تراجم الطبري وحضورها في كتب التفسير
نظرات تحليلية
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمِمّا لا يَخفى على أحدٍ أنَّ شيخَ المفسرين وإمامَ المحقّقين في هذا العلم؛ ابنُ جرير الطبري، وكتابه: (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، مِن أجلِّ التفاسير، وأعظمِها أثرًا، فلم يُؤلَّف مثله، كما ذكر العلماء قاطبة؛ وذلك لأنه جمع بين الرواية والدراية، ولم يشاركه في ذلك أحدٌ قبله ولا بعده.
ومِن أجلِّ علم الدراية عنده تراجمه على مرويات السَّلَف التفسيرية؛ إِذْ إنها تُنبئ عن فقهٍ في النظر، ودُرْبَةٍ بأقوال أئمة السَّلَف ومذاهبهم، وجودةٍ في التأليف، وكان -رحمه الله- مُختصًّا بتلك التراجم دون غيره من المفسِّرين الذين يسردون التفسير وأقوال المفسِّرين من الصحابة والتابعين وغيرهم سَرْدًا.
وقد شهد الثعلبي -رحمه الله- بشيء من ذلك وأشاد به؛ حيث ذكره في جملة مَن حازوا قَصَبَ السَّبْق في جودة التصنيف والحِذْق من المفسِّرين، ووصفه ابن عطية -رحمه الله- بأنه: «جَمَعَ على الناس أَشْتَات التفسير، وقَرَّب البعيد منها، وشَفَى في الإسناد»[1].
ولما مَنَّ اللهُ عَلَيَّ -وهو أهل العطاءِ والمنِّ- بالاقتراب من هذا السِّفر العظيم أكثر بأنْ كانت أطروحتي للدكتوراه بعنوان: (الأقوال التي سكت الطبري عن بيان الراجح في تفسيرها؛ دراسة وصفية تحليلية)، كان لِزامًا عَلَيَّ النظر فيمَن وافقه من المفسِّرين، فلَفَتَ انتباهي وأثار عنايتي حضور تراجم الطبري في بعض كتب التفسير بعده، سواء كانت ترجمة للخلاف، أو على الأقوال، فأوليتُها عنايةً خاصةً للولوج منها إلى استظهار ما كان خفيًّا، وفي أثناء ذلك كان يلوح أمام ناظري قول الأئمة في تراجم البخاري في صحيحه: «فقه البخاري في تراجمه»[2]، وأنَّ الطبري له حَظٌّ من ذلك.
ولما كان الطبري -رحمه الله- شديد العناية بكتابه، حريصًا على جودة تأليفه؛ كانت تراجمه للخلاف والمرويات محط تلك العناية، فصنّف الأقوال ورتبها تبعًا لمعانيها ومضامينها، فخرجت محكَمة الصياغة دقيقة المدلول.
ولما كانت تلك التراجم لم تَلْقَ العناية اللائقة بها، وقَلَّ مَن ينتبه لها؛ أردتُ في هذه المقالة أنْ أُبرز جانبًا من حضورها في بعض كتب التفسير التي ظهرت بعده، فأعمل على تتبّع هذا الحضور وأقوم بتسليط الضوء عليه ليتضح ويبرز، وكذلك أقوم بإضفاء بعض النظرات التحليلية التي تحاول تفسيره وبيان دلالاته، وأسأل اللهَ الخير والتوفيق والسداد.
وسأقتصر في هذه المقالة على عرض عدد من المواضع على سبيل التمثيل للتدليل على موضوع المقالة، وأمّا الحصر والتتبع فلا يتسع له المقام والمقال، وما ذُكر ينبئ عمّا وراءه ويدلّ عليه.
وسأقتصر في بيان حضور تراجم الطبري في كتب التفسير بعده على بعض المفسِّرين المتقدِّمين، وهم: الثعلبي (427هـ)، والماوردي (450هـ)، وابن عطية (542هـ)؛ لأنَّ غالب مَن جاء بعدهم ناقلٌ عنهم، فلا يمكن حينئذ الجزم بأنه أخذ عن الطبري دون واسطة؛ كالواحدي في البسيط، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، فاعتماد الأول على الثعلبي، والثاني على ابن عطية.
