القول في (من) الزائدة
وجواز وقوعها في القرآن الكريم

يَعُدُّ كثيرٌ من المعربين حرف (مِن) زائدًا في بعض آيات القرآن الكريم، وهذه المقالة تتناول هذه المسألة بعد التعريف بالمعاني الأصلية لـ(مِن)، ثم تُفصّل القول في أحد المواطن المشكِلة التي وردت فيها (من) الزائدة، مع مناقشة الأقوال الواردة فيها.

 القول في (مِن) الزائدة وجواز وقوعها في القرآن الكريم[1]

  (مِن) الجارة لها في اللغة معانٍ كثيرة، أشهرها وأكثرها دورانًا الاستعمال ثلاثة: الابتداء، والتبعيض، وبيان الجنس.

1- الابتداء: وهو أشهر معاني (من) على الإطلاق وهو الغالب في الاستعمال حتى قيل: إنه هو الأصل الذي يرجع إليه سائر تلك المعاني.

ولكن هذا القول فيه شيء من المبالغة، ومحاولة رد المعاني كلّها إلى معنى الابتداء لا يخلو من التكلّف.

من أمثلة الابتداء: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23]، فـ(مِن) الأولى في هذه الآية ابتدائية، وكذلك الثانية إذا كان الضمير في ﴿مِثْلِهِ﴾ راجعًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو المراد بكلمة ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾[2].

ومن أمثلة الابتداء أيضًا: قوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [القصص:30].

وظاهر أن (من) الأولى في قوله سبحانه: ﴿مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ﴾ ابتدائية، فإن موسى -عليه السلام- سمع النداء عن يمينه آتيًا من شاطئ الوادي في البقعة المباركة التي ابتدأ فيها تكليمه بما يثبت له الرسالة.

وكذلك (من) الثانية عبارة ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ ابتدائية تفيد أن النداء الآتي من جهة الشاطئ هو منبعث من الشجرة، فإن هذه الشجرة كانت قائمة في ذلك الشاطئ.

ليست عبارة ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ متصلة بالبقعة المباركة حتى تكون (من) فيها بيانية، وإنما هي متّصلة بقوله سبحانه: ﴿مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ﴾ على أنها بدل اشتمال منه، و(من) فيها ابتدائية كما قلنا.

2- التبعيض: كما في قوله تعالى حكاية عن رسول الله شعيب مخاطبًا موسى -عليهما السلام-: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القصص:27]، وقوله سبحانه: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف:15].

3- البيان: كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة:23]، إذا كان الضمير في ﴿مِثْلِهِ﴾ راجعًا إلى ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ وهو القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

وكما في قوله -عز وجل-: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ [القصص:78]، فكلمة (من) في قوله تعالى: ﴿مِنَ القُرُونِ﴾ بيانية، أما الأولى التي في قوله سبحانه: ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ فهي ابتدائية، والثانية وهي التي في قوله -عز وجل-: ﴿أَشَدُّ مِنْهُ﴾ تفضيلية داخلة على المفضل عليه.

فإذا وردت (من) في تركيب دالة على أحد معانيها الوضعية بأن كان مرادًا إفادة هذا المعنى على أن يكون جزءًا من المعنى الأصلي المراد من التركيب، فإنها حينئذٍ تكون أصلية ولا يمكن الاستغناء عنه.

أما إذا كان أصل المعنى المراد من التركيب يتحقّق بدونها غير متوقف على أن تكون مستعملة في معنى معانيها الأصلية فإنها تكون زائدة[3].

وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ [الأنعام:59]، وقوله سبحانه: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ﴾ [فاطر:3]، وقوله -عز وجل-: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك:3] أي اضطراب واختلال.

فكلمة (من) في هذه الآيات زائدة؛ لأنه لم يرد بها إفادة معنى من معانيها الأصلية على أن يكون جزءًا أساسيًّا من المعنى المقصود من التركيب؛ ولذلك يمكن الاستغناء عنها فيقال في غير القرآن: (وما تسقط ورقة إلا يعلمها)، (هل خالق غير الله يرزقكم)، (ما ترى في خلق الرحمن تفاوتًا): يمكن أن يقال ذلك، ولا يكون فيه ما يخل بالمعنى الأصلي المقصود من التركيب؛ لأن هذا المعنى الأصلي لا يتوقف على شيء من معاني (من) الأصلية.

