سورة مريم: سلوى وعزاء للنبي
قراءة في البناء الموضوعي لسورة مريم

المترجم : إسلام أحمد
حظيت سورة مريم باهتمام كبير من الدارسين الغربيين، خصوصًا من رواد الاتجاه التزامني في قراءة القرآن، حيث قدّموا العديد من المقاربات لبحث بنية هذه السورة والكشف عن تقسيمها الموضوعي، في هذه المقالة يساجل المؤلف هذه المقاربات وينتقدها، ويحاول تقديم تقسيم موضوعي جديد للسورة.

سورة مريم: سلوى وعزاء للنبيّ[1]

قراءة في البناء الموضوعي لسورة مريم[2]

مقدّمة:

تُعَدّ السيّدة مريم -عليها السلام- شخصيّةً مهمّة للغاية في القرآن؛ إِذْ وَرَد اسمُها فيه 34 مرّة، معظمها مرتبط بالسيّد المسيح -عليه السلام- الذي عادةً ما يُشار إليه باسم (عيسى بن مريم). هذا الوصف يُشير على الفور إلى أنّ المسيح قد وُلِد دون أبٍ، وأنّه -كما يرِد في القرآن- ليس (ابن الله)، بل هو (ابن مريم). في ضوء هذا الأمر، ليس من الغريب تمييز السيّدة مريم (المرأة الوحيدة التي ذُكِر اسمُها صراحةً في القرآن) بتسمية سورة كاملة باسمها. وحين خاطبها الملَك، كما وَرَدَ في الآية رقم 42 من سورة آل عمران، قائلًا: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، فهناك ثلاثة أمور تحويها هذه الآية: أنّ السيّدة مريم (مُصطفاة)، و(مُطهَّرَة)، و(مُصطفاة على جميع النساء). الأمر الأوّل والثاني يتقاسمهما مع السيّدة مريم آخرون في القرآن[3]، بينما تتفرّد هي بالأمر الثالث. وقد نفهم هذا على أنّه إشارة إلى تفرُّدها؛ إِذْ حملَتْ دون أن (يَمْسَسْها بشرٌ) [مريم: 20]، ولأنّها أمّ المسيح.

وقد خُصِّص قسمان مهمّان في القرآن للسيّدة مريم، وهما: الآيات 33- 50 من سورة آل عمران، والآيات 16- 36 من سورة مريم. وإضافةً إليهما، فهناك مزيد من الإشارات العابرة، مثل الآية رقم 50 من سورة المؤمنون، والآية رقم 12 من سورة التحريم. وعلاوةً على هذا، سُمِّيت السورة رقم 19 من المصحف باسم السيّدة مريم، مع أنّها في الواقع لم تتحدّث خلال السورة سوى ثلاثِ جُمَل[4]، وجُلّ السورة عن أناسٍ آخرين.

ونظرًا إلى أهميّة السيّدة مريم لدى المسلمين والمسيحيّين، ومن أجلِ الحوار بين الأديان، فقد سال مدادٌ كثير في الكتابة حول هذه السورة من سوَر القرآن. وفي الآونة الأخيرة، تمّ إيلاء اهتمام خاصّ لهيكلها وبنيتها[5]. فعلى سبيل المثال، نُشِرَت في العام 2011 مقالة في مجلّة الدراسات القرآنيّة [الصادرة عن جامعة لندن]، وفيها يقوم شوكت توراوا[6] باستقصاء ثلاثة من تلك الدراسات البنيويّة وجدولتها (وقد كتبها بلال غوكّير، وأنجيليكا نويفرت، ونيل روبينسون)[7]، ويرى توراوا أنّ الباحثين الثلاثة جميعًا مهتمّون في نهاية الأمر بإثبات أنّ في السورة تماسُكًا بنيويًّا؛ ويعبّر هو نفسُه عن أَمَلِه في أنّ ما سبقَ قد أوضَحَ أنّ على المرء، إذا أراد تمييزَ البنية البلاغيّة لسورةٍ ما بشكلٍ أفضل، أن يعرف كيف تُستخدَم جميع كلمات تلك السورة[8]. ومن خلال هذا العملِ المُعجميّ الشامل وحدِه يمكننا أن نصبح في موقعٍ يُتيحُ لنا رؤيةً تفصيليّة وواضحة لكيفيّة عمل السورة بأكملها معجميًّا وصوتيًّا وبلاغيًّا.

وبناءً على ذلك، يسرد قائمة بجميع كلمات سورة مريم، قائلًا إنّه يأمُل أن يستفيد منها آخرون «أقصى استفادةً»، وأن «يُسهِم تحليلُ استخدام الكلمات في السورة في تحقيق فهمٍ أفضل لِبنية السورة البلاغيّة»[9].

وفي مقالة أحدث، نُشِرَت أيضًا في مجلّة الدراسات القرآنيّة، تُقدّم ليلى أوزغور- الحسَن[10] دراسةً بنيويّة للآيات 1- 58 من سورة مريم[11]. تقول في مقدّمة مقالتها إنّ «الهدف هو تحليل وجود غموض في النصّ نفسه، والأسباب السرديّة المُحتمَلة لذلك: أي لأيّ غرض يوجد هذا الغموض؟»[12] ومقصدها من ذلك هو أن «توضّح كيف تطوّرت بنية تلك الآيات من خلال الأصداء المعجميّة والتكرار، وأنّ لِبنْيَتها غرضٌ سرديّ narrative وموضوعيّ thematic»ـ[13].

من المهمّ بالتأكيد تحديد البنية في ثنايا السورة، لا سيّما في ضوء طريقة تقديم المادّة في القرآن في أصله العربيّ، الذي يضع السورة بأكملها في نصّ متواصل، دون أيّ تقسيمات أو فقرات سوى العلامات الموجودة في نهاية كلّ آية. فالتحليل البنيويّ يحدّد الموضوعات الرئيسة في السورة، وهو شيء مفيد، لكن هناك خطورة أن يظلّ في نطاق الشكل ويُفكّك المادّة، فيتجاهل الرسالة والغرض الذي يسري في ثنايا كلّ سورة. فالأشكال والتحليل الأدبيّ أمران مهمّان، ولكن فقط بقدر ما يُشيران إلى الموضوعات والمعاني وبقدر ما يوضّحان غرض السورة في مُجمَلها. في هذه المقالة، أسعى إلى إجراء تحليل بنيويّ لسورة مريم، يُحدّد معالم بنية مختلفة عمّا طرحه الباحثون السابقون (انظر الجدول المُرفَق). ومع ذلك، سأناقش قبل القيام بهذا الموضوعَ والغرض اللذَين اشتملَت عليهما هذه السورة، إِذْ أؤكّد أنّهما تقديم السلوى والطمأنينة للنبيّ، وسأوضّح كيف أثّر ذلك في تحليلي لِبنية السورة.

سورة مريم: الموضوع والغرض:

 تتميّز سورة مريم بكَونها مُحاطةً بسلسلة من السّوَر التي تحكي قصص الأنبياء السابقين، مع تكرار الإشارة إلى عناد كفّار قريش، الأمر الذي يمكن ملاحظته في مواضع أخرى عديدة من القرآن[14]. فعلى سبيل المثال، بعد الإشارة إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة (ص) وهجومهم اللفظيّ على النبيّ وتكذيبهم بالرسالة، في الآيات 1- 16، يُخاطِب القرآنُ النبيّ، قائلًا: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ...}. في تمامِ هذه الآية يُثني الله على داوود وما منحه الله من نعمائه، وفي هذا تذكيرٌ للنبيّ أنّ في قدرة الله أن يمنح أنبياءه نعمًا، وهو بالفعل يُنعم بها عليهم، وفي مقدوره أن يفعل الأمر نفسه مع النبيّ. إنّ هذا الجَمْعَ بين وصف المشاقّ التي واجهها النبيّ مع كفّار مكّة وبين حكاية قصص الأنبياء السابقين أمرٌ شائع في القرآن، سواء في طِوال السّوَر أو قِصَارها؛ وهو أمرٌ يبدو أنّه يأتي أساسًا من أجل مواساة النبيّ والمؤمنين وتشجيعهم، مع تحذير الكفّار من مصير آخرين فعلوا فعلهم في الماضي ({قَبْلَهُمْ}/ {مِن قَبْلِهِمْ})، وهو جانب سنراه يظهر في آخر آية من سورة مريم[15].

إنّ القرآنَ ينصّ بوضوح على الغرَض الكامن وراء الإشارة إلى قصص الرسل، وذلك في الآية رقم 120 من سورة هود: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. فقصص رُسُل الله لها حضور في كثير من السّوَر، لكنّها جميعًا تأتي في سياقات مختلفة في السّوَر المختلفة، وتُنتقى وَفْقَ ما تستدعيه تلك السياقات[16]. وفي تماشٍ مع غاية القرآن، المنصوص عليها فيه، وهي أن يكون {هُدًى لِلنَّاسِ}[17]، يمكن القول إنّ الأنبياء الماضين جميعًا قد جاؤوا بالرسالة نفسها، وهي وحدانيّة الله والإيمان بكتبه واليوم الآخِر. وإنّ الكفّار السابقين المُشار إليهم في تلك القصص جميعَهم يُثيرون الاعتراضات نفسها التي يثيرها مَن لا يؤمنون برسالة القرآن؛ وفي نهاية الأمر فإنّ الله يُنجّي الذين آمنوا ويعذّب الكافرين.

تمضي سورة مريم على نفس النَّمَط العامّ من توظيف قصص الأنبياء السابقين (وغيرهم من الأشخاص)، ولكنّها تمتاز عن بقيّة سوَر القرآن من طريقَيْن أساسيَّيْن. أوّلًا، نجد أنّ القسمَ يتناول ما يُثيره الكفّار ومصيرَهم يأتي في نهاية السورة، فيما تأتي القصص التي تسرد آلاء الله ونعمه على أنبيائه في بداية السورة. ثانيًا، يُصوَّر فضل الله على هؤلاء الأنبياء باعتباره شيئًا خاصًّا للغاية، ومنه ما أبداه الله من رحمته لهم. وفي القسم الذي يتحدّث عن قصص الأنبياء في هذه السورة، ليس هناك أيّ حديث عن العقاب الوارد في غيرها من السوَر. على سبيل المثال، يُذْكَر موسى في المواضع الأخرى من القرآن بالنظر إلى علاقته بظُلْم فرعون وكيف دُمّر كيدُه؛ أمّا في سورة مريم فلا يُشار إلّا إلى ما أحاط بموسى من رحمة الله. ومثلُ ذلك أيضًا، لا يُشار في قصّة إبراهيم الواردة في سورة مريم إلى قيامه بتحطيم الأصنام أو إلى إلقائه في النار، كما وَرَدَ في بعض السّوَر الأخرى. فمن الواضح إذن أنّ رحمةَ الله بأنبيائه هي لبُّ سورة مريم والموضوع المحوريّ فيها، الأمر الذي يميّزها من بين سوَر القرآن جميعًا؛ وهنا يظهر السؤال: لماذا؟

والجوابُ، في رأيي، أنّ هذه السورة تعكس الموقف والحاجة النفسيّة التي كان يمرّ بها النبيّ عند نزولها. فليسَت السورة من أوائل ما نزل بمكّة، وإنّما نزلَت -وَفْقَ ما يقوله نولدكه[18]- في النصف الثاني من العهد المكّيّ، في وقتٍ كانت تتزايَد فيه معاملة كفّار مكّة المُهينة والقمعيّة للمسلمين، وكان النبيّ وأتباعه يواجهون مخاطر التعذيب والقتل على أيدي أولئك الكفّار. وقد اضطرّ بعضُ المسلمين، بالفعل، في السنة الخامسة من سنوات الدعوة الثلاث عشرة التي قضاها النبيّ في مكّة، إلى الهجرة منها إلى الحبشة. إلّا أنّ كُتُبَ أسباب النزول لا تحوي شيئًا يُحدّد لنا سنةَ نزول السورة[19]، وتقديري أنّ نزولها كان في حوالي سنة 618م؛ استنادًا إلى التأريخ الذي قدّمه نولدكِه[20]، ويرى فيه أنّ كثيرًا من السّوَر قد نزلَتْ في مكّة قبل نزول سورة مريم وبعدها. وإذا صحَّ ذلك، فسيكون معناه أنّها نزلت بعد حوالي ثمانِ سنواتٍ من بدء الوحي في العام 610م، وقبل حوالي أربع سنواتٍ من هجرة النبيّ إلى المدينة [في العام 622م]. وعلينا إذن أن نستنبط الحالة النفسيّة للنبيّ بصورة أساسيّة ممّا يَرِد في النصّ. فمن الملاحَظ أنّ السورة السابقة [الكهف]، في الآية السادسة منها، تسأل النبيّ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}، فيما تؤكّد له السورة التالية [طه]، في الآية الثانية منها، أنّه: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}. فسورة مريم إذن جزءٌ من سلسلةِ سُوَرٍ نزلَت لمواساة النبيّ وتعزيته؛ وهذا أمرٌ واضح من بَدئِها إلى مُنتهاها، كما سنرى في التحليل المعقود في هذه الورقة.

