قراءات المنهجية القرآنية (4-4)
المنهجية القرآنية عند أبي القاسم حاج حمد
لأبي القاسم حاج حمد المفكر السوداني (1941- 2004) صاحب (العالمية الثانية) أهميةٌ كبيرة في سياق (قراءات المنهجية القرآنية)؛ حيث إنّ أبا القاسم هو الذي استطاع بلورة الكثير من الأفكار التي كانت قائمة بشكلٍ أوَّليّ في كتابات روّاد الأسلمة، مثل فكرة (الجمع بين القراءتين) الحاسمة في هذا السياق كما أوضحنا سابقًا كخصيصة منهجية تتجاوز مثالب المنهجيات الإسلامية التراثية والغربية المعاصرة التي تهمل إحدى القراءتين، واستطاع كذلك عبر تصوّره عن (العالمية الثانية) وعن (حاكمية الكتاب) تأسيس (طبيعة/ موقع القرآن) كحلّ منهجي و(حصري) من الأزمة الفكرية العالمية، وعن موقع الأمّة كأمّة شاهدة مُحضَّرة لحمل الحلّ الحضاري للعالم في (عالميتها الثانية)، وهذا عبر قراءة تاريخية- دينية في تاريخ تَدَرُّج الله بالبشرية في «جدلية الإنسان، الغيب، الطبيعة»[1]، وعبر مَوْقعة النبوة الخاتمة والأمّة الشاهِدة/ الوسطية/ الـمُخرَجَة، والكتاب الحاكِم في هذا السياق، والذي نتج عنه بلورة طبيعة النصّ القرآني؛ كـ«نصّ حاكِم ومُحكَم ومُستَوعِب ومُتجاوِز ومُهيمِن» على الكتابات السماوية السابقة، بل على كلّ التراثات السابقة (التي استعادها القرآن نقديًّا)، وعلى الأنظمة الحضارية (الدينية الميتافيزيقة) بكهنوتها الديني أو (الوضعية) بلاهوتها الأرضي، فالقرآن وَفقًا لأبي القاسم «نصّ مرجع للوعي معادل موضوعي للوجود الكوني وحركيته، مستوعب للصيرورة ومحيط بها».
بالإضافة لهذا فقد استطاع حاج حمد المضيّ لخطوات في سبيل بلورة (أكثر تفصيلًا) لـ(منهجية القرآن المعرفية)، عبر إثارته إشكال اللغة القرآنية وعلاقتها باللغة العربية، وطرح تصوّره عن لغة القرآن كلغة مصطلحية علمية دقيقة توازي فيها مصطلحات بنائية القرآن (الواصلة حدّ كلّ حرف في القرآن) مواقع النجوم في بنائية الكون.
وقد حاول أبو القاسم تأسيس تصوّراته هذه عن طريق قراءة خاصّة للقصص القرآني ينظر إليه لا على اعتباره قصص عِبرة أو عِظة، بل باعتباره قصصًا كاشفًا عن تَدَرُّج البشرية في علاقتها بجدلية (الغيب، الطبيعة، الإنسان) في محطات أربع، (الحاكمية الإلهية)، ثم (حاكمية الاستخلاف)، ثم (حاكمية الكتاب) في (العالمية الأولى). ثم العالمية الثانية، وهي المراحل التي توازي تطوّر الاجتماع البشري من الدورة العائلية مع (آدم)، إلى دورة القبيلة مع (بني إسرائيل)، ثم دورة (الأمّة) في (العالمية الأولى)، ثم (الدورة العالمية الشاملة)، وهي التي يبشّر بها كحلّ قريب بعد انقضاء العالمية الأولى، كما باعتبار هذا القصص كاشفًا لمراحل تَطَوُّر منهجية (الجمع بين القراءتين) من الجمع التأليفي بصورة توفيقية (إبراهيم) إلى الدمج بصورة عضوية (موسى) إلى الدمج بين (قوانين الخلق) و(قوانين التشيؤ) بصورة أحادية (محمد).
هذه الأهمية الكبيرة لأبي القاسم في سياق «قراءات المناهج القرآنية» كما في سياق المشروع الأشمل «مشروع الأسلمة» ببلورته هذه المفاهيم والمُحدِّدات المنهجية الأساس، تأتي على الرغم من حقيقة انضمامه المُتأخِّر للمعهد العالمي الحامل الأساس لهذا المشروع، حيث لم يكن من مُؤسِّسي المعهد ولا من الروّاد الأوائل لمشروع الأسلمة، إلا أنه بالطبع كان جزءًا من السياق المعرفي العام المُنشِئ لـ«قراءات المناهج القرآنية»، ولـ«مشروع الأسلمة»، أي ما اعتبرناه داخلًا في إطار «الخطاب الإسلامي الجديد» وَفقًا لتعبير المسيري، بالملامح الخاصّة لهذا الخطاب كخطاب ينطلق من واقعة اهتزاز مضاعفة تجمع بين (اهتزاز التقليد) و(اهتزاز الثقة في النظام المعرفي والحضاري الغربي)، ويحاول تجاوز التلفيق بين المنظومات المعرفية والحضارية كحلّ للنهوض فينقل نقده للمنظومتين الحضاريتين الإسلامية التراثية والغربية المعاصرة من النقد الأيدولوجي الجزئي للنقد المعرفي لإبستيمات هاتين المنظومتين، ويُصعِّد الأزمة الحضارية حدّ كونها (أزمة عالمية) ويشخِّصها كـ(أزمة منهجية)، ويبحث عن حلّ منهجي توحيدي أو قرآني يُمثِّل بديلًا حضاريًّا شاملًا. انتماء أبي القاسم لهذا السياق الأوسع هو ما جعل انضمامه المُتأخِّر للمعهد لا يُمثِّل الكثير من الغرابة، بل على العكس فقد مَثَّل الكثير من الفائدة في بلورة الكثير من أفكار ومنطلقات ورؤى مشروع الأسلمة، بل إننا نستطيع اعتبار أبي القاسم هو من نقل هذا المشروع إلى حقل القرآن، بحثًا عن الحلّ المنهجي الشامل، مُبلوِرًا بدقة أكبر معالم كون القرآن حلًّا منهجيًّا، سواءٌ من حيث بنيته أو علاقته بالكون أو طبيعة لغته.
