مشاهد الكون ونواميسه في القرآن

تعدَّدت الإشارات في القرآن الكريم إلى مشاهد الكون ونواميسه، وتأتي هذه المقالة لتبيّن عظمة هذه الإشارات، وتكشف -من خلال سياقاتها القرآنية- عن الحكمة من ذكرها، كما تُجلِّي أوجه الخطأ في فهمها، والتي تنشأ عن عدم الوقوف على هذه الحِكَم واستحضارها.

مشاهد الكون ونواميسه في القرآن[1]

  مما يجب على الناظر في القرآن ملاحظته أن ما ورد فيه من آيات فيها إشارات إلى مشاهد الكون وخَلْقه ونواميسه قد استهدفت لفت نظر السامعين إلى عظمة الله تعالى وسعة ملكوته وبديع صنعه وإتقانه وتقديره وشامل إحاطته وقدرته وتدبيره، بقصد تأييد هدف رئيس من أهداف الدعوة، وهو توكيد وجوب وجود الله تعالى واتصافه بأكمل الصفات، وتنزهه عن الشوائب، واستغنائه عن الولد والشريك والنصير والمساعد، ووحدانيته وانفراده في الألوهية والربوبية، واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه والدعاء، ومطلق تصرفه وشمول علمه وإحاطته بكلّ شيء دَقَّ أو عَظُمَ، وحكمته السامية في خلق الكون على أسس النواميس التي شاءت هذه الحكمة أن تقوم عليها، ثم بقصد بثّ هيبة الله تعالى في قلوب السامعين، وحفزهم على الاستجابة إلى دعوة رسوله، والانصياع لأوامره ونواهيه والتزام حدوده، وبقصد البرهنة على قدرته على خَلْقِ الناس مرّة أخرى يوم القيامة.

وبتعبير إجمالي آخر: قد استهدف العظة والإرشاد والتنبيه والتلقين والتدعيم والتأييد، دون قصد تقرير نظريات وماهيات الكون وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنية، مما يبدو واضحًا في جميع آيات المشاهد الكونية وحتى التي فيها بيان لبعض مراحل الخلق والتكوين لم يقصد فيها -كما يتضح للمتمعّن فيها- تقرير هذه المراحل لذاتها، وإنما قصد إلى توكيد تلك الأهداف والمقاصد التدعيمية.

وحكمة ذلك واضحة؛ فالقرآن دعوة الله إلى الناس كافة على تفاوت مداركهم وأذهانهم ومراكزهم ونِحَلهم، وقصد الموعظة والإرشاد والتنبيه والهداية والبيان هو القدر المشترك بين كافة الناس بالنسبة إلى هذه الدعوة من جهة، وهو الأصل في القرآن والمتّسق مع طبيعته ومداه من جهة أخرى، بحيث يمتد إلى كلّ دور ومكان، وتجاه أعلم العلماء وأبسط البسطاء، كما أن شواهده قائمة في أساليب الآيات سواء أكان ذلك في كيفية التعبير والسياق، أم في التكرار في المناسبات والمواقف المتعددة مما هو مبثوث في مختلف السّور، وبخاصة المكيّة منها التي اقتصرت دون المدنيّة في الأعم الأغلب على الدعوة إلى الله والإيمان باليوم الآخر ومحاربة الشرك والانحراف وإلى مكارم الأخلاق عامة.

والذي يتمعن في هذه الآيات يجدها على الأعم الأغلب تبدأ بتنبيه الناس إلى مشاهد كون الله، وتنتهي بتنبيههم إلى ما في ذلك من آيات لمن يعقل ويفكر ويسمع ويتقي ويتدبر ويعلم، ويجد في سياقها السابق واللاحق بها تنديدًا بالكافرين المكابرين الذين يغفلون عن آيات الله في كونه ويمارون فيها، ويمارون بالتالي بوجوده ووحدانيته وشمول قدرته واستحقاقه وحده للعبادة والخضوع والاتجاه، واستغنائه عن الشريك والولد والمساعد، وقدرته على بعث الناس مرة أخرى وتوفيتهم جزاء أعمالهم في الدنيا، ويجدها في الوقت نفسه تخاطب السامعين بما يقع تحت أبصارهم وممارساتهم ومتناول معارفهم وفهمهم ومداركهم، وهذا مهم جدًّا في بابه.

وهذه بعض الأمثلة:

1-  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة 21- 22][2].

2- {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة 163- 164].

3- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام 1- 3][3].

4- {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنعام 95- 100][4].

5- {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}[الأعراف 54- 58][5].

6- {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس 2- 9][6].

وهذه أمثلة مما فيه مراحل التكوين:

1- {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}[الأنبياء 30- 31].

 2- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}[المؤمنون 12- 15].

