هل تطورت كلمة (أُمَّة) في القرآن الكريم؟
نقد أطروحة المستشرق مونتجمري وات
حول التطور الدلالي لكلمة (أُمَّة) في القرآن الكريم
مقدمة:
من سماتِ الاستشراق الكلاسيكي ردُّ المفاهيم الأساسية في الإسلام إلى أصول خارجية، سواء كانت كتابية (يهودية أو نصرانية)، أو ساميّة (لغات ساميّة أخرى غير العربية)، أو حتى وثنية، وذلك باستخدام المنهج الفيلولوجي الذي اهتم به الاستشراق الكلاسيكي للغاية. فمثلًا من المفاهيم الأساسية في الإسلام كلمة (سُنَّة)، إِذْ إِنّ النبي -ﷺ- هو المعيار والنموذج الذي يسير عليه المسلم في حياته، فالسُّنَّة هي طريقة النبيِّ -ﷺ- نفسِه واجبة الاتّباع. أمّا الاستشراق الكلاسيكي فزعم أن هذا المفهوم الفردي والمعياري للسُّنة لم يأتِ أو لم يستقر إلا مع الإمام الشافعي، أيْ إنه قد حدث تطور في مفهوم السُّنّة الوثني الذي هو (أعراف اجتماعية) إلى مفهوم إسلامي معياري. بل كلمة (القرآن) نفسها وجدها الاستشراق الكلاسيكي مستعارة من الكلمة السريانية قريانا (ܩܪܝܢܐ)، بمعنى القراءة الكنسية أو النصّ الطقسي. ورفضوا أيّ جذر عربي مقترَح مثل (قرأ)، متجاهلين وجود هذا الجذر في كافة اللغات الساميّة بالمعنى المذكور (وبغير هذا المعنى). في الواقع هناك ردود قوية من داخل البحث الاستشراقي على كثيرٍ من الأفكار القديمة، ومنها مفهوم السُّنة كما سيأتي في بحثنا، وكذلك مفهوم القرآن[1]، لكن بعض المفاهيم ما زالت مستقرة في البحث الاستشراقي المعاصر.
فمثلًا مفهوم (الأُمَّة) في حياة المسلم، ما زال الاستشراق المعاصر يتبنّى فكرةً (تطوريةً) استعاريةً لهذا المفهوم؛ إِذْ زعم مونتجمري وات أن كلمة (أُمّة) في القرآن الكريم قد تطوّرت من مفهوم عشائري قَبَلي إلى مفهوم ديني، سواء على يد النبيّ -ﷺ- في المرحلة المدنيّة أو على يد مَنْ بعده، بفهم الكلمة على أنها تحمل معنى الإمامة الدينية. وقد سار على هذه الفكرة جمعٌ من المستشرقين، وذلك استنادًا إلى ادّعاء فيلولوجي مفاده أن الكلمة لم تأتِ في (القرآن المكي) إلا بمعنى القبيلة أو الشعب، وأن الكلمة نادرة في الشِّعْر العربي القديم، وتحمل من المعاني ما هو أكثر من الجذر الذي اقترحه علماء اللغة العرب (أ م م)؛ لذلك إمّا إنها مستمدة من العبرية، أو أيّ لغة ساميّة أخرى. وأقوم في هذه المقالة بنقد هذا الزعم، من خلال النظر للكلمة في لغات ساميّة أخرى وبعض أنثروبولوجيا العرب، والجديد في هذا المقال هو محاولة الربط بين المعاني المتشعّبة التي ذكرها أهل اللغة، لنحصل على معنى متكامل لمفهوم مركزي في الدين الإسلامي وهو الأُمّة.
1- البحث الاستشراقي حول كلمة (أُمّة) في العربية وفي القرآن الكريم:
لقد اشتقّ أهل اللغة كلمة (أُمّة) من الجذر (أ م م)، والمعاني التي تذكرها المعاجم العربية الأساسية ثمانية، يقول أبو بكر الأنباري: «الأمة تنقسم في كلام العرب على ثمانية أقسام:
1- تكَون الأُمّة: الجماعة؛ كما قال الله -عز وجل-: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}[القصص: 23]، معناه: وجد عليه جماعة.
2- وتكون الأمّة: أتباع الأنبياء؛ كما تقول: نحن من أمّة محمد، أيْ: من أتباعه على دينه.
3- وتكون الأمّة: الدِّين؛ كما قال -عز وجل-: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}[الزخرف: 22]، معناه: على دِينٍ. قال النابغة:
حلفتُ فلم أترُكْ لنفسِكَ رِيبةً .. وهل يأثَمَنْ ذو أُمَّةٍ وهو طائعُ
4- وتكون الأمّة: الرجل الصالح الذي يؤتَـمُّ به؛ كما قال -عز وجل-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}[النحل: 120].
5- وتكون الأمّة: الزمان؛ كما قال: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}[يوسف: 45]، وكما قال: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}[هود: 8]، وقرأ ابن عباس: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ}[يوسف: 45]، أي: بعد نسيان.
6- وتكون الأمّة: القَامَة؛ يقال: فلان حَسَن الأُمّةِ، أي: حَسَن القامَةِ. قال الشاعر:
وإنَّ معاويةَ الأكرَمِينَ .. حِسانُ الوجوهِ طوالُ الأُمَم
7- وتكون الأمّة: الأُمّ؛ قال أبو بكر: قال الفراء: يقال: هذه أُمَّةُ فلانٍ؛ أي: أُمُّ فلان. وأنشد:
تَقَبَّلْتَهَا من أُمَّة لك طالما .. تُنُوزعَ في الأسواقِ عنها خِمارُها
8- ويكون الأمّة: المنفرد بالدِّين؛ وقد مضى تفسيره. والإِمَّة، بكسر الألِف: النعمة، قرأ مجاهد وعمر بن عبد العزيز: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى إِمَّةٍ}[الزخرف: 22]، معناه: على نِعمة»[2].