هذا بالرغم من أنّ الانضمام للمعهد ولمشروع الأسلمة لم يتم دون إثارة قلق بعضهم، على الأقل فيما يرويه لنا طه العلواني، وهو قلق لم يقتصر على حاج حمد بل شمل المسيري ومنى أبو الفضل وغيرهم من مفكرين لم يكن لهم اهتمامات شرعية ربما[2].
في هذا المقال سنحاول بيان كيفية تأسيس أبي القاسم لتلك المفاهيم المنهجية الرئيسة لا في خطابه فحَسْب بل في مجمل (قراءات المناهج القرآنية)، مثل (الجمع بين القراءتين) و(حاكمية القرآن) السمة المؤسّسة لموقع القرآن كحلّ منهجي للأزمة العالمية، كما سنحاول بيان نظرته لطبيعة النصّ القرآني ولطبيعة لغته (المصطلحية) التي تُشَكِّل -وكما قلنا في مقالنا الثاني عن طه جابر العلواني «لَبِنات المنهجية المعرفية القرآنية» التي تُمكِّن لمشروع الأسلمة- الانتقالَ من الإطار النظري الأكثر تجريدًا نحو بناء تفصيلي أكثر تَحدُّدًا ودِقَّة.
قصص القرآن كمدخل لخطاب أبي القاسم:
كان لا بدّ لمنهج القراءة الموضوعاتية للقرآن والتي تبلورت بصورة كبيرة في الدرس المعاصر للقرآن بنزوعها لـ(القراءة الكلية) للقرآن في مقابل (القراءة التجزيئية) أن تنسحب بطبيعة الحال على قراءة القصص القرآني، كموضوع قرآني خاصّ بالتاريخ وسننه، وبدورات الأمم، وبالاجتماع الإنساني، وبصراع الحقّ والباطل، وبعلاقة الغيب بالتاريخ؛ لذا فنحن نجد عددًا من القراءات للقصص القرآني انطلقت من محاولة تجاوز النظر الجزئي لهذا القصص نحو قراءة كلية تبغي لإدراك الناظم الموضوعي والفلسفي لهذا السرد القرآني الممتد مكيًّا ومدنيًّا، ومن هذه القراءات قراءة أبي القاسم حاج حمد التي تُشكِّل أداة منهجية أساسية داخل كتبه وفي بلورة أفكاره الرئيسة، والتي لم تقف عند محاولة الاستفادة من قراءة كلية للقصص، بل تعدَّت هذا لمحاولة اعتبار هذه القراءة للقصص هي (الأداة المنهجية الأساسية) في اكتشاف (المنهجية المعرفية القرآنية) الثاوية في النصّ الخاتم، من حيث هذه المنهجية هي منهجية فُرِضَت من قِبَل الله عبر تَدَرُّج يُلائِم تَدَرُّج البشرية في أطوارها الاجتماعية والسياسية والمعرفية العقلية، والمسرود في القصص، بهذا يكون هذا القصص هو كاشف لجدل الغيب والتاريخ ولموقع الإنسان في هذه الجدلية، حيث هو تَدَخُّل إلهيّ معرفي في سياق التطوّر التاريخي البشري لتعديله وإلهامه السير في إطار المشيئة الإلهية الشاملة لاكتشاف المنهجية المُودَعة في الكتاب الخاتم عبر «معالجة نقدية مُوسَّعة ومُكثَّفة ومُفصَّلة لكلّ الموروث الروحي المُتَعلِّق بالكتب السماوية وتجارب النبوّات المختلفة منذ آدم وإلى المسيح»[3]، فالعلاقة بقصص الأنبياء وكما يفرضها طبيعة القرآن ككتاب حاكم وخاتم كما يقول أبو القاسم «ليست علاقة بسيرٍ ذاتية لهؤلاء الأنبياء بل بما تتضمنه هذه القصص وبما ترمز إليه»[4] من معالم المنهجية القرآنية.