وهذا بخلاف الحال في (من) التي أُريد بها معنى من معانيها الأصلية، فإنه في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ [القصص:78] لا يمكن أن يستغنى عن (من) في قوله سبحانه: ﴿مِنَ القُرُونِ﴾، فيقال: (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله القرون) فإنه يختلّ به المعنى المراد كما هو ظاهر، ومثل ذلك يُقال في بقية الآيات التي وردت فيها (من) دالة على معنى من معانيها الأصلية.

هذا وقد اشترط جمهور البصريين في (من) الزائدة ثلاثة شروط:

الأول: أن يتقدّم عليها نفي أو نهي أو استفهام بهل.

فالنفي كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ [الأنعام:59].

والاستفهام كما في قوله سبحانه: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك:3]، فإن (من) الثانية وهي التي في قوله سبحانه ﴿مِنْ فُطُورٍ﴾ زائدة، وقد وقعت بعد الاستفهام بهل، أما الأُولى التي في قوله: ﴿تَفَاوُتٍ﴾ فهي زائدة أيضًا لكنها وقعت بعد نفي.

والنهي مثل قوله: (لا يقم من أحد).

وألحق الفارسي بهذه الثلاثة (الشرط) كما في قول الشاعر:

وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ ** وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ

الشرط الثاني: أن يكون مجرورها نكرة.

الشرط الثالث: أن يكون فاعلًا أو مفعولًا به أو مبتدأ.

وخالف في هذه الشروط الأخفش والكوفيون.

ثم إنّ (من) الزائدة هذه لا بد أن تفيد أحد أمرين يتمثل فيها المعنى العام الذي تُزاد له حروف الزيادة، وهو التوكيد:

- الأمر الأول: التنصيص على العموم المراد من التركيب ونفي احتمال غيره؛ فإنه إذا قال قائل: (ما جاءنا من رجل) فإنه يفيد التنصيص على عموم النفي؛ أي على نفي الجنس وعدم احتمال شيء آخر؛ وذلك أن العبارة قبل دخول (من) وهي (ما جاءنا رجل) تحتمل نفي الجنس وأنه لم يجئ أحد من جنس الرجال، كما تحتمل نفي الوحدة، وأنه لم يجئ رجل واحد، وذلك لا يمنع أن يكون الذي جاء أكثر من واحد من الجنس؛  ولهذا يمكن أن يُقال في هذه الحالة: (ما جاءنا رجل بل رجلان)، لكنه لا يمكن أن يُقال ذلك مع وجود (من)؛ لأن العبارة معها تنصّ على نفي الجنس من غير احتمال غيره.

- الأمر الثاني: توكيد العموم، وذلك نحو قولك: (ما جاءنا من أحد)، أو (من ديار)، فإن العبارة قد دخول (من) تفيد العموم من غير احتمال شيء آخر من حيث إن كلًّا من (أحد) و(ديار) بعد النفي يفيد العموم واستغراق النفي، فإذا زيدت (من) في العبارة أفادت توكيد هذا العموم.

قد يُقال: إنه مفهوم ومعقول أن تكون (من) زائدة إذا أُتي بها في تركيب لإفادة توكيد العموم متى كان هذا العموم مستفادًا من غيرها، كما في قولك: (ما جاءنا من أحد)؛ فإنه لو قيل: (ما جاءنا أحد) كان ذلك يفيد الحكم بعدم مجيء كلّ واحد ممن يتأتى منه المجيء، سواء أكان رجلًا أم امرأة؛ لأنّ كلمة (أحد) بعد النفي تفيد استغراق النفي وشموله الجنس كلّه، فإذا أدخلت (من) في التركيب فإنها لا تفيد شيئًا زائدًا على المعنى المستفاد بدونها، كما أنها لا تكون حينئذٍ مستعملة في شيء من معانيها الأصلية الوضعية، فتكون زائدة لتوكيد العموم.

ولكن كيف تكون (من) زائدة لإفادة التوكيد في قولك: (ما جاءنا من رجل)، وهو ما يفيد التنصيص على العموم؛ أي يفيد العموم نصًّا؟

إنه لو جرد التركيب من كلمة (من)، وقيل: (ما جاءنا رجل) كان هذا النفي محتملًا نفي الوحدة كما يحتمل نفي الجنس؛ أي يحتمل أن يكون المقصود به نفي مجيء رجل واحد، كما يحتمل أن يكون المقصود به نفي مجيء كلّ رجل؛ أي في مجيء الجنس كله، فإذا أدخلت في التركيب كلمة (من) فإنها تزيل احتمال الوحدة وتجعل التركيب نصًّا في نفي مجيء جنس الرجال، وحينئذٍ لا يصح أن يقال: إنها زيدت للتوكيد؛ لأن التنصيص على العموم معنى جوهري أساسي، وهو لم يُستفد من غيرها حتى يصح أن يقال: إنها هنا زائدة للتوكيد.