ومن خلال تتبّعي لحضور تراجم الطبري في التفاسير التي ذكرتُ لاحظتُ مواضع تُذكر فيها الترجمة بنصِّها وأخرى تُذكر مع بعض التعديل، وعليه فسنقسم الحديث في المقالة لقسمين تبعًا لذلك، وسأبدأ بذكر الآية أو المقطع التي عقد الإمام الطبري -رحمه الله- الترجمة تحتها، ثم أذكر نصّ الترجمة مُقتصِرًا على ذِكر الأقوال دون المرويات، وكذلك الحال مع المفسِّرين ممن حَضَرَتْ عندهم ترجمة الطبري في ذات الموضع، وذلك لكي تكون الصورة مكتملة، وللتدليل على ما تهدف إليه المقالة ظاهرًا.
أولًا: ذكر الترجمة بنصها دون تغيير فيها:
الموضع الأول: عند قوله تعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102].
قال الطبري: «واخْتُلِفَ في معنى السِّحْر، فقال بعضهم: هو خِدَعٌ ومخاريقُ ومعانٍ يفعلها السّاحر، حتى يخيَّل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به...
وقال آخرون: قد يَقدِر الساحر بسحره أن يحوِّل الإنسانَ حمارًا، وأن يَسحر الإنسان والحمار ويُنشِئ أعيانًا وأجسامًا...
وقال آخرون: بل السحر أخْذٌ بالعين»[3].
وقال الماوردي: «وأمّا السحر فقد اختلف الناس في معناه: فقال قوم: يقدِر الساحر أن يقلب الأعيان بسِحره، فيحوّل الإنسان حمارًا، وينشئ أعيانًا وأجسامًا.
وقال آخرون: السحر خِدَعٌ وَمَعَانٍ يفعلها السّاحر، فيخيَّل إليه أنه بخلاف ما هو، كالذي يرى السراب من بعيد، فيخيَّل إليه أنه ماء»[4].
فلنحظ هنا أنَّ الماوردي ذكر ما ترجم به الطبري للخلاف، والأقوال المندرجة تحته، بل ذكر تعليل الأقوال كما ذكرها الطبري عن أصحاب كل قول.
الموضع الثاني: عند قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144].
قال الطبري: «ثم اخْتُلِفَ في السبب الذي من أجله كان -صلى الله عليه وسلم- يهوَى قِبلة الكعبة، قال بعضهم: كَرِهَ قِبلة بيت المقدس؛ من أجلِ أنّ اليهود قالوا: يتبع قِبلتنا ويخالفنا في ديننا!
وقال آخرون: بل كان يهوَى ذلك من أجلِ أنه كان قِبلة أبيه إبراهيم عليه السلام»[5].
وقال الثعلبي: «واختلفوا في السبب الذي كان -عليه السلام- من أجله يَكْرَهُ قِبْلَةَ بيت المقدس ويهوَى قبلة الكعبة، فقال ابن عباس: لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم.
وقال مجاهد: من أجلِ أنّ اليهود قالوا: يخالفنا محمَّد في ديننا ويتبع قبلتنا»[6].
فنرى أنَّ الثعلبي أورد الترجمة للخلاف بتمامها، ثم أورد الأقوال مُعالجًا ما انتقده على الطبري، فاختصر المرويات التي يرى أنَّ مِن الإطالةِ ذِكْرَها، مُكتفيًا بنسبة كلّ قولٍ لقائليه، لكنه غالبًا اعتمد في هذه النسبة على ما أورده الطبري من مرويات.
وهذا الصنيعُ نابعٌ من تصنيف الثعلبي لتفسير الطبري وعلوّ رُتبته عنده؛ فقد ذكر في مقدّمته أنَّ ابن جرير ممن حاز قَصَبَ السَّبْق في جودة التصنيف والحِذْق، لكن يرى أنه قد أطال كتابه بكثرة الأسانيد والروايات وتعدُّد طُرقها، فاتّسع حتى حال هذا الاتساع والطول دون الاستفادة منها[7].
وليس المقام مقام مناقشة لرؤية الثعلبي التقويمية لتفسير الطبري، وإنما مقام بيان حضور تراجم ابن جرير في تفسير الثعلبي.
الموضع الثالث: عند قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154].
قال الطبري: «واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله تعالى: ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾... فقال بعضهم: ذلك كما قال جلّ ثناؤه: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: 43]. أُوصِلَ الفعلُ باللام.
وقال بعضهم: مِن أجلِ ربهم يرهبون.
وقال بعضهم: إنما أُدخلت عَقيب الإضافة: الذين هم راهبون لربهم وراهبو ربهم، ثم أُدخلت اللامُ على هذا المعنى...