بعد الحروف المُقَطَّعة في الآية الأولى، التي تُنبّه النبيَّ ومستمعيه وتُشير إلى أنّ ما يَعقبُها وحيٌ من الله، نجد في الآية الثانية قولَه تعالَى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}. لا بدّ هنا من التنبيه على أنّ الآية تُشير إلى الله بلفظ {رَبِّكَ}، وفي هذا خطابٌ موجَّه تحديدًا إلى النبيّ. ولأنّ القرآن فيه استجابةٌ للأوضاع والمواقف وتعليقٌ عليها، فإنّ هذه الآية تشير إلى أنّ النبيّ في ذلك الموقف كان بحاجةٍ إلى تذكيرٍ برحمةِ الله لِمَن سبقه من الأنبياء. ولذا وجَب أن يكون السياق هو كَون النبيّ قد ثَقُل عليه ما بدا له من عدم إحراز تقدّم في إقناع الكفّار [باعتناق الإسلام] وصعوبة مهمّته، وكان يأمل في أن يسمع شيئًا من السلوى؛ ومن ثَمّ فإنّ {رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ...} تشير إلى أنّ ربَّ محمّد سيشمله أيضًا برحمته؛ فاستخدام كلمة {رَبِّكَ} في هذا السياق مهمٌّ، فمعناها هنا (ربُّكَ البَرّ)[21]، بما يجعل هذا الخطاب شخصيًّا بدرجة أكبر من الاكتفاء بالقول، مثلًا: (رَحْمَةِ اللهِ عَبْدَهُ...). وفي هذا إشارة إلى أنّ الآيةَ تأتي استجابةً لحاجات النبيّ وآماله. وفي والواقع، يُشار إلى الله في ثنايا هذا السورة السلوى عدّة مرّات بلفظ (رَبّ)، وهو من الكلمات الأساسيّة المتكرّرة فيها.

هذا مثالٌ واحد على سمةٍ مهمّة في القرآن، أسمَيتُها (الردّ)[22]. وهذا الأمر يقع حين يرُدّ القرآن على موقف لم ينصّ عليه، كما لدينا هنا في سورة مريم. ولنضرب مثلًا آخر بالآية الثالثة من سورة الضحى، فبعد القَسَم التأكيديّ الذي بدأت به السورة، يقول الله للنبيّ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. لقد جاءت هذه الآية ردًّا على كفّار مكّة حين قالوا: «قد وُدع محمّدٌ» بعد أن «أبطأ عليه جبريلُ». فقد أغفَلَ القرآنُ ما قالوا، دون أن يعطيه اهتمامًا، وجاء مباشرةً بالردّ. من جوانب ظاهرة الردّ هذه أنّ القرآن يركّز على الأمر المهمّ، ويُغفِل ما أثارَ ذلك الأمرَ من مواقف أو أحداث. ومن المهم أن يعرف المرء كيف يُدرك وجود ردٍّ ما في أيّ موقف محدّد؛ لأنّه دون ذلك لن يعي السياق، وقد يتساءل قارئُ النصِّ القرآنيّ عن سبب الإشارة أصلًا إلى بعض الأشياء في ثناياه.

وبالعودة إلى سورة مريم، فإنّ كلمات الآية: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ} التي تُستهلُّ بها السورة، وما أعقبها من قصص [الأنبياء]، تعطينا إشارةً واضحة على وجود موقفٍ استدعى ردًّا[23]. ومع مواصلتي تحليل سورة مريم، سأشير إلى أمثلة أخرى مهمّة لأسلوب (الردّ) هذا، بما يوضّح أهمّية السياق في توضيح سبب ذِكر بعض الأمور. فالردّ يُحدّد سبب ذِكر أشخاص بعينهم، وما قيل عنهم تحديدًا، ومقداره، إضافة إلى محور القصص المرويّة؛ وتناوُل اختيار مثل هذه المادّة يؤكّد وجودَ ردٍّ، كما سيتّضح في مناقشة الأمر في هذه الورقة. فإنّ النظر إلى سورة مريم من منظورِ تحليلِ غرضها وهدفها سيوضّح مدى الترابط التامّ بين جزأيها، وسيفسّر ما يراه بعض العلماء غيرَ مفهوم. 

تحليل السورة:

 تحوي سورةُ مريم، وهي سورة مكّيّة، 98 آيةً. ويمكن، في رأيي، تقسيم آيات السورة إلى 16 قسمًا، على النحو الآتي:  

زكريا

1- 15

1

الجزء الأوّل

بند فرعيّ عن يحيى

12- 15

1b

مريم

16- 29

2

عيسى

30- 36

3

الاختلافات بين الأجيال التالية

37- 40

4

إبراهيم

41- 50

5

موسى

51- 53

6

إسماعيل

54- 55

7

إدريس

56- 57

8

خلاصة عن هؤلاء الأنبياء، يليها ذِكْرُ سوء سلوك مَن خَلَفَ مِن بعدهم؛ مع الحديث عن جزاء الأعمال خيرِها وشرّها

58- 63

9

 

64- 65

10

 

66- 72

11

 

73- 76

12

 

77- 80

13

 

81- 87

14

 

89- 96

15

 

97- 98

16

سنتناول الآن كلّ قسمٍ من هذه الأقسام على حِدة.

القسم الأوّل: زكريّا ويحيى (الآيات: 1- 15):

  يبدأ القسم الأوّل بالحروف المُقطَّعة {كۤهيعۤصۤ}، التي تمثّل الآية الأولى، وهي مجموعة حروف غير معتادة، لا في عددها ولا في تكوينها. لكنّني هنا لن أدخل في النقاش المعتاد في التكهّن بمعانيها، مكتفيًا بالقول إنّها تنبّه القارئ على أنّه ما يَعقبُها وحيٌ إلهيّ. فالأمر المهمّ هو ما تنبّهنا إليه.

لقد أشرتُ آنفًا إلى أنّ السياق الذي نزلَتْ فيه الآيات كان موقفًا احتاج خلاله النبيّ إلى ما يبثّ فيه شيئًا من الطمأنينة. وهذا ما استدعى أن تُوضَع الآيات التي تتحدّث عمّن سبقه من الأنبياء قبل الآيات التي تتناول ما يمرّ به من مشقّةٍ وعناء مع كفّار مكّة. وهذا السياق ذاته وتلك الحاجة نفسها هي ما استدعى وضع قصّة زكريّا في بداية السورة؛ لأنّها القصّة الأكثر دلالةً وتعبيرًا في هذا الموقف، مع أنّه عاش في وقتٍ لاحق على من ذُكِر في السورة من أنبياء.

إذن، تبدأ السورة بقول الله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}. من المثير للانتباه هنا أنّ الله يقول عن هذه القصة: {ذِكْرُ}، فيما نجد أنّه يقول في القصص التالية: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ}. فلا بدّ من الإشارة إلى أنّه: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} ليست قصّة زكريّا كلّها، بل هو {ذِكْرُ} لحظةٍ ما بعينها، وهي اللحظة التي دعا ربَّه فيها وسأله: {إِذْ نَادَى}. سيُستخدَم حرف (إِذْ) الظرفيّ هذا متبوعًا بفعلٍ ماضٍ مرّاتٍ أخرى في هذه السورة لعرض قصّة السيّدة مريم وقصص عدد من الأنبياء. وعند الحديث عن موسى وإسماعيل وإدريس، نجد هناك وصفًا لكلّ نبيٍّ منهم؛ فيأتي تعبير: {إِنَّهُۥ كَانَ...} متبوعًا بنعتٍ توصيفيّ. ما يَرِد في هذه السورة ليس القصّة الكاملة لأيٍّ ممّن ذُكِروا فيها، ولكنّها تكثيفٌ لجانبٍ واحد من كلِّ قصّةٍ منها بما يخدم هدف السورة ومقصدها.

في الآية الرابعة، ينادي زكريّا ربَّه نداءً خفيًّا، فيقول: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، وهو تعبيرٌ شديدُ الرِّقّة في العربيّة، وفيه كثيرٌ من أحرف الغُنّة، صامتِها وصائتِها، بما يُظهِر شديدَ الخضوعِ والخشوع في دعائه. وهكذا فإنّ وَهَنَ زكريّا واستسلامه يعكسُ -أكثر من غيره ممّن ورَد ذِكرُهم في السورة- حالةَ النبيّ في ذلك الوقت؛ ولذا فقد كان مناسبًا أن يأتي ذِكرُه في مستهلّ السورة لطمأنةِ النبيّ ومواساته. ثمّ أعقَبَت ذلك، بمنتهى الجمال، عبارةُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}؛ وهو تعبيرٌ فيه توكيدٌ لِرجائه. وفي الآية الخامسة، يواصل دعاءه قائلًا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ...}.

زكريّا لا يشغله أمرُ نفسه فحسب، بل استمرار الإرث النبويّ من لدُن يعقوب. {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}، وهو رجاء حارٌّ آخر يرِد في الآية السادسة، وهو مفتوحٌ على جميع احتمالات المعاني: {رَضِيًّا} لربِّه، ولأبَويه وكلِّ مَن سواهما. وتكرارُ كلمة: {رَبِّ} يُظهِر مدى إخلاصه في الدعاء وإلحاحِه في التوسّل والرجاء. فليس من الغريب أن يأتيه الجوابُ على الفور، كما جاء في الآية السابعة، وأعلنه الله -عَزَّ وجَلَّ- بنفسه، بضمير الجمع الدالّ على العظمة: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[24].

 إنّ هذا الجواب الفوريّ لدعاءٍ ورجاء يتجاوز ما قد يُوجد في أيٍّ من القصص الأخرى في هذه السورة، وقُصِد به مواساة النبيّ والمؤمنين. ويأتي إيقاعُ هذا النداء والجواب وقافيتُهما على نحوٍ شديدِ التعبير عن هذا الجوّ من التضرُّع والعطاء الإلهيّ. ويبدو أنّ زكريّا أراد مزيدًا من التأكيد، في خضمّ فرحته واندهاشه، فقال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}؟ فكان الجواب (في الآية التاسعة): {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}. وهذا يوضّح مدى قدرة الله التي لا مِراءَ فيها، وما قد قضاه وقدَّرَه؛ فيواصل زكريّا تضرُّعه: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. 

ثمّ في الآية الثانية عشرة، ينتقل القرآنُ زمانيًّا إلى ما هو متّصلٌ بالسياق، متجاوِزًا جميعَ المراحل البَينيّة، فيتحدّث عن يحيى قائلًا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}، وفي هذا تذكيرٌ بما دعا به زكريا من أن يكون الغلامُ حاملًا للإرث النبويّ في آل يعقوب، أعني: {الْكِتَابَ}. غير أنّ هذه النقلة الزمانيّة لا تؤثّر على فهم القارئ للقصّة أو ما هو منها ذو صلةٍ خاصّة [بالسياق]. وهذا أمرٌ مهمّ؛ لأنّ هناك نقلة زمانيّة أخرى في هذه السورة. ففي استجابةِ الله لرجاء زكريّا ودعائه: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [في الآية السادسة]، يقول الله تعالَى في الآيات 12- 15: {...وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.

هنا تجدر بنا الإشارة إلى أنّ إيتاء يحيى {الْحُكْمَ صَبِيًّا}، أي الحكمة وهو في سنّ الصِّبا، يختلف عمّا قيل عن يوسف وموسى اللذَين أُوتِيا الحكمة في سنّ أكبر من ذلك بكثير[25]. والكلمات المستخدمة في وصف يحيى هنا جميعُها تمتاز بالرقّة، مع وجود أصوات الغنّة والإيقاع والقافية، ممّا يعزّز من الصورة الجميلة للفتى، مُختَتَمةً بـ(السلام عليه) في ثلاث مراحل من حياته: يوم مولده، ويوم موته، ويوم بعثه حيًّا؛ وهي بداية ملائمة للغرض من هذه السورة.

من المهمّ هنا أن نقارن تناوُل [قصّة] زكريّا ويحيى في هذه السورة بما ورَد عنهما في سورة الأنبياء. فتناوُل القصّة في سورة مريم تُحدّده حقيقة أنّه جاء (ردًّا) على الموقف الذي كان يمرّ به النبيّ في ذلك الوقت؛ فتأتي [قصّة] زكريّا مباشرةً في بداية السورة. أمّا في سورة الأنبياء (الآيات 48- 91 منها)، فيحكي لنا القرآن قصص 16 نبيًّا ثمّ قصّة السيّدة مريم؛ ويأتي ترتيب قصّة زكريّا الخامسة عشرة في هذه القائمة، ويتناولها القرآن بشكل مختلف تمامًا: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}[الأنبياء: 89]. فالقصّة هنا مختصرة وواقعيّة وتقريريّة من الله، إِذْ يقول: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى}. في هذا تبايُن مع توقه الشديد وما بدَا جليًّا من ضعفه في سورة مريم. فقول الله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [في سورة الأنبياء] يختلف عن خطاب الله المباشر لزكريّا شخصيًّا في الآية السابعة من سورة مريم: {...إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}. وهذا يوضّح لنا أنّ القرآن لا يحوي مجرّد تكرارٍ للقصص النبويّ، وإنّما ينتقي ويفصّل ويقدِّم زوايا مختلفة لذلك القصص، اعتمادًا على السياق.  