وبالطبع فهذه القراءة الكلية لن تستوعب كلّ القصص القرآني، بل إنها تنطلق من معالم في هذا القصص تُمثِّل -وَفقًا لحاج حمد- مراحل ومُنعطَفات مهمّة في هذا الكشف عن (المنهجية المعرفية القرآنية)، كأساس لـ(الحاكمة البشرية- حاكمية الكتاب) المُعلِنة عن دورة الأمة (العالمية الأولى)، وهذه المعالم يُمثِّلها بالأساس قصص؛ آدم، وإبراهيم، وموسى، ومحمد، وكذلك قصص داود وسليمان كمرحلة ما بين (حاكمية الله) مع بني إسرائيل قوم موسى، وإلى (الحاكمية البشرية- حاكمية الكتاب) مع النبوة الخاتمة، وهذا القصص يشمل بهذا ثلاثة تطورات للبشرية اجتماعيًّا وسياسيًّا، من دور العائلة (آدم)، لدور القبيلة (بني إسرائيل)، لدور الأمة (أمة محمد)، المتوازي مع تطوّر البشرية في علاقتها بالغيب وبالمعرفة وبالطبيعة من المرحلة الأولى: أي (حاكمية الله) والتي تعني (حكم الله المباشر للناس دون استخلاف بشري)، و«هو حكم يتميز بـ(الهيمنة الإلهية) على البشر وعلى الطبيعة في آن واحد، مع التصرف الإلهي فيهما تصرفًا محسوسًا وملموسًا -من وراء حجاب- ولكن عبر حدثيات منظورة»[5]، وهو بهذا حكم يستتبع قيام مملكة الله في الأرض والتي لها خصائص مميزة حيث تقوم في (أرض مقدسة) في (أمة مختارة) و(عطاء خارق) تستتبعه «شريعة غليظة، شريعة إصر وإغلال»[6]، «وإلى المرحلة الثانية: (حاكمية الاستخلاف- حاكمية التسخير) وهي مرحلة يظلّ الترشيد الإلهي فيها قائمًا، وغالبًا ما يجتمع فيها الملك والنبوّة، غير أن هذا الترشيد لا يأخذ طابع المخاطبة والأوامر والتوجيهات وإنما طابع التفهيم والإيحاء»[7]، «كما يتحوّل منطق الهيمنة الإلهية من منطق الهيمنة الإلهية بالمعجزات الخارقة إلى منطق التسخير الذي يعكس تفويضًا إلهيًّا للإنسان في السيطرة على الطبيعة والكائنات»، «فلخليفة الله كلّ شيء مسخَّر؛ الطبيعة رهن أمره، الطير محشورة، ومنطق الطير معلوم، والجند من الجنّ والإنس والطير محشورون، ولغة النمل معلومة، والريح مُسخَّرة غدوّها شهر ورواحها شهر، والحديد يلين وتُسال عين القطر»، «كذلك في إطار القيام بمهام الاستخلاف إذا أخطأ الاجتهاد يتدخل الله للإفهام»[8]، وهذه المرحلة هي مرحلة نبوّة ومُلك سليمان وداود، ثم المرحلة الثالثة: وهي مرحلة (الحاكمية البشرية- حاكمية الكتاب) والتي تأتي (في إطار التعلّق الغيبي بالله). ففي هذه المرحلة وعلى عكس المراحل السابقة «يعطش القوم ولا ينبجس الماء من الصخر، ويجوع القوم ولا مَنّ ولا سَلوَى، ويُحاصَر القوم في يثرب من اليهود في الداخل ومن المشركين في الخارج فلا تنشقّ الأرض عن أخدود يحتمي به المسلمون، وإنما خندق يحفرونه بعرق يمازجه دم»[9]؛ لذا فهذه المرحلة وَفقًا لأبي القاسم هي أخطر مرحلة تناولها الخطاب الإلهي للبشرية، «فالله قد تَدَرَّج بالبشرية لتحكم نفسها، وتلك غايته من الخلق، وهي غاية انتهى الله إلى تأسيسها على يد (خاتم النبيّين) في (الأرض المحرمة) وجعل لها القرآن العظيم منهجًا»[10].
هذه المراحل في تطوّر البشرية اجتماعيًّا وسياسيًّا وفي إطار تدرّج الله بهم، تتوازى مع تطوّر الكشف الإلهي عن منهجية (الجمع بين القراءتين) الناظمة لعلاقة الغيب بالواقع في مستويات ثلاثة: من المستوى الأول: هو (التأليف بين الغيب والطبيعة بطريقة توفيقية) تنطلق من الطبيعة وإلى الغيب، والثاني: (التوحيد بينهما بطريقة عضوية) بحيث يُشاهد الغيب رأي العين في الطبيعة، والثالث: (الدمج برؤية أحادية) تتوسط بين الغيب والطبيعة.
والمرحلة الأولى يُمثِّلها إبراهيم القارئ لعالم المشيئة الإلهية والذي يصل لله عبر تأمّل حركة الوجود، ومركزية إبراهيم تأتي من كونه هو المؤسّس لكلّ جمع بين القراءتين، ويرتبط التأسيس لديه بعالم المشيئة والتصوّر المكاني؛ ولذلك ارتبط محتوى نبوّته بالقربان كتجسيد لشكر الله على المكان الذي أضحى بيت الإنسان «وقوانين التشيؤ الوظيفي هي لسيطرة الإنسان على محتويات بيته وموجوداتها وَفقًا لغائية الحقّ»[11]، كما ارتبط محتوى نبوّته برفع قواعد البيت الحرام، والأذان في الناس، وجعله إمامًا للناس خليلًا لله، وجعلت النبوّات من ظهره المبارك[12].