ومن بين هذا الطيف الواسع من المعاني يركّز المستشرقون على معنى الدِّين ومعنى الإِمامة، وأنكر معظمهم إمّا المعنى الديني أو الإمامي من معاني الكلمة، أو قالوا بأن الكلمة غير عربية أصلًا ومستعارة من لغة ساميّة أخرى. فقد أنكر يوليوس فلهاوزن معنى الإِمامة، يقول: «كلمة الأمّة وكلمة الإمام لا ترتبطان ارتباطًا مباشرًا، وربما لا يكون بينهما ارتباط على الإطلاق، فالأُمّة مشتقة من الأُمّ، أمّا الإمام فمِن فِعل (أَمَّ) بمعنى: تقدَّمَ»، لكنه لم ينكر المعنى الديني، وأقرّ بوجود هذا المعنى عند العرب قبل الإسلام، يقول: «وكلمة (الأمّة) هنا [بعد الهجرة] ليست اسمًا للجماعة العربية القديمة التي تربطها رابطة النَّسَب، بل هي تدلّ على الجماعة بالمعنى المطلق. وهي تدلّ في العادة على جماعة تقوم على الدِّين، ولم يكن ذلك منذ ظهور الإسلام فحسب، بل كان قبل ذلك أيضًا»[3]، (ويستشهد ببيت النابغة المذكور أعلاه). أمّا آرثر جيفري فيعتبر أن الكلمة غير عربية، وأنها «على ما يبدو مستعارة من اليهود. فالكلمة العبرية אמה تعني: قبيلة أو ناس»، بل يعتبرها غير ساميّة! إِذْ يعتبر أنّ كلمة (أُمّة) العربية وما يقاربها من العبرية والآرامية والسريانية والأكادية «تبدو مستعارة من السومريين»، ومن ثم ينتهي إلى أن العربية إمّا استعارت هذه الكلمة بواسطة أو مباشرة من هذا المصدر السومري[4].
ينقل مونتجمري وات تأثيل جيفري للكلمة، ويضيف أنه «عُثِر على الكلمة في الكتابات العربية دون أن يثبت انتشارها وشيوعها على نطاق عريض، كما لم يَعْثُر الكُتّاب المعاصرون على أمثلة لها في الشعر الإسلامي على الأقل»[5]، وحيث إنّ الكلمة لها استخدام محدود في عربية ما قبل الإسلام وموجودة في لغات سامية أخرى بمعنى (القبيلة)، يذهب وات إلى أن الكلمة لا بد أن تعني القبيلة في القرآن الكريم، ويبني على ذلك حجّته، ومفاد هذه الحُجّة أنّ «مفهوم المجتمع الديني (فَهْم المسلمين واللغويين العرب لكلمة "أمة")، هو "اختراع" لا يمكن أن يوجد بالنسبة للنبي [ﷺ] في زمان ومكان يسود فيه الهياكل القبَلية فقط: فمع ظرف بيئته الثقافية، لم يكن بإمكان النبيّ إلا تصور الكيانات القَبَلية، وبالتالي عرض أيدولوجية (قومية) وليس أيدولوجية دينية»[6]. وذلك لأنه ليس هناك إلّا «فارق ضئيل بين الكلمتين [الأمة والقوم]، فكلتاهما كانت تمثّل مجموعة أو جماعة طبيعية، وكان يُظَنّ أن الأنبياء أُرْسِلوا إلى هذه الجماعات الطبيعية، ومن المحتمل أنّ يهود المدينة كانوا في عُرْفِ صحابة محمد [ﷺ] جماعة غير دينية، بل جماعة أو مجموعة (لغوية أو عِرقية) طبيعية. وإِذْ يتحدّث القرآن عن "أمّة" من أهل الكتاب فلا مندوحة عن فهم الكلمة على هذا النحو، والافتراض الشائع لدى عرب تلك الفترة أن تشترك الجماعة بأسرها في الشعائر الدينية. وإذا تبيّن أنّ هناك تغييرًا في معنى "الأمة" فهو عائد إلى طابع تطوّر الجماعة الفعلية لأَتْباع محمد [ﷺ] وحلفائهم وتابعيهم»[7]. ويدلّل أيضًا بــ«حقيقة أخرى غريبة، هي أنّ جميع الآيات التي ترِد فيها كلمة "أمة" (أُنزلت) قبل عام 625، ولا يوجد تفسير بَيَّنَ ذلك. وربما عاد السبب إلى التعقيد المتزايد في البنية السياسية لجمهرة المسلمين وأتْباعهم، أو قد يذهب الحدس بالمرء إلى حدّ القول بأنّ يهود المدينة كانوا يتندّرون بالكلمة بطريقةٍ ما، أمّا الإبقاء على الكلمة في (دستور المدينة) فيمكن أن يُعْزَى إلى حقيقة أنّ البنود التي توردها مأخوذة عن وثيقة سابقة»[8]. ويعتبر وات أن (القومية) هي الوصف التاريخي الأنسب لحال العرب، فقد «كان طبيعيًّا أن يضع العرب في مطلع القرن السابع مفهوم (القبيلة) في مركز الصدارة من تفكيرهم السياسي؛ إِذْ لم يكن لدى غالبية العرب هيئة سياسية أخرى غير القبيلة. وإذا وجد في مكة ما يشبه المجلس (الملأ) فهو قد لا يختلف كثيرًا عن المجلس القبَلي للشيخ باستثناء أنه لم يكن هناك قائد واحد للدولة في مكة بل زعماء قبائل متساوون في منزلتهم». ولحال الفترة المكية أيضًا بالخصوص، وفترة حياة النبي -ﷺ- بشكلٍ عام، «رغم التعقيد المتنامي للهيئة السياسية التي أدارها محمد [ﷺ] خلال سنوات حياته. ويمكن القول: إنّ عملية التنامي هذه جرَت باتساق مع المبادئ السابقة للإسلام، فحتى عشائر المدينة التي يُفترض أنها قد دخلت في حلفٍ مع