نحو خطاب دعوي متّزن في الأزمات
نظرات في تعليق القرآن على غزوة أحد
لا يخلو مجتمع من أزمات، وغالبًا ما تولِّد الأزماتُ خطاباتٍ دعويةً إصلاحيةً، ولكنْ فرق بين خطاب متّزن يُعِين على التجاوز والتخطّي، وخطاب غير متّزن يُربِك مستمعيه ويولِّد أعراضًا جانبية لا تنتهي بانتهاء الأزمة، والخطاب المتّزن هو الخطاب الذي يعتمد على مصادر التلقي الصحيحة ويعطي كلّ مسألة أو قضية قدرها بلا طغيان أو استخفاف، ويستند على علم وحكمة واعتدال؛ فيراعي المقاصد والكليات ولا يضيع المفردات والتفصيلات أو يُغرق فيها الجماهير، ويراعي المصالح والمفاسد والمآلات والعواقب؛ فيسلم بذلك من الاضطراب.
ولا صلاح للأرض إلّا بصلاح الإنسان المكرَّم من قِبَل الله، وتأثير الكلمات عليه أكثر مما نتصوّر في تشكيلِ أفكاره ووعيه، ولا تقف الكلمات في الآذان وإنما تتحوّل إلى سلوك وعمل بشري بقصد أو بغير قصد، وقد أنزل اللهُ كتابَه الكريم هدًى وبيانًا، ومن ثم كان الرجوع إليه دومًا هو صمّام الأمان في كلّ القضايا، وفي هذه المقالة نحاول بيان جانب من سمات الخطاب المتزن في وقت الأزمات من خلال تأمّل القرآن الكريم وتعليقه على غزوة أحد والتي كانت مصيبة كبيرة دهمت المسلمين كما سنبيّن، وذلك بعد أن نُلقي ظلالًا عامّة على أهمية الخطاب المتّزن وقت الأزمات وأثر العود للقرآن في ذلكم الصدد.
الخطاب المتّزن وقت الأزمات؛ أهميته وخطورة غيابه وأثر العود للقرآن في تكوينه:
من أعظم ما يوفّره الخطاب المتّزن في أوقات الأزمات هو حفظ الأعمار من الضياع والتخبط، فكم من فكرة أضاعت أعمارًا من شباب الأمة سيقت إليهم في خطاب غير متّزن يضخّم قضايا ويوهم بعظائم ويُنسِي أصولًا وثوابت، وكم خطابات متّزنة كانت نورًا ورحمة للأمة في لحظات حرجة ومفترق طرق؛ كخطاب الصدّيق أبي بكر في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك يوحّد الخطابُ المتزن الصفَّ وقت الأزمة، ولا نبالغ لو قلنا: مزّقتنا خطابات أحادية لا ترى الأزمة إلا من زاوية واحدة ولا ترى المخرج إلا في عمل واحد، وتأبى طبيعة الأزمات ذلك فتزداد الفُرقة والتنازع ويحلّ الفشل، قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46]. وأيضًا يولِّد الخطاب المتّزن الثقة في الدعاة والعلماء، وينعكس ذلك على الثقة بما يحملون من شرع ودين، والخطاب غير المتّزن قد يولِّد الاتهام والطعن، وتأمل في نظرة الجماهير لمن يطالبهم بالواجبات على طول الطريق دون أن يعلمهم ما لهم من حقوق، فإن سلم من الطعن لم يسلم من تشويه المستمع معرفيًّا أو بناء تصوّر غير تام عن الإسلام.
إنّ الخطاب المتّزن ساعة الأزمات يرتقي بالفهم ويرتقي بالذائقة ويدفع للعمل الصحيح والمناسب. وعلى العكس في المجتمعات التي يغلب عليها الخطاب غير المتّزن تكثر المقولات الجاهزة وتُستدعى في كلّ الأزمات، ويقع الإفراط في التبكيت أو التبشير مما تجد الجماهير معه بصورة عامة في حالة عجز وهمود وانتظار للمخلِّص وغرق في المبشِّرات وتغنٍّ مفرط بأمجاد الماضي، دونما عناية بتحليل أسباب الأزمة وكيفيات التعاطي معها ومجاوزتها.
