء فوق الأرض مجيبًا: صَدَقْتَ وصَدَّقْنَا بذلك؛ ولا يقال: آمنّا لك ولا آمنّا بهذا حتى يكون المخبَرُ به من الأمور الغائبة، فيقال للمخبِر: آمنّا له، وللمخبَر به: آمنّا به، كما قال إخوة يوسف: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: 17]، أي: بمقرٍّ لنا ومصدِّقٍ لنا؛ لأنهم أخبروه عن غائب، ومنه قوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: 111]، وقوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 61]، وقوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ [المؤمنون: 47]، ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾ [الدخان: 21]، ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ [يونس: 83]، أي: أقَرّ له.

2- يقال: ﴿صدَّقته﴾ فيتعدَّى بنفسه إلى المصدَّق، ولا يقال: ﴿آمنته﴾ إلا مِن الأمان الذي هو ضدّ الإخافة، بل آمنت له.

3- أن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة؛ بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمَن أُخبِر بخبرٍ واطمأنّ قيل: (آمن)، فإن لم يطمئنّ قيل:(صَدَّق).

4- أن الإيمان يتضمّن الالتزام بالطاعة، بخلاف الصدق، فقد يصدِّق المخبِر لكن لا يلتزم طاعته. فقد استُعمل لفظ الكفر -المقابل للإيمان- في الامتناع عن الطاعة والانقياد؛ فقياس ذلك أن يُستعمل لفظ الإيمان في التزام الطاعة والانقياد.

5- الذوات التي تحبُّ تارةً وتبغض أخرى وتوالي تارة وتعادِي أخرى وتطاوع تارة وتعصي أخرى ويذلّ لها تارة ويستكبر عنها أخرى؛ تختص هذه المعاني فيها بلفظ الإيمان والكفر ونحو ذلك، وأمّا لفظ التصديق والصدق ونحو ذلك فيتعلق بمتعلقها كالحبّ والبُغض، ويشهد لهذا الدعاءُ المأثورُ المشهورُ عند استلام الحجر: «اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك»[39]، فقال: إيمانًا بك، ولم يقل: تصديقًا بك، كما قال: تصديقًا بكتابك. وقال تعالى عن مريم: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾ [التحريم: 12]، فجعل التصديق بالكلمات والكُتُب، ومنه الحديث الذي في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تكفّلَ اللهُ لمن خَرَجَ في سبيله، لا يُخرِجُهُ إلا إيمانٌ بي وتصديقٌ بكلماتي...»[40]. وما أعلم قيل: (التصديق بالله)، أو (صدِّقوا بالله)، أو (يا أيها الذي صَدَّق الله)، ونحو ذلك، اللهم إلا أن يكون في ذلك شيء لا يحضرني الساعة، وما أظنه[41].

3- قوله تعالى: ﴿‌فَلَمَّا ‌سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: 31].

الإشكال ووجهه[42]:

كيف قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾، وإنما يقال: (خرجتُ إليه)، كما يقال: (خرجتُ إلى السُّوق)؟

توجيه الإشكال:

اختُلِف في ذلك على أقوال:

القول الأول: ما نقله ابن الجوزي عن «بعض أهل العلم أنها إنما قالت: ﴿اخْرُجْ، وأضمرت في نفسها ﴿عَلَيْهِنَّ، فأخبر الحقُّ عمّا في النفس، كأنَّ اللسان قد نطق به، ومثله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 9]، لم يقولوا ذلك، إنما أضمروه، ويدلُّ على صحة هذا أنها لو قالت له وهو شابٌّ مُستحسَن: اخرج على نسوةٍ مِن طبعِهنَّ الفتنة، ما فعل»[43].

وفيه نظر؛ لأنه خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر أنه مِن قولهم حقيقةً، والقرينة المذكورة لا تقوَى على العدول عنه.

القول الثاني: قال ابن عاشور: «قولها: ﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، يقتضي أنه كان فيبيتٍ آخر، وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها، وعُدِّي فِعلُ الخروجِ بحرف(على) لأنه ضُمِّن معنى (ادْخُلْ)؛ لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه»[44].

وفيه بُعد؛ إذ لو قيل: (ادخل عليهن) لكان مقتضيًا لخروجه من الموضع الذي هو فيه، كما أنّ الإشارة إلى أنه -عليه السلام- كان في بيتٍ آخر لا يخدم المقام، فيبعد أن يكون هو المراد.