والجواب: أن التركيب الذي قيل أن (من) قد دخلت فيه للتنصيص على العموم يمكن أن يقال: إنّ (من) قد زِيدت فيه للتوكيد؛ وذلك أنه إذا قيل: (ما جاءنا رجل) مع إطلاق لفظ (رجل) وعدم تقييده بالواحد فإنه يدلّ دلالة ظاهرة من غير شكّ على إرادة الجنس، فيكون نفي المجيء فيه منصبًّا على جنس الرجال، واحتمال أنّ النفي فيه وارد على الواحد هو احتمال ضعيف يحتاج في إرادته إلى دليل خاصّ، وعلى هذا إذا دخلت (من) في هذا التركيب الذي هو ظاهر في العموم صحّ أن يُقال: إنها قد زيدت لتوكيد هذا العموم.

ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم:4]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ﴾ [الحجر:4]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ﴾ [الشعراء:208]، فإنه من غير المعقول احتمال أن يكون النفي في هذه الآيات واردًا على الوحدة، وألا يكون منصبًّا على الجنس، وعلى هذا لا يكون فرق بين هذه الآيات وأمثالها من كلّ تركيب وقعت فيه النكرة سياق النفي والاستفهام، وبين قوله تعالى في شأن المنافقين: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة:127]، فإنه ليس المعنى في ذلك على نفي الوحدة، وإنما هو في جميعها منصبّ على الجنس.

وهنا يُقال -وهو المقصود دائمًا من البحث في حروف الزيادة- ما السِّر في أن (من) الزائدة بعد النفي مثلًا تفيد استغراق النفي وتدلّ نصًّا على العموم أو تفيد توكيد هذا العموم؟ وهل ذلك ثابت لها لمجرّد أنها كلمة زِيدت في التركيب من غير أن تكون مشعرة بشيء يناسب معنى الاستغراق والعموم؟

والجواب: أنه غير جائز في حكمة القرآن أن يكون مجرّد زيادة الكلمة في هذا التركيب مفيدًا توكيد معنى تضمّنه هذا التركيب من غير أن يكون في تلك الكلمة إشعار أي إشعار بما يناسب المعنى المراد توكيده، وذلك أن الكلمة الزائدة إذا أخذت على هذا الوجه كانت لغوًا، وكانت كما يقول بعض النحاة: دخولها في الكلام وخروجها منه على سواء، فلا يعقل حينئذٍ أن تكون مفيدة توكيدًا أو غير توكيد؛ لأنها تكون هي واللفظ المهمل الذي لم يوضع لمعنى أصلًا على سواء أيضًا.

إنّ القول الحقّ في هذا هو أن الكلمة التي تُزاد في تركيب لتوكيد ما تضمنه من معنى لا بد أن تكون فيها ناحية إشعار بما يناسب ذلك الذي يُراد توكيده.

فكلمة (من) إذا زِيدت في تركيب لإفادة التوكيد فلا بد أن يلمح بها إلى أصل تصلح من طريقه أن تحقّق هذه الفائدة، فإذا كانت الكلمة المزيدة -كما قلنا فيما سبق- منسلخة عن معانيها الوضعية كلها بحيث لا تفيد شيئًا منها إفادة أصلية أساسية فإنها -مع ذلك ومن أجل إفادة التوكيد- لا بد أن تشير -ولو من طرف خفي- إلى أن أصل من تلك المعاني يكون مناسبًا للمعنى المراد توكيده.

ونرى أن أقرب معاني (من) وأقواها على تحقيق التأكيد هو معنى (التبعيض).

فقول الله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ [الأنعام:59] قد جاءت فيه كلمة ﴿وَرَقَةٍ﴾ نكرة في سياق النفي، فصارت عامة شاملة كلّ ما يُطلق عليه هذا اللفظ من ورق الشجر، فكلّ ورقة تسقط من شجرة فإن الله عليم بها وبشكلها ولونها وبسائر صفاتها وأحوالها، وكذلك هو سبحانه عليم بسبب سقوطها وزمانه ومكانه، لا يعزب عن عمله شيء من ذلك كلّه.