 3- {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[فصلت 8- 14][7].

ولعلّ في تعبير الأوتاد عن الجبال، والسَّقْف المبني عن السماء، والفِراش والبِساط والذَّلُول عن الأرض، حتى المصابيح المضيئة التي زُيِّنت بها السماء عن الكواكب، وجرَيان الشمس ومنازل القمر، والسراج الوهّاج للأُولى والمصباح المنير للثاني، وفي ذِكر إنزال الماء من السماء وتسيير السحاب وتصريف الرياح وإرسال البرق والرعد والصواعق، وإنبات مختلف الزروع والأشجار وتسخير الدواب والأنعام وتسيير الفُلْك في البحار والأنهار وتسخيرها، وتصوير الأرض كمركز للكون، والإنسان كقطب للأرض، وتسخير كلّ ما في السموات والأرض له، وإسباغ الله عليه نِعمَهُ الظاهرة والباطنة، وتسويته إيَّاه بيده ونفخه فيه من روحه -تساوقًا واضحًا ومفهومًا مع مشاهد مختلف فئات الناس الذين يوجه إليهم الكلام ومدركاتهم.

وبتعبير آخر إنّ القرآن خاطب السامعين بما يفيد أنهم يعرفون مدى ما تُلي عليهم ويذكَّرون به، ويلفت نظرهم إليه مشاهَدةً أو ممارسة أو معرفة أو بما يتّسق مع ما في أذهانهم جمالًا من صور ومعارف من ممارساتهم ومشاهداتهم ومسموعاتهم، حيث يكون في ذلك تنبيه عليه من آي الخطاب بما يعرفه ويفهمه السامع يكون أقوى أثرًا في نفسه وأكثر تحقيقًا للهدف المستهدف منه، وحيث يكون في أسلوب الآيات وفحواها دلالات على ما استهدف منها من الأهداف التي ذكرناها.

مع التنبيه على أنها يصح عليها صفة المتشابهات أيضًا؛ لأنها تحتمل تأويلات عديدة، ومنها ما قد يعيا عقل الإنسان عن إدراك ماهيته ومداه وتأويله، ويلوح منها أن التقريب والتمثيل من أهدافها.

وملاحظة كلّ ذلك واجبة وضرورية لكلّ من ينظر في القرآن حيث تجعله يقف من الفصول والآيات الواردة في صدد هذا الموضوع عند الحدّ الذي وقف عنده بالأسلوب والفحوى اللذَين جاءت عليهما لتحقيق الأهداف المذكورة التي استهدفها، وتعصمه من التكلُّف والتجوُّز والتخمين والتزيُّد ومحاولة التماس النظريات العلمية والفنية في حقائق الكون والتكوين ونواميسها وأطوارها منها، والتمحّل والتوفيق والتطبيق، مما يُخرج القرآن عن هدفه من الوعظ والإرشاد، ولفت النظر وبث الهيبة والإشعار بعظمة الله والتزام حدوده إلى مجال البحث وتعريض قدسيته -بطبيعة هذا المجال- إلى الجدل والنقاش والتعارض والأخذ والردّ على غير طائل ولا ضرورة ولا تساوق مع هدف القرآن وطبيعته.

وبالإضافة إلى هذا الذي يتّسق مع الهدف والمضمون والمدى القرآني فإنّ لملاحظة ذلك فائدة عظيمة لذاتها من حيث أنها تجعل المسلم غير مقيّد بنظريات كونية وفنية معيَّنة يوهم أنها مستندة إلى القرآن ومستخرجة منه مع ما في هذا -دائمًا- من تمحُّل، وتُبقيه حرًّا طليقًا في ساحات العلوم والفنون ونظرياتها وتطوراتها وتطبيقاتها، ولا سيما إنّ النظريات العلمية والفنية دائمة التطور، وأحيانًا كثيرة متحولة متبدلة.

فلا يختلط عليه الأمر في سيره العلمي وبحثه الفكري، ويكون كلّ ما يجب عليه أن يظلّ ذلك في حدود الأسس والأهداف والمبادئ والمثل الإسلامية العليا، وفي نطاق أركان الإيمان العامة التي قرَّرها القرآن، وحيث يظلّ قصد القرآن ومداه ومفهومه سليمًا في جميع الأدوار؛ يخاطب بآياته وفصوله مختلف الفئات في مختلف الأزمنة، فتثير فيهم الإجلال والهيبة والإذعان والخشوع سواء أكانوا علماء أم بسطاء؛ لأنه يخاطب عقولهم وقلوبهم معًا وهو قصد القرآن الجوهري من دون ريب.