القسم الثاني: مريم (الآيات: 16- 29):

بعد قصّة زكريّا ويحيى، وبدءًا من الآية السادسة عشرة، يأتي القسم الذي يتحدّث عن قصّة السيّدة مريم. ومثل القصص التي أعقبَتها، تبدأ القصّة بأمرٍ موجَّه إلى النبيّ: {وَاذْكُرْ[26] فِي الْكِتَابِ}. من المهمّ أنّ لدينا -في هذه السورة وحدها[27]- تعبيرَ: {فِي الْكِتَابِ} بعد الفعل {وَاذْكُرْ} في قصّة السيّدة مريم وما تلاها من قصص، لتأكيد أنّ هذه المعلومات جزءٌ من {الْكِتَابِ}. ومن المثير للاهتمام أيضًا أنّ يحيى قد أُمِر أنْ: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}، فيما نجد أنّ عيسى يقول: {آتَانِيَ الْكِتَابَ}، وكِلا الإشارتَين إلى {الْكِتَابِ} تؤكّدان مدى أهمّيته. وهذا الترتيب للمادّة القصصيّة هنا منطقيّ؛ لأنّ الله قد كفَّلَ السيّدة مريمَ سيّدَنا زكريّا: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}. وهذه القصص تُوضَع معًا بالترتيب نفسه، في سور آل عمران ومريم والأنبياء. ويبدأ السرد في سورة مريم من المرحلة التي فيها {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}، وتُسبَق هذه الجملة بالظرف الزمانيّ {إِذِ}؛ ولا يرِد شيءٌ من قصّة السيّدة مريم قبل تلك المرحلة. لذا من المفيد هنا أن نشير إلى قصّة السيّدة مريم كما أوردتها الآيات 35- 47 من سورة آل عمران، للاطّلاع على معلومات أَوْفَى عن الأحداث السابقة الأولى في حياتها، لما لها من تأثير على تصرّفاتها الواردة في السورة التي تحمل اسمَها:

 {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}. 

هنا تُصَوَّر امرأة عمران -أمّ مريم- في صورة امرأة شديدة التقوى والورَع، تنذر طفلها الذي لم يُولَد بعدُ لخدمة الله في المعبد. كانت حينها تنتظر ابنًا، ولهذا قالت [بعد ما وَضعَتها]، في نبرةٍ اعتذاريّة على ما يبدو: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}. وقبل أن تواصل حديثها يأتينا كلام الله تعالَى قائلًا إنّه يعلم خيرًا ممّا تعلم، ممّا يشير إلى أنّ طفلتَها أفضل من الطفل الذَّكَر الذي كانت تنتظره. ويستمرّ كلام الله -عزّ وجلّ-: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، (وأداة التعريف (ال) هنا ليست جنسيّة، بل عَهْدِيّة[28]، ما يعني أنّ الذّكَر الذي كانت تتوقّع مولده أقلّ نفعًا لها من الأنثى). وتُواصِل بعد ذلك حديثها، فتقول: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. فمِن المتوقَّع أن تسعى الأمّ إلى طلب الحفظ لابنتها الوليدة وحمايتها من الشيطان، ولكنّ اللافت هنا هي أنّها توسّع نطاقَ هذا الدعاء ليشمل ذرّيّة هذه المولودة. ولم تكن تعلم بحالٍ أنّها آنذاك كانت تدعو أن يحفظ اللهُ عيسى المسيحَ!

وحين سأل زكريّا السيّدةَ مريمَ، في وقتٍ لاحق، عن الطعام الذي كان يأتيها على نحوٍ غامض، أوضَحتْ له أنّ كلّ ما يأتيها {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الذي {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وهنا نرى أنّ زكريّا قد تعلَّم شيئًا من هذا الموقف، فبدأ يدعو اللهَ أن يرزقه ابنًا. وبعد دعاء زكريّا، يحكي لنا القرآن، في الآيتَين رقم 42- 43 من سورة آل عمران، ما يأتي:

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.

بعد أن رسمنا هذه الصورة من سورة آل عمران، يمكننا الآن الانتقال إلى سورة مريم التي تبدأ فيها قصّة السيّدة مريم -بعد أن {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} واعتزلَتهم، وهو ما يبدو جزءًا ممّا أمرها اللهُ به[29]- في المرحلة التي جاءها فيها الملَك {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}. وردّ فِعلها متوقَّع؛ فقد خشيت على عِفّتها (واقرأ أيضًا الآية رقم 12 من سورة التحريم). فعلى الفور، حين رأت الملَك/ البَشَر السويّ يظهر أمامها فجأة في خلوتها، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}[30]. وهكذا كان ردّ فعل السيّدة مريم على ما تصوّرته من خطر وتهديد هو الاستعاذة بالله وطلب الحماية منه. غير أنّ الملَك أوضَح لها أنّه ليس مصدرًا للخطر لتخاف منه، {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. وتمامًا مثل زكريّا، لم تفهم كيف لهذا الأمر أن يحدث، فأجابته قائلةً: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}. فلم يكن ردّ فعلها هو الغضب، بل الصدمة وطلب التفسير والتوضيح لهذا الأمر؛ فكان الجواب الذي أجابها به الملَك هو نفسه الذي أُجيب به زكريّا: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ[31]وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا...}. فكلمة: {رَحْمَة} تتردّد كثيرًا في هذه السورة، وهو ما يلائم الغرضَ من هذه السورة، ثُمّ يُختَتم الجوابُ بقوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ...}.

هنا نجد تطمينًا، تصحبه إرادةٌ إلهيّة لا تتبدَّل. وسنعود إلى هذه النقطة لنناقشها لاحقًا. ثمّ تُعقِب هذا نقلةٌ أخرى في السرد، من الحَمْل إلى مرحلة الولادة، حين لجأت السيّدة مريم إلى نخلة لتستند إليها في ذلك (المكان القَصِيّ)، كما يرِد في الآيات 22- 26 من السورة:

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}.

يمثّل ردّ فعل السيّدة مريم في الآية 23 أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لامرأة حديثة السنّ تخوضُ تجربة الولادة للمرّة الأولى، منفردةً دون أحدٍ يشدّ من أزرها؛ لكن يأتيها حينئذ -لطمأنتِها- نداءٌ {مِنْ تَحْتِهَا}، مشيرًا إلى التمر والماء من حولها ليكونَا طعامها وشرابها، فيُخبرها أن تهزّ إليها {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ} عليها، باستمرارٍ كلّما هزّتها، {رُطَبًا جَنِيًّا}. ولبثّ مزيدٍ من الطمأنينة في قلبها، واصَلَ القولَ: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}. وهذا يُذكّرنا بما كان أمدَّ اللهُ به السيّدةَ مريمَ من (رِزْقٍ) حين كانت (منتبِذَةً من أهلها) ومعتكفةً في {الْمِحْرَابِ}. ولكن في هذه الآية، رقم 26، لا نعرف هُويّة مَن (يُنادِيها)، وقد أثار هذا الأمرُ كثيرًا من النقاش والجدل بشأنه؛ فقال بعضهم: إنّه وَليدُها عيسى يتحدّث إليها، وإنّ هذا الأمر معجزةٌ أخرى من معجزاته، بينما اعترض آخرون على هذا التفسير، قائلين: إنّه لا يليق لأنّ ذلك (موضع اللَّوْث)[32]. ومؤخَّرًا أشارت ليلى أوزغور- الحسَن إلى أنّ هذا النقص في المعلومات واحدٌ من عدد من (الأسرار) المكنونة في هذه السورة[33]. وفي رأيي أنّنا إذ أنعَمنا النظر في مواضع أخرى من القرآن، فسنجد توضيحًا لهذا الأمر؛ ففي الآية الخمسين من سورة المؤمنون، يحدّثنا الله عن السيّدة مريم وابنها، قائلًا: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. وهذا، في رأيي، يُوحي أنّ {مِنْ تَحْتِهَا} تعني: (من تحت الربوة). وفي رأيي أيضًا أنّ الملَك الذي ظهَر في البدء لطمْأنتها يأتيها الآن ليُطمئِنها من جديد عندما حان وقت الولادة.

وبالعودة إلى سورة مريم، تُتابِع الآيات سردَ القصّة قائلة: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}. الأمر {فَقُولِي} هنا فَهِمَه مترجمو القرآن إلى الإنجليزيّة بمعنى: (فقولي لأيّ إنسانٍ [آخَر])؛ وهذا يُحدث تناقضًا: كيف ستقول أيَّ شيءٍ لأيِّ أحدٍ طالما صامَتْ عن الكلام؟ في الواقع، {فَقُولِي} قد تعني أيضًا -في العربيّة-: (قُولي لنفسك...). وممّا يدعم هذه القراءة للنصّ حقيقة أنّ السيّدة مريم يُفترَض أن تقول ذلك لا حين يُخاطِبها أحد، بل حين ترى هي أحدًا، وهذا قد يعني (ولو من بعيد)، فكأنّما الأمر لها بذلك يعني: (ذكّري نفسَك أنّك لن تكلّميهم)؛ وبالتالي فليس ثَمَّ تناقُضٌ في هذه الجملة. ويُختَتم هذ القسم [من الآيات] بوصفِ عودتها إلى قومِها: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}[34].

حين عادت السيّدة مريم إلى قومها تحملُه، وظنّوا أنّها ارتكبَتْ فاحشة، لم تفعل شيئًا سوى الإشارة إلى ابنها [الرضيع]؛ لأنّها نذَرَتْ ألّا تتكلّم. وقد خاطَبُوها بوصف: {أُخْتَ هَارُونَ}، وقالوا لها إنّ أباها كان رجلًا فاضلًا، ولم يكن سَيّئَ الأخلاق، ولم تكن أمُّها من البغايا[35].

القسم الثالث: عيسى (الآيات: 30- 36):

ينتقل القرآن، في الآيات: 30- 33، مباشرةً ليروي ما قاله عيسى بن مريم:

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}.

إنّ موضع هذه الآية في السورة، مباشرةً بعد توجيه الناس سؤالهم إلى السيّدة مريم، قد جعل كثيرًا من المفسّرين -في الماضي والحاضر (باستثناء واحدٍ منهم في حدود عِلْمِي[36])- يعتقدون أنّ عيسى تكلّم على الفور في ذلك الوقت. وهكذا، على سبيل المثال، تقول ليلى أوزغور- الحسَن إنّه «دافَعَ عن أمّه ضدّ اتّهامات الناس»[37].

ويدعم أيضًا هذا الانطباعَ كَونُ جملة: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} متبوعةً -مباشرةً تقريبًا- بالفعل {قَالَ}. وهناك كثيرٌ من قرّاء القرآن الذين يَنتَقون هذه القصّة على وجه الخصوص -أعني قصّةَ البشارة وكلام المسيح- لاستعراض أدائهم الممتاز [في التلاوة]. فحينها يُصبح المستمعون في حالٍ من الطرَب والانتشاء، ويسبّحون الله أمام هَول هذه المعجزة، لا سيّما إنْ وَصَلَ القارئُ الآيتَين في (نَفَسٍ) واحد، فيتكثّف الشعور بأنّ المسيح قد تكلَّم في ذلك الوقت. إلّا أنّي توصّلتُ إلى رأيٍ آخر مفاده أنّ المسيح لم يتكلّم في تلك اللحظة، وأنّ ما يَرِد في هذه الآية جاء بعد ذلك بكثير في مرحلةٍ لاحقة من حياته. وكما أشرتُ آنِفًا، هناك مثال آخر في هذه السورة، في الآية رقم 64، على وجود نقلة زمانيّة في قصّة يحيى. وإضافةً إلى ذلك، في الآية رقم 40 من سورة طه، يمتنّ اللهُ على موسى بعددٍ من نعمه عليه، فنجد انتقالة سريعة من تذكيره كيف نجّاه وأرجَعَه إلى أُمّه إلى اللحظة التي قَتل فيها موسى شخصًا: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ}، وهي لحظة جاءت بعد الأولى بكثير في حياة موسى. ففي القرآن، لا يعني التجاوُر النصّي للأحداث أنّها بالضرورة وقعتْ في الوقت نفسه. إضافةً إلى ذلك، فإنّ الجملة التي قالها عيسى ليس فيها -كما قد يُتوقَّع في تلك الأوضاع بعينها- أيّ دفاع عن براءةِ أمّه، وإلّا لَقال: (أمّي بريئة، وقد خلَقَني اللهُ من دون أبٍ)، كما [هو المعنى الوارد] في الآيتَين 59- 60 من سورة آل عمران: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

لهذا القسم هدفان، بدءًا من الآيتَيْن 32- 33. الأوّل، إعلان وحدانيّة الله، ثمّ تسليمات الله على عيسى المسيح. ومن السهل تخيُّل أنّ النبيّ كان في غايةِ الحُبُور بتلاوة كلمات عيسى؛ فإنّ فيها استجابةً لرغبته في سماع شيءٍ عن رحمة الله التي كانت سبب نزول هذه السورة، خلال تلك الحالة النفسيّة التي مرّ بها. إضافةً إلى هذا المعنى، فإنّ إيقاعَ الكلمات نفسها ورنينَها مؤثّران.

فيما يتعلّق بالهدف الأوّل، فإنّ قولَ عيسى في سورة مريم فيه ردٌّ على فكرة أنّ المسيح ابن الله. فالنصّ نفسُه يحوي دليلَيْن على ذلك.

1. أوّل ما يقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}. ثمّ تتلو هذا [القولَ] قائمةٌ بستّة أشياء ينسبُها عيسى -قصدًا- لله، وجميعُها تؤكّد أنّه {عَبْدُ اللَّهِ}.

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}.

تَرِد كلّ هذه الأفعال في الزمن الماضي، وهو ما يعني أنّ هذا القول يأتي بعد أن وقعت جميع تلك الأمور، وهي قطعًا لم تحدث على الفور بعد مولده. ثمّ يختم عيسى كلامَه بالقول إنّ اللهَ سَلَّم عليه: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}. قد يُقال هنا إنّ {جَعَلَنِی} في هذه الآيات تعني: «قَضَى أن أكونَ [في المستقبل]...»[38]. لكنّ هذا غيرُ محتمَل؛ لأنّه حين يُقصَد بالفعل (جَعَلَ) أن يكون مستقبليًّا فإنّه يأتي في صيغة اسم الفاعل. على سبيل المثال، حين كانت أمّ موسى على وشك أن تُلقِي ابنها في اليَمّ (الآية السابعة من سورة القصص)، يقول الله عن هذه الواقعة: {...وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. وكذلك قال اللهُ لإبراهيم في الآية رقم 124 من سورة البقرة: {...إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}؛ ولذا فإنّ الزمن الماضي في الجملة التي قالها عيسى [الواردة في سورة مريم] لا بدّ أن يؤخذ على ظاهره.

