قراءة في كتاب
(الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية)
للدكتور/ سامي العجلان
تمهيد:
لم يزل العلماء في كلّ عصر يولُّون وجوههم نحو القرآن، نحو النور الذي أنزله اللهُ مباركًا هدى ورحمة، يجوسون للكشف عن آياته، فكلّ ما فيه آية، ويشمِّرون لتدبره ومدارسته والكشف عن لطائفه ودقائقه. فهو «الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الردّ ولا تنقضي عجائبه». وإنّ مِن أحد أوجهه العِجَاب التي شغلتْ علماء المسلمين بالدرس والنظر هي آية بيان القرآن، تلك التي أبلس بها كلّ مَن رام في مضمار الفصاحة والبلاغة مجاراته، وقطعت جهيزة كلّ منكرٍ لنوره وهداياته، فنظروا له من كلّ الوجوه؛ من جهة لفظه المختار، ومن جهة نَظمه المتناسق، ومن جهة بنائه الكليّ، بناء كلّ سورة وما حَوته، وكيف انتظمت وشائجها وعلائقها حتى جاءت بناء معجزًا يسرّ الناظرين، قال فيه ربنا -جل وعلا-: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 38].
وإنّ النظر في البناء الكلي للسورة أمر لا يصمد له إلا من اجتمع له علوم عدّة، فهذا النظر الكلي الشامل لا يقوم إلا بمجموع أمور من علوم مختلفة يهتدي بها الناظر إلى قواعد وضوابط تضبط له هذا الأمر، فليس غاية ما في هذا العلم أن تعرف ما وجه المناسبة بين هذه الآية وغيرها أو ما مقصد هذه السورة، بل أن تعرف كيف استخرجت هذه المناسبة، وعلى أيّ شيء قامت، وكيف يدرك مقصد السورة. وعلى صعوبة الكلام في البناء الكلي للسورة وفي المناسبات وما شابه ذلك، إلا أنه قد شاعت الكتابات والتآليف في هذا الأمر، كلُّ قوامها جمعُ عددٍ من أقوال المفسِّرين في التناسب بين الآيات والسور، كلّها عاطلة من تحرير، ومفتقرة إلى دليل، فصار الحديث عن وحدة السورة وعن بنائها وتناسبها مرتعًا لكثير من الناس تحت ستار التدبّر؛ ولهذا كان الحديث عن كتاب (الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية)[1] للدكتور/ سامي العجلان[2] حديثًا ذا أهمية، فلقد تتبّع فيه تراثُنا بطريقة معجِبة أقوالَ وآراء العلماء في بناء السورة الكلي، وأخرج ذلك في بناء محكمٍ تستطيع من خلاله أن تعرف كيف أجاب العلماء عن سؤال الوحدة السياقية في السورة، وكيف عالجوا هذا الأمر تنظيرًا وتطبيقًا.
محتويات الكتاب:
صُدّر الكتاب بمقدّمة من الشيخ الأستاذ الدكتور/ محمد محمد أبو موسى فيها ثناء بليغ على صنيع المؤلِّف في كتابه، ثم مقدّمة أخرى للأستاذ الدكتور/ محمد بن عليّ الصامل، المشرف على المؤلِّف في بحثه، وجاء فيها ما يبيّن قدر جهده، ثم أتى الكتاب بعد ذلك في مقدّمة و«تمهيدٍ، وثلاثة فصول.
أمّا التمهيد: فيضمّ ثلاثة مباحث.
يتناول أوّلها: مفهوم السياق في التراث العربي وأنواعه وأهميته.
ويتناول المبحث الثاني: مفهوم السياق في الدراسات المعاصرة وأنواعه وأهميته.
وأمّا مبحثه الثالث: فيتناول مفهوم الوحدة السياقية للسورة ومنزلتها في الدراسات القرآنية.
ويختص الفصل الأول من هذا البحث بدراسة مكوّنات الوحدة السياقية كما تبدّت عند علماء الدراسات القرآنية، وينقسم إلى ستة مباحث بعدد هذه المكوّنات، وهي:
المبحث الأول: مقصد السورة.
والمبحث الثاني: اسم السورة.
والمبحث الثالث: الخصائص الموضوعية والأسلوبية المطّردة في السورة.
والمبحث الرابع: تناسب آيات السورة.