وقال بعضهم: إنما فعل ذلك؛ لأنَّ الاسمَ تَقَدَّم الفعلَ، فحَسُن إدخالُ اللام، قال: وقد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [النمل: 72]، وذكر عن عيسى بن عمر، أنه قال: سمعت الفرزدق يقول: نقدت له مائة درهم، يريد نقدته مائة درهم، قال: والكلام واسع»[8].
وقال الثعلبي: «واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله تعالى: ﴿لِرَبِّهِمْ﴾ [الأعراف: 154]، فقال الكسائي: لما تقدّمت قبل الفِعل حسُنَتْ، كقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: 43].
وقيل: أراد: راهبون لربهم، أو رهبتهم لربهم.
وقال عيسى بن عمر سمعت الفرزدق يقول: نقدت له مائة درهم، يريد نقدته، وهي لغة صحيحة، كقوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: 72]، وقوله:﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: 23].
وقال قطرب: أراد: مِن ربهم يرهبون، قيل معناه: مِن أجلِ ربهم يرهبون»[9].
فذكر الثعلبي الترجمة بنصِّها كما ذكرها الطبري، ثم أورد الأقوال التي حكاها، إلا أنه نسب كلّ قولٍ لقائله.
وتابعه الواحدي في البسيط، فقال: «واختلفوا في وجه دخول اللام في قوله: ﴿لِرَبِّهِمْ﴾»[10].
الموضع الرابع: عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 164].
قال الطبري: «واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾؛ هل كانت من الناجية أم من الهالكة؟
فقال بعضهم: كانت من الناجية؛ لأنها كانت مِن الناهيةِ الفرقةَ الهالكةَ عن الاعتداء في السبت.
وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ كانت من الفرقة الهالكة»[11].
وقال الثعلبي: «اختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ أكانت من الناجية؟ أم من الهالكة؟
فقال بعضهم: كانت من الناجية، لأنَّها كانت من الناهية.
وقال آخرون: كانت من الفرقة الهالكة»[12].
فنلحظ أنَّ الثعلبي ذكر الترجمة بنصها كما عقدها الطبري، مكتفيًا بسَوْقه للأقوال دون المرويات، وقد سبق بيان وجه صنيعه.
الموضع الخامس: عند قوله تعالى: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ [يوسف: 5].
قال الطبري: «واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله: ﴿لَكَ﴾، فقال بعض نحويي البصرة: معناه: فيتخذوا لك كيدًا، وليست مثل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: 43]، تلك أرادوا أن يُوصَلَ الفعلُ إليها باللام كما يُوصَل بالباء، كما تقول: قَدَّمتُ له طعامًا، تريد: قَدَّمت إليه، وقال: ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ [يوسف: 48]، ومثله قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ [يونس: 35]. قال: وإنْ شِئت كان: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ في معنى: فيكيدوك، وتجعلُ اللامَ مثلَ: ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154]، وقد قال: ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ إنما هو بمكان: ربَّهم يَرْهَبون.
وقال بعضهم: أُدخلت اللامُ في ذلك، كما تدخل في قولهم: حَمِدتُ لك وشَكَرتُ لك، وحَمِدتُك وشَكَرتُك، وقال: هذه لامٌ جَلَبَها الفعلُ، فكذلك قوله: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾، تقول: فيكيدوك، ويكيدوا لك، فيَقْصِدوك، ويَقْصِدوا لك، قال: و﴿كَيْدًا﴾ توكيدٌ»[13].
قال الثعلبي: «واختلف النحاة في وجه دخول اللام في قوله: ﴿لَكَ﴾، قال بعضهم: معناه: فيكيدوك، واللام صِلة، كقوله: ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154].
وقال آخرون: هو مثل قولهم: نَصَحْتُكَ ونَصَحْتُ لك، وحَمِدتُكَ وحَمِدتُ لك، وقَصَدْتُكَ بِسُوءٍ وقَصَدْتُ لك»[14].
فأورد الثعلبي الترجمةَ للخلاف بنصّها كما أوردها الطبري، ثم ذكر القولين اللذين ذكرهما الطبري، لكنه تصرَّف في عرضه لهما، فاقتصر على ذكر القول دون التعليل له أو بيان وجهه.
ثانيًا: ذكر الترجمة مع تغيير يسير لا يُؤثِّر في مضمونها:
الموضع الأول: عند قوله تعالى: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 85].