أمّا المرحلة الثانية فيُمثِّلها موسى والذي أُعِدَّ لقراءة عالم الإرادة المقدّسة حيث ينتقل من (قوانين التشيؤ السببية) الخاصّة بالطبيعة لربطها بـ(الإرادة الإلهية الخارقة)، حيث يُمثِّل الجمع بين القراءتين جمعًا لقرائن الزمان والمكان؛ فليس ثمة صدفة في اقتران الأحداث ببعضها، وليس ثمة صدفة أو مصادفة في جريان الضرورة وانسيابها عبر متغيرات الزمان والمكان، فليس صدفة مكان وزمان ميلاد موسى، ولا مكان وزمان لقائه الفتاتين، ولا جيئته للنار المتأججة حيث خاطبه الله: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ [طه: 38- 40].
ويُقدِّم أبو القاسم في هذا السياق قراءة لقصة موسى والعبد الصالح على أنها تكرار لوقائع حياة موسى، تأكيدًا على مبدأ نفي الصدفة في الحدوث التاريخي وترابط الظواهر ببعضها في النّسق الكوني، وما «أعيد تمثيل حياة موسى إلا لنفي الصُّدفة في ارتباط ظاهرات الوجود وحركتها»[13].
فتجربة موسى كانت كلّها متفاعلة بالقوانين وصيرورتها، لتنتهي إلى منطق الضرورة الرابطة لقرائن الأحداث زمانًا ومكانًا (قوانين التشيؤ) بالإرادة الإلهية المباشرة التي تتجلّى بصفاتها التشبيهية المقدسة[14].
أمّا المرحلة الثالثة، الخاتمة والمُستَوعِبَة، فيُمثِّلها محمد قارئ عالم الأمر المُنزَّه حيث الأمر الإلهي المطلق الذي لا يتمظهر في قوانين التشيؤ المبارك (مرحلة إبراهيم) ولا باقترانية الفعل الإرادي المقدّس (مرحلة موسى)، وإنما يطلق ويهيمن على الوجود كلّه[15].
وهذه الأطوار التي يتناولها أبو القاسم عبر قراءته للقصص القرآني تتداخل فيما بينها بالطبع، حيث تكون (المرحلة الموسوية) (المنسوخة) هي المُمثِّلة لـ(طور القبيلة) ولـ(الحاكمية الإلهية) ولـ(التدخل الإلهي الخارق) في الإثابة والمعاقبة، و(التوحيد بطريقة عضوية) بين القراءتين في جدلية الطبيعة -الغيب/ المشيئة- الإرادة حيث (التحرك في عالم الإرادة المقدسة)، وحيث ظهور (الأمة المختارة) في (الأرض المقدسة)، وتكون (المرحلة المحمدية) هي مرحلة (الأمّة) مرحلة العالمية الأولى، حيث (الربط بين القراءتين بطريقة أحادية مهيمنة على قوانين التشيؤ ومتجاوزة لعالم الإرادة المقدّسة)، وحيث (حاكمية الكتاب)، و(شريعة التخفيف والرحمة)، و(شهود الأمّة الوسطية المُخرَجَة) من (الأرض المُحرَّمة)، وانتهاء عصر الخوارق وتَحرُّر الفعل الإنساني من حاكمية الله المباشرة (مع موسى) ومن حاكمية التسخير (مع داود وسليمان)، والتحرّك في عالم الأمر الإلهي المُنزَّه، حيث الغيب ليس استلابًا لاهوتيًّا، والإنسان ليس فاعلية عدمية، والطبيعة ليست «جبرية مادية»[16]، وهي المرحلة الناسخة، التي تَحْكُم فيها البشرية نفسها، المرحلة التي أرادها الله غاية للإنسانية.
القرآن، الطبيعة/ الموقع، لغة القرآن:
كما قلنا فإنّ من الأمور الأساسية التي كان لا بد لهذه القراءة (قراءات المناهج القرآنية) القيام بها =تأسيس طبيعة القرآن المُلائِمَة للدور المنوط به كحلّ منهجي، وقلنا أن هذا لا يقتصر على بلورة (حاكمية القرآن) -والتي هي منهجية معرفية بالأساس- سواءٌ في مواجهة الكتب السابقة بإيجاد موقع حاكم لها في تاريخ الدين الإبراهيمي أو في مواجهة الأنظمة المعرفية والحضارية، أو بيان إحكام (القرآن العظيم) المعادل لإحكام الكون (المثاني)، بل إنه يحتاج كذلك إلى بلورة تصوّر أكثر تفصيلية لِلَبِنات هذا المنهج، والتي تُمثِّلها -وَفقًا لهذه القراءة- المفاهيم أو (المصطلحات القرآنية).
وقد أَوْلَى أبو القاسم لهذه المسألة اهتمامًا كبيرًا ظهر في كثير من الرؤى النظرية للغة القرآن وعلاقتها باللسان العربي ولعلاقة القرآن بالتَّعَيُّن العربي في العموم، كما في بعض التطبيقات كذلك.
