قراءة في كتاب: (اتساع الدلالة في الخطاب القرآني)
للدكتور/ محمد نور الدين المنجد
تتوفّر اللغة العربية على منبع زاخر من الطاقة الكلامية والتفنّن في أنماط الكلام المختلفة، مما جعلها من أرقى اللغات التي لها القدرة على مسايرة العصور واحتواء كلّ العلوم، مع القدرة على التوسّع في أنماط التراكيب، وتوليد المعاني بأساليب موجزة وغاية في الدِّقة. وإذا كان هذا في لغة الناس فكيف يكون في لسان القرآن الكريم، الذي نزل بلسان عربي مبين، والمتكلم فيه هو ربّ العالمين.
وهذه الدراسة التي بين أيدينا (اتساع الدلالة في الخطاب القرآني)[1] للدكتور/ محمد نور الدين المنجِّد[2]، هي مقاربة في تخصّص الإعجاز القرآني لدراسة ظاهرة لسانية، هي اتساع الدلالة في الخطاب القرآني. وقد حاول المؤلِّف جاهدًا جَمْعَ المادة ولَـمَّ شتاتها من كتب التفسير وأمهات اللغة والبلاغة، حيث اتّبع منهجًا يتجلّى في ترتيب المادة وتصنيفها وَفق عناوينِ الفصول، وعَرْضِ الآيات المختارة ومناقشتِها تحت كلّ عنوان، واستعراضِ أقوال العلماء في كلّ مثال قرآني، باستخدام آليات نقدية، منها: المناقشة والترجيح والموافقة أو المخالفة مع الْتِماس الدليل حسَب ما توصّل إليه اجتهاده.
ومن هنا يتبيّن لنا أهمية الكتاب الذي صدر في وقت لم يكن موضوعه متداولًا على أكبر نطاق في الساحة العلمية الحديثة، مما جعله من بين المراجع للذين تناولوا الظاهرة مِن بعده، والذين تطرّقوا -وما زالوا- إلى جزئيات الظاهرة وتفاصيلها. وفي هذه المقالة نحاول تقديم قراءة في هذا الكتاب تبيّن كيفية مقاربته لإشكاليته وأهم مزاياه والملحوظات حوله.
محتويات الكتاب:
صمّم البحث في تمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة. تناول في التمهيد مفهوم الاتساع في كتب التراث: معناه اللغوي، وأصل اشتقاقه في المعاجم، ودلالته عند علماء القراءات القرآنية، وعلوم العربية من نحو وصرف ولغة وبلاغة. وفي الفصل الأول تطرّق إلى الأسباب النحوية التي تجعل الخطاب يحتمل عدّة معانٍ مجتمعة أو متفرّقة، وحصرها في سبع مسائل هي: اختلاف تعليق أشباه الجُمَل، اختلاف الإعراب، اختلاف عائد الضمير، اكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه، الجمع بين الفعل واسم مصدره، احتمال الوقف والاستئناف، اختلاف المتكلّم. أمّا الفصل الثاني فتطرّق للأسباب الصرفية لاتساع الدلالة في الخطاب القرآني، وحصرها في خمس مسائل، هي: دلالة الوزن الصرفي على عدد من الصيغ الصرفية، دلالته على صيغة صرفية ومعنى معجمي، تعدّد معاني الصيغة الصرفية على معنيَيْن من جذر واحد، دلالة صيغة الفعل على زمنَين مختلفين أو على فعلٍ لازم وآخر متعدٍّ. أمّا الفصل الثالث فخصّصه للأسباب اللغوية لاتساع الدلالة في الخطاب القرآني، وهي قسمان: القسم الأول لحروف المعاني التي تعدّدت دلالتها في الخطاب القرآني، ورتّبها من الهمزة إلى الواو. القسم الثاني لتعدّد دلالة الألفاظ من أسماء وأفعال. أمّا الفصل الرابع فتطرّق للأسباب البلاغية المؤدية إلى اتساع الدلالة، وحصرها في سبعة أسباب، هي: التضمين، الحذف، الاستخدام، التقديم والتأخير، الإخبار بالعام عن الخاص، احتمال الإنشاء والخبر، دلالة اللفظ على معنيَيْن مجازيَّيْن. أمّا الخاتمة فكانت تلخيصًا لِما ورد مفصّلًا في تضاعيف الرسالة وفصولها.