عقد الإمام الطبري -رحمه الله- ترجمة لبيان المراد بالخزي الذي أخزى اللهُ به اليهود بسبب ما سَلَف من معصيتهم إياه، فقال: «ثم اخْتُلِفَ في الخزي الذي أخزاهم اللهُ بما سلف من معصيتهم إيّاه، فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مِن أخْذِ القاتل بمَن قَـتَل والقَوَدِ به قصاصًا، والانتقام للمظلوم من الظالم.
وقال آخرون: بل ذلك هو أخْذُ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم ذِلّةً لهم وصَغارًا.
وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جُوزوا به في الدنيا إخراجُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النضيرَ من ديارهم لأول الحشر، وقتلُ مقاتِلة قريظة وسبيُ ذراريهم؛ فكان ذلك خزيًا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم»[15].
وقال ابن عطية: «واخْتُلِفَ ما المراد بالخزي هاهنا فقيل: القصاص فيمَن قَـتَل.
وقيل: ضرب الجزية عليهم غابر الدهر.
وقيل: قتل قريظة، وإجلاء النضير.
وقيل: الخزي الذي توعّد به الأمّة وهو غلَبة العدوّ»[16].
فذكر ابن عطية الترجمة للخلاف بمعناها، ثم ساق الأقوال مختصرةً اختصارًا لا يُؤثر في مضمونها، وزاد عليها.
الموضع الثاني: عند قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 97].
قال الطبري -رحمه الله-: «أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذْ زعموا أنَّ جبريل عدوٌّ لهم، وأنَّ ميكائيل وليٌّ لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك»[17].
ذكر الإمامُ الطبري الإجماعَ على أنَّ هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، ثم عقد ترجمة لاختلاف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قالت اليهود: جبريل عدوُّنا، على قولين؛ الأول: قال بعضهم: إنما كان سبب قِيلهم ذلك من أجلِ مناظرة جَرَتْ بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر نبوّته.
الثاني: قال آخرون: بل كان سبب قِيلهم ذلك من أجلِ مناظرة جَرَتْ بين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبينهم، في أمرِ النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال ابن عطية: «...ولكن أجمع أهل التفسير أنَّ اليهود قالت: جبريل عدوّنا، واخْتُلِفَ في كيفية ذلك؛ فقيل: إنَّ يهود فَدَك قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: نسألك عن أربعة أشياء فإنْ عَرفْتَها اتّبعناك؛ فسألوه عمّا حَرَّم إسرائيل على نفسه، فقال: لحوم الإبل وألبانها، وسألوه عن الشَّبَه في الولد، فقال: أيّ ماء عَلا كان الشَّبَه له، وسألوه عن نومه، فقال: تنام عيني ولا ينام قلبي، وسألوه عمّن يجيئه من الملائكة، فقال: جبريل، فلما ذكره قالوا: ذاك عدوُّنا؛ لأنه مَلَكُ الحرب والشدائد والجَدْب، ولو كان الذي يجيئُك ميكائيل مَلَكُ الرحمة والخصب والأمطار لاتّبعناك.
وقيل: إنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يتكرّر على بيت المدراس فاستحلفهم يومًا بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أنَّ محمدًا نبيّ؟ قالوا: نعم، قال: فلِمَ تهلكون في تكذيبه، قالوا: صاحبه جبريل وهو عدوُّنا»[18].
فابن عطية تابَع الطبريَّ في حكايته الإجماعَ وإردافه بالترجمة للخلاف، لكنه اكتفى بذِكْر الآثار الدالة على كلّ قولٍ، في حين أنَّ الطبري ذكر القولين، وتحت كلّ قول الآثار التي تدعمه وتدلّ عليه.
الموضع الثالث: عند قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144].
قال الطبري: «ثم اخْتُلِفَ في السبب الذي من أجله كان -صلى الله عليه وسلم- يهوَى قِبلة الكعبة»[19].
وقال الماوردي: «واختُلِفَ في سبب اختياره لذلك على قولين:
أحدهما: مخالفة اليهود وكراهة لموافقتهم؛ لأنهم قالوا: تتبع قِبلتنا وتخالفنا في ديننا؟ وبه قال مجاهد، وابن زيد.
والثاني: أنه اختارها؛ لأنها كانت قِبلة أبيه إبراهيم، وبه قال ابن عباس»[20].