ولا شك أن حاجة الخَلْق إلى القرآن فوق كلّ حاجة ويشتدّ ذلك الاحتياج في أوقات الأزمات لأمور، أهمها:
أولًا: طبيعة الأزمات:
وما يصحبها غالبًا من إرباك في الرؤية واضطراب في ترتيب القيم وتحديد الثوابت والاختلاف والتباين في تحديد الأهداف، وقد شبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- الأزمات والفتن بقِطَع الليل المظلم، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بادروا بالأعمال فِتنًا كقِطَع الليل المظلم»[1].
ثانيًا: طبيعة الإنسان:
وما يلازمه من عجلة وهوى وبالأخصّ في أوقات الأزمات بحثًا عن الخروج من هذه الوضعية، قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}[الإسراء: 11].
مع ما جُبِلَت عليه النفوس من ضعف ووهن مهما علَت، قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 28]؛ يشمل ذلك ضعفًا في خلقه من ماء مهين، وقلّة صبره، وضعف عزمه وعلمه.
ومن هاهنا كان الإنسان في مثل هذا بحاجة لمصدر علوي يرتبط به فيعينه على ضبط بوصلة التفكير دون تشتت، ويحفظ عليه القيم الرئيسة التي لا تتبدّل والثوابت التي لا تتغير، ويحدّد له معالم الطريق.
وهذا المصدر العلوي هو القرآن الكريم، كلام الله تعالى الذي أنزله للإنسان رحمةً وهدًى.
وإنّ من رحمة الله بنا إنزال القرآن مفرّقًا عبر الوقائع والأحداث، بحيث يستطيع العبد في أيّ زمان أن يتساءل كيف كان خطاب القرآن للمسلمين في أوقات الأزمات ويقيس عليه واقعه، وبالتالي يستطيع أن يكوِّن الخارطة المناسبة للتعامل مع الأزمة.
والقرآن في الأزمات يجعلك ترى الصورة كاملة دون الغرق في الجزئيات، فيصرف نظرك إلى الملك -جلّ وعلا- ويعلّقك به بتأمّل مخلوقاته الكونية الكبرى؛ كخلق السماوات والأرض، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، ويُذكِّرك بمركزية الآخرة وأنّ مشاهد الدنيا غير مكتملة؛ فيربط بين الحال والمآل. ويأتي بصنيع شبيه بصنيع أمة الإسلام من الأمم السابقة، ويربط المشهد بما في القلب من عبودية أو التفات، ويُذكِّر كلَّ أطراف الأزمة بما لهم وما عليهم، ويُذكِّرك بالسنن ويدفع للعمل، ويربط على القلب بحنوّ ويطمئنه، كلّ ذلك بأقصر لفظ يجمع بين الإمتاع والإقناع، ومن هاهنا كان العود للقرآن ضروريًّا في محاولة بناء ملامح الخطاب الدعوي المتّزن وقت الأزمات، وهو ما سنحاول القيام به عبر التأمل في الآيات التي نزلت تعليقًا على غزوة أحد بصورة خاصة.
لماذا غزوة أُحُد؟
كان يوم أُحُد يومًا عصيبًا على النبي وصحابته الكرام حتى صار مثلًا يُضرب في شدّة الابتلاء، وقد سمَّى اللهُ تعالى ما أصابهم في هذه الغزوة من قتلٍ وجراحاتٍ مصيبةً. ولقد كان من بِدَايات ابتلاءات غزوة أُحُد ومصيبتها ما فعله المنافقون من التخذيل والإرجاف، وانسحابهم من الجيش في ساعة حرجة عصيبة، وما حدث من الرماة أن بارحوا أماكنهم واشتغلوا بجمع الغنائم، فالتفَّتْ خيَّالة المشركين عليهم من ورائهم؛ إذ خالفَت الرماة عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذون الأمتعة، وكرَّ الناس منهزمين، فصرخ صارخ يَرَوْنَ أنّه الشيطان: ألَا إنَّ محمَّدًا قد قُتِل، فأعظم الناس، وركب بعضهم بعضًا، فصاروا أثلاثًا: ثلثًا جريحًا، وثلثًا مقتولًا، وثلثًا منهزمًا. ونال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نصيبه من ابتلاءاتها ومصيبتها؛ فجُرح -صلى الله عليه وسلم- وكُسرت رباعيته، وهُشمت البيضة على رأسه، فجَعَل يسلت الدم عن وجهه، ويقول: «كيف يُفلِح قومٌ شجُّوا نبيَّهم»[2].