القول الثالث: قال محمد بن أبي بكر الرازي: «إذا كان الخروج بقَهْرٍ وغَلَبَةٍ، أو بجمالٍ وزينة، أو بآيةٍ وأمرٍ عظيمٍ فإنما يُعدَّى بـ(على)، ومنه قولهم: خرج علينا في السفر قُطّاع الطريق، وقوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص: 79]، وقوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ [مريم: 11][45].

قلت: جاء الفعل (خرج) في القرآن متعدِّيًا بـ(على) في هذه الآيات الثلاث فقط، ويجمعها معنى (الاستعلاء) الذي هو أصل معنى (على) «ولم يُـثبِت لها أكثرُ البصريين غيرَ هذا المعنى، وتأوّلوا ما أَوْهَم خلافَه»[46].

والاستعلاء: حقيقي ومجازي، فقوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ[مريم: 11]، من الاستعلاء الحقيقي؛ لأنه كان خرج من مكانٍ عالٍ، قال أبو جعفر النحاس: «قال أهل التفسير: كان موضعًا مرتفعًا، وكذلك هو عند أهل اللغة، كأنه على حَرْبَةٍ لارتفاعه، ومنه قيل: (محراب) للموضع الذي يصلِّي فيه، كأنه أرفع الـمجلس»[47]. ويحتمل أنه استعلاء مجازي، فهو أرفع قدرًا منهم بما شرَّفه الله من الوحي.

وقوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ [القصص: 79]، من الاستعلاء المجازي، فقد خرج قارون متعاليًا على قومه بما آتاه الله من كنوز.

وأمّا قوله سبحانه وتعالى: ﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾، فيحتمل الاستعلاء بنوعيه؛ فإمّا أنه كان مشرفًا عليهنّ من مكانٍ عالٍ، فهذا استعلاء حقيقي، وإمّا لأنه قد عَلاهن قَدْرًا وحُسْنًا، فهذا استعلاء مجازي؛ ولأجل ذلك عُدِّي الفعل بـ(على). والله أعلم.

4- قوله تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ [الصافات: 88].

الإشكال ووجهه[48]:

كيف عُدِّي النظر بـ(في) وهو إنما يُعدَّى بـ(إلى). كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143]، وقال: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ [الروم: 50]؟

توجيه الإشكال:

اختلف المفسِّرون في سبب تقييد النظر بكونه (فِي النُّجُومِ) على أقوال:

القول الأول: قال الطبري والزجّاج: ذُكِرَ أنّ قومَه كانوا أهلَ تنجيم، فرأى نجمًا قد طلع، فعصب رأسَه وقال: إني مطعون، وكان قومه يهربون من الطاعون، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم، ويخرجوا عنه، ليخالفهم إليها فيكسرها[49].

فعلى هذا القول، يكون فعل النظر بمعنى رؤية العين، وتكون (في) بـمعنـى (على)، وعلى هذا القول لا يندفع الإشكال؛ إذ يُقال: لِـمَ لَـمْ يُعَدَّ بـ(إلى) كما هو الغالب في القرآن؟

القول الثاني: قال الحسن وقتادة: «العرب تقول لمن تفكَّر: نَظَرَ في النُّجُوم[50]، وكذا قال الخليل والليث»[51].

وعلى هذا القول يكون النظر بـمعنى التفكُّر والتأمُّل، وهو الأقرب، وهو سر التعدية بـ(في)، فإنّ (النظر) يَرِد على وجوه؛ فإن تعدَّى بنفسه كان بمعنى الانتظار، ومنه: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: 13]. وإن عُدِّي بـ(إلى) كان بـمعنـى رؤية العين، ومنه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة: 22- 23]، وإن عدي بـ(في) كان بمعنى التفكّر والتأمّل، ومنه هذه الآية: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ[52].

و(في) هنا للظرفية، «وهي الأصل فيه، ولا يُـثبِت البصريون غيرَه»[53]، وقد بيَّن الرمانيّ وجه دلالة الظرفية على التفكُّر، فقال: «(في) معناها الوعاء، تقول من ذلك: (المال في الكيس)، و(اللص في السجن)، أي: اشتمل الكيس على المال، والسجن على اللص، وقد يتسع فيها فيجري مجرى المثل، وذلك نحو قولك: (فلان ينظر في العِلم)، كأنّ العِلم قد اشتمل عليه»[54].

