تفسير مالك بن أنس (ت: ۱۷۹هـ)
موقف المفسرين منه - طرق روايته – موضوعات تفسيره

كان للإمام مالك بن أنس مشاركة في التفسير، ويُعد أحد مفسّري أتباع التابعين، وهذه المقالة تُسلط الضوء على تفسيره، فتبيّن موقف المفسرين منه، كما تعرِّف بأشهر طرق روايته، وأبرز موضوعاته، وذلك بعد تقدمة حول منزلته في العلم والرواية، والمقالة مستلة من كتاب (تفسير أتباع التابعين، عرض ودراسة).

تفسير مالك بن أنس (ت: 179هـ)

موقف المفسِّرين منه - طرق روايته - موضوعات تفسيره[1]

  مالكُ بنُ أنسِ بنِ أبي عامرٍ الأصبحي، أبو عبد الله المدني، إمامُ دار الهجرة، وأحدُ أئمة المذاهب الفقهية الأربعة.

وُلِد بالمدينة عام 93، وتُوفي بها عام 179، ونشَأ في بيت علمٍ وصلاحٍ؛ فأبوه وعمّاه من محدِّثي المدينة، وجَدُّه من كبار التابعين.

حدَّث عن نافع، وربيعة بن أبي عبد الرحمن (ربيعة الرأي)، والمقبري، والزهري، وعامر بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن المنكدر، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم، وأبي حازم سلمة بن دينار، وأيوب السختياني، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيرهم[2].

وعنه ابن جريج، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، وشعبة بن الحجاج، والسفيانان، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وعبد الرحمن بن القاسم، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن وهب، والشافعي، وأشهب بن عبد العزيز، وآدم بن أبي إياس، وسعيد بن منصور، ويحيى بن يحيى الليثي، وغيرهم[3].

منزلته في العلم والرواية:

كان مالك حافظًا، مجوِّدًا، متقنًا، إمامًا في الفقه وفي نقد الرجال، ذا هيبة وجلالة عظيمة، من كبار علماء زمانه؛ لم يكن بالمدينة عالمٌ من بعد التابعين يشبهه في العلم والفقه والجلالة والحفظ[4]، وقد رجّح كثير من أهل العلم أنه المراد بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالمـًا أعلَمَ من عالمِ المدينة)[5]، وقال الشافعي: «إذا ذُكِر العلماءُ فمالكٌ النَّجم»، وقال أيضًا: «لولا مالك وابن عيينة لذهبَ عِلمُ الحجاز»[6]. وقال الذهبي: «وقد اتّفق لمالك مناقب ما علمتُها اجتمعت لغيره:

- أحدها: طول العمر، وعلوّ الرواية.

- وثانيتها: الذِّهن الثاقب، والفهم، وسعة العلم.

- وثالثتها: اتفاق الأئمة على أنه حُجّة صحيح الرواية.

- ورابعتها: تجمعهم على دِينه وعدالته واتّباعه السّنن.

- وخامستها: تقدُّمه في الفقه والفتوى، وصحّة قواعده»[7].

ومذهبه في الفقه مشهور قد بلغ الآفاق كما هو معلوم، وقد ترك مصنفات عديدة؛ أعظمها كتاب (الموطّـأ) أشهر كتب أتباع التابعين في الحديث، وله أيضًا: رسالة في القَدَر كَتَبَها إلى ابن وهب، ورسالة في إجماع أهل المدينة كتَبها إلى الليث، ورسالة في الأقضية، ورسالة في النجوم ومنازل القمر، وله أيضًا جزء في التفسير كما سيأتي[8]، كذلك يُذكر له كتاب في غريب القرآن[9].

تفسيره وموقف المفسِّرين منه:

كان مالك مِن أعلم أهل زمانه بالكتاب والسُّنة؛ قال البهلول بن راشد (ت: 183): «ما رأيت أنزع بآية من مالك بن أنس»[10]، وقال الشافعي (ت: 204): «مالك أعلمُ بكتاب الله، وناسخه ومنسوخه، وبسُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبي حنيفة»[11]. ويُذكر عن مالك أنَّ له تفسيرًا كثيرًا سمعه أصحابه فجمعوه، وقد حاول جمعه بعض المتأخِّرين؛ قال القاضي عياض (ت: 544): «وله [أي مالك] في تفسير القرآن كلام كثير، وقد جُمع، وتفسير رواه عنه بعض أصحابه، وقد جَمع أبو محمد مكي مصنفًا فيما رُوي عنه من التفسير والكلام في معاني القرآن وأحكامه»[12].