والمبحث الخامس: أسباب نزول آيات السورة وظروف تنزيلها.
والمبحث السادس: علاقة السورة بالسياق الكلي للقرآن.
ثم يتناول الفصل الثاني علاقة الوحدة السياقية للسورة بأبرز الظواهر الأسلوبية الشائعة في القرآن الكريم، فيدرس منها خمس ظواهر يخصّص لكلّ ظاهرة منها مبحثًا من مباحثه الخمسة:
المبحث الأول: التكرار.
المبحث الثاني: متشابه النَّظْم.
المبحث الثالث: التقابل.
المبحث الرابع الحروف المقطعة.
المبحث الخامس: الفواصل القرآنية.
أمّا الفصل الثالث فقد خصّص لتمييز السِّمات المنهجية لمفهوم الوحدة السياقية للسورة كما تبدت في حقل الدراسات القرآنية، حيث يتناول:
المبحث الأول منه: أهم السمات المنهجية التي اتسم بها أسلوب علماء الدراسات القرآنية في تناول الوحدة السياقية للسورة.
ثم يتوقف المبحث الثاني منه عند بعض الفروقات المنهجية في أسلوب التناول بين عالِمَين من أبرز علماء الدراسات القرآنية المشاركين في قضية الوحدة السياقية للسورة، وهما؛ الشاطبي والبقاعي.
أمّا المبحث الثالث: فيتصدّى لتمييز مفهوم الوحدة السياقية عند علماء الدراسات القرآنية عن مفهوم بلاغي شهير، وهو مفهوم النَّظْم»[3].
هدف الكتاب:
نَصّ المؤلّف في مقدّمته على هدفه من هذا البحث فقال: «ويمكن إجمال أهم أهداف الموضوع وغاياته... في هدفين كبيرين:
1- الإسهام في توثيق الصِّلَة بين البلاغة العربية والدراسات القرآنية؛ اعتمادًا على تاريخهما المشترك؛ فمن المعروف أن البلاغة وُلِدَتْ في محيط الدراسات القرآنية [...]، ولعلّ من أهم الخطوات اللازمة لإعادة الصلة بين البلاغة والدراسات القرآنية هي إبراز بعض المباحث والمسائل الثمينة المتناثرة في حقل الدراسات القرآنية ولا سيما في كتب التفسير والإعجاز وأصول الفقه والتي استحدثت بعد استقلال البلاغة عن هذا الحقل.
2- إبراز المباحث ذات البُعد الكلي في تناول النصوص التي يكتنز بها تراثنا العربي الإسلامي... فإذا كان التناول المحدّد والدقيق للأفكار والعبارات والنصوص قد أخذ حيزًا واسعًا في بحوث علمائنا بكلّ ما ينطوي عليه من دقّة في الرصد، وذكاء وألمعية في الاستنتاج =فإن التناول الكلي للأفكار والنصوص قد أخذ حيّزه المناسب له من بحوثهم واجتهاداتهم بكلّ ما فيه من عمق الربط وشمولية النظر، ولعل هذا البحث يسهم في الإبانة عن ثراء التناول الكلي للنصوص عند علمائنا؛ إذ يجمع في مكانٍ واحد العديد من المباحث والمسائل والنصوص ذات البُعد الكلي في تناول السورة القرآنية والتي حرّرها علماء الدراسات القرآنية في القرون المتقدمة»[4].
إشكالية الكتاب:
انطلق المؤلِّف من إشكاليةٍ واضحة ومحدّدة، وهي: كيف نظر العلماء إلى البناء الكلي للسورة؟ وهذه الإشكالية دفعت بالمؤلِّف إلى إشكاليتين كبيرتين:
الأولى: إشكالية الاستقراء:
فإن السؤال الذي انطلق منه -على وضوحه وجلائه- الإجابة عنه جدّ عسيرة؛ إِذْ لا سبيل إلى الكشف عنه وبيان حقيقته إلا التتبع والاستقراء، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل قد يتتبع الباحث هذا الإشكال في كلّ ما يقرؤه، حتى إذا عرض إشكاله على شتى الكتب في مختلف القرون =نَمَتْ عنده ملكة كامنة في نفسه يستطيع أن يدرك من خلالها جواب الإشكال، ولكن إذا أراد أن يعرض ما وجده في نفسه مكتوبًا محررًّا في صياغةٍ علميّة فإنه يعسر عليه، ويمتنع منه. فكانت محاولة المؤلِّف إلى وضع منثور ما قال العلماء ومتفرّقه في قواعد كلية، وضوابط جامعة =جهدًا من الطراز الرفيع، وعملًا محكم الصنيع. وأنا في هذه النقاط أحاول أن أكشف عن طريقة المؤلِّف في حلّ هذا الإشكال حتى وصل إلى ما وصل إليه.