فالماوردي هاهنا عرض الترجمة بمعناها، كما أن تطرقه لتلك المسألة على الوجه الذي ذكره الطبري، مع اقتصاره على الأقوال التي ذكرها تحت تلك الترجمة فيه دلالة على استفادته الترجمة من الطبري.
الموضع الرابع: عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 155].
عقد الإمام الطبري ترجمة للخلاف في المعنيين بهذه الآية بقوله: «ثم اخْتَلَفَ أهل التأويل في أعيان القوم الذين عُنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عُني بها كلُّ مَن ولَّى الدُّبُرَ عن المشركين بأُحُد.
وقال آخرون: بل عُني بذلك خاصٌّ ممن ولَّى الدُّبُرَ يومئذ، قالوا: وإنما عُني به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم.
وقال آخرون: بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين»[21].
وقد ظهرتْ هذه الترجمة عند ابن عطية في ترجمته للخلاف وحكايته له، فقال: «اختلف المتأوِّلون فيمَن المراد بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ قال الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: المراد بها جميع مَن تولَّى ذلك اليوم عن العدوّ.
وقال السدّي وغيره: إنه لمّا انصرف المسلمون عن حَمْلَةِ المشركين عليهم صَعِدَ قومٌ الجبل، وفَرَّ آخرون حتى أتوا المدينة، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة.
وقال عكرمة: نزلتْ هذه الآية فيمن فَرَّ من المؤمنين فرارًا كثيرًا، منهم رافع بن الْمُعَلَّى، وأبو حذيفة بن عتبة، ورجلٌ آخر، قال ابن إسحاق: فَرَّ عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان، وأخوه سعد، ورجلان من الأنصار زُرَقِـيَّان، حتى بلغوا الجَلْعَبَ -جبل بناحية المدينة مما يلي الأَعْوص- فأقاموا به ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عَريضة»[22].
ونلحظ أنه ذكر الأقوال التي ذكرها الطبري، إلا أنه صدَّر كلّ قولٍ بتسمية قائله.
الموضع الخامس: عند قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
عقد الطبري -رحمه الله- ترجمة لبيان اختلاف العلماء في فِعْل النبي -صلى الله عليه وسلم- في العُرَنيين؛ فقال: «وقد اختلف أهل العلم في نَسْخ حُكْم النبي -صلى الله عليه وسلم- في العرنيين، فقال بعضهم: ذلك حُكمٌ منسوخٌ، نَسَخَه نهيُه عن الْمُثلة بهذه الآية.
وقال بعضهم: بل فِعْلُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعرنيين حكمٌ ثابتٌ في نظرائهم أبدًا، لم يُنسخ ولم يُبدَّل.
وقال آخرون: لم يَسْمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أعين العُرَنيين، ولكنه كان أراد أن يسمل، فأنزل الله -جل وعز- هذه الآية على نبيّه يُعَرِّفه الحكمَ فيهم ونهاه عن سَمْل أعينهم»[23].
وبخصوص هذه الترجمة فنجدها حاضرة عند الثعلبي الذي تدخَّل فحسب في الترجمة للخلاف وعلى الأقوال بما لا يؤثِّر في مضمونها ولا يخرجها عن معناها؛ فقال: «ثم اختلفوا في حكم حديث العرنيين، فقال بعضهم: هي منسوخةٌ؛ لأنّ الْمُثلة لا تجوز.
وقال آخرون: حكمه ثابتٌ إلَّا السَّمْل والْمُثلة».