وقال الداودي: «وهو أوّل مَن صنَّف (تفسير القرآن) بالإسناد على طريقة (الموطّـأ)، تبعه الأئمة، فقلَّ حافظ إلا وله تفسير مسنَد»[13]، وقال السيوطي: «وقد رأيتُ له [يعني مالكًا] تفسيرًا لطيفًا مسندًا، فيحتمل أن يكون من تأليفه، وأن يكون علق منه»[14].

ما سبق من نُقُول يُثبِت وجود مصنَّف في التفسير للإمام مالك؛ لكن يُفهم من بعضها احتمال أن يكون مِن جمعِ تلاميذه[15].

وهذا الكتاب مذكور في كتب الفهارس والمشيخات[16]، وهو أحد مصادر السيوطي في تفسيره (الدر المنثور)[17]، كذلك أحال إليه ابن كثير في بضعة مواضع من تفسيره[18].

لكن يظهر أنه جزء صغير كما وصفه الذهبي[19]؛ لذا لم يُفِد منه ابن كثير والسيوطي إلا في مواضع قليلة جدًّا[20]، كما قلَّ ذِكره في كثير من كتبِ التفسير، فلم أجد الثعلبي يذكره في مصادره مع كثرتها.

وتفسير مالك في عداد المفقود، وقد وقفتُ على محاولتَيْن لجمعه لدى المعاصرين[21]:

الأولى: جمع الشيخ محمد بن رزق طرهوني، ود. حكمت بشير ياسين، وصدر في مجلد واحد بعنوان: (مرويات الإمام مالك بن أنس في التفسير)، عام 1415= 1995م[22].

وقد اعتمَدَا في جمعهما على (الموطّـأ) برواياته المختلفة، والكتب المسندة ومَن نقلَ عنها، وبلغ مجموع الروايات في جمعهما (583) رواية، أغلبها من الأحاديث المرفوعة أو الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين، كما أنّ كثيرًا منها ليس من باب التفسير، ومما تجدر الإشارة إليه أن الشيخ طرهوني توصّل في دراسته في مقدمة الكتاب أن تفسير مالك جزء لطيف جمعه أحد تلاميذه، أغلبه من قول مالك! وما يرويه عن غيره فأغلبه من تفسير شيخه زيد بن أسلم[23].

الثانية: جمع الباحث د. حميد لحمر في رسالة علمية عام 1990م بالمغرب، وصدرت بعد ذلك في مجلد واحد بعنوان: (الإمام مالك مفسرًا)، عام 1415= 1995م[24]، وقد كان جمعه لتفسير مالك رواية ودراية من خلال روايات موطّـئه، وكُتُبِ تلاميذه وأتباعِ مذهبه وكُتُبِ التفسير، وبلغ مجموع الروايات في جمعه (937) رواية، أغلبها من الأحاديث المرفوعة أو الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين، كما توجد فيه أقوال لمالك في غير حدّ التفسير[25]، وأغلبها إلى باب الأحكام الفقهية أقرب منها إلى التفسير، أمّا ما كان من تفسير مالك النظري الاجتهادي فهو قليل، وكثير منه مجموع من كتبِ المتأخِّرين دون سند.

من خلال هذين الجمعَيْن وغيرهما نجد أنّ ما ورَدَ عن مالك من تفسير اجتهادي في كتب التفسير المسندة قليل جدًّا؛ مقارنة بتفسير أعلام مفسِّري أتباع التابعين السابق ذكرهم[26].