2. الدليل الثاني هو أنّ اللهَ -في نهاية هذه الجملة- يقول (في الآيات 34- 36):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.

من الواضح أنّ هذا جوابٌ على مَن قالوا لاحقًا إنّ عيسى ابن الله. فيستحيل، على أيّ حالٍ من الأحوال، أن يكون قوم مريم فكّروا أنّه ابن الله؛ بل على العكس من ذلك، لا سيّما بعد أن قالوا لها: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}.

في نهاية هذه الجملة يُقال: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}. رأى بعضُ العلماء والمفسّرين[39] أنّ هذه الجملة إمّا قالها عيسى أو النبيّ، ووجدوها غامضةً. لكنّها، في الواقع، لم يَقُلها النبيّ؛ فلا ظهورَ له هنا، ومن دلائل أنّ قائلَها هو عيسى وُرودُها نصًّا في الآية رقم 51 من سورة آل عمران.

هنا نبقى في موقف صعب مع ذلك السؤال الذي أثاروه: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}؟ وللإجابة على هذا، نحتاج إلى النظر في استخدام ألفاظٍ بعينها في مواضع أخرى من القرآن؛ ولنأخذ في البداية تعبير: {فِي الْمَهْدِ}، وهو تعبير نجده أيضًا في آيتَين قرآنيّتَيْن أُخرَيَين تتناوَلان مسألة كلام المسيح، وهما الآية رقم 46 من سورة آل عمران: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، والآية رقم 110 من سورة المائدة: {...تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}. إضافةً إليهما، يُوصف عيسى في الآية رقم 29 من سورة مريم بكَونه: {فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}[40]. وكلمة مَهْد تعني: (مكانًا مُمهَّدًا للطفل الصغير لينام فيه). ومع أنّ الكلمة غالبًا ما تُترجَم في الإنجليزيّة إلى cradle، فإنّه ليس بقطعةٍ من الأثاث كما قد توحي كلمة cradle في السياق الإنجليزيّ. فليس المهدُ بالشيء الذي يحدّ سنّ الطفل كما هو الحال مع سرير الطفل[41]cradle. وبالتالي، فإنّ تعبير: {فِي الْمَهْدِ} لا يعني أنّه فيزيائيًّا (في السرير)، فإنّه قد يعني: (في مرحلةٍ معيّنة من مراحل الحياة) [هي الطفولة]، تمامًا مثلما تعني تعبيرات: (في الشباب)، أو (في الكهولة)، أو (في الشيخوخة).

ولننتقل الآن إلى تعبير: {يُكَلِّمُ النَّاسَ}. لا يبدو أنّ هذا التعبير يعني ببساطة (يتحدّث إلى الناس)، وإنّما (يخاطب الناس على نحو معقول)[42]. فلا معنى للقول إنّه تحدّث إلى الناس حين كَبِر؛ إِذْ لا غرابة في ذلك. إنّما يعني هذا التعبيرُ الحديثَ بحصافةٍ وحكمة، كما يقول الله عن يحيى: {...وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[43]. وحين بَشّرَ الملَكُ السيّدةَ مريم، في الآية رقم 19 من السورة التي تحمل اسمَها، أنّ الله سيَهَبُها {غُلَامًا زَكِيًّا}، فإنّ لفظَ {زَكِيًّا} قد يعني (نقيًّا)، وقد يعني أيضًا أنّه سيحظَى بـ«نماء روحيّ وفكريّ»[44]، ومن ثَمّ فقد يعني هذا التعبير أنّ عيسى أكثر نماءً وتطوُّرًا، من الناحية الروحيّة والفكريّة، أكثر من أندادِه من الأطفال. وليس في هذا إنكارٌ لقدرة الله على أن يجعل طفلًا رضيعًا يتكلَّم -فخلقُ هذا الطفل[45] أكثر إعجازًا من ذلك- بل هذا يعني أنّ التحليل السياقيّ واللغويّ والدلائل من داخل النصّ فيها ما يدعم الرأيَ الوارِدَ في هذه الدراسة.

حين طرحتُ قراءتي لهذا المقطع [من السورة] على عددٍ من العلماء المسلمين، كان جوابهم التقائيّ هو التساؤل «ولكن ماذا عن الحديث [النبويّ]؟» ومع شيء من المجازفة بالوقوع في الاستطراد، سيكون علينا الآن تناوُل حديثِ آحادٍ يرِد في صحيحَي البخاريّ (ومسلم)، وفيه يُروَى عن أبي هريرة أنّه قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «لم يتكلَّم في المهدِ إلا ثلاثةٌ: ...»، ثمّ ذكَرَ بعد ذلك عيسى، وسرَدَ حالتَين أخريَين عن طفلَين غيره[46]. لا يذكر الحديث عيسى إلّا بالإشارة إلى اسمه فحسب، دون طرح أيّ مزيد عن السياق، ولكنّه يفصّل في الحالتَين الأُخريَين؛ وأولاهما عن رجل عابدٍ من بني إسرائيل يقالُ له: (جُرَيْج)، أبَى الاستجابةَ لإغواء إحدى المُومِسات، ثمّ ذهبت إلى راعٍ وأمكنته من نفسها، فحمَلَت منه، واتّهمَت جُرَيجًا بأنّه والد الطفل، غير أنّ الطفل أجاب، حين سأله [جُرَيجٌ] عن أبيه، قائلًا: (الراعي). وفي الحالة الثالثة، كانت هناك امرأة من بني إسرائيل، أيضًا، تُرضِعُ ابنَها، فرأتْ رجلًا ذا شارةٍ ووَسامة يركب خيلًا، فدعَت اللهَ أن يصيرَ ابنُها مثله، فما كان من ابنها إلّا أنّ ردّ على هذا بقوله: «اللهمّ لا تَجعَلني مثلَه». فكلتا القصّتَين عن بني إسرائيل، وفي كلتَيهما يردّ الطفل بكلمة واحدة أو كلمات قلائل. والردود جميعها تتّصل بالموقف، وهدف القصّة هو المغزى المُفترَض منها، وهو مقبول في الإسلام.

يتوجّه عيسى، في سورة مريم، بخطابٍ طويل بعد الآية التي أشارتْ فيها أمّه إليه، ولم يكن فيه -كما رأينا- أيّ شيء يتّصل بالاتّهامات التي وُجِّهت إليها. ولأنّ هذا الحديث النبويّ لا يَذْكُر سوى أنّه كان أحد أولئك الذين تكلّموا «في المَهد»، فلا يمكن التسليم بأنّه يُشير -بوضوح لا لَبس فيه- إلى خطابه الطويل الوارِد في سورة مريم. وبالنظر إلى القصص الأخرى المذكورة في هذا الحديث المُشار إليه، فمن الممكن أنّه لو كان نطَق شيئًا لنطق بتبرِئة أمّه. غير أنّ هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة حديثُ آحادٍ، يتناسب مع التوجيهات الأخلاقيّة، لكنّه لا يُعتدّ به في مسائل الإيمان، بالمخالفة لكلّ هذه الدلائل اللغويّة والسياقيّة المذكورة آنفًا، للتأكيد على أنّ كلام عيسى المطوَّل [في سورة مريم] قد نطَق به حين كان رضيعًا. فمسائل الإيمان لا تقوم إلّا على ما هو قطعيّ الثبوت (من القرآن أو الحديث المُتواتِر) وقطعيّ الدَّلالة[47]. والحديث المطروح هنا غيرُ قطعيّ الثبوت ولا يمكن القطعُ بأنّه يُشير إلى القصّة المذكورة في سورة مريم.

إنّ كان كلامُ عيسى، كما قد أشرنا، لم يقله حين كان رضيعًا، فما زال علينا توضيح ما جرى حين أشارت السيّدة مريم إليه وقال لها قومُها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}، ربّما كان هذا سؤالًا بلاغيًّا استنكاريًّا، لم ينتظروا [منها] جوابًا عنه. والقرآن لم يُفصِح عن هذه النقطة، تمامًا كما لم يُفصِح عمّا وقع مع زكريّا وقومه بعد أنْ {...أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. كما أوضحتُ آنفًا، هنالك نَقْلة [واضحة بعد هذا الخطاب من زكريا إلى قومه] لتوجيه الأمر إلى يحيى أن يأخذ الكتابَ بقوّة. وقد أشرنا إلى أنّ مثل هذه النقلات الزمانيّة شيءٌ معتادٌ في الأسلوب القرآنيّ، مع انتقاله إلى المسائل ذات الصِّلة بالرسالة التي ترمي إليها السورة. والنقلة هنا لجعل المسيح يخبرنا عن الشيء الأهم والأساسيّ في حياته ورسالته: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا...وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. ولو كان عيسى فعلًا تكلَّم في المهد، لَانشغَل قومُ السيّدة مريم بتسبيح الله وتمجيده، ولَطاروا بالخبر ينشرونه لتبرئتها بأقوى الدلائل. غير أنّ هذا لم يرِد عنهم إطلاقًا؛ بل من الواضح في القرآن (الآية رقم 156 من سورة النساء) أنّهم استمرّوا في ذلك القول والاتّهام[48].

القسم الرابع: الاختلافات بين الأحزاب التالية (الآيات: 37- 40):

يبدو أنّ هذا القسم -الذي يتناول كيف اختلفت الأحزاب فيما بينها، ويتنبّأ بما سيَلقاه هؤلاء الذين جحدوا الحقّ وكفروا به من الوَيل والمعاناة حين يأتي ذلك اليوم العظيم- ما يزال يشير إلى أَتْبَاع عيسى الذين جاؤوا مِن بعده، بعدما أوضح [لأتباعه الأوائل] أنّه يرفض قطعًا أيّ زعمٍ بأنّه ابن الله. ويُنْذِر القرآن هؤلاء ما سيَلقونه في يوم القيامة {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}، ويختتم ذلك الإنذار بتأكيد أنّهم جميعًا {...إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}؛ عائدين إلى الله ليواجهوا العدالة.

القسم الخامس: إبراهيم (الآيات: 41- 50):

بعد الخروج عن التسلسل الزمنيّ ووَضْع زكريّا ومريم وعيسى أوّلًا، لملاءمة سياق القصّة، ينتقل القرآن زمانيًّا مَرّةً أخرى في الآيات 41- 50 من السورة، ولكن إلى الوراء في التاريخ: من عيسى إلى إبراهيم. وأرى أنّ وَضْعَ هذه القصّة عن إبراهيم في هذا الموضع يعمل على إبراز تأكيد القرآن على التوحيد وإنكار أيّ درجة من الشرك؛ في كلٍّ من قصّة عيسى تتلوها قصّة إبراهيم. تبدأ قصّة [إبراهيم] بقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ}، ويتكرّر هنا للتشديد وللتأكيد على الرسالة (أو التذكير) في عقل النبيّ، فقصّة إبراهيم هذه هي الأولى [من بعد القصص السابقة] ضمن عدّة قصص ترِد في الأقسام القليلة التالية. في هذه القصص يصف القرآن لنا إبراهيم (الآية 41) وإدريس (الآية 56) بأنّ كلًّا منهما {صِدِّیقًا نَبِيًّا}[49]، في حين يصف إسماعيل (الآية 54) بأنّه كان {صَادِقَ الْوَعْدِ}. وهذا يُذكّرنا بالميثاق الذي أخذه الله من النبيِّين، وأنّه سيَسألُ {الصَّـادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ}. فكلُّ نبيٍّ من هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة أبْدَى ثباتًا لا يتزعزع في الوفاء بما عاهد عليه الله. في قصّة إبراهيم، نجده يَفِي بوعده لأبيه حين قال له: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، ولكنّ الله يُؤنِّبه على ذلك في الآية رقم 114 من سورة التوبة[50]. وعلى صعيدٍ آخر، صدَّق إبراهيمُ الرؤيا -التي أراه اللهُ إياها- بأنّه يذبح ابنَه الوحيد (الآية رقم 105 من سورة الصافّات). وبالتالي، فهذه الإشارات إلى الثبات وصدق الوعد مع الله هي أمثلةٌ يضربها الله للنبيّ لتكون قدوةً حسنة له. فالسورة تمنحه الطمأنينة وتعلّمه [الصبر والثبات].

ولقد كان إبراهيم منشغلًا بأبيه، وفي الوقت ذاته كان شديد اللِّين عند توجيه الكلام إليه، ويعطيه الحُجَج المقنعة المناسبة، سائلًا إيّاه:

{...يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}.

غير أنّ جوابَ أبيه كان حادًّا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}، فكان ردُّ إبراهيم على هذا: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}[51]. وكما أشرتُ آنِفًا، فإنّ ما تؤكّد عليه هذه السورة هو لُطفُ إبراهيم ولِينُ جانبه. وتُختَتم هذه الآيات بالإشارة إلى رضوان الله على إبراهيم الذي {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، ثُمّ تُعقِبُها آيةٌ أخرى تقول: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}. وفي هذا مثالٌ آخر، ضمن هذه السورة، على أنّ اللهَ يبسُط رحمته في أزمنة العُسر؛ وهذا كلُّه لطمأنة النبيّ، تماشيًا مع هدف السورة.

القسم السادس: موسى (الآيات: 51- 53):

في هذه الآيات الثلاث[52]، يُوصَف مُوسى بأنّه {كَانَ مُخْلَصًا}، وبأنّه أيضًا {...كَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}. ويتكلّم اللهُ في هذه الآيات بنون العظمة لتكريم موسى، مستخدمًا، مرّةً أخرى، تلك الكلمات الأساسيّة: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا}.