وقد نزل القرآن ليعلِّق تعليقًا مطولًا على هذا اليوم الشديد، مما يستوجب الوقوف على تعليق القرآن لبيان ملامح الخطاب الدعوي الذي وجهه للمجتمع في هذه الأزمة، وكيف كان سببًا في إعانتهم على مجاوزتها وتخطّيها وحسن التعامل معها، وبيانه كالتالي:
سمات الخطاب المتزن في تعليق القرآن على غزوة أحد:
أولًا: خطاب يجمع بين رفع المعنويات والتذكير بالخطأ:
إنّ العدل يقتضي أن يعاقَب المخطئ أو يعاتَب، لكن الرحمة تقتضي النظر إلى الأمر بصورة أشمل والنظر إلى العواقب وأثر الكلام على النفوس. ومن أعظم مصائد الشيطان التيئيس والحُكم على النفس بالسوء، وإذا تمكن ذلك من العبد قاده إلى الانعزال وترك الأعمال؛ ولهذا كان خطاب القرآن، وإنْ ذكَّر بالخطأ بوضوح، إلّا أنه يرفع المعنويات في الأزمات بصورة ظاهرة ويلحّ على ذلك:
قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 122].
قال القرطبي: «ومعنى أنْ تفشَلا: أنْ تَجبُنَا، وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سَلِمَة، وما نُحِبُّ أنها لم تَنزِل؛ لقول الله -عز وجل-: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}»[3].
وتأمّل هاهنا فرح جابر بعتاب مليء بالتحبُّب والوُدّ وتقبُّل الضعف البشري.
يقول تعالى أيضًا: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 139].
قال القرطبي: «عزّاهم وسلّاهم بما نالهم يوم أُحُد من القتل والجراح، وحثَّهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل، فقال: {وَلَا تَهِنُوا} أي: لا تَضعُفوا ولا تَجبُنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لِمَا أصابكم، {وَلَا تَحْزَنُوا} على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}، أي: لَكُم تكون العاقبة بالنصر والظفر، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، أي: بصِدْقِ وَعْدِي»[4].
قال السعدي: «يقول تعالى مشجِّعًا لعباده المؤمنين ومقويًا لعزائمهم ومنهضًا لهممهم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا}، أي: ولا تهنوا وتضعُفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة، وابتُليتم بهذه البلوى؛ فإنّ الحزنَ في القلوب والوهنَ على الأبدان زيادةُ مصيبة عليكم، وعونٌ لعدوكم عليكم، بل شجِّعوا قلوبكم وصبِّروها، وادفعوا عنها الحزن وتصلَّبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقِّن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك؛ ولهذا قال [تعالى]: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}»
ثم تأمّل التوبيخ على الخطأ الذي بيّنه السعدي، فقال: «ثم وبّخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودُّون حصوله، فقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ}، وذلك أنّ كثيرًا من الصحابة -رضي الله عنهم- ممن فاته بدرٌ يتمنون أن يُحضِرهم الله مشهدًا يبذلون فيه جهدهم، قال الله [تعالى] لهم: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}، أي: رأيتم ما تمنيتم بأعينكم، {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}، فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن، خصوصًا لمن تمنَّى ذلك، وحصل له ما تمنى، فإن الواجب عليه بذل الجهد، واستفراغ الوسع في ذلك»[5].