لكن من خلال موسوعة التفسير المأثور التي أضافت مصدرًا ثرًّا مهمًّا لتفسير مالك الاجتهادي -وهو قسم التفسير من جامع ابن وهب-؛ أمكَنَ أنْ أُحصي له ما يقارب من (113) أثرًا تفسيريًّا صريحًا مسندًا؛ لذا أدرجت الإمام مالك ضمن أعلام مفسِّري أتباع التابعين، باعتبار أنّ أقواله في التفسير فاقت المائة قول، إضافةً إلى كونه صَنَّف في التفسير كتابًا، لكن يظلّ أقلّ هؤلاء الأعلام تفسيرًا بفارق كبير عمَّن قبله[27].

ويعلّل لنا الذهبي سبب قلّة تفسير مالك، فيقول: «يظهر على مالك الإمام إعراضٌ عن التفسير؛ لانقطاع أسانيد ذلك، فقلَّما روى منه. وقد وقع لنا جزء لطيف من التفسير منقول عن مالك»[28].

كذلك يمكن القول أنّ من أسباب قلّة تفسيره؛ عدم تفرّغه للتفسير، وإمامته في أغلب علوم الشريعة ومشاركته فيها، والله أعلم.

أبرز طرق تفسير مالك وموضوعاته:

كثيرٌ من تفسير مالك الذي وقفتُ عليه جاء من طريق تلميذه عبد الله بن وهب المصري (ت: 197)[29]، خصوصًا في كتابه: (الجامع)[30]، كذلك ما أورده ابن جرير[31]، وابن أبي حاتم[32]، كما توجد مرويات من طريق أشهب بن عبد العزيز (ت: 204)[33] عند ابن جرير[34]. ومعظم هذا التفسير يدور حول آيات الأحكام، ولا غرو! فهو الفقيه صاحب المذهب الفقهي المشهور، يلي ذلك التفسير بتعيين المراد في الآية، وهناك أقوال في النَّسْخ والكُلّيات، إضافةً إلى الاعتناء ببيان عقيدة أهل السُّنة والردّ على المبتدعة.

فمن أمثلة تفسيره لآيات الأحكام:

1- في قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، قال: «فالرَّفَثُ: إصابة النساء -والله أعلم-؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 187]، والفُسوق: الذبح للأنصاب -والله أعلم-؛ قال الله: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]، والجدال في الحج: أنَّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقُزَح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، فكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول هؤلاء: نحن أصوب؛ فقال الله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 67]، فهذا الجدال فيما يُرى -والله أعلم-، وقد سمعت ذلك من أهل العلم»[35].

2- وقال أيضًا: «لا يحلّ نكاحُ أَمَةٍ يهودية ولا نصرانية؛ لأنّ الله -تبارك وتعالى- يقول في كتابه: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]؛ فهُنَّ الحرائر من اليهوديات والنصرانيات، وقال الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء: 25]، فهُنَّ الإماء المؤمنات»[36].

3- وفي قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176]؛ قال: «فهذه الضلالة التي يكون فيها الإخوة عصبة، إذا لم يكن ولدٌ فيرثون مع الجدّ في الكلالة»[37].

4- وسُئل عن قول الله: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6]: أترى أن يُخْلِفَ المرفقين في الوضوء؟ فقال: «الذي أمر به أن يبلغ المرفقين، قال تبارك وتعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، يذهب هذا يغسل خلفه. فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال: لا أدري ما (لا يجاوزهما)، أمّا الذي أمر به أن يبلغ به فهذا، إلى المرفقين والكعبين»[38].

5- وفي قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]: قال: «ذلك الزكاة، والله أعلم، وقد سمعتُ من يقول ذلك»[39]، وفي رواية أخرى أنه قال: «العُشْر، ونصف العُشْر»[40].

6- وعنه أنه قال في طلاق المشركين نساءَهم ثم يتناكحون بعد إسلامهم: «لا يُعَدُّ طلاقهم شيئًا؛ لأنّ الله تعالى قال: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]»[41].

ومن أمثلة أقواله في توضيح المراد في الآية:

1- في قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 7]، قال: «ثُمَّ ابتدأ فقال: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ﴾، وليس يعلمون تأويلَه»[42].

2- وقال: الطاغوتُ: «ما يَعْبُدُون من دونِ الله»[43].