فيرى أبو القاسم أنّ القرآن ورغم أنه تَعَيَّن زمانًا ومكانًا بنزوله في مكة، إلا أن هذا التعيّن هو تعيّن نسبي لا تعيّن مطلق، وإن كان يرى لهذا التعيين دلالته ودِقَّته في سياق التدرج الإلهي بالبشرية بسبب السِّمَات الخاصّة لزمان ومكان ولسان الدعوة[17]، إلا أنه يظلّ مطلوبًا تخليصه من أن يَستوعِب إطلاقية القرآن، ويرى أبو القاسم أنّ أكثر ما يثير إشكال التَّعَيُّن هذا والتحديد لإطلاقية القرآن هو قضية (لغة القرآن)، فمعنى أنّ القرآن قد تَنَزَّل في لغة قريش قد يعني تفريغ مادة القرآن في لغة هي بالأساس حاملة في مفاهيمها وأساليبها لتصوّرات القرشي عن العالم[18]، ما يعني تقييدًا للمعنى القرآني المُطلَق والحاكِم والمُحكَم، هو ما لا يمكن مع كتاب خاتم يُقدِّم للبشرية منهجية معرفية ضابطة، وهنا يطرح أبو القاسم نظرته عن اللغة القرآنية واختلافها عن اللسان العربي، حيث يرى أن الاستخدام القرآني للغة العربية هو استخدام يختلف عن الاستخدام السابق على تَنَزُّل القرآن، حيث هو -وحتى على مستوى الحرف- استخدام دقيق تحكمه بنائية منهجية دقيقة؛ حيث يعطي لكلّ مفردة قرآنية دلالة خاصّة مُنضَبِطَة على مدلول مُحدَّد، فأبو القاسم ينفي وجود الترادف والاشتراك اللفظي في القرآن، المفضي لسيولة دلالية في لغته لا تناسب كونه قد أُودِع منهجية معرفية وبنائية توازي وتعادل بنائية الكون[19].
وهذه المصطلحات الدقيقة في بنائية القرآن المُحكَمَة هي التي تُمثِّل الأساس لمعجم علمي قرآني يستطيع ضبط المعرفة في كلّ المجالات العلمية والاجتماعية والتشريعية -وقد طمح أبو القاسم بالفعل لإنشاء مثل هذا المعجم اللساني الدقيق-، وربما هذا التصوّر لطبيعة لغة القرآن كلغة مصطلحية دقيقة والذي ينافح عنه أبو القاسم هو وحده ما يوافق تصورًا للقرآن ككتاب منهج.
وكي يُبرِز أبو القاسم هذه النظرة فقد تناول بعض ما يُعتبر ترادفًا في القرآن ليبرز كون التعامل القرآني مع هذه المفردات يكشف عن عدم ترادفها رغم ما تُوهِم به من اقتراب شديد في المعنى، ولعل أهم ما تناول في هذا السياق، هو قضية الأمّية، و(النَّسْخ)؛ حيث يرى أبو القاسم أن لفظة (الأمّي) القرآنية لا تعني عدم المعرفة بالقراءة والكتابة كما شاع في التراث التفسيري، بل تعني -ووَفقًا لسياقات الورود القرآنية- «القوم الذين ليس لديهم كتاب»، فهي لا تقابل (الكاتبين) بل تقابل (الكتابيين)، بهذا يكون «النبي الأمّي» ليس هو النبي الذي لا يعرف الكتابة بل هو النبي الذي بُعِث في الأمم الأمية يُعلِن انقضاء مدة الاصطفاء الإلهي الرأسي لبني إسرائيل، وانتهاء مجمل سمات عصر الحاكمية الإلهية «تحويل القبلة عن الأرض المقدّسة، رفع إصر وأغلال الشريعة، انتهاء التمظهر الحسي للإرادة الإلهية بقوانين التشيؤ عبر الخرق الدائم»، وظهور الأمة الشاهدة في (الأرض المُحرَّمة) بكتاب عالمي وشريعة شاملة، شريعة تخفيف ورحمة[20].
وهذا الانتهاء لمدة بني إسرائيل، كأمّة مُستَبدَلة، هو -وَفقًا لأبي القاسم- المقصود القرآني بلفظة (النَّسْخ)، فهذه اللفظة/ المفهوم/ النظرية الأصولية عن (النَّسْخ) كتغيير لحكم فقهي وإبدال آية قرآنية بأخرى هو إسقاط للدلالة في الذهن العربي على القرآن، هذا الذي يُمثِّل هو ذاته -ووَفقًا لدلالة النسخ فيه- استبدال حالة تاريخية أو عقلية بأخرى.
بذا «يكون الخلل في فهم دلالات ألفاظ القرآن لا يقود إلى مجرّد إشكالات لفظية، إنه يقود لما هو أخطر من ذلك بكثير حيث سيتعذّر فهم محتوى عالمية الدين ومعاني الشرعة والمنهاج».