وهكذا يَبْنِي الخطاب القرآني نفسًا سويةً تستطيع رؤية الأزمات بلا مبالغةٍ أو جَلْدٍ للذات وإهدار الكرامة. قارِنْ ذلك مع خطاب آخر في الأزمات يُنسِي الإنسانَ كرامتَه من كثرة التبكيت والتهديد والذمّ؛ ولهذا ينبغي على الدعاة أن يرفعوا المعنويات وأن لا يُكثروا من التبكيت الذي قد يصل أحيانًا إلى حدود إهانة المستمع، والأسوأ لو كان الداعية صغير السنّ يخاطِب مَن هم أكبر منه عمرًا، وأنْ لا تخلو القلوب من رحمة بالمخطئ وأنْ يصله منّا معنى الحرص عليه وحبّه ممتزجًا بالعتاب على التقصير.
ثانيًا: خطاب يجمع بين البشارة والدافعية لأداء العمل:
إنّ الخطاب الذي يكتفي أنْ يوصل للمستمعين أنّ تمكين الأمة أمرٌ حاصل، ولا يؤكّد أن ذلك مرتبط بفعلهم وعملهم =خطابٌ أعرج غير متّزن يولِّد الاتكال وينمّي الأوهام ويخدع العقول إذا خلا من المطالبة بالأعمال الموصلة. وكما أنّ النفوس تحتاج إلى بشارة تحتاج أيضًا إلى من يوضح لها السبيل للوصل إلى تلكم البشارة، وهذا هو مقتضى سنن الله في الخلق (قانون السببية).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، واللهُ خالق الأسباب والمسببات»[6].
لذا فالخطاب المتّزن في وقت الأزمة يبشر ويدفع للعمل في ذات الوقت، وتأمل في آيات غزوة أحُد كيف قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}[آل عمران: 151].
يقول ابن كثير: «ثم بشّرهم بأنه سيُلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلّة لهم، بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادّخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال»[7].
وكذلك قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}[آل عمران: 140].
يقول السعدي: «فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح، ولكنكم تَرجون من الله ما لا يَرجون».
ويقول تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}[آل عمران: 140].
يقول السعدي: «لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم»[8]. هذه بشارات واضحة، ويشمل الخطاب أيضًا أوامر لا تقلّ وضوحًا عن البشارات.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[آل عمران: 156].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران: 149].
يقول ابن كثير معلقًا: «يحذِّر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإنّ طاعتهم تورث الرّدَى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران: 149]»[9].
وتأمّل هاهنا كم مِن خطيبِ أزمةٍ يَكتفي بذكرِ المبشِّرات لأمة الإسلام، وكأنها مبشِّرات بدون مقدِّمات، وكأنّ المطلوب من الأمة أن تكمل نومها وتنتظر الفرج انتظار العاجز الخالي من العمل. فعلى الدعاة أن يُذَكِّروا الأمة بالمبشرات القرآنية والنبوية، وربط ذلك بأسبابها، وأن تكون هذه الأسباب داخل دائرة قدرتهم ومسؤولياتهم كمخاطبين، وأن تشتمل الأسباب على الأسباب الظاهرة العملية والباطنة القلبية، وعلى الدعاة أيضًا أن لا يربطوا كلّ النتائج على سبب واحد، فهذا وهمٌ محال، وأن لا يعلِّقوا الخلق بالأسباب بل بالله وحده مع الأخذ بالمقدور من الأسباب.
ثالثًا: خطاب موجّه للحاكم والمحكوم:
إنّ صلاح المجتمعات لا يقوم على الحكّام وحدهم وإن كانوا جزءًا كبيرًا من معادلة التغيير والإصلاح، ومطالبة الجماهير بما عليهم دونما أن نذكِّرهم بما لهم يُفقد الدعاة قدرًا من المصداقية، وقد يكون تأييدًا للظَّـلَمة خفيًّا، وكما خاطب الإسلام المحكومين بالصبر خاطب الحكام بالعدل، وغالب الأزمات تكون فيها المسؤولية على الجميع فالكلّ يحتاج إلى نصيب من الخطاب، وهذا ما كان في خطاب غزوة أحُد.
قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران: 121].
وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159].