القسم السابع: إسماعيل (الآيتان: 54- 55):

من الناحية الزمانيّة، تدعو هاتان الآيتان المؤمنين أن يذكُروا، أيضًا، {فِي الْكِتَابِ} قصّةَ إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}. كان ينبغي لهاتَين الآيتَين أنْ تَتبعَا مباشرةً الآياتِ المتعلّقةَ بأبيه إبراهيم؛ لكنّه هو وإدريس حَلّا في نهاية هذا التسلسُل [النبويّ]، ولم ترِد في قصّة أيّ منهما تلك الكلمة الأساسيّة {وَهَبْنَا}. وقد وُصِف إسماعيل هنا بأنّه {صَادِقَ الْوَعْدِ}[53]، وتخبرنا الآيتان أنّه نتيجة لسلوكه التقيّ هذا نالَ رضا الله: {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرْضِيًّا}.

القسم الثامن: إدريس (الآيتان: 56- 57):

هذه الإشارة السريعة للغاية إلى قصّة إدريس[54] تؤكّد، من جديد، أنّ هذا النبيّ المذكور كان {صِدِّيقًا}، وأنّ اللهَ قد شمله برضاه فأعلى درجته ورفعه {مَكَانًا عَلِيًّا}.

وفي هذا ختامٌ لما ترويه السورة عن بعض الأنبياء المُختارين بشكلٍ خاصّ، مع صفات مُنتقاة على نحو مُحدّد، بما يُلائم هدفَ السورة، كما أشرتُ سابقًا؛ ولا شيء هنالك ممّا لا يناسب هذا الهدف.

القسم التاسع: ملخّص عن هؤلاء الأنبياء، وسوء سلوك مَنْ خَلَفَهم؛ ثواب مَن أحسن وعقاب مَن أساء (الآيات: 58- 63):

يصف هذا القسمُ جميعَ هؤلاء الأنبياء وذرّيتهم بأنّهم قد {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، وأنّهم {...مِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. فهؤلاء ضُرِبوا مثلًا للنبيّ والمجتمع الذي أقامه. وبعد التحذير من مصير الأجيال التي تلَتْهم، وهم {خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، نجد وصفًا لما يَحظَى به {مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} من نعيم الجنّة؛ {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. ولكنّنا لن نتعرّف على كيفيّة تصرّف الكفّار إلّا في الجزء الأخير من السورة.

القسم العاشر: خطاب الملائكة للنبيّ (الآيتان: 64- 65):

يُنظَر إلى هذا القسم من السورة باعتباره غامضًا وغيرَ ذي صلة[55]، لكنّه شديد الاتّصال بما سبقه. فعلينا قراءة هاتَيْن الآيتَيْن (64- 65)[56] على أنّهما مثالٌ على وجود نَقْلة (في المنظور، هذه المرّة). وهما أيضًا مثال على فكرة (الردّ). فمن الواضح، مُعجميًّا، أنّ العبارة الأولى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} تأتي على لسان الملائكة، وفيها قَصْرٌ في جملتها باستخدام النفي والاستثناء: (ما) و(إلّا)، فكأنّها ردٌّ وجوابٌ على شخص يفكّر في شيء آخر أو يتوقّعه، وهو في هذه الحالة كون النبيّ يتوقّع نزولَ الملائكة إلى الأرض؛ الأمر الذي يُشير إلى أنّه بعد سماعه تلك الرحمات الغامرة التي شَمَلَت الأنبياء السابقين تمنّى لو أنّ ملاكًا من الملائكة يحمل إليه رحماتٍ مماثلة؛ ولذا أخبرته الملائكةُ أنّهم لا ينزلون إلّا بإذن الله، الذي له الحُكم عليهم جميعًا ويُسيّرُهم وَفقَ إرادته، وطمأنتَه أنّ ربَّه لا يَنساه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. الكلمة الأبرز في هذه الآية هي {رَبّكَ}، التي ورَدَت في بداية السورة: {رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}، ويتردّد صداها هنا لربط كلتا الآيتَيْن بالموضوع الأساسيّ للسورة. لكن دون رؤية هذا التكرار المقصود قد نغفل عن هذا الرابط، فالآية الأخيرة هنا تقول للنبيّ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}؛ وبالتالي، فهي هنا طمأنةٌ له، مع أمرٍ بأن يستمرّ في عبادته لله. وهذا أمرٌ قاطع، تمامًا كما في حالة السيّدة مريم، حين أخبرها الملَك أنّه {...كَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}؛ قد غمرتها الرحمة، ولكن لا مفرّ ممّا قضاه الله، وعليها أن تُسلِّم لأمره. وكذا يجب على النبيّ أيضًا التسليم، وعليه أن يواصل العبادة في مواجهة ما سيقوله الكفّار ويفعلونه؛ وهو ما سيرِد في الجزء الأخير من السورة، وقد تأجّل ذِكرُه على عكس النمط المعتاد، كما أشرتُ سابقًا.

الجزء الثاني:

يبدأ هذا الجزء الثاني من السورة بحرف الواو {وَ...}، وهي أداةٌ للربط والتماسُك، تصل الجزأين وتربطهما معًا. فقد انتهى الجزء الأوّل بالحديث عن عقاب الكفّار في جهنّم، مع وعدٍ بجنّات عدنٍ لمَن عمل صالحًا، وأمرٍ للنبيّ بالاصطبار على العبادة؛ فيما يبدأ الجزء الثاني بتناوُل المصير الذي ينتظر مَن أنكروا البعث.

القسم الحادي عشر: إنكار البعث (الآيات: 66- 72):

يُفْتَتح هذا القسم بالآية: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}، ومن الواضح أنّ استخدام كلمة (الإنسان) هنا ينطبق فقط على مَن أنكروا البعث[57]، وجَليٌّ أنّها لا تشمل كلَّ البشر، فالأنبياء وصالحُ المؤمنين ليسوا مشمولين فيها هنا. وكما نعرف من القرآن نفسه، فإنّ هذه التعبيرات عن التكذيب والإنكار والشكّ قد أحزنَت النبيّ (كما في سوَر الأنعام [33]، وطه [130]، ويس [76]، والمُزَّمّل [10])، لدرجة أنّ الله سألَه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف: 6]، و{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء: 3]؛ ولذا كانت آياتٌ من القرآن تُخبره: {فَٱصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}[58].

هناك، في الجزء الثاني من السورة، أربعة أمثلةٍ على تلك الأقوال الشنيعة وفعلٌ واحد في الآية رقم 81، حيث يُنكر الكفّارُ وحدانيّةَ الله من خلال اتّخاذهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً}؛ وذلك لينالوا منهم العَون والدعم: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}، وأيضًا من خلال نسبة الولد إلى الله[59]. ونلاحظ هنا أنّ القرآن، في هذا القسم، يسرد لنا ما زعموا ثُمّ يردّ عليه. وبالتالي، فبعد أن أنكَر الكفّارُ البعثَ في الآية رقم 67، نجد أنّ القرآن ساقَ -ردًّا عليهم- سؤالًا آخر: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}[60]، بعد هذا السؤال/ الردّ، يؤكّد القرآن للنبيّ على أنّ الكفّار سيُرجَعون إلى الله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}. ويرسل الله برسائل الوعيد للكفّار، مُقسِمًا بذاته العَليّة، قائلًا: {فَوَرَبِّكَ} (وهي كلمة أساسيّة ورَدَت من قبل في الآية الثانية والآية رقم 64 لتشدّ من أزر النبيّ): {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}. وتأتي هذه اللغة القويّة ردًّا على عناد الكفّار؛ وهي في مقابلة حادّة مع ما نُقل عن يحيى وعيسى وإيمانهم بالبعث والقيامة.

القسم الثاني عشر: الاستهزاء بالمؤمنين (الآيات: 73- 76):

هذا القسم يعطينا مثالًا آخرَ على سلوك الكفّار المُشين، فيتحدّث عن طمع الإنسان وجَشَعه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}. وذلك السلوك المُشِين للكفّار يتناقض تمامًا مع فعل الذين {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}، كما وَرَدَ في السورة سابقًا. كان من غرور أمثال أبي جهل دأبُهم على القول: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا}، وكانوا يرون أنّ أولئك الذين يتّبعون الوحي [الإلهيّ] ليسوا سوى الأضعف والأدنى رتبةً في المجتمع. ويتكرّر هذا القول مرارًا في القرآن، فيرِد في سوَر الكهف وسبأ والجنّ والمدّثّر، وغيرها[61]. ويحكي القرآن عن قوم نوحٍ أنّهم قالوا له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}[هود: 27].

يأتي في هذا القسم ردٌّ على هذا الغرور، ففي الآية رقم 75: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا}. وفي الآية التي تليها، يُقابِل الله بين هذا الغُرور وبين هدايته للمؤمنين: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا}.

القسم الثالث عشر: غطرسة الكفّار (الآيات: 77- 80):

 {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}.

يقدِّم هذا القسم الموجَز، المكوَّن من ثلاث آيات، مثالًا آخر على الغرور والوقاحة لدى شخصٍ آخر من الكفّار، لم يكن حتّى لديه مال أو وَلد؛ وتعرِض الآيات للمصير الذي ينتظره. ويتناقض كلامُ الرجل المذكور هنا، الذي {...قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}، تمامًا مع نداء زكريّا الحارّ وابتهالِه إلى الله، في مطلع السورة، أن يرزقه ولدًا.

لكنّ الله يردُّ ما يفترضه هذا الرجل، ويوجِّه إليه سؤالًا استنكاريًّا: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}؟ ويجيبه أنّ الله سيَرِثُه ما كان يتمنّى الحصولَ عليه من ثروة وأولاد، وأنّه سيعود إلى الله {فَرْدًا}، فيقول الله في آيةٍ لاحقة بعد ذلك: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}؛ وهي كلمة ترِد -كما سنرى لاحقًا- قرب نهاية السورة، في الآية رقم 95[62]. 

القسم الرابع عشر: عبادة الأوثان (الآيات: 81- 87):

 يبدأ هذا القسم بعرض ذلك الذّنْب المقترن بجميع ما وَرَد [في ذلك الكلام] آنفًا: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، وبعد ذلك يُخاطِب الله النبيّ في شخصه، سائلًا إيّاه في الآية رقم 83: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}؟ ومن ثمّ فإنّ عليه ألّا يستعجل إنزالَ العقوبةِ بهم: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ}. وهذا يُذكّرنا بالأمر الذي ورَد من قبل، في الآية رقم 65، حين أُمِرَ [النبيّ] أن {...اصْطَبِرْ لِعِبَـادَتِهِۦ}. ثمّ تصف الآيات من 84 إلى 87 مصيرَ الكفّار، فتقول: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}.

فقد افترض المُشرِكون أنّ هذا النفوذ والقدرة على الشفاعة والوساطة أمرٌ اختُصّ به [مَن سَمّوهم] بَنَات الله (أي الملائكة). 

القسم الخامس عشر: نسبةُ الولد إلى الله (الآيات: 88- 96):

تقول الآية رقم 88: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}. وتصوِّر الآياتُ التالية لها ذلك الزعمَ أنّ لله ولدًا بأنّه أفظع خطاياهم؛ فهو متناقضٌ تمامًا مع الآية رقم 35: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}، ويوضِّح القرآن، في عددٍ من الآيات، أنّ الله خالقُ الأرضِ والسماوات وما بينهما وما دون ذلك[63]. وبالتالي، فإنّ أفظع خطاياهم أن ينسبوا الولد إلى الله، كما تصف الآيات 89- 95: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}.

 فقد أحصى اللهُ عبادَه في السماوات والأرضين وعَدَّهم تمامًا، وهم جميعًا -دون استثناء- عبدٌ لله، وهو أوّل ما وَصَف عيسى نفسَه به في الآية رقم 30 من هذه السورة. ثمّ بعد الفراغ من هؤلاء الكفّار، يَعِد الله المؤمنين بمصيرٍ مختلفٍ تمامًا، فيقول في الآية رقم 96: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. 

لم ترِد كلمة (وُدّ) في القرآن سوى مرّة واحدة، هي هذا الموضع؛ والكلمة مرتبطة بـ(الوَدُود) أحد أسماء الله الحسنى. وهي ملائمةٌ تمامًا هنا، حيث تُكلِّل الفكرة الأساسيّة للسورة ومحور الجزء الأوّل منها، وهو الرحمة، فتُضيف إليها بُعدًا آخَر. وهذه ميزة شديدة الخصوصيّة مقارنةً بما يناله آخرون أُشير إليهم في الآية السابقة (95). وهذه الآية (96) تُوازي ما جاء في الآية رقم 63 التي انتهى بها أحدَ أقسام الجزء الأوّل، والتي يقول الله فيها: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}.

القسم السادس عشر: خطاب أخير إلى النبيّ (الآيتان: 97- 98):

تُختَتَم السورة بآيتَيْن تدوران حول توجيه النبيّ في واجبه النبويّ، وهو مهمّته الوحيدة؛ أي: نَقْل البُشرى والإنذار فحسب، لا هداية الناس أو إدخالهم في الدِّين. وفي الآيتَين تذكيرٌ بما نالَ القرونَ السابقة من عقاب.

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.