وفي هذا الذي نرجو أن يكون الحقّ والسداد ردٌّ على الملحدين إذا ما أرادوا التعسّف وفهم الآيات فهمًا خاطئًا، وإبرازها على أن فيها تقريرات محددة لإظهار ما بين ذلك وبين الحقائق العلمية والفنية من تباين، وبالتالي لإظهار الثغرات في القرآن وتهوين مداه.

وإذا كان المفسرون قديمًا وحديثًا أكثروا من البيانات والتفصيلات على هامش الآيات القرآنية، وبلغ الأمر في بعضهم إلى أن يقتصر تفسيره على شرح ما في الآيات من نظريات وأسس فنية كونية؛ فإن جُلَّها بل كلَّها اجتهادات وتخمينات وأقوال، ولا تخلو من مفارقات ومبالغات.

وإذا كان كتّاب وباحثون مسلمون قديمًا وحديثًا تجاوزوا النطاق الصحيح لمدى الآيات القرآنية، وحاولوا أن يستخرجوا منها نظريات وأسسًا علمية فنيّة، أو يوفِّقوا بين ما ظنوه في القرآن من ذلك وبين ما عُرفت حقائقه العلميّة مؤخرًا بحسن نية وبقصد إظهار معجزة القرآن بإبراز أمور لم تكن معروفة قبل، وعُرفت بعد تقدّم العلوم وتطورها حسب زعمهم، رغم ما يكون في محاولاتهم من تحمُّل وتجوُّز وتعسّف في الفهم والتوفيق والتطبيق والاستنتاج، بل ومن سذاجة في تصيُّد العبارات وتحميلها ما لا تحتمل، ومن تجاوز للوقائع والظروف والروايات الموضحة لنزول الآيات وهدفها ولسياقها الذي فيه توضيح لهدفها ومداها، حتى لقد وصل الأمر إلى أن يستخرج أحد الباحثين من آية سورة الذاريات هذه {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات 47] نظرية (النسبيّة) لأنشتاين، ونظرية أخرى سمّاها (انتشار الكون)، وأن يقول: إنّ أصحاب رسول الله لم يعرفوا وجه الإعجاز الكوني في هذه الآية؛ لأنهم لم يطلعوا على حضارة وعلوم القرن العشرين[8]، وبقيت معجزة غير مفهومة إلى عصرنا الحاضر، فالعلم قرّر النظرية في القرن العشرين في حين أن القرآن قرّرها قبل 1400 سنة، وقد ظلّ المسلمون يتلونها وتكوِّن جزءًا من عقيدتهم دون أن يعرفوا ما فيها من إعجاز كوني إلى هذا القرن[9]!

نقول: إذا كان المفسرون والباحثون فعلوا هذا فالقرآن والإسلام لا يتحملان مسئوليته، وتظلّ فصول القرآن وأهدافها بكلّ إشراقها وقوتها وإفحامها ومداها لكلّ فئة وفي كلّ زمن.

ولقد اتكأ الملحدون في مهاجمة القرآن وإبراز التناقض فيه إلى مثل هذه التخمينات والمحاولات، وتصيّد العبارات بقصد التوفيق والتطبيق.

وفي كتاب صادق العظم[10] نماذج من ذلك، ولكن القرآن -كما قلنا- لا يتحمّل مسئوليته أولًا، وليس هو ضروريًّا لإثبات إعجاز كتاب الله والتدليل على ما في كون الله ونواميسه من إتقان وإبداع، وعلى وجوب وجود الله ووحدانيته ثانيًا، وليس القرآن في حاجة إلى ذلك ثالثًا؛ فدلائل إعجاز كتاب الله وكونه وحيًا ربانيًّا بارزة ظاهرة في كلّ فصل من فصوله لمن رُزق حسن النية والضمير والذّوق، ولم يتعمد المكابرة والعناد.

ودلائل إبداع الكون ونواميسه ووجوب وجود خالق مدبِّر له حكيم قادر عليم خبير أزلي أبدي ملموحةٌ لكلّ ذي نظر وعقل وإذعان في مَشاهِد الكون دقيقها وجليلها، وليس القرآن بعدُ كتابَ فنّ وطبيعة وفَلَك وبيولوجيا وكيمياء وفيزياء وهندسة حتى يخشى المسلمون أن يَطعن فيه الأغيارُ؛ لأنه لم يَحْتوِ تقريرات علمية نظرية في ذلك.

وبعض الباحثين يرفعون في محاولاتهم وتمحلاتهم شعار آية فُصِّلت: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت 53]؛ ليؤيّدوا أن حقائق نواميس كون الله ظهرت بعد عصر النبوة، وفي ظلال تقدّم العلم والفن، وأنّ في الآية إخبارًا ربانيًّا إعجازيًّا لذلك! مع أن الآية هي في مقام التنديد والإنذار لجاحدي القرآن من سامعيه الأولين من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوجهة الظرفية مما تقوم عليه الآية التالية دليلًا حاسمًا، وهذا نصها: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}[فصلت 54]، وهذه الآية ليست الوحيدة في معناها ومداها ومقامها.