في محدودية النظر للتوحيد كإبستمولوجي، وللقرآن كمنهجية معرفية:
بالرغم من تشديد أبي القاسم طوال كتاباته مثله مثل معظم روّاد قراءات المنهجية القرآنية على قضية المنهج العلمي والموضوعي المنضبط، وإدانة الرؤى الإسقاطية في قراءة القرآن، والرؤى التلفيقية بين المنظومات الحضارية والتي شكَّلت محورًا لمشاريع النهوض العربية، وهو ما تجلّى في هذه الرؤية حول لغة القرآن كلغة مصطلحية دقيقة تعادل دقّة مواقع النجوم في بنائية الكون، إلا أننا لا نستطيع ربما اعتبار أنّ اشتغال أبي القاسم ذاته اشتغال علمي بالصورة الكبيرة، فإذا كانت هذه القراءة تفترض تحرّرًا من المنهجيات التراثية، كما من المنهجيات المعاصرة، إلا أنها تفترض في مقابل هذا منهجًا قرآنيًّا هو ما يعطيها موقعها على خارطة القراءات المعاصرة للقرآن ويخرج بها عن أن تكون مجرّد «قراءات ضد التقليد، ضد الحداثة»، لكن هذا المنهج وللمفارقة يظلّ غير مُحدَّد الملامح، فضلًا عن كونه هو ذاته يحتاج لمنهج لاكتشافه هو أيضًا غير مُحدَّد بصورة تفصيلية، وربما هذا الإشكال يرجع لذاك الدَّوْر المُحتَّم على هذه المدرسة، حيث إنها تفترض ضرورة اكتشاف منهج قرآني لقراءته، يكون هو نفسه الوسيلة الوحيدة لاكتشاف منهجيته كبديل عن المناهج المُسقَطَة عليه تراثيًّا وحداثيًّا، وهذا يجعل وسيلة هذه القراءة هي نفسها غايتها، فبنائية القرآن هي منطلق لقراءته وغاية لها في آنٍ، ومصطلحية لغته هي مُسلَّمة ننطلق منها نحو إثبات دلالة النسخ كانتهاء لمدة بني إسرائيل وظهور (الحاكمية البشرية- حاكمية الكتاب)، وكذا هي نتيجة لطبيعة النصّ كنصّ حاكِم ومهيمن في ذات الوقت. وهذا الدَّوْر لا يخرجنا منه حديث أبي القاسم عن «اكتشاف منهج القرآن عبر الصعود بالواقع إلى النصّ، وعبر إدراك ما في الواقع من صيرورة وتحولات جدلية وتغيرات نوعية وضوابط فكر منهجي»؛ لأنّ هذا الربط ذاته بين الواقع وبين النصّ واعتبار إدراك الواقع طريقًا لإدراك المنهجية المعرفية التي تحيط بالنصّ والواقع، هو ذاته مُحدِّد منهجي ومُنطلَق يحتاج لإثبات! كما أنّ تشديد أبي القاسم على كونه لا يبحث عن تأويل أو تفسير للقرآن وإنما عن منهجية القرآن المعرفية لا ينفي كونه قد دخل في اشتباك تفسيري بالفعل لكثير من مساحات النصّ (قصصًا- وبعض آيات- ومفردات) لا يُحدِّد لنا فيه آلياته التفسيرية[21]، بل ينطلق من نفس المسلّمات والمُحدِّدات التي يحاول إثباتها كلَبِنات لمنهجية قراءة قرآنية.
وهذا الغياب لبناء منهجي متماسك ومُتبلوِر تفصيليًّا وأدواتيًّا هو ما يجعل هذه القراءة -وهو ما يبدو بوضوح عند أبي القاسم- تقف ما بين عدم استلهام البحوث الحديثة في المعرفة وبين الانتقاء منها ودمجها في تصوّر قد يصل حدّ كونه تصورًا عرفانيًّا، فنحن نجد عند حاج حمد تثمينًا لدائرة فيينا بوضعيتها المنطقية ومحاولة لقراءة لغة القرآن بدقة تضاهي تصوّرها للغة ولفلسفة العلوم الطبيعية (في عالم التشيؤ الوظيفي)، في نفس الوقت الذي نجد قراءة -ربما ذوقية- لمعظم قصص القرآن، وهو دمج يطال بالطبع كلّ فلسفة أبي القاسم القائمة على الجمع بين القراءتين، ودمج قراءة الكون -عالم التشيؤ الوظيفي داخل قراءة الغيب- منهجية الخلق، لكن هذا الدمج يظلّ في ظنّنا دمجًا سكونيًّا حيث لا نرى أيّ تأثير حادث على فلسفة العلوم الطبيعية ولا على الفلسفة الذوقية والعرفانية جراء هذا (الدمج)، مما يسقط هذه القراءة في التلفيق الذي حاولت تجاوزه، بل إنها تُعمِّق هذا التلفيق ليصير لا تلفيقًا بين جزئيات داخل منظومتين معرفيتين وحضاريتين، بل يصير تلفيقًا يدمج نظامًا معرفيًّا حضاريًّا ما داخل نظام آخر!
إلا أننا نودّ تجاوز هذه النقطة حتى نسأل سؤالًا أعم وأشمل حول هذه (المعرفية) و(العلمية) المنظور بها للقرآن ومدى قدرتها على شمول أبعاد النصّ القرآني ووظائفه، فهذه النظرة الإبستمولوجية للتوحيد والتي بلورها الفاروقي بالأساس ثم طوّرها حاج حمد، وهذه النظرة للقرآن ككتاب منهج، وللغته كلغة مصطلحية دقيقة، بأيّ قدر تستطيع استيعاب أدوار ووظائف النصّ القرآني الخاتم ورسم علاقة ثرية بينه وبين قارئه، خصوصًا أننا نتحدّث هنا عن نظرة تجعل منهجية القرآن المعرفية لا سمة من سمات النصّ، بل سمته المركزية التي تمنحه طبيعته/ موقعه كجزء من مجموعة سمات متشابكة تُحدِّد أدوار الأمة، وموقعها في تاريخ الكشف الإلهي عن جدلية الغيب/ الإنسان/ الطبيعة، وموقعها من التدافع الحضاري ومن تحقيق الانتقال الفعلي بالبشرية لـ(حاكمية الكتاب- الحاكمية البشرية) التي أرادها الله غاية للإنسانية، فهذا الحصر -والذي يظهر ربما بصورة أكبر في قراءة أبي القاسم تحديدًا[22]- يُهدِر الكثير من الأبعاد في النصّ القرآني التي ربما تكون أكثر أهمية، مثل البُعد الشعائري التعبّدي لهذا النصّ، ووظيفته في وصل الإنسان الدائم بالله حيث هو ذاته حضور سرمدي لله في العالم وفي وعي المسلم، وحيث هو تمظهر لسمة الإله المتكلم والهادي.