ويأتي أوّلًا الأمر بنقل البُشرى، ليتناسب مع الجزء الأوّل من السورة، فيما يأتي التحذيرُ تاليًا، تمامًا كما تأخّر الحديثُ عن الكفّار في الجزء الثاني منها[64]. وبعد أن سردَت علينا السورة جميع آثام الكفّار وجرائرِهم، اختُتِمَت بخطابٍ آخر إلى النبيّ، يأتي ردًّا على ما لم يُرْوَ هنا؛ أي تلك الحال من القلق الذي كان يُساوِرُه. ويبدأ هذا الخطاب بأداتَيْن: الفاء التفسيريّة و(إنّما) للقَصْر؛ وبذلك يشرح هذا الخطاب ويفسّر للنبيّ مهمّتَه ويَقصُرها على نقل البُشرى والإنذار. ولتوضيح تلك الحالة غير المُعْلَنة، فإنّه يعني: «لا تنشغل بإصرارِهم وعنادِهم، ولا تفسّره بأنّه نتيجة إخفاقٍ في أداء مهمّتك»[65].

تُختَتَم السورة بمزيدٍ من الحثّ للنبيّ والعون له، في صورة تذكيرٍ بمصير القرون السابقة من الكفّار: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}؟ هذا السؤال البلاغيّ الأخير فيه خطاب شخصيّ مباشر للنبيّ، وفيه طمأنة له بأنّ الله سيكفيه أيضًا ما واجَه من صدود القرن الذي كان فيه. وبالتالي، وكما نرى، فإنّ كِلا الجزأين في السورة تشجيعٌ له وتقوية؛ فعلى مستوى السورة ككلّ، يجدر بنا الإشارة إلى أنّ أُولى كلماتها (بعد الحروف المُقطَّعة) هي {ذِكْرُ}، والكلمة الأخيرة هي (رِكْز)[66]، وكلتاهما على نفس الوزن (فِعْل). تشترك هاتان الكلمتان في حرفَيْن ساكنَيْن (هما الكاف والراء، باختلافٍ طفيفٍ في نطق الذال والزاي)؛ ولذا فإنّ نطق حروفهما يكاد يكون في ترتيب عكسيّ؛ فنرى مُقابلةً بين الحديث [الذّكْر] والهمس [الرّكْز]، تمامًا كالاختلاف بين الرحمة والإهلاك {رَحْمَتِ رَبِّكَ} (الآية الثانية)، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} (الآية 98). وبالتالي، يتّضح لنا خطأ الافتراض الذي يرى أنّ جُزأي السورة ليس بينهما صلة، أو أنّ من الممكن تناوُل الجزء الأول منفصلًا عن الثاني. فالمقابلة والصّلة بين الجزأين تتجلّى من خلال مقارنة ذلك (الذّكْر)، على الدوام {فِي الْكِتَابِ}، وذلك الإهلاك التامّ للقرون السابقة من الكفّار، حتّى ما عُدتَ {تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.

خاتمة:

يُبرِز هذا التحليلُ السابق كيف أنّ كِلَا جزأي السورة فيه تشجيع وتقوية للنبيّ، وهذا الهدف يَحكم بنيتها وتركيبها. وفي الواقع، من السِّمات البارزة لهذه السورة أنّها، مِن بدئها إلى مُنتهاها، موجَّهَة للنبيّ، باستخدام صيغة الخطاب إلى الحاضر؛ ضمائر وأفعالًا، مع الأمر المباشر. على سبيل المثال، سنجد تعبيرات مثل: {رَحْمَتِ رَبِّكَ}، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} (عدّة مرّات)، {بِأَمْرِ رَبِّكَ}، {وَاصْطَبِرْ}، {فَوَرَبِّكَ}، {قُلْ}، {فَلَا تَعْجَلْ}، {يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}، {هَلْتُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}. فالسورةُ بأكملها خطابٌ للنبيّ. ومع أنّ الأمر نفسه ينطبق على بعض السوَر الأقصر، مثل: الضحى والشرح والكوثر والنصر، فمن غير المعتاد أن يكون الأمر بالوضوح الشديد في سورة طويلة مثل سورة مريم.

وبالتالي، فإنّ كلّ هذا دليلٌ يؤكّد كونَ هذه السورةِ (ردًّا) على موقف والحالة النفسيّة للنبيّ الذي كان بحاجة إلى تشجيع وتذكيرٍ برحمة الله، تمامًا كالذي نالَ جميعَ الأنبياء السابقين، فكان يأمل أيضًا في شيءٍ مماثل يناله هو أيضًا. في الجزء الأوّل، جاءت هذه السلوى في صورة أمثلة على رحمة الله بالأنبياء السابقين، بينما في الجزء الثاني كانت من خلال سردِ ما يقوله الكفّار، مع إخلاء النبيّ من أيّ مسؤولية عن هدايتهم، وتذكيره بأنّ كثيرًا من القرون السابقة من قبلهم قد أُهلِكوا ولم يَعُد بإمكانه -ولا غيره- أن يسمع منهم همسًا. وبين الجزأين، نجد أنّ الآية رقم 64 فيها تذكيرٌ للنبيّ بأنّ الملائكة لا تتنزّل عند طلبه، بل تتنزّل فقط {بِأَمْرِ رَبِّكَ}. وكون هذه الآية تُختَتَم بالقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} يمنحه رجاءً أنّ الله لم ينسَه، وأنّه سينالُه شيءٌ من الرحمات والنعم التي نالت الأنبياء السابقين. وبهذا تكون وظيفة هذه السورة قد تمّت على أكمل وجه.

من الشخصيّات الستّ الأساسيّة في هذه السورة؛ نجد هناك ثلاثة منهم يَدْعُون طلبًا لشيءٍ ما، وهم: زكريّا، وإبراهيم، وموسى. والآيات التي تتناوَل أدعيتهم تشتمل على تعبيرات من قَبيل: {هَبْ لِي} أو {وَهَبْنَا}، ولكن ليست هناك أدعية من إسماعيل أو إدريس. أمّا السيّدة مريم فلم تسأل شيئًا؛ وإنّما كان مُقرَّرًا لها أن تُوهَب [فأخبرها الملَك أنّه رسولٌ] {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}؛ ومن بين جميع تلك الشخصيّات، كانت -في الحقيقة- هي الشخصيّة التي تنقل لنا السورة أنّها كانت تمرّ بمعاناة شخصيّة نتيجة ما مُنِحَته ووُهِبت إيّاه. ولكن بالطبع يقول الله (في الآية رقم 21): {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا}، ويقول أيضًا (في الآية رقم 50 من سورة المؤمنون): {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}؛ وكما أشرنا من قبل بالفعل، فإنّ اسم السيّدة مريم يُذكَر دائمًا عند الإشارة إلى السيّد المسيح في القرآن[67]. وقد كانت -أكثر من غيرها- مدعاةً لاجتذاب التعاطف واستعطاف القلوب: فهي امرأة شابّة تمرّ بتجربة شديدة الألم، فتلِد وحيدةً، وبعد كلّ ذلك عليها أن تواجه قومَها واتّهاماتهم لها. ومن المهمّ أنّ السلوى والعزاء للنبيّ يأتيان في سورة مريم؛ فقد كان عليها هي أيضًا أن تُسلِّم لأمر الله، تمامًا كالنبيّ الذي أُمِر أن (يصطبرَ في عبادته [لله])، حتّى وإن لم يأتِ الغوث والمعونة على الفور أمام ما يُلاقي من اتّهامات وردَت في الجزء الثاني [من السورة].

قلنا آنِفًا إنّ هذه السورة جاءت ردًّا على حاجة النبيّ إلى الشعور برحمة الله وعونه، وقد تحقّق هذا على النحو الآتي: أوّلًا، [تحقّق] في الجزء الأوّل من السورة، حيث عرض رحمة الله بالشخصيّات المذكورة في هذا الجزء. ثانيًا، في القسم الذي يصل بين الجزأين، يُقال للنبيّ إنّ الله لا ينساه، ويأمُره أنْ: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}. ثالثًا، في الجزء الأخير يؤكّد الله على عونه للنبيّ من خلال الردّ على الكفّار بعدد من الطرق؛ منها الجواب المنطقيّ على ما يقولون، وتحذيرهم أنّهم سيحاسبون على أفعالهم في اليوم الآخِر، والقول إنّ دورَ النبيّ هو البُشرى والإنذار فحسب، مع تذكيره أنّ الله أهلكَ كثيرًا من المشركين في القرون الخالية، ومن ثَمّ يأتي السؤال للنبيّ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}؟

لقد بيَّنّا أنّ الغايةَ من سورة مريم هي تقديم العزاء والسلوى والعون للنبيّ. وتشتمل السورة أيضًا على (دروس وتذكير للمؤمنين) وتوصيف جميل لدعاء زكريّا وتضرُّعه إلى الله طلبًا لنعمة الولد، إضافة إلى [قصص] يحيى وعيسى وإسماعيل وإدريس، ووصفٌ لكيفيّة تعامُل إبراهيم مع أبيه ولما نالَ موسى من الرحمة والقُرب؛ وكلّ ذلك يعطي [النبيّ] أمثلةً سلوكيّة للاقتداء. ولا بدّ أنّ تكرار الفعل {هَبْ لِي} و{وَهَبْنَا} قد كان فيه سلوى وعزاء للنبيّ؛ وما زال هذا الأمرُ حين يتلو السورةَ القرّاءُ الأكثر تأثيرًا -سواء في الإذاعة أو التلفاز أو المساجد- بأصواتٍ إيقاعيّة وموسيقيّة للأسلوب القرآنيّ يمنح المستمعين لهذه السورة أو مَن يقرؤونها الرجاءَ أنّ دعاءهم وتضرُّعهم قد يُستجاب أيضًا ويُغدِق الله عليهم من نعمائه وخزائنه التي لا تنضب.

Bibliography

Abdel- Haleem, Muhammad, Exploring the Qur’an: Context and Impact (London: I.B. Tauris, 2017).

Abdel- Haleem, Muhammad, and ElSaid Badawi, Arabic- English Dictionary of Qur’anic Usage (Leiden–Boston: Brill, 2010).

AlHassen, Leyla Ozgur, ‘A Structural Analysis of Sūrat Maryam, Verses 1–58’, Journal of Qur’anic Studies, 18: 1 (2016), pp. 92–116.

Bell, Richard, The Qur’an: Translated, with a Critical Re- Arrangement of the Surahs (2 vols., Edinburgh: T. & T. Clark January 1960).

Gökkir, Bilal, ‘Form and Structure of Sura Maryam–A Study from Unity of Sura Perspective’, Süleyman Demirel Üniversitesi İlahiyat Fakültesi Dergisi 16: 1 (2006), pp.1–16.

Lane, E.W., Lane’s Lexicon (8 vols, Beirut: Libraire du Liban, 1968).

Neuwirth, Angelika, Studien zur Komposition der mekkanischen Suren: Die literarische Form des Koran—ein Zeugnis seiner Historizität? 2., durch eine korangeschichtliche Einführung erweiterte Auflage (Berlin–New York: Walter de Gruyter, 2007).

Robinson, Neal, Discovering the Qur’an: A Contemporary Approach to a Veiled Text, 2nd edn (Washington DC: Georgetown University Press, 2003).

Toorawa, Shawkat, ‘Sūrat Maryam (Q. 19): Lexicon, Lexical Echoes, English Translation’, Journal of Qur’anic Studies 13: 1 (2011), pp. 25–78.

Wensinck, A.J., Concordance et Indices de la Tradition Musulmane (8 vols, Leiden: Brill, 1967).

= البخاريّ، أبو عبد الله مُحمّد بن إسماعيل، الجامع المُسنَد الصحيح المختصَر من أمور رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وسننه وأيّامه.

= حسّان، تمّام، (السبع المثاني [الآية رقم 87 من سورة الحِجر])، مجلّة الدراسات القرآنيّة [لندن]، 6: 2 (2004م)، ص184- 172[68].

= الرازيّ، فخر الدين، التفسير الكبير، أو مفاتيح الغيب (بيروت: دار الفكر، 1981م)، 32 مجلَّدًا.

= شلتوت، محمود، الإسلام: عقيدةً وشريعةً (القاهرة: دار الشروق، 1990م).

= مَجمَع اللغة العربيّة، المعجم الوسيط (القاهرة: مَجمَع اللغة العربيّة، 1985م).

= نولدكه، تيودور، تاريخ القرآن (زيورخ: مؤسّسة كونراد أديناور، 2000م).

= الواحديّ، عليّ بن أحمد، أسباب النزول (القاهرة: مؤسّسة الحلبيّ، 1968م).

  

 [1] العنوان الأصلي للمقالة Sūrat Maryam (Q. 19): Comforting Muammad، وقد نُشِرَت بالعدد الثاني من المجلّد 22 من مجلّة الدراسات القرآنيّة [لندن]، بتاريخ حزيران/ يونيو 2020م.

[2]  ترجم هذه المقالة، إسلام أحمد، باحث ومترجم له عدد من الأعمال المنشورة.

[3] بخصوص {اصْطَفَاك}، يمكن مراجعة الآية رقم 33 من سورة آل عمران (عن عيسى) والآية رقم 47 من سورة ص (عن الأنبياء)؛ وبالنسبة إلى {طَهَّرَك}، يمكن مراجعة الآية رقم 55 من سورة آل عمران (عن عيسى) والآية رقم 33 من سورة الأحزاب (عن زوجات النبيّ).

[4] يقصد هنا ما قالته السيّدة مريم في السورة، أيْ ما نطقَت به؛ وإلّا فإنّ هناك آيات أخرى تتحدّث عنها. والآيات التي تتحدّث فيها السيّدة هي: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}(18)/ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}(20)/ {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}(23). [المترجِم].

[5] انظر مثلًا:

AlHassen, ‘A Structural Analysis’.
Robinson, Discovering the Qur’an.
Neuwirth, Studien zur Komposition der mekkanischen Suren.
Toorawa, ‘Sūrat Maryam’.