وقد زِيدت كلمة ﴿مِنْ﴾ قبل كلمة ﴿وَرَقَةٍ﴾ فأفادت توكيد هذا العموم والشمول، من حيث إنها في الأصل موضوعة لمعنى التبعيض، فهي في موطن زيادتها تلمح إلى هذا الأصل لتؤكّد من طريقه أن على الله تعالى محيط بكلّ ورقة مهما كانت صغيرة ضئيلة؛ ففي هذه الآية الكريمة لم يقصد بكلمة (من) معنى التبعيض قصدًا ذاتيًّا يكون الحكم فيه على بعض من الورقة وجزء من أجزائها، لم يقصد ذلك قصدًا ذاتيًّا، وإنما جعل رمزًا وإشارة إلى ما قد تكون عليه الورقة الساقطة من الشجرة من الصغر والدقة والضآلة، فيكون المعنى أنه مهما تكن تلك الورقة صغيرة ضئيلة فإنها لا تعزب عن علم الله المحيط بكلّ شيء.

هذا، وإنّ التمثيل بقوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ -هو جملة من آية 59 من سورة الأنعام- يدعونا أن نعود إلى هذه الآية لنفصل القول فيها وفي بقية ما ورد فيها بعد تلك الجملة، وهو شيء لا يخرج عن موضوع (من) الزائدة الذي الكلام فيه.

والآية بتمامها هي قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59].

وقد عرفنا أن (من) في قوله سبحانه: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ زائدة من حيث إنّ الحكم الأصلي المراد من التركيب يُستفاد من الجملة مع تجرّدها من ذلك الحرف، فإنه لا فرق بين أن يقال: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾، وأن يقال: (وما تسقط ورقة إلا يعلمها)، فكلمة (ورقة) هي الفاعل في كلا التركيبين والاستثناء مفرغ في كليهما، وهو استثناء من عموم الأحوال. والمعنى: وما تسقط ورقة في حال من الأحوال إلا في حال العلم بها؛ أي لا تسقط إلا وهي معلومة لله تعالى.

قد يقال: كيف يكون ما بعد (إلا) حالًا، وهو يقتضي وقوع الحال من النكرة وهي (ورقة) وذلك غير سائغ؟

والجواب: أنها نكرة أريد بها العموم من حيث قد سلّط على النفي، والسر أن النكرة لا يجئ منها الحال أنها في أصل وضعها تدلّ على فرد منهم شائع في غيره من أفراد الجنس أو النوع، أما إذا كانت النكرة مرادًا بها جميع الأفراد كالنكرة في سياق النفي، فإن هذا يسوّغ مجيء الحال منها لزوال الإبهام، وكذلك إذا كانت موصوفة بوصف من شأنه حصر المراد والإحاطة به فإنه يكون أيضًا مسوِّغًا لمجيء الحال منها.

ثم إنّ (من) هذه قد أفادت بزيادتها توكيد العموم، ولم تكن لإفادة العموم في أصله؛ لأنّ هذا العموم مستفاد من غيرها من حيث قد سلط النفي على النكرة كما علمنا.

وقد يقال أيضًا: إذا كانت (من) المحدّث عنها بهذه المثابة تفيد توكيد العموم، وذلك معنى مهم مما يقصد إليه البلغاء، ويعنون به وبالوسائل التي تؤدي إليه، فكيف يحكم بأن اللفظ الذي يدل عليه ويحقّقه هو من الزيادات في التركيب وليس من الألفاظ الأصلية فيه؟

والجواب: أن العلماء اتفقوا على أنه إذا وردت في التركيب كلمة قد جردت من معانيها الوضعية كلّها، فلم تستعمل في شيء منها على أن يكون جزءًا أساسيًّا في المعنى الأصلي المراد من التركيب، فإنها تعتبر فيه زائدة.

فكلمة (من) إذا وردت في تركيب غير مستعملة في شيء من معانيها الوضعية؛ كالابتداء والتبعيض والبيان وما إليها فإنها تكون زائدة مع أنها في هذا التركيب تكون مفيدة معنى من المعاني الثانوية المهمة التي يُعنى بها البلغاء ويقصدون إلى تحقيقها كالعموم وتوكيد العموم. هذا ما اتفق عليه العلماء: أن تكون (من) في هذه الحالة زائدة، فإذا كان من الناس من لا يرضى أن يُقال بوقوع كلمة زائدة في شيء من آيات القرآن الكريم، فإن المسألة حينئذ لا تعدو أن تكون مسألة اصطلاح، ومعلوم أنه لا مشاحة في الاصطلاح، وذلك أنه لا خلاف بين الطرفين في الحقيقة، والاختلاف بينهما إنما هو في التسمية، أما المعنى فهم فيه جميعًا على وفاق تام.