3- وسُئل عن قول الله: ﴿وَسَعَةً﴾ [النساء: 100]، قال: «سعة البلاد»[44].

4- وفي قوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: 152، الإسراء: 34]، قال: «الحُلُم»[45].

5- وسئل عن قول الله: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118- 119]، قال: «خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير»[46]، وفي رواية أخرى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، قال: «للرحمة، وقال قوم: للاختلاف»[47].

6- وقال: «أحسن ما سمعتُ في هذه الآية: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79]، أنها بمنزلة الآية التي في (عبس): ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [13- 16]»[48].

7- وعن ابن وهب قال: قال لي مالك، وذكر قولَ الله -عز وجل- في يحيى: ﴿وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: 12]، وقوله في عيسى: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ﴾ [الزخرف: 63]، وقوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: 48]، وقوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: 34]؛ قال مالك: «الحكمةُ في هذا كلِّه: طاعةُ الله، والاتّباع لها، والفقهُ في دين الله، والعملُ به»[49].

8- وعن ابن وهب قال: سألتُ مالكًا عن قول الله: ﴿يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]، قال: «مخرجًا». ثم قرأ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مخرجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2- 3][50].

9- وفي قول الله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى: 6]، قال: «تأويل ذلك: أنْ سنقرئك؛ فتَحْفَظ»[51].

ومن كلياته المشهورة قوله: «وإنما السعيُ في كتاب الله العملُ والفعلُ»، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ [الجمعة: 9]، يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 205]، وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى﴾ [عبس: 8- 9]، وقال: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ [النازعات: 22]، وقال: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: 4]، قال مالك: «فليس السعي الذي ذكر الله في كتابه بالسعي على الأقدام، ولا الاشتداد؛ وإنما عنى العمل والفعل»[52].

أمّا في العقيدة فلا تخفى قصته المشهورة حين جاءه رجل، فقال له: يا أبا عبد الله؛ ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4]، كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأيت مالِكًا وَجِدَ من شيءٍ كَمَوجِدَتِه من مقالته، وعلاه الرُّحَضَاءُ -يعني: العَرَق-، وأطرق القوم، قال: فَسُرِّي عن مالك، فقال: «الكيفُ غيرُ معقول، والاستواءُ منه غير مجهول، والإيمانُ به واجب، والسؤالُ عنه بدعة؛ وإني أخافُ أن تكون ضالًّا». وأَمَرَ به فأُخرِج[53].

كذلك من استنباطاته المشهورة التي تدلّ على دقّة فهمه وعِظَم مكانته في تفسير القرآن والاستنباط منه والردّ على المبتدعة؛ ما رُوي أنه ذُكر عنده رجلٌ ينتقص أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقرأ: ﴿محَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ﴾ حتى بلغ: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: 29]، ثم قال: «مَن أصبحَ في قلبه غيظٌ على أحدٍ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد أصابته الآية»[54].

 

[1] هذه المقالة من كتاب: (تفسير أتباع التابعين؛ عرض ودراسة)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1436هـ= 2015م، تحت عنوان: (مالك بن أنس)، ص133 وما بعدها. (موقع تفسير).

[2] ينظر معجم لمشايخه في تهذيب الكمال (27/ 93- 106)؛ وسير أعلام النبلاء (8/ 49- 51).

[3] ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 52- 54).

[4] ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 58).

[5] أخرجه أحمد (13/ 358)؛ والترمذي (2682). وينظر في السير (8/ 56- 61) أقوال العلماء في ذلك.

[6] تذكرة الحفاظ (1/ 154).

[7] تذكرة الحفاظ (1/ 156).

[8] ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 88- 89).

[9] ينظر: طبقات المفسرين للداوودي (2/ 299)؛ هدية العارفين (2/ 163)؛ الأعلام للزركلي (5/ 275). لكن يظهر أنه غير مشهور كشهرة تفسيره، ولم أقف على مَن أفاد منه.

[10] ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/ 81).

[11] سير أعلام النبلاء (8/ 76).

[12] ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/ 81)؛ وينظر: الإمام مالك مفسرًا، ص9، 10.