أولًا: أن المؤلّف خلع عن نفسه رداء التصوّرات المُسبّقة، وتدسّس في كلام العلماء يستخرج منهم مرادهم على الحقيقة، وهذا -على بداهته في البحث العلمي- إلا أنه عزيز نادر، خاصةً في الحديث عن (علم المناسبات) و(وحدة السورة) واتصاله بجلسات التدبر وما يَتْبَع ذلك من حديث، فإنك تجد كثيرًا ممن يتكلّم في هذا الأمر، يأخذ قطفة من كلام العلماء غيرَ مُبالٍ باطّراد تلك القاعدة من عدمها وينزلها على القرآن اجتهادًا وتدبرًا في زعمه، غيرَ مبالٍ أيضًا بأن يلعن آخر حديثه أوله، فالمؤلّف وفّق في هذا التجرّد الصحيح لتتبع أقوال العلماء في قرونٍ متطاولة؛ من بداية التدوين إلى القرن العاشر الهجري، حتى رأي في هذا الزمان الفسيح الأفكار بين يديه متنامية متعاقبة، يضيف بعضهم على بعض، ويعترض بعضهم بعضًا، ويقوّم كلٌّ منهم ما رآه معوجًّا في سابقه. هذا التتبّع جعله يرى ما الذي اعتنى به العلماء كثيرًا وما الذي كان عندهم قليلًا، كقوله في مبحث التناسب، عن تناسب فاتحة السورة وخاتمتها مع فصولها: «وحديث العلماء عن هذا النوع من التناسب الإجمالي عزيزٌ ونادر»[5]. وكقوله: «ولعلّ مِن أوائل العلماء الذين نبّهوا إلى هذا الاقتران [أي اقتران الأحرف المقطعة بذِكْر القرآن في معظم السور التي افتتحت بهذه الأحرف] ابنَ قتيبة»[6]. ولا يخفى أهمية العناية بتاريخ المصطلحات والأفكار في سياق الحديث عن العلوم.
ثانيًا: وهي متعلّقة بما قبلها، وذلك أن مما يعوق التتبع التاريخي للأفكار الذي ذكرناه هو مناقشة الجزئيات المتعلّقة بالفكرة الكليّة، فيضيع وسط كثرة المناقشات للأمثلة أو للفكرة مضمونُ الفكرة نفسها. والمؤلِّف كان يقظًا متنبِّـهًا لهذا الأمر؛ حيث حاول أن يلتقط من خلال كلام المفسِّرين (الفكرة العامة) أو حضور هذه الفكرة في قرنٍ ما غاضًّا الطرف عن مناقشات جزئيات تلك الفكرة، ومثال ذلك: لمّا أراد أن يلتقط المؤلِّف علاقة الحروف المقطعة بالوحدة السياقية للسورة في زمن الصحابة والتابعين، وأوردَ أثرًا لأبي فاختة ثم ذكر بعد ذلك انتقاد ابن عطيّة لجزئية في هذا الأثر، ثم قال بعد ذلك وهو محل الشاهد: «المقصود هنا هو بيان قدَم هذه الفكرة في أوساط المفسّرين: فكرة الربط بين الحروف المقطعة وبين مجمل السورة التي استهلّت بها، وهي الفكرة التي لم تكن -بحد ذاتها- مناط انتقاد ابن عطيّة في النقل السابق»[7]. ومثل هذا في الكتاب كثير، سواء صرح به المؤلِّف أم لم يصرح[8].