ولعلّ من الطريف واللافت أنّ الاشتغال الأكبر من أبي القاسم لبلورة تصوّره هذا عن (قرآن منهجي) كان على القصص، والتي لها من الوظائف داخل نصّ دينيّ ما أكثر بكثير من مجرّد كونها حكاية عن تطوّر منهجي، حيث تُبرِز الفعل الإلهي في التاريخ وتكشف سمات المعتقد وتشكيل حدود القداسة و«تُشَرِّع لطقوس تحيينية» تعيد رسم «العالم الديني» الذي يحياه المؤمن.
ولعلّ هذا يجعلنا نذهب لنسأل ربما سؤالًا يتعلّق بمساحة أعمق وهو «صورة الله» داخل هذه القراءة، لا قراءة أبي القاسم فحَسْب، بل قراءة هذا التيار في سياقه الأوسع، قراءة الفاروقي لإبستمولجية التوحيد، وقراءة المسيري للتوحيد كنظام حضاري ومعرفي، حيث ما يبدو في كلّ هذه القراءات أننا أمام تقليص لحضور الإله الشخصي، وأمام تحويل لأبعاد «العالم الديني» لأبعاد معرفية، وهذا في ظنّنا لا يتماشى مع موقع «التوحيدية الإبراهيمية» في التاريخ ولا موضع تميزها بين الأنساق الحضارية!
فهذا الموقع وهذا التميز مرتبط وبصورة كبيرة بالبُعد الشخصي في الإله التوحيدي كإله حيّ ومتكلّم ومريد وفاعل، وهي الحياة التي تقتلها بصورة كبيرة ترسانة المصطلحات والجدليات التي يتم عبرها مفهمة التوحيد أو منهجة القول الديني.
وبسبب هذه النظرة فنحن دومًا أمام تفويت لأهمية الكثير من أبعاد الشعائر والقصص، التي إمّا لا يُلتفَت إليها من الأساس وإمّا تُقلَّص لتصبح تعبيرًا عن تماثل بنائية القرآن وبنائية الطبيعة وتمظهر جدليات الغيب والكون.
ولعلّنا نستطيع أن نرى تكثيفًا لكلّ هذا التفويت في قراءة حاج حمد لما يسميه (فلسفة القربان الإبراهيمي)، حيث يرى أبو القاسم -في تفسيره أهميةَ القربان في مرحلة إبراهيم- أنّ النظرة الإبراهيمية وموقعها في جدلية الغيب/ الطبيعة/ الإنسان وارتباطها بقوانين المشيئة، وبالمكان =هي التي فرضت اقتران هذه المرحلة بالقربان، والقربان المطلوب هو قربان عن المكان؛ لذا فالأنعام قربان المكان إلى الإنسان؛ لذا يَعتبر أنّ إبراهيم كان عليه تأوّل رؤياه بذبح إسماعيل على أنها إشارة لتقديم قربان المكان، أي الأنعام، فالله لا يقبل القربان البشري حيث قربان الإنسان قربان الحياة هو العبادة فحَسْب[23].
وحين يتناول حاج حمد علاقة الحج بالقربان، أو بتحيين القربان الإبراهيمي، فإنه يَعتبر الحج شكر المكان الآمن[24].
لكن ربط القربان بمرحلة إبراهيم وموقعها في جدلية الغيب/ الطبيعة والجمع بين القراءتين وحركتها في إطار قوانين التشيؤ المكانية، لا يستطيع أن يفسِّر لنا استمرار هذا القربان الإبراهيمي في مرحلة محمد «المتحرك في عالم الأمر المنزّه» وتحيينه في شعيرة مركزية هي شعيرة العيد- الحج، بل لا يفسر لنا هذا الموقع للقربان في الإسلام، فهذه المركزية للقربان واستعادتها في شعيرة مركزية تشير لكون تقديم القربان هو شعيرة أساسية في النظام الشعائري الإسلامي والإبراهيمي، وهو ما يحتاج في ذاته إلى تفسير قبل الدخول في تفاصيل نوع القربان. وتفسير النظام الشعائري لدينٍ ما يتطلب النظر للوظائف الشعائرية التي تقوم بها الشعائر وعلاقتها بالقصص وبالعقائد كثلاثة أوجه متشابكة لبنية الدين الأساس (معتقد- قصص- شعائر)، بهذا ينصرف السؤال في تناول قربان إبراهيم وتحييننا له، نحو المعتقد المراد عيشه عبر تحيين لحظة تقديم إبراهيم القربان، نحو هذا التشكيل لحدود القداسة ومعالمها وملامح (العالم الديني) الذي يُؤسِّسه هذا الفعل المعاد لعيشه، ولعلّ هذا المعتقد واضح تمامًا حتى في تحليل أبي القاسم نفسه، والذي يَعتبر الإبراهيمية هي: تجاوز لعالم الإحيائية بتصوّر الإله المفارق للطبيعة غير الحالّ فيها، ولعالم الأصنام الميت بتصوّر الإله الحي المفارق لظواهر التحدّد والنهائية، ولعالم الأصنام الأبكم بتصوّر الإله المتكلِّم والموحِي عبر الوحي والرؤيا والإلهام، هذا التجاوز يتبدّى تمامًا في كلّ أطراف القربان الإبراهيمي؛ في وحيه منامًا بالذّبح، وفي علوّ الأمر عن القواعد الاجتماعية والأخلاقية، وفي الفداء حيث ليس فعل الذبح هو المقصود بل تكريس الخضوع لأمر الله لأنه أمر الله وليس لكونه مشتقًّا من أيّ قواعد، وفي كون الفداء حيوانيًّا للقطع مع القرابين النباتية والمرتبطة بالإحيائية وبمواسم الطبيعة وخصبها وجدبها.