ومن هذا يُعلم أن القول في (من) الزائدة في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ بيِّن واضح لا إشكال.

إنما الإشكال فيما يقرّره كثير من العلماء في بقية الآية وما جروا عليه في إعرابها[4].

فقد قالوا في إعراب قوله تعالى: ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59]: إن كلمة ﴿حَبَّةٍ﴾ المجرورة في قراءة حفص معطوفة على ﴿وَرَقَةٍ﴾ وداخلة في حكمها؛ أي أنها متأثرة بالعامل الذي سلط على ﴿وَرَقَةٍ﴾، ثم يلحقها الاستثناء الذي لحق هذه، فيكون معنى ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ﴾ ولا تسقط حبة في ظلمات الأرض إلا يعلمها.

وقالوا مثل ذلك في كلمتي ﴿رَطْبٍ﴾ و﴿يَابِسٍ﴾ فيكون المعنى فيهما: (ولا يسقط رطب ولا يابس إلا يعلمه).

وهذا تفسير فيه تكلّف، وإعراب فيه انحراف عن الجادة، فهو لا يستقيم به الأمر مع ما يتبادر إلى الذهن، وينطبع في النفس من المعنى الذي تفيده تلك العبارات البليغة الواردة في الآية الكريمة: ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.

إنه إذا كان ورق الشجر يصحّ أن يوصف بالسقوط كما هو معهود، وكما يدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ﴾ فهل يصح أن يكون مثل ذلك في (الحبة) تكون في ظلمات الأرض؟ هل يمكن أن يقال في جانب الحبة: وما تسقط حبة في ظلمات الأرض، كما قيل في الورقة تسقط من الشجرة؟ ثم إذا كان معلومًا أن الورقة يكون سقوطها من الشجرة فمن أين يكون سقوط الحبة التي في ظلمات الأرض؟

وإذا أمكن أن يُقال ذلك في جانب الحبة أيضًا مع ما فيه من التكلّف فماذا يصنع في كلمتي (رطب ويابس) وقد وردتا في الآية مورد الحبة؟ هل يصح أن يقال فيهما: (وما يسقط رطب ولا يابس)؟

هذا شيء نراه بعيدًا وفيه تكلّف شديد، ثم ماذا يكون بعد ذلك كلّه موقع قوله تعالى: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ بعد قوله سبحانه: ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ الذي هو استثناء منسحب بالضرورة على الحبة والرطب واليابس بحكم عطفها على ﴿وَرَقَةٍ﴾ على ما جرى عليه أولئك العلماء؟

إنّ الكلام -على ما جروا عليه في التفسير- يتم عند قوله تعالى: ﴿وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ﴾ فهو كلام مستوفٍ أركانه، ومشتمل على الحكم بتحقّق علم الله تعالى بجميع ما ذكر في الآية من أحوال الورقة والحبة والرطب واليابس؛ وذلك هو ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ﴾، فإن معناه أنه لا يكون شيء من ذلك إلا معلومًا لله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يفهم قوله تعالى في ختام الآية: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾؟ وكيف يقع موقعًا مناسبًا مما قبله؟ وعلى أي وجه إعرابي يتّصل به؟ إن طريقة أولئك العلماء في تفسير الآية وإعرابها تجعل عبارة الاستثناء هذه قلقة في موضعها، منعزلة عمّا قبلها، وغاية ما استطاع فريق منهم أن يوجهوا به ذلك الاستثناء أنهم قالوا: إنه بدل من الاستثناء الأول؛ بدل اشتمال إن أُريد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ، وبدل كلّ من كلّ إن كان المراد هو علم الله تعالى.

أما الزمخشري فقد اكتفى بأن قال: إنّ الاستثناء الثاني هو كالتكرير للاستثناء الأول؛ لأن معنى ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ هو معنى ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وقد تابعه في ذلك فريق من المفسِّرين.

ورأينا في هذه الطريقة أنها مع كونها عسرة وفيها تكلّف لا يزول بها قلق ذلك الاستثناء الثاني في موضعه، ولا ضعف ارتباط بما قبله.