محمد [ﷺ] كانت بدورها في حالة تحالف ليس ببعيد مع بعض القبائل البدوية العربية المجاورة لها»[9]. يوضح وات القومية في كتاب آخر له فيقول: «في مقابل الدِّين القديم هناك ما يمكن أن نسميه (الإنسانية القبَلية)، وقد كانت هذه الإنسانية القبَلية هي الدِّين المؤثر عند العرب في زمان محمدٍ (عليه الصلاة والسلام)، بالرغم من أنها كانت أيضًا في تدهور. وهذا هو الدِّين الذي نجده في أشعار الجاهلية. فبالنسبة للشعراء، كان ما يجعل للحياة معنى هو الانتماء إلى قبيلة تستطيع أن تتفاخر بالأعمال الفذّة التي تتطلب الشجاعة والكرم، والمشاركة فيها بنفسه. فمن وجهة النظر هذه، فإن تحقيق التفوّق الإنساني بالعمل هو هدف في حد ذاته، وفي الوقت نفسه غالبًا ما كان يسهم في بقاء القبيلة، وهو الهدف الآخر العظيم من أهداف الحياة. هذه هي (الإنسانية القبَلية) بمعنى أنّ أهميتها تأتي أساسًا من القيم الإنسانية أو من القوة أو من سلوك الرجال. ولكنها تختلف عن معظم الفلسفات الإنسانية الحديثة، في أنها تعتبر القبيلة وليس الفرد محلّ هذه القيم»[10].
وقد أثّرت هذه الحجة بشدّة في البحث الاستشراقي التالي عن مفهوم الأمة في الإسلام وطبيعة الدين الإسلامي نفسه؛ إِذْ يحاول فريدريك ديني Frederick Denny أن يقدِّم منظورًا تطوريًّا (أخف) في ورقته (معنى الأمة في القرآن) من المنظور التطوري لمونتجمري وات؛ إِذْ يرى أنّ النبي -ﷺ- طوّر مفهومًا دينيًّا للكلمة في الفترة المدنية، وهو احتمال لا يستبعده وات نفسه، إِذْ يقول وات: «من الممكن إذن ألّا تكون هذه الكلمة وردت في القرآن، إلا بعد أن ظهرت النية في إنشاء أمة من نموذج جديد في المدينة. وكانت كلمة (أمة) هي التي يمكن أن يجعل لها معنى جديدًا وكان بإمكانها أن تتطوّر فيما بعد»[11]. أمّا فريديك ديني فيأخذ بهذا الاحتمال: «فمن الواضح أن في فترة الثلث الأخير من المرحلة المكّية (ربما متأخرًا في هذه الفترة) وباكر الفترات المدنية، كانت الفترات التي وصل فيه محمد [ﷺ] إلى مفهوم ناضج لكلمة أمة كمجتمع مسلم حقيقي. والفقراتُ المحددة التي يظهر فيها لفظ (أُمّة) ليشير حصرًا إلى المسلمين موجودةٌ في الفترة المكية»، لكنه يقبل بوجود «بُعد ديني-أخلاقي للّفظ في استخدامه القرآني»، وعلى استعداد بوجود هذا البُعد في معنى الكلمة عند العرب قبل الإسلام بسبب بيت النابغة المذكور أعلاه. وزعم أنه سيقدِّم فهمًا بنيويًّا لمعنى الكلمة في القرآن، لكن في الواقع هو لم يقدِّم هذا الفهم؛ إِذْ لم يستطع أن يربط بين المعاني المختلفة لكلمة (أمّة) في القرآن، وإنما يمكن تلخيص ما قاله من نقاط فيلولوجية فحسب. لا يتفق فريدريك ديني مع بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن جذر الكلمة هو (أُمّ)، لأنه «ليس في الاستخدام القرآني لكلمة أمّة ما يدعم [هذا الرأي]»، وهو بالطبع يسلّم بمعنى الجماعة ومعنى الزمن، لكن بدون تحديد علاقة بنيوية بينهما، إِذْ «ما يَظهر، أنه ليس هناك علاقة بين الأمة بمعنى (المدة، والزمن)، والأمة بمعنى (المجتمع، والناس، والقوم)». ومع أنه عرَض الآيات المكية التي يبدو فيها معنى الإمامة، مثل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ}[النحل: 120]، ومعنى الدِّين جليًّا، مثل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف: 23] (وهي آية مكية متقدّمة)، إلا أنه كان يستحضر نظرة وات في بحثه، فبدون أيّ دعم قال: «أُفَضِّل أن أُترجِم (على أمة) بــ(على مجتمع)»، واستَشْعَر غرابة هذا مع بحثه (البنيوي)، فقال بعد ذلك مباشرة: «ربما يكون بناءً أخرقَ وغريبًا، لكن كذلك هي العربية؛ ليس هناك اشتراط الاتساق المنطقي أو الصرامة الدلالية في الاستخدام القرآني. ولكنْ هناك انتظامٌ كافٍ في تطوير واستخدام لفظ (أمة)، بحيث يحيّرنا المثال الحاضر [مثال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}؛ لأنه مكّي متقدِّم]، على أقلّ تقدير»[12].
إذن، نحن أمام سؤال تأثيلي بحت هو عصب المبدأ الاستشراقي:
- هل كلمة (أمّة) تعني عند العرب قبل الإسلام وفي القرآن الكريم المجتمع والعادات فقط؟
لذلك سأقدّم في باقي هذه الورقة تحليلًا تأثيليًّا مع شيء من أنثروبولوجيا العرب للإجابة عن هذا السؤال؛ لأن هذا السؤال هو الذي تقوم عليه فرضية التطوّر المفاهيمي.