يقول السعدي: «{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أي: سيئ الخلق، {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: قاسيه، {لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لأنّ هذا ينفِّرهم ويبغِّضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدّين تجذب الناس إلى دين الله وترغّبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاصّ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدّين تنفِّر الناس عن الدين وتبغِّضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذمّ والعقاب الخاصّ»[10].
فعلى الدعاة أن يراعوا في خطابهم أن يكون موجهًا للحكام والمحكومين، لا سيما إن كان مسموعًا واصلًا للحكام، ولا يعني ذلك الغفلة عن كلّ الضوابط التي ذكرها العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مراعاة القدرة والعجز والاستطاعة، وقد يكون الإشارة إلى ذلك ضمن الخطاب ولو بقصة أو نموذج يشير أنّ صلاح المجتمع يقوم إجمالًا على صلاح الحاكم والمحكوم.
رابعًا: خطاب يبني القيم ويضرب النماذج:
قد لا يُصلِح الناسَ خطابُ (يجب/ ينبغي) بقدر ما يصلحهم خطاب (كيف) الذي يوضح السبيل إلى المطلوب، وهذا النمط من الخطاب الذي يركز على الـ(كيف) يُعين على تحقيقه ذكر النماذج العمليّة وبيان كيفيات التطبيق. ففرق بين أن نكلِّم الشباب عن أهمية الخشوع في الصلاة، وأن نكلمهم عن (كيف يحققون ذلك).
يأتي النموذج ليوضح كيف الطريق إلى القيمة مع ما يعطي للنفس من قوة على التطبيق ووضوح للمطلوب، وهذا ما قدّمه خطاب القرآن في غزوة أحُد.
ويقول تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 146].
حثّ على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم؛ {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} أي: وكم من نبي، {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أي: جماعات كثيرون مِن أتباعهم، الذين قد ربّتْهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلّوا لعدوّهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[11].
مع أزمات المجتمع قد لا يتصور العقل فعلًا آخر يصلح القيام به، فيحتاج إلى الإشارة إلى القيمة مضافة إلى إنسان ونموذج قائم بالأمر، فهذا يسهّل له الاقتداء والامتثال، فعلى الدعاة أن يتكلموا عن القيم مع الإشارة إلى النماذج التي مُلِئ بها القرآن وجاءت بها السُّنة، وأن لا يكون طلب الناس بالقيم عاريًا عن النماذج، فيظنوا أنّ ما يُطلب منهم محالٌ ومثاليةٌ لا تطبَّق في دنيا الناس.
خاتمة:
إنّ الخطاب القرآني خطاب شديد الثراء وينبغي التأمل فيه دومًا لاستخراج كنوزه وأسراره وهداياته في مختلف جوانب الحياة. وقد يستطيع المتأمّل فيه استخراج قواعد وسمات أكثر من ذلك في التعامل مع الخطاب الدعوي في أوقات الأزمات، لكن ما قمت به هو مجرد محاولة في هذا الباب، وإشارة فقط كي ننتبه إلى خطابنا الدعوي في الأزمات وما ورثناه من خطابات قد تحتاج إلى محاكمة لا تخلو من إنصاف، وإدراك أهمية العودة لفهم وتدبّر كتاب الله لتحقيق التوازن وتحقيق البلاغ المبين الذي أمرنا به فننجو بذلك من الأزمات ويصلح مجتمعنا ويحقق مراد الله، نسأل اللهَ العظيم أن يرفع شأن أمّتنا ويعينها على أزماتها.
[1] صحيح مسلم بشرح النووي، (118) (1/ 116)، ط. دار العقيدة.
[2] صحيح مسلم بشرح النووي، (1791) (6/ 122).
[3] الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، (5/ 285)، ط. مؤسسة الرسالة.
[4] الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، (5/ 333).
[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، ص130-131، ط. مكتبة الصفا.
[6] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، د/ عبد الكريم زيدان، ص22، ط. مؤسسة الرسالة.
[7] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (2/ 95)، ط. المكتبة التوفيقية.
[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص131.
[9] تفسير القرآن العظيم، (2/ 93).
[10] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص135.
[11] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص132.