[6] شوكت توراوا (1963م-...) Shawkat Toorawaأكاديميّ بريطانيّ، وأستاذ الأدب العربيّ بقسم لغات وحضارات الشرق الأدنى في جامعة ييل الأمريكيّة. كان زميلًا زائرًا في مركز أكسفورد للدراسات الإسلاميّة في العام 2007م. عاش في العديد من البلدان، منها إنجلترا وفرنسا وهونغ كونغ وسنغافورة وموريشيوس والولايات المتّحدة الأميركيّة؛ ولذا يعرِّف نفسه بأنّه مسلم متعدّد الثقافات. نشر الكثير من البحوث والمقالات حول الأدب العربيّ والدراسات الإسلاميّة والقرآنيّة، وله ترجماتٌ أدبيّة من العربيّة إلى الإنجليزيّة. [المترجِم].

[7] هؤلاء الباحثون هم:
* بلال غوكّير Bilal Gökkir (؟؟؟-...): أستاذ التفسير والدراسات القرآنيّة في كليّة الإلهيّات بجامعة إسطنبول التركيّة.
* أنجِليكا نويفيرتAngelika Neuwirth(1943م- ...):باحثة ومُستعْرِبة ألمانيّة، أستاذة الدراسات القرآنيّة في جامعة برلين الحرّة وأستاذة زائرة في الجامعة الأردنيّة في عمّان. خلال دراستها الأكاديميّة تخصّصت في الدراسات الإسلاميّة والدراسات الساميّة وفقه اللغات القديمة؛ وقد دَرَسَتها في جامعات برلين وميونخ وغوتينغِن وطِهران والجامعة العبريّة في القدس. تنصبّ اهتماماتها البحثيّة على القرآن والتفسير والأدب العربيّ الحديث في بلاد الشام، وخصوصًا الشِّعْر والنثر الفلسطينيّ حول الصراع العربيّ- الإسرائيليّ. تُشرِف على مشروع (كوربوس كورانيكوم) Corpus Coranicum؛ وأدارت من قبله (المعهد الألمانيّ للأبحاث الشرقيّة) Orient- Institut، بفرعَيْه: بيروت (OIBوإسطنبول (OI- Ist)، بين عامَي 1994- 1999م. حصلَت في العام 2011م على عضويّة شرفيّة بالأكاديميّة الأمريكيّة للفنون والعلوم، وحصلت في العام التالي على الدكتوراه الفخريّة في الدراسات الدينيّة من جامعة ييل الأمريكيّة. وفي العام 2013م حازت جائزةَ سيغموند فرويد للنثر العلميّ، التي تمنحها الأكاديميّة الألمانيّة للغة والشِّعْر، عن أبحاثها القرآنيّة. انْتُخِبَت في العام 2018م زميلةً في (الأكاديميّة البريطانيّة) British Academy. من أعمالها: القرآن كنصٍّ من العصور القديمة المتأخّرة: مُقارَبة أوروپيّة (2010م) Der Koran als Text der Spätantike: Ein europäischer Zugang، وصدَرَت ترجمتُه إلى الإنجليزيّة في العام 2019م عن مطبعة جامعة أكسفورد بعنوان: The Qur’an and Late Antiquity: A Shared Heritage؛ وأسهمَت مع نيكولاي سيناي ومايكل ماركس في تحرير كتابالقرآن في سياقه؛ تحقيقات تاريخيّة وأدبيّة في المحيط القرآنيّ (2010م أيضًا)، الصادر عن دار بريل اللَّيدِنيّة في سلسلة (نصوص ودراسات حول القرآن). صدَرَ في العام 2014م عن مطبعة جامعة أكسفورد في (سلسلة الدراسات القرآنيّة) كتابُها: النصّ المقدَّس والشعر وتكوين مجتمع؛ قراءة القرآن كنصٍّ أدبيّ (2014م) Scripture, Poetry and the Making of a Community: Reading the Qur’an as a Literary Text؛ وشاركَت مع مايكل سيلز في تحرير كتابواقع الدراسات القرآنيّة اليوم (2016م) Qur’anic Studies Today الصادر عن دار روتلِدج اللندنيّة في سلسلة (دراسات روتلدج حول القرآن). تسعى منذ العام 2010م إلى إصدار تفسير للقرآن بالألمانيّة مع ترجمة جديدة في 5 مجلّدات، صدَرَ منها -حتّى العام 2017م- المجلّدُ الأوّل والجزءُ الأوّل من المجلّدِ الثاني.
* نيل روبينسون (1948م- ...) Neal Robinsonأكاديميّ بريطانيّ، عمل أستاذًا لدراسات العهد الجديد والدراسات الدينيّة والإسلاميّة والعربيّة، في جامعات ليدز Leeds ووِيلز Wales (بريطانيا) وسوغانغ (كوريا الجنوبيّة) وجامعة أستراليا الوطنيّة. عمل أيضًا أستاذًا زائرًا في كازخستان وروسيا. تلقّى تعليمه في بريطانيا أساسًا، وقضى بعض الوقت في فرنسا وشمال أفريقيا. من كتبه: المسيح بين الإسلام والمسيحيّة (1991م) Christ in Islam and Christianity، واكتشاف القرآن: منهجٌ معاصر لنصٍّ خفيّ (1996م) Discovering the Qur'an: A Contemporary Approach to a Veiled Text، والإسلام: مقدَّمة موجَزة (1999م) Islam: A Concise Introduction. وقد أسهم أيضًا في موسوعات علميّة للدراسات الإسلاميّة، ونشر العديد من المقالات والدراسات العلميّة.[المترجِم]

[8] Toorawa, ‘Sūrat Maryam’, p. 33.

[9] Toorawa, ‘Sūrat Maryam’, pp. 33–50.

[10] ليلى أوزغور- الحسَن (؟؟؟-...) Leyla Ozgur Al Hassen: أستاذة زائرة بقسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة كاليفورنيا، بيركلي (UCB). حصلت في العام 2011م على الدكتوراه في الأدب العربيّ من قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجيليس (UCLA). نشرت العديد من المقالات في مجلّات علميّة مُحكَّمة، مثلالدين والأدب (Religion and Literature)، والدين والفنون (Religion and the Arts)، والدراسات الإسلاميّة المقارَنة (Comparative Islamic Studies)، والعالَم الإسلاميّ (The Muslim World)، ومجلّة الدراسات القرآنيّة (Journal of Quranic Studies). صدَرَ لها عن مطبعة جامعة إدنبره كتاب بعنوانقصص القرآن: الله والوحي والمتلقّين (2021م) Qur’anic Stories: God, Revelation and the Audience. [المترجِم].

[11] AlHassen, ‘A Structural Analysis’.

[12] Al Hassen, ‘A Structural Analysis’, p. 92.

[13] Al Hassen, ‘A Structural Analysis’, p. 94.

[14] يمكن العثور على مزيدٍ من الأمثلة لهذا في سُوَر: الأعراف، وهود، والحِجر، والأنبياء، وسبأ، والصافّات، وغافر، وفُصّلَت، والأحقاف، والقمر، وغيرها.

[15] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.

[16] انظر الفصل الذي يتناول سورة نوح في كتابي: آفاق القرآن؛ السياق والأثر (2017م) Exploring the Qur’an: Context and Impact.

[17] كما جاء في الآيتَين الثالثة والرابعة من سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ...}.

[18] تيودور نولدكِه Theodor Nöldeke  ـ(1836- 1930م): شيخُ المستشرقين الألمان. درَس في جامعات غوتينغِن وڤيينّا ولَيدِن وبرلين (التي تسمّى اليوم جامعة هومبولت برلين HUB)؛ ثمّ دَرَّس في جامعة كيل الألمانيّة وستراسبورغ الفرنسيّة حتّى تقاعده في سنّ السبعين. حاز العديد من الجوائز العلميّة، منها جائزة الأكاديميّة الفرنسيّة للفنون والآداب في العام 1859م.أهمّ أعماله هو كتابه: تاريخ القرآن Geschichte des Qorâns، وهو في الأصل أطروحته لنَيل درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلاميّة، التي نالها في العام 1860م. تُرجِم الكتاب إلى الإنجليزيّة عن دار بريلّ اللَّيدِنيّة في العام 2013م، وإلى العربيّة في مجلّد واحد في العام 2004م عن مؤسّسة كونراد أدناور الألمانيّة، أنجزها د. جورج تامر؛ وهناك ترجمة أخرى إلى العربيّة في 3 مجلّدات مع قراءة نقديّة، وصدَرَت في العام 2009م عن وزارة الأوقاف القطريّة منفردةً ثمّ بالتعاون مع دار النوادِر في العام 2011م، وقد أنجزها د. رضا الدقيقيّ، وكانت في الأصل أطروحته لنَيلدرجة الدكتوراه من جامعتَي الأزهر وغوتينغِن. من أعمال نولدكِه أيضًا: حياة محمّد (1863م) Das Leben Mohammeds، وإسهامات في معرفة شعر العرب القدامَى (1864م) Beiträge zur Kenntnis der Poesie der alten Araber، والتاريخ الأدبيّ للعهد القديم (1868م) Die alttestamentliche Literatur، وصدَرَت ترجمته إلى الفرنسيّة بعد خمس سنوات، ومُوجَز قواعد اللغة السريانيّة (1880م)Kurzgefasste syrische Grammatik، ومقالات في التاريخ الفارسيّ (1887م) Aufsätze zur persischen Geschichte، ومُخطّطات من تاريخ المَشرق (1892م) Sketches from Eastern History(وهو ترجمة إنجليزيّة لمجموعة من مقالاته في المجلّات الألمانيّة وفي الموسوعة البريطانيّة وغيرها)، وفي قواعد اللغة العربيّة الفصحَى (1896م) Zur Grammatik des klassischen Arabisch، وإسهامات في اللسانيّات الساميّة (1904م) Beiträge zur semitischen Sprachwissenschaft، وترجمة:كليلة ودمنة إلى الألمانيّة (1912م). من أبرز تلاميذه: المستشرقان الألمانيّان كارل بروكلمان (1868- 1956م) Carl Brockelmann، وأوغست فيشر (1865- 1948م) August Fischer، صاحب فكرة المعجم التاريخيّ للغة العربيّة، التي عرضها على مَجْمَع اللغة العربيّة في القاهرة، ولكنْ توقّف المشروع بسبب الحرب العالميّة الثانية.[المترجِم].

[19] انظر، على سبيل المثال: الواحديّ، أسباب النزول، ص203- 205. الآية الأولى المُتناوَلة بتوضيح سبب نزولها هي الآية رقم 64: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}، وفيه يُقال إنّ النبيّ سأل جبريل: «يا جبريل، ما يَمنعُكَ أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟»، فنزلَت هذه الآية جوابًا من الملائكة. وهناك أيضًا تناولٌ مفيدٌ لأسباب نزول الآية 77: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِی كَفَرَ بِـآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَينَّ مَالًا وَوَلَدًاووَفق هذا العرض فإنّ حدّادًا مسلمًا [هو خَبّاب بن الأرتّ] ذهَب إلى أحد سادة المُشرِكين [وهو العاص بن وائل السَّهْميّ، والد عمرو] يتقاضاه دَينًا له، فقال له العاص: «لا واللهِ، حتّى تكفُرَ بمحمّد»، فقال خبّاب: «لا واللهِ، لا أكفُرُ بمحمّدٍ حتّى تموتَ ثمّ تُبعَث»، فما كان جواب العاص إلّا أن قال له: «إنّي إذا مُتُّ ثمّ بُعِثتُ، جِئني، وسيَكون لي ثَمّ مالٌ ووَلدٌ فأعطيكَ». وفي هذا دلائلُ أخرى على غرور قادة مُشرِكي مكّة في ذلك الوقت وقمعهم المسلمين، كما سيظهر في الجزء الثاني من السورة، وهو الأمر الذي كان له أثرُه في الحالة النفسيّة للنبيّ وأتباعه. غير أنّه لا يوجد دليل تاريخيّ لتحديد السّنَة التي نزلَت فيها السورة.

[20] انظر ترجمةَ جورج تامر كتابَ تيودور نولدكِه، تاريخ القرآن، ص: xxxvi.

[21] نعلم أنّ (البَرّ) من أسماء الله. وقد استقيتُ ترجمة your cherishing Lord، في هذا الموضع، إلى (ربِّكَ البرّ) من ترجمة د. مُحمّد عبد الحليم الآية رقم 32من سورة مريم: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}. وإن كان الدكتور -في ترجمته القرآن كاملًا، الصادرة عن مطبعة جامعة أكسفورد- لا يترجم (البَرّ) في سورة الطور: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}، إلى Chershing؛ لأنّ المقصودَ من الاسم في سورة الطور هو الإحسان وصدق الوعد بالجنّة والنعيم، وهو غير المقصود في آية سورة مريم من معاني الرعاية والعناية، وهي معانٍ تدخل أيضًا في مفهومالربوبيّة ويمكن أن يوصف بها الربّ تجاه عباده. والله أعلم. [المترجِم].

[22] لقد جمعتُ بالفعل عددًا لا بأس به من الموادّ، وسأطوّر هذه النظرّية بصورة أوسع.

[23] يرى الرازي أنّ هدفَ هذه السورة بيانُ وحدانيّةِ الله والنبوّةِ والحشرِ في {مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (مفاتيح الغيب، الجزء 21، ص:222). قد يُقال هذا عن الجزء الثاني من السورة، الذي يُحاجِج الكفّار حول تلك المسائل، ولكنّه لا ينطبق بالتأكيد على دعاء زكريّا وذلك البيان الحاسم في بداية السورة: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}.