2- النظائر الصوتية والنظائر الدلالية لكلمة (أمّة):
إنّ عملي هو تحديد الجذر الساميّ المشترك لكلمة أمّة، والربط بين معانيه التي تبدو مبعثرة، وإثبات أنّ زعم اشتقاق العربية من العبرية تحديدًا غير صحيح. لنبدأ بكلمة أمّة אמה في العبرية؛ لأن العبرية هي المرشّح الأشهر للاستعارة العربية لكلمة أمّة وفق جمعٍ من المستشرقين بعد آرثر جيفري. نجد أنّ معنى الكلمة هو مشتقّ من إ م م אמם، وهو جذر لا يأتي كفعلٍ في العهد القديم، وإنما أتى كاسمٍ، فأتى بمعنى الأُمّ البيولوجية mother، كما في سفر التكوين (20: 12): «وبالحقيقة أيضًا هي أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي אִמִּ֑י، فصارت لي زوجة»، أو الأُم غير البيولوجية كما في: «ودَعَا آدمُ اسم امرأته (حواء) لأنها أُمّ אֵ֥ם كلّ حيّ» (التكوين: 3: 20)، بجانب المعاني التي حدّدها جيزينيوس في معجمه (وبعضها له علاقة بالأُم) وهي؛ الأول: وحدة قياس للطول، ذراع (cubit)، فمثلًا في سفر الخروج (25: 10): «فيصنعون تابوتًا من خشب السنط، طوله ذراعان ونصف וְאַמָּ֤ה، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف». الثاني: بمعنى مدينة أو عاصمة metropolis، ففي سفر صموئيل الثاني (8: 1): «وبعد ذلك ضرب داود الفلسطينيين وذلّلهم، وأخذ داود (زمام القصبة הָאַמָּ֖ה) من يد الفلسطينيين». الثالث: بمعنى أساس أو أصل foundation، ففي سفر إشعيا (6: 4): «فاهتزت أساسات אַמּ֣וֹת العتب من صوت الصارخ، وامتلأ البيت دخانًا». الرابع: بمعنى تل hill. والخامس: بمعنى الناس people، لكن الاستخدام بهذا المعنى الأخير نادر جدًّا في العهد القديم (3 مرات فقط) وتأتي الكلمة بصيغة الجمع فقط umot، ومن هذه المواضع ما جاء في سفر التكوين (25: 17): «وهذه سنو حياة إسماعيل: مائة وسبع وثلاثون سنة، وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومهלְאֻמֹּתָֽם»، وربط جيزينيوس في معجمه بين المعنى الثالث وكلمة أُمّهَات وأُمّات في العربية، وربط المعنى الخامس بكلمة أمّة في العربية[13]. من الواضح أن كلمة أمة في العبرية تحمل أيضًا دلالات تبدو متباعدة كما في العربية؛ لذلك حتى في المعاجم العبرية هناك تشكيكٌ ما في أصل الجذر المقترَح أعلاه، فرغم أن إرنست كلين في معجمه يجعل الكلمة العبرية أمّة مشتقة من الأساس אמם، إلا أنه يعتبر هذا الأساس نفسه «من أصلٍ محلّ شكّ»[14]، ولم أجد في المعاجم العبرية مَن حاول ربط هذه المعاني المختلفة، فمعنى الأساس أو الأصل يمكن بسهولة إلحاقه بمعنى الأُمّ، ويمكن بشكلٍ ما من التخمين الربط بين الأُمّ والجماعة، لكن ماذا عن معنى وحدة قياس الطول ومعنى الارتفاع؟! لكن أول ما نصل إليه من مجرد العرض للكلمة العبرية هو أنها نادرة أيضًا في عبرية العهد القديم، فلا يمكن أن يقال أنّه بسبب ندرة الكلمة في الشعر العربي القديم يُستنتج أن الكلمة مستمَدة من العبرية؛ لأن الكلمة نادرة الاستخدام أيضًا في العبرية القديمة. السؤال الآن: هل هذا يعني أن كلمة الأمّة أجنبية عن العربية والعبرية؟
إنّ مشكلة البحث الاستشراقي لكلمة أمّة في العربية أو في العبرية هي اقتصاره على فهم جذر الكلمة بدون بحث نظائره الصوتية ونظائره الدلالية أو عدم الاهتمام الكافي بذلك؛ أمّا النظائر الصوتية فهي الجذور المتشابهة صوتيًّا مع الجذر (أ م م)، أو ما يسميه ميشيل إسحاق «اشتقاق الإخوة»[15]، فإخوة (أ م م) كثيرة؛ مثل (ع م م) و(هـ م م)، وغيرها من الحروف الحلقية، وسأقتصر على مادة (ع م) ومادة (هـ م)؛ لأنها كافية في توضيح معنى كلمة أمّة في العبرية والعربية. وأمّا النظائر الدلالية فهي الكلمات العربية المتشابهة دلاليًّا مع كلمة أمّة، مثل (سُنّة)؛ لأن بعض هذه النظائر من شأنه أن يبيّن روابط المعاني التي تبدو مبعثرة.