ومن خلال ما سبق يظهر لنا أنَّ ثمة حضورًا واضحًا لترجمات الطبري في بعض كتب التفسير التي جاءت بعده، وهذا قد يُـثير نوعًا مِن التأثّر عند هذه التفاسير بتفسير الطبري، هذا التأثّر الذي لا يُشوِّش عليه القول بأنهم اطّلعوا على ذات المصادر التي أفاد منها الطبري ككتب اللغويين من أمثال الفرّاء مثلًا، فهذه الكتب والمصادر لا يظهر فيها العناية بتتبع أقوال السَّلَف والترجمة لها كما هو معلوم، والطبري هو الذي قام بهذا الجهد والعناية بأمر الترجمة لأقوال السَّلَف التفسيرية؛ وعليه، فحضورُ ترجماته في التفاسير المتقدّمة التي جاءت بعده مُبْرِزٌ لتأثّر هذه التفاسير بتفسير الطبري واستفادتها منه بشكلٍ أو بآخر، وهو أمرٌ يدل على مكانة الطبري ويُظهِر جانبًا من جوانب عناية الأوائل بهذا التفسير وحفاوتهم به، وجِهَةً من جهات تقديمهم له قد لا يُنتبه لها في كثير من الدراسات والكتابات، وهي جهة لا تزال تحتاج لمزيد تتبعٍ واستقراءٍ وتحليلٍ، ومن المهم العناية بها على صُعُدٍ مختلفة، لا سيما وأنَّ الترجمة للأقوال هي تعبير عن مسلك فهم الأقوال نفسها، ومن ثَمَّ فإنَّ تسليط الضوء على حضور تراجم الطبري في التفاسير بعده وبحث تصرّفات المفسِّرين في هذه التراجم وموقفهم منها؛ موافقة ومتابعة لها أو استدراكًا عليها ونقدًا لها[24] =أمرٌ مفيدٌ ليس فقط في بيان أثر تفسير الطبري فيمن تلاه من المفسِّرين، ولكن أيضًا في فهم تركة الأقوال التي خلّفها السَّلَف والتي مِن المهمّ العناية بها.
خاتمة:
تتبعتُ في هذه المقالة حضور تراجم الطبري في التفاسير بعده، وبيان صور هذا الحضور في ضوء ذلك الاستقراء والتتبع العام لها، واستعرضتُ بعض الأمثلة الدالة عليه، وهذا الموضوع لم يأخذ حظّه من البحث بعدُ رغم أهميته في بيان مكانة تفسير الطبري، وكذا انعكاساته على حُسْن الوعي بأقوال السَّلَف ومسالك فهمها.
وقد ظهر من خلال المعالجة كثرة حضور تراجم الطبري خاصّة عند الثعلبي، وأنَّ ابن عطية -رحمه الله- مع تأثّره بترجمة الطبري، إلا أنَّه كان دائم التصرّف في صياغتها بما لا يُخرجها عن مضمونها، وأنَّ مَن يُفيد من تراجم الطبري فإنه يتصرف في عرضها ويُوظفها بناء على منهجه الذي اختطّه لنفسه وطريقته التي سار عليها في تأليف كتابه.
وإني أُوصي الباحثين بالعناية بتراجم الطبري عناية تتناسب مع أهميتها، وأنْ تُكتب فيها الأبحاث والمقالات العلمية التي تُعنى بفهمها وتحرير مدلولاتها، وكشف غوامضها، وتوجيه مُشكلها.
رحم اللهُ أبا جعفر، وأجزل له المثوبة، ونفعنا بعلوم كتابه، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للصواب، ويهدينا إلى سبيل الرشاد.
[1] الكشف والبيان (2/ 12)، والمحرر الوجيز (1/ 42).
[2] ينظر: فتح الباري (1/ 243).
[3] جامع البيان (2/ 350- 355).
[4] النكت والعيون (1/ 166- 167).
[5] جامع البيان (2/ 657).
[6] الكشف والبيان (4/ 186).
[7] ينظر: الكشف والبيان (2/ 12).
[8] جامع البيان (10/ 467).
[9] الكشف والبيان (12/ 540).
[10] التفسير البسيط (9/ 383).
[11] جامع البيان (10/ 512- 521).
[12] الكشف والبيان (12/ 568).
[13] جامع البيان (13/ 14- 15).
[14] الكشف والبيان (14/ 493).
[15] جامع البيان (2/ 216).
[16] المحرر الوجيز (1/ 175).
[17] جامع البيان (2/ 283).
[18] المحرر الوجيز (1/ 183).
[19] جامع البيان (2/ 657).
[20] النكت والعيون (1/ 202).
[21] جامع البيان (6/ 172).
[22] المحرر الوجيز (1/ 529).
[23] جامع البيان (8/ 368- 369).
[24] وابن عطية أول مَن وقفتُ عليه صرَّح بإطلاق (الترجمة) على تبويبات الطبري، وقد أولاها عناية فائقة، فتارة يتابعه عليها بنقله لها، وتارة يوجّه مشكلها ويبين غامضها، وتارة يستدرك عليها، وقد كتب د. عبد الرحمن المشد مقالًا بعنوان: «تبويب مرويات السلف في التفسير؛ قراءة في استدراكات ابن عطية على تراجم الطبري»، تعرَّض فيه لاستدراكات ابن عطية على تبويبات الإمام الطبري وتراجمه لمرويات السَّلَف.