[24] قد تعني كلمة {سَمِيًّا} إمّا: (له الاسمُ نفسُهأو (له المكانة ودرجة السموّ نفسها).

[25] الصياغة التي استُخدِمَت للإشارة إلى كلٍّ من يوسُف (في الآية رقم 22 من السورة التي تحمل اسمهومُوسَى (في الآية رقم 14 من سورة القصص) تأتي كما يلي: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ [وَاسْتَوَى] آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

[26] في ترجمتي القرآن إلى الإنجليزيّة، ترجمتُ هذه الكلمة إلى: remember، وهي أفضل من: mention؛ لأنّ السورة عزاءٌ وسلوى للنبيّ، وليس الهدف منها نقل الأحداث إلى أناس آخرين والإشارة إلى بعض الأمور وتنبيههم عليها.

[27] في سورة (ص)، لا يأتي بعد {وَاذْكُرْ}تعبيرُ {فِي الْكِتَابِ} إطلاقًا.

[28] ورَد شرحُ هذا في مقالة أخرى للدكتور/ مُحمّد عبد الحليم، وهي منشورة على موقع مركز تفسير، حيث قال: «أداة التعريف (ال) قد تكون إمّا (جنسيّة) أيْ: (عامّة وشاملة)، تشير إلى كلّ ما هو داخل تحت الاسم الذي يتلوها، أو (عَهْدِيّة) أيْ: (خاصّة ومُحدَّدة)، تشير إلى كيانٍ محدَّد سبق ذِكرُه بالفعل أو يعرفه المخاطَب». [المترجِم].

[29] الآية رقم 43 من سورة آل عمران.

[30] هنا يُشار إلى الله باسم (الرحمن)، وهو اسم آخر من أسمائه المهمّة في هذه السورة؛ ويجمع بين القدرة والرحمة. انظر: حسّان، (السبع المثاني)، ص177- 174.

[31] وهو الجوابُ نفسُه الذي أُجيبَ به زكريّا.

[32] الرازي، مفاتيح الغيب، الجزء 21، ص204.
ما يذكره المؤلِّف هاهنا غير دقيق فهذا الاعتراض الذي ذَكَر أورده نَقَدَةُ القول بأن المنادِي هو الملَك (جبريل) لا القول بأنه كان عيسى عليه السلام، وما أحال عليه من تفسير الرازي غير صحيح، فالرازي رجّح أن المنادِي هو الملَك، وأورد النقد الذي ذكره المؤلِّف في سياق ردّه للقول بأنّ المنادِي الملَك. يقول الرازي: «وفي المنادي ثلاثة أوجه: الأول: أنه عيسى عليه السلام ... والثاني: أنه جبريل -عليه السلام- وأنه كان كالقابلة للولد. والثالث: أن المنادِي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى -عليه السلام-، وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم، والأول أقرب؛ لوجوه: الأول: أن قوله: {فناداها من تحتها} بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدًا، والذي علم كونه حاصلًا تحتها هو عيسى -عليه السلام- فوجب حمل اللفظ عليه، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام، فقد صح قولنا. الثاني: أنّ ذلك الموضع موضع اللّوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة. الثالث: أن قوله: {فناداها} فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدّم ذِكْره، ولقد تقدّم قبل هذه الآية ذِكْر جبريل وذِكْر عيسى -عليهما السلام- إلا أنّ ذِكْر عيسى أقرب لقوله تعالى: {فحملته فانتبذت به} [مريم: 22]، والضمير هاهنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أَوْلى...» تفسير الرازي، دار إحياء التراث، 1420هـ، (21/ 527). [المترجم].

[33] Al Hassen, ‘A Structural Analysis’.

[34] في هذا السياق، يعني ذلك: (طفلًا تضُمّينه بين ذراعَيكِ).

[35] ليس بالضرورة أنّ {أُخْتَ} تعني أختًا بالمعنى البيولوجيّ. ففي الآية رقم 27 من سورة الإسراء، يصف اللهُ {الْمُبَذِّرِينَ} بأنّهم {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينَ}. فالعرب تقول (يا أخا العرب) وتعني ببساطة (أيّها العربيّ). فمَن هو هارون إذن؟ ليس في السورة تحديدٌ لشخصه، وقد يؤخذ هذا الأمر إمّا باعتباره سبًّا وتهكّمًا أو بالتوازي مع ما وُصِف به أبوَاها.

[36] يذكُر الرازي أنّ أبا القاسم البلخيّ قال [عن عيسى]: «إنّه إنّما قال ذلك حين كان كالمُراهِقِ الذي يفهَمُ وإن لم يَبلُغ حَدَّ التكليف»، (الرازي، مفاتيح الغيب، الجزء 21، ص213).

[37] AlHassen, ‘A Structural Analysis’, p. 99.

[38] يُروى عن ابن عبّاس أنّه كان يقول بهذا الرأي. (الرازي، مفاتيح الغيب، الجزء 21، ص213).

[39] AlHassen, ‘A Structural Analysis’, p 107.

[40] يقول اللهُ أيضًا عن يحيى في الآية رقم 12 من سورة مريم: {...وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.

[41] يقول الرازي: «اختلَفوا في المهد. فقِيل: هو حِجْرُها؛ لِما رُوِيَ أنّها أخذته في خِرقةٍ فأتَت به قومها، فلمّا رأوْها قالوا لها ما قالوا؛ فأشارَتْ إليه وهو في حِجرها، ولم يكن لها منزلٌ مُعَدٌّ حتّى يُعدّ لها المهدُ. أو المعنى: كيف نُكلّمُ صبيًّا سبيلُه أن ينامَ في المَهد؟»، (الرازي، مفاتيح الغيب، الجزء 21، ص208). وقد سال مِدادٌ كثير حول هذه المسألة، وظهرت كتابات من الجودة بمكان. وينقل الرازي من ذلك، قائلًا: «رُوِيَ عن ابن عبّاس -رضيَ اللهُ عنهما- أنّ يوسف [النجّار] انتهى بمريم إلى غارٍ فأدخلها فيه أربعين يومًا حتّى طهُرَتْ من النفاس، ثمّ أتت به قومها تحمله، فكلّمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمّاه! أبشِري، فإنّي عبدُ اللهِ ومَسِيحُه»، (الرازي، مفاتيح الغيب، الجزء 21، ص207- 208).

[42] ما يقوله د. مُحمّد عبد الحليم هنا يحتمل أنّ قوله تعالى: {يُكَلِّمُ النَّاسَ} يُشبه ما قصدته السيّدة أمّ سُلَيم -رضي الله عنها-حين امتنعت عن الزواج حتّى يَكبَر ابنُها أنس بن مالك -رضي الله عنه- وقالت: «حتّى يجلسَ أنسٌ في المجالس ويُحدّثَ الرجال». [المترجِم].

[43] قد تعني كلمة {صَبِيًّا}: إمّا فتًى أو طفلًا رضيعًا. انظر: Abdel- Haleem & Badawi, Dictionary of Quranic Usage. ومن معانيها في المعجم الوسيط: «الصغيرُ دون الغُلام، أو مَن لَم يُفطَم بعد». وبالتالي فالكلمة تشمل نطاقًا واسعًا من الأعمار، تمامًا مثل كلمة child في الإنجليزيّة. وفي مثل هذا الموقف، فإنّ السياق هو ما يحدّد [السنَّ المقصود]. ومن المفيد في هذا النقاش الإشارة إلى إنجيل لوقا (الإصحاح الثاني، الآيات 41- 52)، حين بَقِيَ عيسى في أورشليم [القدس]، وحين عادت السيّدة مريم ويوسف [النجّار] للعثور عليه، «وبَعدَ ثلاثةِ أيّامٍ وَجَداه في الهَيكل، جالِسًا في وسطِ المُعلّمِين، يَسمَعُهم ويَسألُهم. وكُلّ الذين سَمِعُوه بُهِتُوا مِن فَهمِه وأجوِبتِه». فمن الواضح، إذن، من هذا، أنّه لم يكن قطعًا رضيعًا، بل كان ذا حكمةٍ وحصافة منذ سنّ صغير جدًّا.

قلتُ: نقَل د. مُحمّد عبد الحليم هنا من الإصحاح الآيتَين 46- 47 فقط؛ وفي الآية رقم 42 منه أنّه «لمّا كانت له اثنَتا عشْرةَ سَنةً، صَعِدُوا إلى أورشَلِيم كعادةِ العِيد»، وفي هذا تحديدٌ لسنّه في ذلك الحين. [المترجِم].

[44] باعتبار أنّ صفة (زكيّ) من الجَذر (زكَا)، والزكاءُ في لسان العرب: «النماءُ والرَّيْعُ، ...وفي حديثِأبي الحسن، كرّمَ اللهُ وَجهَه: (المالُ تَنقُصُه النفَقةُ، والعِلمُ يَزكُو علَى الإنفاق)». [المترجِم].

[45] يقصد بهذا أيّ طفلٍ؛ ولا يَخصّ خَلقَ عيسى دون أبٍ. بل يعني إعجازَ الخلق ابتداءً. فأداة التعريف هنا جنسيّة وليست عَهْدِيّة. [المترجِم].

[46] البخاريّ، الصحيح، المجلّد 4، كتاب الوصايا. أو انظر:

Wensinck Concordance, vols 5–6, p. 279: ‘Bukhārī, Prophets, 48, and Muslim, Birr 8’.

[47] انظر، على سبيل المثال: شلتوت، الإسلام، ص53- 65.

[48] {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}.

[49] (صِدِّيق) صيغة مبالغة من صفة (صادق)، وتترجَم في الإنجليزيّة إلى: a man of truth.

[50] {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.

[51] {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}.

[52] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}.

[53] من الأمثلة على هذا الصدق الآية رقم 102 من سورة الصافّات، حين امتثَلَ لإرادةِ الله وأمْرِه [أباه] بالتضحية به. فقد أسلَم نفسَه طَوعًا {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، ولكنّ الله فَدَاه {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}. وإضافةً إلى هذا، فمِن صدقِه أيضًا أنّه: {...كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}[مريم: 55]. وبالمثل، فإنّ محمّدًا مأمورٌ في الآية رقم 132 من سورة طه أنْ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.

[54] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.

[55] Bell, The Qur’an: Translated, vol. 1, p. 284.

[56] {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.

[57] يظهر هذا الاستخدام في عدّة مواضع من القرآن: منها الآية رقم 77 من سورة يس، والآية الثالثة من سورة الإنسان، والآية رقم 17 من سورة عبس.

[58] منها، على سبيل المثال، آياتٌ في سوَر: طه، وق، والمُزَّمّل:

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}[طه: 130].

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق: 39].

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المُزَّمّل: 10].

[59] لا ترِد نسبةُ الولد إلى اللهفي الآية رقم 81، بل في الآية رقم 88، وهي في دائرة القول لا الفعل. فلا أدري لماذا جاء الدكتور/ عبد الحليم بها هنا، وهو القائل في أوّل الجملة (فعلٌ واحد)؟ أمّا الأقوال الأربعة فهي في الآيات: 66، 73، 77، 88 من السورة. [المترجِم].

[60] وقد كان هذا هو الجواب نفسه على زكريّا، في الآية التاسعة من سورة مريم، حين قال: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}.

[61] في الآيات الآتية:
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف: 34].
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ: 35].
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}[الجنّ: 24].
{وَبَنِينَ شُهُودًا}[المدّثّر: 13].

[62] يحكي لنا القرآن مرارًا وتكرارًا عن هذه الوقاحة البشريّة، كما في الآية رقم 50 من سورة فُصّلَت: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}. وانظر أيضًا الآية رقم 36 من سورة الكهف: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}؛ فهي تبيّن لنا أن ذلك الأسلوب كان اعتراضًا معتادًا أزعج النبيّ.

[63] على سبيل المثال، يقول الله تعالَىفي الآية الرابعة من سورة فاطر: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}؛ وفي الآية 32 من سورة النازعات: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}.

[64] يُعكَس الترتيب في الآية الثانية من السورة السابقة (سورة الكهف)، ليتناسب مع السياق.

[65] هذا هو المثال الثالث على (الردّ)في هذه السورة (والمثالان الآخران فيها هما الآيتان الثانية والآية رقم 64). انظر أيضًا الآيات: 21- 26 من سورة الغاشية: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}.

[66] في لسان العرب: «الركزُ: صوتُ الإنسان تَسمَعُه مِن بعيد». ويترجم الدكتور/ عبد الحليم هذه الكلمة إلى whisper، بمعنى: هَمْس. [المترجِم].

[67] عمومًا، وليس على الدوام. فهناك مواضع لم يُذكَر فيها اسمها عند الإشارة إليه، وهي: البقرة 136، وآل عمران 52- 55- 59- 84، والنساء 163- 172، والأنعام 85، والشورى 13، والزخرف 63. [المترجِم].

[68] ترقيم الصفحات هنا صحيح. المجلّة ينشرها مركز الدراسات الإسلاميّة في جامعة لندن، من خلال مطبعة جامعة إدنبرة بعنوان: Journal of  Quranic Studies؛ وهي تنشر باللغة الإنجليزيّة أساسًا، مع بعض المقالات العربيّة، فتبدأ المقالات العربيّة من نهايتها، مع اتّجاه اللغة العربيّة من اليمين إلى اليسار، ومن ثَمّ تكون أرقامُ صفحاتها تنازُليّةً. [المترجِم].  

المؤلف

محمد عبد الحليم - Muhammad A. S. Abdel-Haleem

حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج في الأدب، ويعمل أستاذًا للدراسات الإسلاميّة في كليّة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة بجامعة لندن.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))