أ- إثبات الملمح الديني الفردي والجماعي لكلمة أمّة:
إنّ معنى كلمة أمّة في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}[الزخرف: 22]، حاسمٌ في تقييم المبدأ التطوري السابق؛ لأن سورة الزخرف مكيّة غير متأخرة. يقول الفراء في تفسير الآية: «مثل: السُّنّة»[16]، فما معنى هذا النظير الدلالي؟ في أكثر من موضع في القرآن الكريم كانت حُجة مشركي العرب ضد رسالة النبي -ﷺ- هي: اتّباع الآباء؛ مثلًا يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170]، ومضمون هذه الحُجة هو أنّ للآباء سُلطة، وأنّ مجرّد فِعلهم حجة؛ ولذلك لا يُستغرب أنه عندما دعا النبي -ﷺ- والأنبياء مِن قبلهِ إلى التوحيد اعتبر المشركون هذه الدعوة معارضة جذرية مباشرة لسلطة الآباء، وهذه السلطة تتمثّل في المعيارية، أي: تحديد السلوك المستقيم، أو بكلمة واحدة: السُّنّة. والسُّنّة بطبيعتها مُتَّبَعة ومعظَّمة وجمعية، ويلخص هذا المعنى قول لبيد:
من معشرٍ سَنَّتْ لهم آباؤهم .. ولكلِّ قومٍ سُنَّةٌ وإمامُها
وبالتالي لا يمكن بالنسبة للعرب أن يمثِّل عمل شخص واحد (سُنّة النبي -ﷺ-) معيارًا بالنظر إلى سنن الأولين المتفق على قبولها. وخلافًا للبحث الاستشراقي الكلاسيكي الذي فهمَ (السُّنة) على أنها مجرد عادات اجتماعية[17] (بالضبط مثل تعامُل مونتجمري وات مع مفهوم الأمة)، أثبت الفيلولوجي مير برافمان (M. M. Bravmann) أنّ السُّنة عند العرب شخصية؛ إذ دلّل من الشعر الجاهلي على أن «السُّنة تعني في الأصل (الطريقة) التي رسمها ونصبها وأدخلها لحيز الممارسة شخص معيّن [نُسي اسمه بمرور الزمن]، أو -في أحيان قليلة- مجموعة أشخاص محدَّدين، وأنّ معناها كعرفٍ اجتماعي لا بد أن يُعتبر معنى ثانويًّا»[18]. وبناءً على ذلك، «المقصود بتعبير (الممارسة النبوية) هو الممارسة المحددة الشخصية التي قام بها النبي نفسه، وليس ممارسة المجتمع»[19]، فالسُّنة «تُحدَّد تلقائيًّا بأنها (سُنّة النبي)، حتى إذا لم يُذكر اسم النبي»[20]. إنّ هذه المعيارية والفردية -الملمح المميز لمفهوم السُّنة- هي التي جعلت الفراء -وغيره من اللغويين- يماثِل بين مفهوم الأُمّة ومفهوم السُّنة في هذه الآية، وهي مماثلَة صحيحة أنثروبولوجيًّا؛ إِذْ إنّ سادات القبائل عند العرب لم يكونوا فقط أصحاب مركز سياسي، وإنما لهم قدسية، فعملهم تشريع في حدّ ذاته، مهما كان التشريع مخالفًا للدِّين الأصلي؛ فعندما أتى عمرو بن لحي (الملقب بــ"سيد" خزاعة) بالأصنام في الكعبة «دانت العرب للأصنام وعبدوها واتخذوها»[21] مباشرة، ويقول الأزرقي عنه: «وكان قوله فيهم دِينًا متّـبَعًا لا يُخالَف، وهو الذي بحَّـرَ البحيرة، ووصَل الوصيلة، وحمَى الحامي، وسيَّب السائبة، ونصب الأنصاب حول الكعبة، وجاء بهُبَل من هيت من أرض الجزيرة، فنصبه في بطن الكعبة، فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أوّل مَن غيَّر الحنيفية دِين إبراهيم -عليه السلام-، وكان أمرُه بمكة في العرب مطاعًا لا يُعصى»[22]، رغم اختلاف ما فَعَل مع دِين إبراهيم -عليه السلام-، «ومن أمارات تعظيم سادات القبائل، أنهم كانوا يضربون لهم قِبابًا رمزًا للسيادة والجاه، وترجع جذور هذا التعظيم منذ عهد نزار بن مَعَدّ، إِذْ كانت له قُبّة حمراء، فلما حضرته الوفاة أوصى بنيه، وقسم مالَه بينهم، قال: يا بَنِيّ هذه القبة -وهي قُبّة من أدم حمراء- وما أشبهها إلى مُضَر، فسُمّيت مضر الحمراء. دلالة على انتقال السيادة لهم»، «ويُذكر أنّ النعمان بن المنذر عندما يريد أن يعظِّم رجلًا ضرَب له قُبّة من أدم حمراء، وكان الملك إذا فعل ذلك برجلٍ عُرِف قدره منه ومكانه عنده»، «فاللون الأحمر سواء كان في القباب التي تضرب، أم في العمائم الحمر التي يعتمّ بها الرأس، عُدّ رمزًا للتعظيم والسيادة والجاه الذي عليه سادة القبائل»[23]. وكان لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها، وكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد القبيلة، فيأمن به ما دام في تلك القبيلة حتى ينتهي إلى الأخرى[24]. بل كان سيد القبيلة بمثابة إلهٍ رمزيّ، فقد كان مِن عادة بعض القبائل العربية اصطحاب مقدَّس بمثابة إلهٍ للتبرك في المعارك، وجاء (الأصم) عمرو بن قيس على أنه "زورهم" أي: مقدَّس قبيلته، وبرَك بين الصفَّين وانتصرت قبيلته، يقول الشاعر:
جاءوا بزوريهم وجئنا بالأصم .. شيخ لنا كالليث من باقي إرم[25]
فقد جعلوا سيد القبيلة من بقايا قوم عاد لقوّته (الروحية). وغير ذلك من الروايات الكثيرة في كتب تاريخ العرب القديم[26] عن مكانة سيد القبيلة كــ:صاحب ممارسة يدان بها، أي: كإمام ومثال، وهذا هو تصور الشعوب القديمة بشكلٍ عام للأبطال والملوك. وإنْ نظَرْنا إلى النظير الصوتي لــ(أ م) وهو الجذر (ع م עם) في العبرية، نجد أنه يؤكّد على هذا المعنى الفردي والمثالي لكلمة: (أمَّ و عمّ)، فمعناه في العبرية هو «السلف الذي يُسمَّى على اسمه»، ومن ثم يمكن لـلفظ (عم) العبري أن «يعكس دِينًا للأسلاف»[27]، وفي المثال المذكور أعلاه: «وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومه»، كناية عن الموت، «يمكن أن يجسِّد تلميحًا خفيًّا لطائفة دينية من الأسلاف الذين يمجّدون في قبورهم»[28]، فالموت هنا التحاق بالأمّة (العمومة الدينية). فالعم (سيد القبيلة) له ملمحان؛ ملمح فردي وملمح اجتماعي، وكذلك هو الحال في النصوص الأكادية التي تعود إلى الألْفية الأولى؛ إِذْ نجد «المعنى المزدوج، الجمعي والفردي لكلمة عم. فهي يمكن أن تدل على أحفاد سلفٍ مشترك أو شخص معيّن منحدر [من هذا السلف]. كان المعنى الجمعي معروفًا لكلمة (عم) في بلاد الرافدين من خلال قائمة توضح أسماء غير أكادية، تمدح حمورابي بوصفه بــ(العائلة الممتدة extended family) وتمدح أَمي- صادوقا [ملك من ملوك بابل الأولى] بأنه (العائلة القانونية legitimate family»ـ[29]. فالعم هو الإمام، هو العائلة السلفية والقانونية وفقًا للأكادية. وكذلك بالضبط حال كلمة عم في نصوص الجنوب العربي أو ببعض الاختلاف غير الجوهري في اللغات الساميّة الأخرى[30]. أمّا في العربية فلا يخفى كلمة: (بنو عم) في شعر العرب، وهي تجمع بين سلفٍ شخصي (سواء كان معلومَ الاسم أو مجهولًا) والمعنى الجماعي؛ فالعرب كانت تقول للذي يتسيّد القبيلة: قد عصّبوه فهو معصّب، ورجل معصّب ومعمّم أي: مسوَّد، من العصابة[31]، أي: العمامة. وكانت التيجان للملوك، والعمائم الحمر للسادة من العرب؛ لأن «الدم هو حامل الخصائص الروحية وناقلها»[32]، و«العرب تقول: "فلان مُعَمَّم"، يريدون أن كلّ جناية يجنيها من تلك القبيلة والعشيرة فهي مَعْصُوبة برأسه»[33]، وفي نفس الوقت يقولون: «رجل معمّ: يَعُمّ القومَ بخيره. وقال كراع: رجل معم: يعمّ الناس بمعروفه، أي: يجمعهم. وكذلك: ملمّ: يلمّهم، أي: يجمعهم... والعم: الجماعة»[34]. فالجذر (ع م) رمزٌ للسيادة الفردية (وبالتالي طاعة الأتباع) وللجماعة في نفس الوقت، وبتكافؤ بين المعنيين، أي: أنه يحمل المعنى الفردي والاجتماعي، بخلاف مفهوم السُّنة الذي يركّز أكثر على المعنى الفردي للمشرِّع، أمّا كلمة أمّة فهي مشرِّع له أتباع بالفعل، وتُستخدم أحيانًا لوصف هذا المتّبِـع نفسِه باعتباره مثالًا دينيًّا، كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: 110]، وهذا المعنى الديني هو الذي يعبِّر عنه المستشرق سرجنت R. B. Serjeant بأنه: «اتحاد يتمحور حول نواة دينية»، ويرى -عكس معظم المستشرقين- أن هذا المعنى «كان راسخًا قبل محمد [ﷺ] بوقت طويل»[35]، لكنه لم يفصّل. وتُستخدم أحيانًا كوصف (دنيوي) محض لمجرد الاجتماع، بناءً على أن «كلّ شيء ضمّ إليه سائر ما يليه يسمّى أُمًّا»، سواء كان لعاقل أو لغير عاقل، وسواء كانت المجموعة الموصوفة شاملة أو مجموعة من مجموعة، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}[القصص: 23]، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام: 38]، وتُستخدم أحيانًا لوصف الجانب الإمامي للتركيز على الاقتداء، مثل قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل: 120].
ووفقًا لما سبق فإنه لا يمكن أن يقال إنّ لغةً ساميّةً ما قد استمدَّت المعنى الفردي (الإمامي) لكلمة أمّة من لغة ساميّة أخرى؛ لأن هذا المفهوم كان حاضرًا عند الساميّين وعند شعوب الشرق الأدنى القديم، وكما يقول إسرائيل ولفسون: «يجب ألّا يبالغ الباحث في مسألة تأثير الآرامية والعبرية في العربية الشمالية؛ إِذْ ينبغي أن يحترس من الخطأ في نِسبة بعض الكلمات العربية إلى إحدى أخواتها السامية ظنًّا منه أنها منقولة منها، فقد يوجد عددٌ كبيرٌ من الألفاظ له رنة آرامية أو عبرية وهو في الواقع كان يُستعمل عند العرب قبل أن يحدث الاتصال بين هذه اللغات»[36].