هدف الكتاب:
من خلال مقدّمة البحث يتبيّن لنا أنّ هدف الكتاب يتجلّى في قول الباحث: «...بيدَ أنّنا في حاجة إلى تلمُّسِ ذلك (جوانب الإعجاز في الخطاب القرآني) في أبحاث تخصّصية تدقّق في الجزئيات، تجمع شتاتها، وتسبر غورها، وتخرج خبأها»[3]. وهذا ما أكّده في مكان آخر من المقدّمة بصيغة أخرى حيث قال: «ولعلّ ما يميّز هذا البحث جمعُه مادةً وافرةً في موضوعه، متناثرةً في مصادرها، لمَّ شملَها، وقيّدَ شاردَها، وردَّ قاصيها إلى دانيها، ثم رتّبها في عناوين كبرى وصغرى، ثم حلّل وناقش، وأخذ هذا وردّ ذاك، واستعان بالشاهد والدليل لترجيح قول على قول، وموافقة رأي دون آخر»[4].
وبهذا نستطيع أن نقول: إنّ هدف الكتاب جاء ضمن بحث تخصّصي في موضوع حقل الدلالة وفقه اللغة، لتلمُّسِ جوانب الإعجاز في الخطاب القرآني من خلال ظاهرة الاتساع في الدلالة.
الإشكالية المعرفية التي يقوم عليها الكتاب:
بدأت فكرة الكتاب من خلال محاضرة للأستاذ الدكتور/ فاضل السامرائي، مما جعل الفكرة تنبثق من خلال ما هو تطبيقي صرف، في عملية الغوص في استكشاف المعنى البلاغي في القرآن الكريم. فإذا كان اتساع الدلالة في الخطاب القرآني أقرب إلى الناحية التطبيقية، فإنّ الدراسة النظرية لمصطلح (الاتساع) في التراث العربي ستكون أول إشكالية لهذا البحث؛ لأن المصطلح لم يكن مستقرًّا بمعنى واحد، وإنما اتخذ أشكالًا من المعاني والأسماء، مما جعل دراسته النظرية تحتاج إلى جهد إضافي. وهذا ما جعل الباحث يكتفي بجمع ما جاء متفرقًا في كتب التفاسير وكتب اللغة في بيان تطرّقهم إلى مصطلح الاتساع، دون أن يكون ذلك في إطار تتبّع المصطلح واستنباط الجوانب والمظاهر التي اتخذها أثناء استعماله وتطوّره. كما أنّ إشكالية أخرى قد تكون لاحت للمؤلِّف، وعليه أن يقوم بمعالجتها، وهي توضيح مصطلح الدلالة وبيان العلاقة بين الدلالة اللفظية والدلالة المعنوية، مما جعله يكتفي بأن يكون البحث تطبيقيًّا صرفًا. والإشكال الآتي هو كيفية التعامل مع المادة الوفيرة التي تتكوّن من النصوص القرآنية القابلة للتطبيق، فنراه اهتدى إلى عملية انتقاء نماذج من الآيات القرآنية بدون مبرِّر يُذْكر، وذلك ضمن أبواب معيّنة والتي تتمحور حول: اتساع الدّلالة لأسباب نحوية وصرفية، ولغوية، وبلاغية، تحقّق الغاية وتفِي بالغرض. فكان على الباحث أن يستعين على ذلك بعدّة مصادر ومراجع، وقد ذكرها في المقدّمة وتتكوّن من أمهات كتب التفسير وعلوم العربية، منها مصادر أساسية في التفسير؛ كالبحر المحيط لأبي حيان، والتفسير الكبير للفخر الرازي، وروح المعاني للألوسي، والتحرير والتنوير لابن عاشور، وتفسير الزمخشري، والبيضاوي، والشوكاني، وابن عطية، وغيرهم. ومصادر علوم العربية، منها: معجم لسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزبيدي، ومقاييس اللغة لابن فارس، والمفردات للأصفهاني، وكتاب سيبويه، ومغني اللبيب لابن هشام، والخصائص لابن جنّي، والمثَل السائر لابن الأثير، وإعجاز القرآن للباقلاني، ودلائل الإعجاز للجرجاني، وخزانة الأدب للبغدادي، والتبيان في إعراب القرآن للعكبري، وغيرها مما هو مفصّل في قائمة المصادر والمراجع. فهل استطاع المؤلِّف أن يعطينا صورة متكاملة عن اتساع الدلالة في الخطاب القرآني من خلال الكتاب، وكيف عالج الإشكاليات المطروحة؟
من خلال تتبع عمل الباحث في الكتاب، يتبيّن أنه قسم الدراسة إلى قسمين: نظري وتطبيقي.