[13] طبقات المفسرين (2/ 299).

[14] الإمام مالك مفسرًا، ص11، نقلًا عن (تزيين الممالك في مناقب الإمام مالك)، للسيوطي.

[15] وقد ناقشَ هذه المسألة د. حميد بلحمر في مقال له بمجلة (الإحياء) بعنوان: (الإمام مالك مفسرًا)، ورجح أنه من تصنيف مالك، وعلى فرض أنه من جمعِ تلاميذه؛ فإنّ هذا نوع من التصنيف يُنسب إلى صاحبه. ثم ذكر أن هناك ثلاث محاولات تمّت عند المتقدّمين لجمع تفسيره؛ الأولى: كانت لبعض تلامذة الإمام مالك وهو المخزومي، أشار إليه ابن العربي (ت: 543)، وذكره القاضي بسنده إليه في ترتيب المدارك، وذكره الذهبي في السير (8/ 89) عن عياض. الثانية: قام بها أبو بكر بن العربي (ت: 543) بأنْ أفرد له كتابًا في قسم خاصّ بكتابه: «القبس شرح موطأ الإمام مالك بن أنس»، سمّاه: (كتاب التفسير) في نحو أزيد من أربعين ورقة، ونبه على جمع المخزومي لتفسير مالك في هذا الكتاب. الثالثة: كانت لمكي بن أبي طالب (ت: 437)؛ وسمّاه: (المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره). وهو الذي أشار إليه القاضي عياض فيما تقدّم. ينظر الرابط:  http://www.alihyaa.ma/Article.aspx?C=5658

[16] ينظر: الفهرست لابن النديم، ص51؛ صلة السلف بموصول الخلف، ص171.

[17] ينظر: (مقدمة تفسير الدر المنثور للسيوطي بين المخطوط والمطبوع)، للدكتور: حازم سعيد حيدر، بمجلة الدراسات والبحوث القرآنية، ع1، 1427هـ، ص252.

[18] ينظر على سبيل المثال: (4/ 509، 463)؛ (5/ 85، 101)؛ (6/ 312).

[19] ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 9)؛ (8/ 88- 90).

[20] وقفت له على موضعين فقط في الدر المنثور: (8/ 549)؛ (14/ 444).

[21] هذا سوى محاولات المتقدّمين لجمع تفسيره كما تقدم.

[22] عن دار المؤيد بالرياض، في 408 صفحة.

[23] ينظر: مرويات الإمام مالك بن أنس في التفسير، المقدمة، ح.

[24] عن دار الفكر ببيروت، في 473 صفحة.

[25] ينظر على سبيل المثال كلّ ما أورده في تفسير سورة الفاتحة، ص67- 69.

[26] أحصى له د. محمد عبد الله الخضيري عند ابن جرير (31) أثرًا؛ وعند ابن أبي حاتم -فيما طُبع من تفسيره- (37) أثرًا. ينظر: التفسير بالأثر بين ابن جرير وابن أبي حاتم، ص88.

[27] وهو سفيان بن عيينة الذي أحصيت له (243) أثرًا تفسيريًّا من أقواله.

[28] ذكر ذلك معقبًا على ما حكاه عبد الرزاق الصنعاني، بقوله: «قال لي مالك: نِعم الرجل كان معمر، لولا روايته التفسير عن قتادة». سير أعلام النبلاء (7/ 9).

[29] عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم الفهري، أبو محمد المصري، الإمام الحافظ الثقة الفقيه من صغار أتباع التابعين؛ روى عن ابن جريج، ومالك، والليث، وابن لهيعة، وأبي صخر حميد بن زياد وعبد الرحمن بن زيد وغيرهم، وعنه عبد الرحمن بن مهدي وأصبغ بن الفرج، ويونس بن عبد الأعلى، وغيرهم، أخرج حديثه الجماعة، له (موطأ ابن وهب) و(الجامع)، وكتاب (تفسير غريب الموطأ)، وغير ذلك، توفي عام 197. ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 223).

[30] ينظر على سبيل المثال: الجامع - تفسير القرآن (1/ 54، 111، 145- 146)؛ (2/ 130- 138، 160، 165).