ب- العلاقة بين الملمح الجماعي والزمن:
من الغريب لأوّل وهلة أن نجد كلمة أمّة من معانيها (المدة الزمنية) في العربية، والأغرب من ذلك أن نجد كلمة (الهامة) البعيدة دلاليًّا في الظاهر عن كلمة الأمة إِذْ تعني الرأس[37]، وتعبِّر عن حدثٍ فردي خالص وهو الموت تعني (جماعة الناس)، ونجد أيضًا أن «هامة القوم: سيّدهم ورئيسهم»[38]، فما الرابط بين الجذرين (هـ م) و(ع م)؟ ذكرنا أن من تعابير العهد القديم عن الموت أن يُضَمّ الشخص إلى أمّته/ عمومته/ قومه، ونجد أيضًا في العربية تعبير أن الشخص عندما يموت (يصير هامة) أي: روحًا، وبالاستفادة من (الاشتقاق الأخويّ) نلحظ بسهولة أن الميت ينتقل إلى (هامة قومه)، إلى الأصل، الهامة الأُم (العمامة الحمراء)[39]، فالأهل أو الأمة عند الشعوب القديمة لم تكن مجرد (تجمع أفراد)، وإنما كان للأمة مثال (روحي) يشعر به الفرد ظاهراتيًّا، ففي البدء هو يرث من أمّه اسم/ روح أجداده، هامة الأسلاف، فليست الولادة ولا التسمية مجرد حدثٍ (فردي) عند الشعوب القديمة، وإنما «اسم الشخص يشمل أسرته وعشيرته..، وبالتالي فإن ولادة الطفل هي حدثٌ مزدوج؛ أولًا، يشير إلى المستقبل فيما يتعلّق ببقاء الأسرة والعشيرة والقبيلة. وثانيًا، يشير إلى الماضي فيما يتعلق بالتاريخ. وعلى نحو أكثر دقة، إنه يشير إلى التاريخ المحدَّد للحياة العامة أو السلوك لأحد أفراد الأسرة المتوفين. هذا التاريخ المحدّد، شخصية فرد معيّن من العائلة، تعود إلى الحياة مرة أخرى عندما يتلقى الطفل اسمه»[40][41]، أي: إنّ هامة الفرد الواحد لها تجليان، تجلٍّ شخصي وتجلٍّ اجتماعي زمني يمثل (هامة القوم: سيدها)، أو (امتداد العائلة) كما قيل لحمورابي. يقول الشاعر:
وتفرّعنا[42] من ابني وائلٍ .. هامةَ العزّ وخُرطومَ الكرم[43]
وعندما يموت الشخص يعود إلى هامة قومه، إلى أمواته ويُنسى فرديًّا، لكن سننه تبقى اجتماعيًّا في تمثُّل فردي آخر. ما علاقة هذا بالزمن؟ إنّ العربي القديم يسمي الزمن بالوحدات التي فيه، فالشكل الهندسي (الدائرة) هو حلقة، أي الوحدة التي تجسّده، فكل حقبة هي أمة «لأن فيها تكون الأمة»[44]، ويتصوّر الزمن كفضاء فسيح يعيش فيه الهوام الجماعية، أو الأمم المنسيّة؛ لأنّ الجذر (هـ م م) «يعبِّر عن فكرة التيه»[45]، وهذا هو جوهر قراءة ابن عباس وغيره من السلف: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ}[يوسف: 45]، أي بعد نسيان. وفي ضوء كلّ ما سبق يمكن أن نفهم قول صاحب معجم (العين): «أمم: اعلَمْ أنّ كلّ شيء يضمُّ إليه سائر ما يليه فإنّ العرب تسمِّي ذلك الشيء أُمًّا؛ فمن ذلك: أُمّ الرأس وهو: الدماغ. ورجل مأموم. والشجّة الآمّة: التي تبلغ أُمّ الدماغ. والأميم: المأموم. والأميمة: الحجارة التي يشدخ بها الرأس»[46]، فالأميم هو المأموم وهو المصاب الذي يشبه الميت، «إِذْ إنّ الأَمِيم: الذي يدنو دماغه فلا يسمع ولا يستطيع الكلام»[47]، لا يختلف عن مَن رجع إلى أمته (صار هامة) من حيث النسيان والصمت. إنّ مَن تأمَّم أو صار هامة يرجع للحالة الأصلية (أُمّ) قبل الخلق.
ما نخلص إليه: هو أنّ معنى الإمامة أساسي في كلمة أُمّة، وأن الإمامة مقدّسة بطبعها، وأن الجذر (أ م م) جذر عربيّ وساميّ بالغ الترابط فيما يتعلّق بما يحمله من معانٍ مختلفة، ومرتبط بجذور أخرى مشابهة له صوتيًّا، وأنّ لمفهوم الأمة ملمحًا اجتماعيًّا وملمحًا فرديًّا، ويُستخدم أحيانًا بالتركيز على الملمح الاجتماعي وأحيانًا بالتركيز على الملمح الفردي. وبذلك لا تصح الفرضية التطورية لمونتجمري وات (وفريدريك ديني)، وكذلك التخمينات التي بناها وات على فكرة أنّ كلمة أُمّة تعني المجتمع فقط.
[1] للاطلاع على ورقة قـيّمة تبحث معنى كلمة (القرآن) وتنتقد فكرة الاستعارة، انظر:
Graham, William A., "The Earliest Meaning of Qur'an." In Islamic and Comparative Religious Studies: selected writings, 2010, 127-140.
ولفهم سياقي لمعنى الجذر (قرأ) عند الشعوب الساميّة القديمة وفي العبرية على نحو خاص انظر الفصول الأولى من كتاب ويليم م.شينيدويند: كيف أصبح العهد القديم كتابًا؛ تدوين إسرائيل القديمة، المركز القومي للترجمة، ترجمة: أحمد عبد المقصود، 2019.
[2] الزاهر في معاني كلمات الناس، أبو بكر الأنباري، مؤسسة الرسالة، تحقيق: حاتم صالح الضامن، الطبعة الأولى، (2/ 255).
[3] تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، يوليوس فلهاوزن، لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، 1968، ترجمة: محمد أبو ريده، ص11.
[4] Arthur Jeffery, The Foreign Vocabulary of the Quran. Baroda: Oriental Institute, 1938, p. 69.
[5] الفكر السياسي الإسلامي؛ المفاهيم الأساسية، مونتجمري وات، دار الحداثة للطباعة-بيروت، الطبعة الأولى، 1981، ترجمة: صبحي حديدي، ص18.