كلّ هذه الملامح لوظيفة القربان وأهميته كشعيرة داخل النظام الشعائري الإسلامي يتجاوزه أبو القاسم حين يقرّر البحث في فلسفةٍ لنوع القربان تخلّصه من كونه شعيرة ليكون جزءًا من تصوّر عن انبنائية كون لم يعد جزءًا من «العالم الديني المُعاد تأسيسه» بل «قوانين تشيؤ وظيفية»، ونصّ لم يعد «قولًا دينيًّا وتمظهرًا سرديًّا للألوهية الحية المريدة الفاعلة المتكلمة»، بل هو كتاب مفاهيم وعلاقات و«مصطلحات دقيقة».
***
إنّنا نستطيع القول بأنّ الأزمة التي تأسَّست داخلها هذه القراءات (قراءات المناهج القرآنية)، أي أزمة فراغ المنهج والناتجة عن واقعة الاهتزاز المضاعفة التي نشأ فيها «اهتزاز التقليد- اهتزاز النظام المعرفي والحضاري الغربي» =كان لها من الأثر الكبير في تشكيل ملامح هذه القراءات، حتى إنها طغت على كلّ بُعد في تصورها للقرآن والذي حصرته في كونه المنهج/ الحلّ، وللإسلام حتى جعلته فلسفةً أو منظورًا حضاريًّا، حتى غيَّبت من القرآن ومن الإسلام كلَّ بُعد آخر مهما كان مركزيًّا وحاسمًا -وربما هذه العوامل المغيَّبة كانت أكثر محوريةً في بناء الحضارة الإسلامية ومعارفها-، لكن للمفارقة وبسبب كون منهجية القرآن في هذا السياق هي وسيلة وغاية وحلّ ومخرج وخلاص في نفس الآن، فقد تم هذا كلّه دون وجود منهج واضح المعالم يتم تشغيله على القرآن لتأسيس هذه التصورات «المنهجية»!
[1] يُفضِّل أبو القاسم مصطلح (جدلية) على (جدل) انطلاقًا من كون الجدل مفتوحًا، في حين الجدلية مُقيَّدة ومُحدَّدة إلى غاية إلهية، دون استلاب للإنسان المُطلَق ولا للطبيعة الكونية المُطلَقة؛ لهذا فقد اعتمد هذه اللفظة في العنوان رغم ما عنوه بـ(مجادلات الرفاعي). انظر: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، العالمية الإسلامية الثانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، دار الهادي، بيروت، ط1، 2004، ص8.
[2] أبو القاسم حاج حمد، المفكر الإسلامي العظيم، طه جابر العلواني، ورقة مقدمة ضمن أعمال الندوة الدولية حول الأعمال الفكرية للمفكر الراحل أبي القاسم حاج حمد، السودان، مايو 2007.
[3] القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، محمد أبو القاسم حاج حمد، دار الساقي، بيروت، لندن، 2010، ص68.
[4] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، دار الساقي، بيروت، لندن، 2009، ص85.
[5] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص45.
[6] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص48.
[7] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص63.
[8] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص67.
[9] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص71.
[10] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص71.
[11] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، دار الهادي، ط1، 2003، بيروت، ص180.
[12] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص179.
[13] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص182.
[14] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص183.
[15] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص148.
[16] الحاكمية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص86.
[17] القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص66.
[18] القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، محمد أبو القاسم حاج حمد، ص76.
[19] خصّص أبو القاسم لمسألة لغة القرآن جزءًا من فصل (خصائص القرآن المنهجية)، من كتابه (منهجية القرآن المعرفية، أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية)، ص96.
[20] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية، أبو القاسم حاج حمد، ص99.
[21] لكل نظام فكري منطلقاته، والعملية المعرفية تستحيل دون فروض مبدئية تمكن الاشتغال على أيّ ظاهرة يتم دراستها، لكن هذه الفروض عليها أن تظل فروضًا، وأن تخضع لاختبار فاعليتها أثناء الاشتغال، فهذا نفسه ما يطوّر العملية المعرفية، لكن الإشكال يحدث عندما تتحول المنطلقات من فروض لمسلّمات، حينها تتحول القراءة من استنطاق للظاهرة عبر الفروض إلى إنطاق لها بما تستبطنه هذه الفروض كمسلّمات.
[22] حيث حاول طه العلواني على سبيل المثال تجاوز هذا الحصر عبر بلورة رؤيته عن التدبر كاستلهام واستدخال للقرآن في السياق الشخصي الفردي والأمّتي والعمراني، هذا مع الحفاظ على منطلقات قراءته، مثل خصوصية المفردة القرآنية والوحدة البنائية للنصّ.
[23] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية، أبو القاسم حاج حمد، ص192.
[24] منهجية القرآن المعرفية، أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية، أبو القاسم حاج حمد، ص201.