وأنـبِّه أنّ قتادة والخليل والليث يرون أنّ معنى التفكُّر ليس مستفادًا من التعدية فحسب، بل هو مستفادٌ مِن هذا التركيب: (نظر في النجوم)، والأقرب أنه مستفادٌ من التعدية بـ(في)، ولم يَرِد في القرآن تعديتُه به إلا في هذه الآية، وفي قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ[الأعراف: 185]، أي: يتفكَّرُوا. ولم يَرِد هذا التركيب (نظر في النجوم) في القرآن إلا في هذا الموضع، ومن المعلوم أنّ قوم إبراهيم كانوا أهل تنجيمٍ وكهانة، فأوهمهم بالنظر فيها؛ ليكون أبلغ في الاحتيال، وألطف في المكيدة، فهذه قرينة تردُّ قولهم، وتدلّ على أنّ هذا القيد: (في النجوم) ورَدَ لِما يتعاطون، ولو كان المراد التفكُّر فحسب لقيل: (فتفكَّر) كما ورد في القرآن في نحوٍ من عشرين موضعًا، أو لقيل: (نظر في) دون حاجة إلى ذكر النجوم، كما فيقوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.

وأظنُّ أنّ رأيهم مستفادٌ من تفسير الآية، وليس معنًى لغويًّا، فإنّ مصدرَه الحَسَنُ رحمه الله، وعنه أخذ قتادةُ فهو تلميذه، والخليلُ والليثُ فقد استشهَدَا بقوله.

فإن قيل: قد يكون هذا المعنى صحيحًا نظرًا إلى حال المتفكِّر، ولذلك قال ابن عاشور: «هذا مما جرى مجرى المثل في التعبير عن التفكير؛ لأنّ المتفكِّر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات، فيخلو بفكره للتدبّر»[55].

فيقال: في هذا نظر، وإلا لصحّ أن تكون جملة: (أغمَضَ عينيه) دالةً على التفكُّر أيضًا؛ وذلك لأنّ المتفكِّر كثيرًا ما يُغمِضُ عينيه، لئلا تشغله المبصَرات، فيجتمع همُّه.

فإن قيل: نلتزم ذلك، فإنّ جملة: (أغمضَ عينيه) قد تدلّ على التفكُّر أيضًا.

فنقول: دلالتها وما سبق من باب الـكناية، وهي خلاف الأصل.

وبقي إشكال يَرِد على هذا القول -سواء كان التفكُّر مستفادًا من التركيب أو من التعدية- وهو في قوله: ﴿نَظْرَةً﴾؛ إذ كيف تستقيم صيغة الـمَرَّة مع التفكُّر؟

والجواب عن ذلك يمكن أن نأخذه من قول ابن عاشور: «تقييد النظرة بصيغة الـمَرَّة إيماءٌ إلى أنّ الله ألهمَه المكيدة وأرشده إلى الحُجّة»[56].

القول الثالث: أنه نَظَرَ في النجوم حقيقةً ليستدلَّ بها، قال الرازي: «ولا نسلِّم أنّ النظرَ في علم النجوم والاستدلالَ بـمقايستها حرامٌ؛ لأنّ مَن اعتقد أنّ الله تعالى خصّ كلّ واحدٍ من هذه الكواكب بقوة وبخاصية لأجلها يظهر منه أثـرٌ مخصوص، فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل»[57].

قلت: بل هو باطل، نعوذ بالله من أن ننسبه إلى نبيِّه، ومعتقِدُه مشركٌ، فلا يجوز نسبة ذلك إلى الأنبياء، ونظيره في الشرك الأكبر قول إبراهيم -عليه السلام- عن الكوكب والقمر والشمس: ﴿هَذَا رَبِّي، وحاشا خليل الله أن يعتقد ذلك، وإنما هو من باب مناظرتهم؛ لعيبِ آلهتهم، وإلزامهم بتوحيد الله سبحانه وتعالى.

فإن قيل: قد ذهب ابن قتيبة إلى قريب من هذا القول حيث قال: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾، يريد عِلم النجوم، أي في مقياسٍ مِن مقاييسها، أو سببٍ من أسبابها، ولم ينظر إلى النجوم أنفسها، يدلُّك على ذلك قوله: ﴿فِي النُّجُومِ﴾، ولم يقل: إلى النجوم. وهذا كما يقال: فلانٌ ينظر في النجوم، إذا كان يعرف حسابَها، وفلانٌ ينظر في الفقه والحساب والنحو»[58].

فيُقال: قال ابن قتيبة بعد ذلك: «وإنما أراد بالنظر فيها: أن يوهمهم أنه يعلم منها ما يعلمون، ويتعرّف في الأمور من حيث يتعرّفون». فقال: (يوهمهم)، ولم يقل: إنه فَعَلَه معتقدًا له. فظهرت براءة ابن قتيبة -رحمه الله- من هذا القول، وإنما قوله يشبه القولَ الثاني، فهو يوافقه في معنى التفكُّر، ويفارقه في أنّ النظر ليس في النجوم حقيقة، وإنما في عِلمها. وإنّ مِن أعجبِ العجب أنّ إبراهيم قال ذلك ليبطل مذهب قومه المنجِّمِين، فجاء الرازي ليستدلّ بقوله على صحة التنجيم!