[6] Maysam J. al Faruqi; Umma: the Orientalists and the Qur'anic concept of identity, Journal of Islamic Studies, Volume 16, Issue 1, 1 January 2005, p. 1- 34.
[7] الفكر السياسي الإسلامي، مونتجمري وات، ص20- 21.
[8] المرجع السابق، ص19.
[9] المرجع السابق، ص21- 22.
[10] محمد في مكة، مونتجمري وات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002، ترجمة: عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ص80.
[11] محمد في المدينة، مونتجمري وات، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، ترجمة: شعبان بركات، ص367.
[12] Frederick Denny, “The Meaning of Umma in the Qura’n” in History of Religions 15/ 1 (Aug. 1975), 34–70.
[13] Gesenius' Hebrew and Chaldee lexicon to the Old Testament Scriptures: Translated, with additions and corrections from the author's Thesaurus and other works,[Wilhelm Gesenius; Samuel Prideaux Tregelles], London, 1846, article אמם.
[14] Ernest Klein, A comprehensive etymological dictionary of the Hebrew language for readers of English, New York: Macmillan, 1987, p. 34.
[15] المعاني الفلسفية في لسان العرب؛ الفلسفة العربية الأولى، ميشيل إسحاق، اتحاد الكتّاب العرب: دمشق، 1984، ص21.
[16] تهذيب اللغة، الأزهري، دار إحياء التراث العربي-بيروت، الطبعة الأولى، 2001، (15/ 455).
[17] للاطلاع على البحث الاستشراقي حول مفهوم السُّنة ونقده انظر الفصل الرابع من كتابي (موثوقية السُّنة عقلًا؛ حجية النقل الشفهي أنثروبولوجيًّا وفلسفيًّا)، مركز دلائل، 2020.
[18] M. M. Bravmann, The Spiritual Background of Early Islam: Studies in Ancient Arab Concepts (Leiden: E. J. Brill, 1972), p. 155.
[19] المرجع السابق، ص129.
[20] المرجع السابق، ص131.
[21] كتاب الأصنام، الكلبي، دار الكتب المصرية، الطبعة الرابعة، 2000، ص13.
[22] أخبار مكة وما جاء فيها من آثار، أبو الوليد الأزرقي، دار الأندلس للنشر-بيروت، المحقق: رشدي الصالح، (1/ 100).
[23] دراسات في المعتقدات الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، سعد عبود سمار، تموز للطباعة والنشر والتوزيع، ص32.
[24] المرجع السابق، 32.
[25] لسان العرب، ابن منظور، دار صادر-بيروت، الطبعة الثالثة، (4/ 337).
[26] للاطلاع على بعض أشكال تقديس سادات القبائل في حياتهم وبعد مماتهم، انظر: دراسات في المعتقدات الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، سعد عبود سمار، 28- 37.
[27] Dictionary of the Old Testament (12 vols. Cambridge: William B. Eerdmanns Publishing Company, 1997), vol. 11, article עם.
[28] المرجع السابق، المادة نفسها.
[29] المرجع السابق، المادة نفسها.
[30] المرجع السابق، المادة نفسها.
[31] يقول عمرو بن كلثوم: وَسيّد معشر قد عصَّبوه .. بتاج المُلْك يَحْمي المُحْجَرينا.
[32] الديانات في أفريقيا السوداء، هوبير ديشان، المركز القومي للترجمة، 2001، ترجمة: أحمد صادق حمدي، ص15.
[33] مجمع الامثال، أبو الفضل الميداني، دار المعرفة-بيروت، تحقيق: محمد محيي الدين، (1/ 181).
[34] المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده، دار الكتب العلمية-بيروت، الطبعة الأولى، 2000، (1/ 108).
[35] انظر مقاله (غير مترجم) في كتاب: (إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين؛ دراسات مهداة من أصدقائه وتلاميذه)، بإشراف: عبد الرحمن بدوي، دار المعارف، 1962، والمقال بعنوان: Haram and Hawtah, the sacred enclave in Arabia.
[36] تاريخ اللغات الساميّة، إسرائيل ولفنسون، مطبعة الاعتماد، الطبعة الأولى، ص163.
[37] ويقال: فرس معمم، أي: أبيض الهامة دون العنق. لاحظ تقارب الهامة والعمامة. انظر: لسان العرب (12/ 425).
[38] لسان العرب (12/ 625).
[39] يقول الأزهري: «العامّة: هَامَة الرّاكِب إِذا بَدَا لك رأسُه في الصَّحراء وهو يسير»، تهذيب اللغة (3/ 161).
[40] Badenberg, R., The Body, Soul and Spirit Concept of the Bemba in Zambia. Bonn: Verlag für Kultur und Wissenschaft, 2000, p. 75.
[41] يقول الإمام الطبري في تفسيره (22/ 78) قول الله -عز وجل-: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[الجاثية: 24]: «وقوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} نموت نحن ونحيا وتحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم؛ لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء».
[42] تفرّعْتُ بني فلان: أي: تزوجتُ سيدةَ نسائهم. لاحظ العلاقة بين الطول والسيادة، وهذا البيت يفسر الاستخدام العبري لكلمة أمة بمعنى الطول أو الارتفاع، لكنني مهتم أعلاه بالعلاقات في العربية.
[43] لسان العرب (8/ 247).
[44] تفسير الطبري (15/ 252).
[45] الموت في الشعر العربي، محمد عبد السلام، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث ومعهد تونس للترجمة، الطبعة الأولى، 2017، ترجمة: مبروك المناعي، ص86.
[46] الخليل بن أحمد الفراهيدي، العين، دار الهلال، (8/ 426).
[47] الجيم، أبو عمرو الشيباني، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية بالقاهرة، 1947، (1/ 60).