النتيجة:

ونتيجة البحث أنه من أجل تلك الوجوه التي أشرنا إليها، ووجوه الضعف التي ينطوي عليها تفسير أولئك العلماء للآية يكون من الواجب العدول عن ذلك التفسير إلى شيء آخر يتفق مع بلاغة القرآن وروعة بيانه وقوّة نظامه.

والرأي في ذلك أن العطف الوارد في الآية ليس من عطف المفردات كما جرى عليه أولئك العلماء، فليست كلمة ﴿حَبَّةٍ﴾ معطوفة على ﴿وَرَقَةٍ﴾، ولا كلمة ﴿رَطْبٍ﴾ أو كلمة ﴿يَابِسٍ﴾ معطوفة عليها كذلك، وإنما الكلام من عطف الجمل بعضها على بعض.

فقوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ كلام تام، وجملة مستقلة لا يلحق بها شيء من المفردات التي بعدها.

وقوله سبحانه: ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ جملة أخرى معطوفة عليها.

وقد جاء الحكم في هذه بطريقة القصر (بالاستثناء بعد النفي) كما جاء في الأولى. وهذا الذي نقوله هو الذي تقضي به بلاغة القرآن وبراعته، وتتحقّق به مفردات أصول اللغة وقواعد النحو.

وهو أيضًا الذي تشهد له قراءة أخرى متواترة ترفع كلمات (حبة، ورطب، ويابس)، فهي مرفوعة على أنها مبتدأ، والخبر هو ما تضمنه الاستثناء، وقد قيل: إن القرآن يفسر بعضه بعضًا؛ وإذًا فما أجمل أن تفسر قراءاته بعضها ببعض.

لكن قد يقال: إنه ظاهر على قراءة الرفع أن تكون الجملة اسمية من مبتدأ وخبر، فكيف يكون الأمر على قراءة الجر؟

والجواب: أنه يكون كذلك فإن تلك الكلمات المجرورة مرفوعة المحل على تقدير (من) الزائدة التي دلّ عليها التصريح بها في الجملة السابقة، وتقدير الكلام: (ولا من حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).

فكلمة (حبة) المجرورة بحرف الجر الزائد المقدّر تُعرب مبتدأ مرفوعًا تقديرًا، وقد عطف عليها بالجر الظاهر كلمتا (رطب، ويابس)، فدخلتا بذلك في حكم المبتدأ، ويكون الخبر هو ما تضمنه الاستثناء الذي في آخر الآية ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل:75]، فإن كلمة ﴿غَائِبَةٍ﴾ وقعت مبتدأ وهي مجرورة ظاهرًا بحرف الجر الزائد (من)، وخبر المبتدأ قوله سبحانه: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.

وقد عثرنا -بعد كتابة ما تقدم- على ما يقوي هذا الرأي ويستأنس به فيه من كلام الزمخشري في موطن آخر من التفسير، وهو ما قاله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس:61]، وهذا نصّ ما كتبه على قوله سبحانه: ﴿وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ﴾ قال -رَحِمَهُ الله-: «القراءة بالنصب والرفع، والوجه النصب على نفي الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلامًا برأسه». ثم قال: «وفي العطف على محل ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ أو على لفظ (مثقال ذرة) فتحًا في موضع الجر لامتناع الصرف إشكال؛ لأن قولك: (لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مبين) مشكل» ا. هـ.

وهكذا يقرّر العلامة الزمخشري: أن عطف (أصغر وأكبر) على ما قبله عطف مفردات مشكل على كلتا القراءتين؛ فلا يصح أن يكون رفعهما بطريق العطف على محل ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ الذي هو المعنى فاعل ﴿يَعْزُبُ﴾، كما لا يصح أن يكون نصبهما بطريق العطف على لفظ ﴿مِثْقَالِ﴾، ويكون جرّهما بالفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنهما ممنوعان من الصرف لا يصح عطفهما كذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن يُقال في تقدير الآية: وحاصل معناها (وما يعزب عن ربك شيء إلا في كتاب مبين)؛ أي وذلك شيء لا يستقيم في الفهم، ولا ينبغي حمل القرآن الكريم عليه.

هذا الذي يقرّره الزمخشري هنا في آية يونس هو في غاية الدقة والوجاهة.

ومثله ما قاله في تفسير آية (3) من سورة سبأ وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ:3].