وقد زَلّ الرازي في هذا الباب زَلّة عظيمة، فقد قال بالتنجيم، وأنّ للكواكب أرواحًا تؤثر في الحوادث الأرضية، وقال أيضًا بالسِّحر، وقرّر ذلك في بعض مصنّفاته، وكتب فيه: (السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم)، نرجو أنه تاب منه. وقد ردَّ عليه ابن القيم وبسط القول»[59].

5- قوله تعالى: ﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ ‌حُبَّ ‌الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: 32].

الإشكال ووجهه[60]:

ما معنى تعدية ﴿أَحْبَبْتُ﴾ بـ(عن)، وظاهره: أحببتُ حبًّا مثلَ حُبِّ الخير، كما تقول: أحببتُ حُبَّ زيد، أي: أحببتُ حبًّا مثلَ حُبّ زيد؟

توجيه الإشكال:

المقصود بـ(الخير) هنا: الخيل، فقد اشتغل سليمان -عليه السلام- بعَرْضِها حتى نسي صلاة العصر إلى أن خرجَ وقتها.

والفعل (أحبَّ) ورَدَ في القرآن متعدِّيًا بنفسه، وبـ(إلـى)، و(الباء)، وغيرهما، وتعدَّى بـ(عن) في موضعٍ واحدٍ فقط وهو محلّ البحث.

وقد اختُلِف في تخريج ذلك على ستة أقوال يـمكن ردّها إلى قولين:

- القول الأول: أنّ الفعل (أحببتُ) عُدِّي بـ(عن) لتضمينه معنى فعلٍ آخر.

وقد اختَلف أصحاب هذا القول في ذلك الفعل المضمَّن على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه مضمَّن معنى الإنابة أو الإجزاء أو الإغناء، كأنه قيل: أَنَبْتُ حبَّ الخير عن ذِكر ربي، أو جعلتُ حبَّ الخير مُجزِيًا أو مُغنِيًا عن ذِكر ربي. وهو قول الزمخشري[61].

الثاني: أنه مضمَّن معنى الغفلة، والـمعنى: أحببتُ حُبَّ الخير غافلًا عن ذِكر ربي. وهو قول البقاعي[62].

الثالث: قال ابن عاشور: «ضُمِّن ﴿أَحْبَبْتُ﴾ معنى عوّضت، فعُدِّي بـ(عن)، فصار المعنى: أحببتُ الخيرَ حبًّا فجاوزتُ ذِكر ربي»[63].

هذه أقوال مَن رأى التضمين، والصحيح أنه لا تضمين هنا؛ فإنه خلاف الأصل حتى عند من يرى أنه قياسي، والمعنى صحيح بليغ دونه، كما سيأتي.

- القول الثاني: أنّ الفعل على معناه من غير تضمين، واختلف هؤلاء في الـمعنى على أقوال:

الأول: قال الرازي: «المعنى: أنّ هذه المحبة الشديدة إنما حَصلت عن ذِكرِ الله وأمرِه، لا عن الشهوة والهوى»[64].

ومؤدّاه أنّ ﴿عَنْ﴾ للتعليل، و﴿ذِكْرِ رَبِّي أي: التوراة، والمعنى: إني أحببتُ الخيلَ بسبب كتابِ ربي وهو التوراة، فإنّ فيه مدح رباطِ الـخيل.

الثاني: قال الإيـجي: «آثرتُ حبَّ الـخيلِ بدلًا عن ذِكر ربي»[65]. فـ(عن) فيه بمعنى البدل.

الثالث: آثرتُ حبَّ الخيلِ على ذِكر ربي، وهو قول الجرجاني صاحب (نظم القرآن) كما عزاه إليه الواحدي[66]. و(عن) فيه بـمعنى (على) وهو الاستعلاء.

والأقرب أنّ الفعل على ظاهره من غير تضمين، و(عن) للمجاوزة؛ فإنه «أشهر معانيها، ولم يُـثْبِت لها البصريون غيرَ هذا المعنى»[67]، ويكون المعنى: إني أحببتُ حبَّ الخير فجاوزتُ ذِكر ربي[68].

 

 

[1] هذه المقالة من كتاب: (أثر البلاغة في توجيه مشكل القرآن)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1444هـ، ص212 وما بعدها. (موقع تفسير).