ثالثًا: وهو مكمّل لما سبق، أن المؤلّف بعد هذا التتبّع الدؤوب، وهذه الدقّة في رصد القواعد الكلية والأفكار العامة، لم يلقِ هذه النصوص وهذه الشواهد مجرّدة، يتيه القارئ في غمارها، ويحار الفهم في جزئياتها واعتراضاتها، بل سبك هذه الشذرات والمتفرقات سبكًا متقنًا تستطيع من خلاله أن ترى هذه الجهود المتناثرة -بل المتضاربة أحيانًا- رؤية واضحة بعبارة موجزة مفصحة. وخير مثال على ذلك صنيع المؤلِّف في باب المناسبات، فإنه أبدع ما فيه ما شاء له الإبداع، وتأنّق حتى ما يزيد على تأنقه شيء، ولو أفرد هذا المبحث الذي وقع في 130 صفحة، وطُبع مستقلًّا لكان فريدة في هذا العلم الذي تجاسر عليه من لا يعرف قبيلًا من دبير، ولا يفصل بين النقير والقطمير، ويكفيك في هذا الموضع أن أنقل لك ما قاله المؤلِّف عن جهده في سياق تتبع بحوث العلماء التطبيقية في التناسب التفصيلي، يقول: «حديث العلماء في التناسب التفصيلي غزير جدًّا، وقد رجعتُ لتتبع كلامهم فيه إلى قرابة ثلاثين مصدرًا من مصادر التفسير القرآني، وكانت الحصيلة أن اجتمع لديَّ ما يقرب من ألف نصٍّ من نصوص العلماء في التناسب التفصيلي للآيات، بعد ذلك قمتُ بإحصاء أنواع الروابط والعلاقات التي كانوا يشيرون إليها في هذه النصوص، وقد بلغت هذه العلاقات بعد الرصد والاستقراء ما يقرب من ثلاثين علاقة...»[9].
هذا عن طريقة المؤلِّف في حلّ إشكال التتبع والاستقراء والاستفادة من كلام العلماء المتناثر، فإذا ما تجاوزنا هذه الإشكالية، فإنّ ثَم إشكالية أخرى بعد هذه، وهي:
إشكالية التصنيف الذي يجلّي المفهوم:
الإبانة عن مفهوم الوحدة السياقية وتجليته، وكيفية صوغ هذه الأقوال والآراء في فصولٍ واضحة محدّدة تبيّن المفهوم وتُوقِفُ القارئ على المراد وتُعين الباحث على الاستفادة =كانت إحدى الإشكالات التي واجهت المؤلّف للإجابة عن سؤال: كيف نظر العلماء إلى البناء الكلي للسورة؟ والمؤلِّف عالج هذه الإشكالية في كتابه بفصليه الكبيرين، بيان ذلك:
أولًا: أنه كسر المؤلّف عظم كتابه على ثلاثة فصول، والفصل الأول كان عن مكوّنات الوحدة السياقية، ضم ستة مباحث هي مكونات الوحدة السياقية، ولم يأتِ عدد هذه المباحث ولا ترتيبها بناء على ما تتبعه المؤلّف واستقرأه، بل هي قسمة عقلية تظهر عند النظر في تفكيك مفهوم الوحدة السياقية، وقد فصّل المؤلف هذه القسمة وأساسها في تمهيد هذا الفصل، والذي يعنينا في هذا الأمر -وهو أحد الأمرين الذين بيّن بهما مفهوم الوحدة السياقية- أنّ هذه القسمة كانت جزءًا كبيرًا من حلّ الإشكالية؛ لأنه لا بد قبل الدخول على هذا التراث لجمع مادةٍ في مسألةٍ ما -كالوحدة السياقية- من أن يستصحب المؤلف قسمة تعينه على جمع هذه الأقوال ووضعها بترتيبٍ ما، أو تحت صنفٍ ما، فهذا التحديد ولو كان أوّليًّا فإنه مُعِين على تتبع ما له عُلقة بالإشكال ثم ما يزال ينمى ويتعاظم حتى خرج في صورته الأخيرة عند المؤلّف وهي المباحث الستة التي جعلها أجزاء الوحدة السياقية، وهذا التحديد لمكونات الوحدة السياقية أعانه على تقييم أيّ هذه المكونات هو الأكثر حضورًا وأيّها الأقل، مما يعين الباحث والقارئ على الاستفادة الحقيقة عند النظر في هذا المفهوم.