فإنه -رَحِمَهُ الله- قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ﴾ ما نصه: «وقرئ ﴿وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ﴾ بالرفع على أصل الابتداء، وبالفتح على نفي الجنس كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، بالرفع والنصب، وهو كلام منقطع عما قبله...». ثم قال: «فإن قلت: هل يصح عطف المرفوع على ﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ كأنه قيل: (لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر) وزيادة (لا) لتأكيد النفي، وعطف المفتوح على ﴿ذَرَّةٍ﴾ بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف كأنه قيل: (لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر). قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء) ا. هـ.

هذا كلام الزمخشري أيضًا في آية (سبأ) وهو ليس أقل دقّة ولا قوة مما قاله في آية يونس، غير أننا نلحظ أن بين ما قرّره في إعراب هاتين الآيتين وما جرى عليه في إعراب آية الأنعام التي قدّمناها اختلافًا ظاهرًا، فإنّ الوجه الإعرابي الذي اعترض عليه في الآيتين وقال: إنه يترتب عليه إشكال أو يأباه الاستثناء هو الذي سار عليه في إعراب آية الأنعام، فقد قال هناك ما نصُّه: (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) عطف على (ورقة) وداخل في حكمها، كأنه قيل: (وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه). وقوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ كالتكرير لقوله: ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾؛ لأن معنى ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ ومعنى ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ واحد، والكتاب المبين علم الله تعالى أو اللوح.

ثم قال: «وقرئ (وَلا حَبَّةٌ وَلا رَطْبٌ وَلا يَابِسٌ) بالرفع، وفيه وجهان: أن يكون عطفًا على محلّ ﴿مِنْ وَرَقَةٍ﴾، وأن يكون رفعًا على الابتداء وخبره ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار». ا. هـ.

هذا هو الوجه الإعرابي الذي لم يرضَ الشيخ الزمخشري أن تجري عليه آيتا يونس وسبأ لما يترتب عليه مما قاله في الموطنين. ونحن نقول: إنه إذا كان لا يرضى أن يكون العطف في هاتين الآيتين من قبيل عطف المفردات؛ لأنه يترتب عليه إشكال كما عبر بذلك في يونس، ولأنه يأباه الاستثناء كما عبر بذلك في سبأ، إذًا لا يصح أن يقال: (وما يعزب عن ربك شيء إلا في كتاب مبين)، ولا أن يقال: (يعزب عنه مثقال ذرة إلا في كتاب مبين). نقول: إنه إذا كان كذلك لذلك فإنه لا يصح أيضًا أن يكون العطف في آية الأنعام من عطف المفردات؛ لأنه يترتب على ما قلناه من وصف الحبة والرطب واليابس بالسقوط الذي لا يظهر أن يكون وصفًا إلا للورقة التي تسقط من الشجرة؛ ولأنه يترتب عليه أيضًا تكرير الاستثناء على ذلك النحو غير المعهود في أسلوب القرآن الحكيم، وذلك أنّ نَظْم الآية يصير على ذلك الوجه الإعرابي، هكذا: (وما يسقط من ورقة ولا حبة ولا رطب ولا يابس إلا يعلمه إلا في كتاب مبين).

على أنه لو كان هذان الاستثناءان قد وردَا في الآية هكذا متصلين من غير فصل بينهما لهان الأمر بعض الشيء، ولأمكن أن يُقال: إن الثاني تكرير للأول كما قال الزمخشري، أو بدل منه كما قال غيره، ولكن الفصل بينهما بما جاء في الآية متعلقًا بالحبة والرطب واليابس من شأنه أن يبعد ذلك ويجعل الاستثناء الثاني مرتبطًا بهذه الثلاثة: (الحبة، والرطب، واليابس) وحدها ليكون حكمًا عليها وحدها، وبذلك لا تكون له علاقة بالاستثناء الأول.

هذا، وعلى أساس ما اخترناه ورجحناه من أن قوله تعالى: ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59] هو جملة معطوفة على الجملة قبلها، وأنه ليس من عطف المفردات، نقول: إنه يمكن أيضًا أن تكون هذه الجملة المعطوفة جملة فعلية على تقدير فعل كينونة مع (من الزائدة)، ويكون التقدير هكذا: (لا يكون من حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).