[2] مقاييس اللغة (3/ 372).

[3] الوافي للتبريزي، ص223.

[4] التلخيص، ص138.

[5] مغني اللبيب، ص858.

[6] الإشارة إلى الإيجاز، ص85.

[7] ينظر: طراز المجالس، ص20، حاشية ياسين على شرح التصريح (2/ 6)، إشكالية الجمع بين الحقيقة والمجاز، ص53.

[8] الخصائص (2/ 308)، ارتشاف الضرب (4/ 1984).

[9] توضيح المقاصد للمرادي (2/ 1031)، شرح التصريح (2/ 540).

[10]البحر المحيط (7/ 166).

[11] التذييل والتكميل (6/ 44، 107)، (7/ 56).

[12] مجلة مجمع اللغة الملكي العدد الأول، ص180، النحو الوافي (2/ 587).

[13] الأعمال الكاملة للخضر حسين (6/ 212).

[14] حاشية الصبان على الأشموني (1/ 13)، (2/ 62).

[15] ينظر: حاشية الشريف على الكشاف (1/ 126)، حاشية ياسين على شرح التصريح (2/ 5).

[16] حاشية الصبان (2/ 63).

[17] من أسرار حروف الـجر، ص35.

[18] الكشاف (1/ 228).

[19] مجلة مجمع اللغة العربية الملكي، العدد الأول، ص182.

[20] بدائع الفوائد (2/ 423).

[21] أنموذج جليل، ص119، فتح الرحمن، ص144.

[22] تفسير الطبري (8/ 527).

[23] بدائع الفوائد (2/ 423).

[24] المفردات (ذلل).

[25] الكشاف (1/ 648).

[26] الكشاف (1/ 648).

[27] ينظر: البحر المحيط (4/ 298).

[28] تفسير البيضاوي (2/ 132).

[29] الكشاف (4/ 186).

[30] المفردات (ذلل).

[31] أنموذج جليل، ص182، فتح الرحمن، ص233.

[32] تأويل مشكل القرآن، ص117.

[33] تفسير الطبري (11/ 537).

[34] التبيان في إعراب القرآن (2/ 648)، تفسير البيضاوي (3/ 86).

[35] روح المعاني (5/ 316).

[36] المحرر الوجيز (3/ 53).

[37] الكشاف (2/ 285).

[38] تفسير سورة البقرة لابن عثيمين (2/ 275).

[39] رواه عبد الرزاق في المصف (8898) عن ابن عمر رضي لله عنه. وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 247).

[40] رواه البخاري (36)، ومسلم (1876).

[41] ينظر: الإيمان الأوسط (413).

[42] أنموذج جليل (226).

[43] زاد المسير (2/ 435).

[44] التحرير والتنوير (12/ 262).

[45] أنموذج جليل (226).

[46] الجنى الداني (476).

[47] معاني القرآن (4/ 314).

[48] أنموذج جليل (430)، فتح الرحمن (480).

[49] تفسير الطبري (19/ 556)، معاني القرآن (4/ 308).

[50] تفسير ابن كثير (7/ 24).

[51] العين (6/ 154)، تهذيب اللغة (11/ 88).

[52] ينظر: تهذيب اللغة (14/ 266)، المفردات (نظر).

[53] الجنى الداني، ص250.

[54] معاني الحروف للرماني، ص96.

[55] التحرير والتنوير (23/ 141).

[56] التحرير والتنوير (23/ 141).

[57] تفسر الرازي (26/ 342).

[58] تأويل مشكل القرآن، ص201.

[59] مفتاح دار السعادة (3/ 1373- 1466). وينظر في نسبة كتاب (السر المكتوم) إلى الرازي: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 667).

[60] أنموذج جليل (437)، الروض الريان (2/ 370)، فتح الرحمن، ص488.

[61] الكشاف (4/ 92).

[62] نظم الدرر (16/ 379).

[63] التحرير والتنوير (23/ 255).

[64] تفسير الرازي (26/ 390).

[65] جامع البيان (3/ 476).

[66] البسيط (19/ 200).

[67] الجنى الداني، ص245.

[68] تنظر أمثلة أخرى للتضمين في: الفوائد في مشكل القرآن، ص61، 85، 176، أنموذج جليل (203، 579)، الروض الريان (1/ 63، 106، 193)، فتح الرحمن، ص258، 628.

الكاتب

الدكتور ياسر بن حامد المطيري

حاصل على الدكتوراه من قسم البلاغة بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود، وعضو هيئة التدريس بجامعة الأمير سطام بن عبد العزيز.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))