ثانيًا: أن المؤلّف عقد الفصل الثاني لبيان علاقة الوحدة السياقية في بعض الظواهر الأسلوبية الشائعة في القرآن، وذلك الكشف مهم في حلّ إشكالية تجلية مفهوم الوحدة السياقية، فإن الشيء لا يتضح ولا يسفر إلا بعد النظر في ما يؤثّر فيه، وكلّما كان تأثير الأمر أعمق كان مركزيته في العلم أرسخ وأعلق، فكانت محاولة المؤلّف لتوضيح هذه العلاقات وأثر بعضها في بعض كاشفةً مزيد كشف عن المراد بالوحدة السياقية وعن مدى حضورها في حلّ إشكاليات هذه الظواهر الأسلوبية الشائعة عند العلماء، وهذا هو الإشكال الأوّل الذي سعى هذ البحث للإجابة عنه، وهو: كيف نظر العلماء إلى البناء الكلي للسورة؟
أمّا الفصل الثالث فكان بمثابة مراجعة للجهود التي عرضت، وإبرازها بشكل مجرّد لتوضيح سمات تناوُل العلماء.
مميزات الكتاب:
1- اعتنى المؤلّف في كتابه بالتحرير الشديد للمصطلحات والمفاهيم العلمية، وكان لا يسلّم للآراء التي لم تعضدها النصوص ولم يؤيدها الذّوْق، فكان يتتبع بنفسه حتى يصل إلى النتيجة، فمعظم المصطلحات التي تردّدت في هذا البحث مصطلحات بلاغية، وهي فضفاضة؛ إن لم يعتصم فيها الباحث بالدقّة في تحديد مراد كلّ عالمٍ منها، أتت نتائجه خبط عشواء. ومن شواهد ذلك في هذا الكتاب:
◈ لـمّا تعرّض المؤلّف للقاعدة الكلية الخامسة في علم التناسب وهي أنه: «لا يمكن الوصول إلى التقدير الصحيح لتناسب الآيات دون فهم فنّ الاستطراد القرآني»[10]، دخل في غمار الكشف عن ماهية الاستطراد والفرق بينه وبين «حسن التخلّص» و«الالتفات»، ولا أصف لك خيرًا من وصف العلّامة أبو موسى لصنيع الباحث في هذه الجزئية، فقال: «وكنت أترصّد له عثرة أو غفلة وهو في معمعان الخلافات، ولكنه كان شديد اليقظة، ما إن يقترب من موطن الزلل حتى يفطن إليه ولا يقع فيه، وكنت أراه دائمًا معتصمًا بيقظته وغزارة مادته، وامتلاكه لها وسيطرته عليها، ولباقته في حوار الأفكار»[11].
◈ ومثال ذلك أيضًا لـمّا تعرّض لتفنيد حجة الرافضين لوقع التناسب في القرآن بأن «الله أنزل القرآن بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وقد عرف عن العرب في خطاباتهم الاقتضاب، والتنقل بين شتى الموضوعات في المقام الواحد، وتجد القصيدة الواحدة عندهم تضم أقاويل متعدّدة وأشتاتًا غير منتظمة من الموضوعات والفنون دون رابط يوحّد بينها أو مناسبة تجمعها» =تساءل قبل أن يفنّد هذا القول «عن مدى صحة هذا الحكم الشمولي على لغة العرب وعلى خطاباتهم وأشعارهم»[12]، ثم نفى هذا الحكم العام بذكر بعض القصائد التي فيها خيط ناظم وبعض الخطب والأحاديث كذلك، وهذا تحرير بديع، ووقفة مهمة لم أجد من تنبه لها -في حد علمي- في سياق البحث عن هذا الأمر.
وأمثلة التحرير للمصطلحات والوقوف مع الأفكار قبل التسليم لها كثيرة في هذا الكتاب حبّذا لو جُمعت.
2- كان من أثر التتبع التاريخي الدقيق الذي تكلّمنا عنه في فقرة إشكالية الكتاب أن أُتيح للمؤلِّف أن يكون دقيقًا في عزو النصوص لمظانها، فإنه قد يكون الكتاب قد اقتبس الفكرة أو المضمون من تأليف سابق ولم يشر إلى ذلك، فكان المؤلّف متنبّهًا لهذا الأمر وكثيرًا ما يشير إلى ذلك في الهوامش خاصة في تفسير ابن عادل[13].