غير أنه قد يعترض على هذا الوجه من الإعراب بأن البصريين لا يجيزون باطراد حذف فعل الكينونة، فإنهم يمنعون حذفه في كلّ موطن ليس فيه (إن) أو (لو)، أو يقولون: إن ذلك كما أشار إليه ابن مالك في قوله:

ويحذفونها ويبقون الخبر ** وبعد إن ولو كثيرًا ذا اشتهر

وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن تُخرَّج الآية على ذلك التعليل، ولكن يجاب عن ذلك مما قرّرناه غير مرّة ونقرّره دائمًا: أنه لا ينبغي أن يلتزم في إعراب القرآن مذهب طائفة خاصّة من النحويين بصرية كانت أو كوفية، وأنه لم يقل أحد: إن القرآن في إعرابه قد نزل على طريقة البصريين، ثم لا ينبغي أن يذهب عاقل متبصر إلى أن مذهب النحاة البصريين هو أصح المذاهب الإعرابية وأرجحها في كلّ شيء، وكلّ موطن وبغير استثناء، فإن الجنوح إلى ذلك يكون من الجهل الفاضح.

ويمكن أن يستأنس في هذا المقام بما ورد في الصحيحين في حديث بدء الوحي من قوله ورقة بن نوفل: (يا ليتني فيها جذعًا) بنصب (جذع)، وما قاله الشيخ الزرقاني شارح المواهب في ذلك (جـ1، ص215) مما حكاه عن الخطابي والمازني وابن الجوزي في إعراب (جذعًا) بالنصب أنه على تقدير فعل كينونة، أنه هكذا يجري مجرى على مذهب الكوفيين ويكون تقدير الكلام عليه هكذا: (يا ليتني أكون فيها جذعًا)، وذلك كما قدر الكوفيون أيضًا فعل الكينونة في قوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ [النساء:171]، فإنهم قالوا: إنه على معنى (انتهوا يكن خيرًا لكم). ولا شك أن هذا تقدير صحيح وتخريج قوي جيد للآية الكريمة يرجح به مذهب الكوفيين عن مذهب البصريين.

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين

 

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «مجمع اللغة العربية بمصر»، العدد (37)، 1 مايو 1976. (موقع تفسير).

[2] أما إذا كان الضمير راجعًا إلى المُنزَّل وهو معنى (ما) الموصولة، فإن (من) تكون بيانية قد رفع بها الإيهام الذي في كلمة (سورة) وبين بها المراد بتلك السورة التي أمروا أمر تحد وتعجيز أن يأتوا بها؛ أي أن المطلوب أن يأتوا بسورة مماثلة للقرآن في فصاحته وبلاغته وعلو شأنه، ثم لا يصح أن تكون (من) للتبعيض؛ لأنه يوهم أن يكون للقرآن مثل وأن عجزهم إنما يكون عن الإتيان ببعض منه.

[3] قد يُقال: إن هذا الضابط الذي يدلّ على زيادة الكلمة ينطبق على (من) الأولى في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ﴾، وهي التي قرّر آنفًا أنها ابتدائية، وذلك أنه يمكن الاستغناء عنها والاكتفاء بكلمة (قبله) في غير القرآن بالضرورة، وذلك لا يخل بالمعنى، فإنه لا فرق بين أن يقال: "قد أهلك من قبله"، وأن يقال في غير القرآن: "قد أهلك قبله".
ويجاب عن ذلك: بأن كلمة (قبله) إذا كانت تدل وحدها إجمالًا على الزمن الذي أهلك اللهُ فيه تلك القرون، وأنه كان قبل زمن قارون، فإنها لا تنهض للدلالة على ما تفيده (من) الابتدائية، فإن (من) هذه تفيد تقريرًا وتمكينًا لا يكونان إذ خلا الكلام منها، إنها تفيد تقرير الحكم بوقوع هلاك تلك القرون في ذلك الزمان السابق على زمن قارون، تقريرًا يرى معه كان ذلك الهلاك كان ناشئًا من تلك القبلية الزمنية منبعثًا عنها، وذلك لا تفيده كلمة (قبله) وحدها، وأيضًا فإن (من) تفيد أن الإهلاك قد كان في الزمان الماضي كله، بخلاف (قبله) وحدها، فإنها تصدق بوقوع الإهلاك في بعض الزمن الماضي.

[4] يراجع تفسير آية 59 من سورة الأنعام للزمخشري والنسائي والجلال السيوطي وأبي السعود والألوسي.          

الكاتب

الدكتور عبد الرحمن تاج

شيخ الأزهر الأسبق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))