أولًا: القسم النظري:
استعرض الباحث مفهوم الاتساع من الناحية الاصطلاحية، حيث عرّج على المفهوم عند استعماله في علم القراءات، وعند اللغويين والنحاة والصرفيين. كما استعرض مصطلح الاتساع في علم البلاغة بأنواعها الثلاثة: علم المعاني، والبيان، والبديع. وهذا ملخص ما جاء في دراسة المفهوم:
أ- ففي علم القراءات نجد أن استخدام الاتساع جاء في المجال السلبي؛ «فالاتساع في الحركات مؤدٍّ إلى صيرورتها حرفًا، وذلك نحوٌ قبيحٌ وزيادةٌ في كلام الله»[5].
ب- أمّا الاتساع في اللغة، يرى الباحث أنه يؤدِّي إلى معنى التساهل في دقة العبارة عن المعنى المراد؛ وهو نوعان: الاتساع في المفردات، والاتساع في الأسلوب، يقول في ذلك: «وخلاصة الأمر في دلالة الاتساع عند اللغويين أنه خروج عن الأصل وتسامح في دقّة العبارة عن المعنى المراد، سواءٌ في ذلك الاتساع في المفردات والاتساع في الأساليب»[6].
ج- أمّا الاتساع في علم النحو، فيستخدمه النحاة «رديفًا للخروج عن الأصل في التركيب، وبمعنى التساهل في الأخذ بالضوابط والقواعد»[7]. كما أنّ لدى النحاة وسائل تزيل الاتساع وترفع ما يحدثه من إبهام، هي: التوكيد، والبدل، والحكاية.
د- أمّا الاتساع في علم الصرف فهو دالّ على خلاف القياس في ثلاثة مواضع، هي: وضع جمع الكثرة موضع جمع القلّة، واتساع في الموازين، وإبدال الحروف. «وخلاصة الأمر عند الصرفيين أنّ الاتساع خروج عن الأصل والقياس، وذلك في وضع جمع مكان آخر، ومجيء بعض الكلمات على موازين سماعية، وإبدال الحروف»[8].
هـ- أمّا الاتساع في علوم البلاغة فهو ثلاث كلمات تدور في فلك واحد، وهي: الاتساع والتوسّع والسّعة، كما أنّ للاتساع دلالات: «فيقصد به في علم المعاني التفنّن في الفصاحة والتقديم والتأخير، أو يُراد به الإيجاز بالحذف، وفي علم البيان يذكر لمعنى التشبيه، وكثيرًا ما يَرِد للدلالة على المجاز العقلي من حيث الإضافة والإسناد، أو يقصد به الاستعارة، أو المجاز المرسل بأنواعه المختلفة، أو يُراد به الاستعارة»[9].
وكما نرى أنّ الجرد لمفهوم الاتساع في الاصطلاح لم تكن له علاقة بما هو موضوع الكتاب وهدفه، وهذا ما جعل الباحث يكتفي بما يحمله المصطلح في كلّ علم مع الإتيان بالأمثلة، ثم عمد إلى مفهوم الدلالة فيما ذكره ابن أبي الأصبع حيث عرفه في باب الاتساع بأنه: «يأتي الشاعر ببيت يتّسع فيه التأويل على قدر قوى الناظر فيه، وبحسَب ما تحتمله ألفاظه»[10]. وهذا المفهوم هو الذي اختاره الباحث وتبنّاه في تطبيقه على دلالة الاتساع، والتي قال عنها أنها: «تدلّ على معانٍ مجتمعة في تركيب لغوي واحد، لو اختلّ هذا التركيب لانفرط عقد تلك المعاني، واحتيج إلى تراكيب بعدد تلك المعاني لتعبّر عنها»[11]. وبهذا يكون قد تخلّص من البحث في دراسة مفهوم الاتساع من الناحية النظرية، بطريقة القفز والتغاضي؛ وهي طريقة خاصّة اختارها الباحث أسلوبًا له، ليصل إلى أصل الدراسة التي تتمثّل في القسم التطبيقي.