3- دقّة ترتيب مباحث الكتاب، وسلاسة الانتقال بين الأفكار، مع أن الكتاب كان فيه حشد هائل لمختلف النصوص والأقوال، إلا أن التنقل بين هذا الكمّ الهائل من النصوص كان سلسًا وواضحًا لدقة المؤلّف في ترتيب ذلك وتبويبه وتقعيده.
المآخذ على الكتاب:
لم أقف في هذا الكتاب المحرّر على ما يستدعي النظر إلا في أمرين:
1- أولهما هو المبحث الرابع من الفصل الثاني الذي عقده للكلام عن علاقة الأحرف المقطّعة بالوحدة السياقية، أحسب أنّ فَرْط عناية المؤلّف بالتحرير والتدقيق قد أدّت به إلى أن يُسهِب فيه إسهابًا خرج به عن مقصود الكتاب قليلًا، فقد أطال في تحرير الأقوال في هذه المسألة، وفي تحقيق معنى المتشابه وأقوال العلماء فيه، وفي ذكر تـهويـمات الصوفية في تفسير الأحرف المقطعة، وكلّ ذلك مما يمكن اختصاره، ويُكتفى فيه بالإشارة، إلا أني أعذر المؤلّف في أنّ هذا الاستطراد الذي كان في هذا المبحث إنما هو من أثر تحريره الشديد، وتتبعه اليَقِظ. بل إن مبحثه في الأحرف المقطعة يصلح أن يكون بحثًا قائمًا بنفسه؛ لذا فقد كنتُ في حيرةٍ من أمري لمّا تحدثتُ عن هذا المأخذ.
2- وضعه للفصل [للمبحث] الأخير من الفصل الثالث في هذا المكان، فهذا المبحث عقده للتفرقة بين مصطلح الوحدة السياقية وبين مصطلح النّظْم، فما وجه انتظامه في الفصل الذي عقده لبيان سمات التناول؟! وأحسب أن مكانه اللائق يكون عند التعريف بالوحدة السياقية ومفهومها، إلا أن يرى المؤلّف أن هذا المبحث لا يتم إلا بعد ذكر مكوّنات الوحدة السياقية وشرحها؛ فحينئذ قد يكون موقع هذا الفصل قابلًا للنظر.
الخاتمة:
هذه قراءة موجزة لكتاب (الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية) للدكتور/ سامي بن عبد العزيز العجلان، أحببتُ فيها أن أعرض جهدًا ينبغي أن يُحتذى، ويُـتَّخَذ قدوةً في البحث العلمي والصبر على التتبع والاستقراء، حتى نعيد إلى بحوثنا جدتها، وحتى نبرّ سلفنا وتراثنا باستخراج مكنون كلامهم وتحريراتهم، ونكمل ما تركوه ولم يحرّروه، وأنا أحسب أن هذا الكتاب لبنة في هذا البناء المحكم، وأرجو أن أكون قد وُفّقت في عرضه وبيانه.
[1] أصل هذا الكتاب أطروحة ماجستير، صدر عن دار التفسير، الطبعة الثانية عام 1436هـ= 2015م في مجلدٍ كبير عدد صفحاته 793 صفحة.
[2] هو الدكتور سامي بن عبد العزيز العجلان الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود، حصل على الماجستير عن هذا الكتاب الذي نناقشه عام 1426هـ، وحصل على الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود عن رسالته التي بعنوان: (إغواء العتبة، عنوان القصيدة وأسئلة النقد).
[3] الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية، د. سامي العجلان، ص21- 22 بتصرف يسير.
[4] الوحدة السياقية للسورة، د. سامي العجلان، ص9- 10 باختصار.
[5] الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية، د. سامي العجلان، ص233.
[6] الوحدة السياقية للسورة، د. سامي العجلان، ص520.
[7] الوحدة السياقية للسورة، د. سامي العجلان، ص603- 604.
[8] انظر على سبيل المثال: ص135، 151.
[9] الوحدة السياقية للسورة، د. سامي العجلان، ص245.
[10] الوحدة السياقية للسورة، د. سامي العجلان، ص194.
[11] الوحدة السياقية للسورة، د. سامي العجلان، ص (ب) من تقديم الدكتور محمد أبو موسى للرسالة.
[12] الوحدة السياقية للسورة، د. سامي العجلان، ص183.
[13] انظر أمثلة على ذلك: ص243، 478، 493.