[31] ينظر على سبيل المثال: (3/ 542، 552)؛ (4/ 392)؛ (5/ 10)؛ (8/ 654)؛ (9/ 664). ويظهر أنها نسخة تفسيرية عن مالك لا بأس بها أغلبها من تفسير مالك النقلي، يرويها ابن جرير من طريق شيخه يونس بن عبد الأعلى (ت: 264) عن ابن وهب، وهذا إسناد صحيح عن مالك.

[32] ينظر على سبيل المثال: (1/ 347، 349)؛ (4/ 1224)؛ (5/ 1700)؛ (6/ 1779)؛ (8/ 2521). وهو يرويها أيضًا من طريق يونس بن عبد الأعلى (ت: 264) عن ابن وهب.

[33] أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري، أبو عمرو الفقيه المصري، سمع: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وبكر بن مضر، وعِدّة. حدَّث عنه: يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وسحنون، وغيرهم، توفي عام 204. سير أعلام النبلاء (9/ 501).

[34] ينظر على سبيل المثال: (8/ 183، 194، 212)؛ (12/ 639)؛ (17/ 278). وهو يرويها أيضًا من طريق يونس بن عبد الأعلى عن أشهب.

[35] الموطأ (1/ 522) (1153)؛ وأخرجه ابن أبي حاتم (1/ 346- 349) مختصرًا.

[36] الموطأ (2/ 48) (1550)؛ وأخرج ابن جرير (6/ 599) نحوه.

[37] أخرجه ابن أبي حاتم (4/ 1128).

[38] أخرجه ابن جرير (8/ 183).

[39] الموطأ (1/ 368) (738).

[40] علّقه ابن أبي حاتم (5/ 1398).

[41] أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1700). وينظر أمثلة أخرى الموطأ (1/ 641) (1435)؛ (2/ 17) (1468)، (331 (2258)، 344 (2288)؛ (4/ 33) (1504). تفسير ابن جرير الطبري (3/ 346، 542)؛ (4/ 84، 323)، (8/ 187، 193، 212، 370، 371، 385)؛ (17/ 277). تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1223، 1224)، (8/ 2521). تفسير الثعلبي (5/ 61)، الثعلبي (9/ 255). الدر المنثور (7/ 122، 252)؛ (8/ 319).

[42] أخرجه ابن جرير (5/ 219). وأورده السيوطي في الدر (3/ 460).

[43] أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 495)، (3/ 976).

[44] أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 1050).

[45] أخرجه عبد الله بن وهب في الجامع - تفسير القرآن (2/ 132) (259)، وابن جرير (9/ 664). وعلّقه ابن أبي حاتم (5/ 1419).

[46] أخرجه ابن جرير (12/ 639).

[47] عزاه ابن كثير إلى تفسير مالك (4/ 363).

[48] عزاه السيوطي في الدر المنثور (14/ 223) إلى ابن المنذر.

[49] الجامع لعبد الله بن وهب - تفسير القرآن (2/ 130- 131) (357).

[50] الجامع لعبد الله بن وهب - تفسير القرآن (2/ 138) (278).

[51] أخرجه عبد الله بن وهب في الجامع - تفسير القرآن (2/ 138) (277). وينظر أمثلة أخرى: الموطأ (1/ 522)(1153(641) (1435(4/33) (1504). جامع عبد الله بن وهب - تفسير القرآن (1/54، 111، 145(2/ 130، 133،- 136، 166). تفسير ابن جرير (5/ 10(17/ 278، 286). تفسير ابن أبي حاتم (2/ 532، 534، 551)؛ (9/ 2966، 2886، 2889، 2966).

[52] الموطأ (1/ 163) (286).

[53] أخرجه اللالكائي (664). وأورده السيوطي في الدر (6/ 422).

[54] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 327). وينظر: تفسير البغوي (6/ 328).

الكاتب

الدكتور خالد بن يوسف الواصل

أستاذ مساعد وباحث بمركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام ‏الشاطبي بجدة، وله عدد من البحوث والأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))