فهناك آيات مماثلة لها منها مثلًا آية سورة النمل هذه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، وآية سورة غافر هذه: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}، غير متنبّهين -كما قلنا- إلى ما يكون في تطبيقات هذا الشعار من تكلُّف وتمحُّل وتعريض القرآن للأخذ والردّ وإخراجه عن مدى مهمّته العظمى التي هي هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وبيان الأسباب والوسائل الضامنة لسعادتهم وصلاحهم وأمنهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.

والملحدون لا يقفون عند حدّ الاتكاء إلى محاولات وتمحّلات الكتّاب المسلمين في التماس النظريات العلمية والكونية في القرآن، بل يتمحَّكون بما يتوهمونه في العبارات القرآنية في صدد نواميس الكون ومشاهدة من تنوع في العبارات وتوهم التباين فيها مما في كتاب صادق العظم نماذج منه أيضًا.

وفيما ذكرناه من كون الآيات في هذا الموضوع هي من المتشابهات، ومن كون ما ورد في القرآن منها لم يرد بسبيل تقريرات فنية؛ وإنما للتنبيه والعبرة جواب على هذا التمحك.

كما أنّ المتمعن في الآيات التي يوردونها والمقارن بينها والمتنبّه لسياقها عن حسن نية يجد لكلّ إشكال جوابًا شافيًا يزيل به وَهْم التباين، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (حضارة الإسلام)، العددان 3 – 4، بتاريخ جمادى الأولى والآخرة 1391هـ، الموافق يوليو (تموز) وأغسطس (آب) 1971م، ص: 14- 22.
وقد أشيُر في حاشية المقالة بالمجلة أنها من مباحث كتاب قيد الطبع -حينها- وهو: (القرآن والملحدون). وقد طُبع هذا الكتاب عام 1973م، وصدر عن المكتب الإسلامي. (موقع تفسير).

[2] جاءت هذه الآيات بعد حملة على الكافرين والمنافقين.

[3] جاء بعد هذه الآيات تنديدٌ بمن يتخذ من دون الله أندادًا.

[4] جاء بعد هذه الآيات حملةٌ على المكذبين والممترين.

[5] ، [6] قبل الآيات حملة على المكذبين والكافرين والظالمين والجاحدين بالآخرة، وإنذار لهم.

[7] الآيات من النوعين كثيرة جدًّا فنكتفي بما أوردناه. ويحسن بالقارئ أن يرجع إلى المصحف ليقرأ الآيات الكثيرة الأخرى ليتبين ما نبهْنَا عليه من أساليبها ومداها وأهدافها، وليقرأ بخاصة الآيات الآتية:
سورة يونس 21 - 33، وهود 7، والرعد 1- 5 و12 و27، والحجر 31 - 33، والنحل 1 - 18 و65 - 72 و78 - 82، والحج 61 - 66، والمؤمنون 16 - 22، والنور 43 - 46، والفرقان 45 - 55، والنمل 59 - 66، والروم 17 -29 و48 - 50، والسجدة 1- 9، وفاطر 9 - 14 و26 - 28، ويس 22 - 44، والزمر 2 - 7، وغافر 61 - 70، والجاثية 2 - 6، و ق 1 - 15، والذاريات 46 - 51، والرحمن 1 - 29، والملك 1 - 21، ونوح 14 - 20، والنبأ 1 - 16، والنازعات 27 - 32، وعبس 17 - 32.

[8] المتبادر أن الباحث لم يذكر رسول الله، واكتفى بذكر أصحابه تأدبًا وتحرجًا وحسب.

[9] انظر كتاب (الإنسان بين العلم والدين) لشوقي أبي خليل ص36 و37 وفي هذا الكتاب الكثير العجيب من هذا النوع.

[10] مؤلف كتاب (نقد الفكر الديني)، وقد كتب الكاتب كتابه (القرآن والملحدون) بمناسبة هذا الكتاب.
صادق العظم (1934-2016): مفكر سوري علماني، شغل منصب الأستاذية الفخرية بجامعة دمشق في الفلسفة الأوروبية الحديثة، وكان أستاذًا زائرًا في قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون حتى عام 2007م، وكتابه (نقد الفكر الديني) المشار إليه هنا صدر عن دار الطليعة ببيروت عام 1969م، وأثار ضجة إبَّان نشره. (موقع تفسير).

الكاتب

الأستاذ محمد عزة دروزة

مفكر وأديب ومؤرخ وصحفي ومترجم، له تفسير كامل للقرآن والمعروف بـ"التفسير الحديث"، توفي عام 1984م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))