ثانيًا: القسم التطبيقي:
حاول الباحث أن يستعرض صورًا شتى من اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، تبعًا لِما وردَ في القرآن الكريم من آيات، تتعدّد معانيها من خلال أسباب نحوية وصرفية ولغوية وبلاغية. وقد تناول البحث هذا التعدّد من خلال الدراسة التحليلية التطبيقية، والتي سأذكر منها الملخص الآتي:
أ- اتساع الدلالة لأسباب نحوية، وفي هذا الإطار استطاع الباحث أن يأتي بنماذج من الآيات ويدرسها حسَب منهجية خاصّة، تتمثّل في عرض النصّ القرآني، وذكر ما يحتمله من معانٍ حسَب العنوان الذي أراد دراسته. وقد تعدّدت العناوين حسَب الترتيب الآتي: اختلاف تعليق شبه الجملة، تعليق الجار والمجرور، اختلاف الإعراب، اختلاف عائد الضمير، اكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه، الجمع بين الفعل واسم المصدر، احتمال الوصف والاستئناف، اختلاف المتكلِّم. وقد تمّت دراسة خمسة وتسعين نصًّا قرآنيًّا في هذا الفصل. تحت كلّ نصّ يذكر احتمالات المعاني الممكنة في الآية أو الآيات، ويعضد ذلك بأقوال العلماء من المفسِّرين واللغويين، فيؤيد ويختار ويرجح ويناقش. ونراه في عنوان: اتساع الدلالة لاكتساب المضاف التذكير والتأنيث من المضاف إليه، يخرج عن المنوال المتبع، فيخصّص العنوان بدراسة لأساليب العرب في كلامها، حيث إنها تخبر بالتأنيث عن المذكر المضاف إلى المؤنث، وتؤنث فعل المذكر المضاف للمؤنث؛ وذلك أنّ النحاة تأمّلوها وقعّدوا لها قواعد، معضدًا ذلك بقول ابن عقيل في شرحه على ألفية ابن مالك. كما استعان بقول الدكتور/ فاضل السامرائي في الموضوع، وأكّد أن أقوال المفسِّرين لا تخرج في مجملها عمّا ذكره ابن عقيل من اكتساب التأنيث أو التذكير من المضاف إليه بشروط. وطبّق ذلك على آيات قرآنية، وجاء بشواهد من الشِّعْر العربي.
ب- اتساع الدلالة لأسباب صرفية، يرصد الباحث ذلك في دلالة الوزن الصرفي للكلمة على عدد الصيغ الصرفية، وكذا في دلالته على صيغة صرفية ومعنى معجمي من جذر واحد. كما تلمس الاتساع في تعدد معاني الصيغة الصرفي، وفي دلالة الصيغة الواحدة على معنيين مختلفين من جذر لغوي واحد. وفي دلالة صيغة الفعل على زمنين ماضٍ ومضارع، أو لازم ومتعدّ في آن واحد. وقد نهج الباحث نفس المنوال المتبع في التطبيقات على الأبواب وذلك بدراسة واحد وستين نصًّا قرآنيًّا؛ يذكر النصّ القرآني، ويستخرج الصيغة المراد دراستها، يحلّلها ويذكر الوجوه الدلالية المحتملة، مع الإتيان بالدليل من كتب التفسير واللغة، ثم يختم بخلاصة تجمع الأوجه التي ذكرها لتعدد دلالة الصيغ.
ج- اتساع الدلالة لأسباب لغوية، حيث مهّد الباحث لهذا الفصل بكون الخطاب القرآني استثمر الطاقة التعبيرية في حروف المعاني وتعدّد دلالات المفردات اللغوية، التي يكون مردّها إلى دلالة الكلمة على معنيين من جذر واحد، أو من جذرين مختلفين، أو على معنيين أحدهما حقيقة والآخر مجاز. وفي هذا الفصل درس حروف المعاني من الألِف إلى الواو، كما تطرّق إلى تعدّد دلالة اللفظ على معنيين من جذر واحد، وعلى معنيين من جذرين مختلفين، وعلى معنيين حقيقي ومجازي. فكانت الدراسة تطبيقية على نفس المنوال الذي ابتدأه؛ حيث درس سبعة عشر ومائة نصٍّ قرآني؛ يَعرِض النصّ القرآني ويَستخرج الكلمة المدروسة ويذكر المعاني المختلفة للمفردة القرآنية مستعينًا بأقوال اللغويين والمفسِّرين، مع ذكر الملاحظة أو خلاصة كلّ تحليل.
د- اتساع الدلالة لأسباب بلاغية، وذلك بذِكْر بعض عوامل اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، والتي تتجلّى في اعتماده على التفنّن البلاغي في أداء المعاني وَفق أساليب العرب، وقد كان النصّ المعجز فوق العربية سموًّا وبلاغة. ومن تلك الأساليب التي درسها الباحث: استخدام اللفظ في معنيين مجازيين، وتضمين الفعل معنى فعل آخر، وحذف جزء من التركيب، والاستخدام البديعي للفظ في معنيين، والتقديم والتأخير، والإخبار بالعام عن الخاصّ، وتردّد الجملة بين أساليب الإنشاء والخبر؛ فجاء العرض في أحسن حُلّة. فقد درس واحدًا ومائة نصٍّ قرآني، قام بتحليلها، وإظهار مواطن اتساع الدلالة فيها، بذكر أوجه المعاني الممكنة مستعينًا بكتب التفسير والبلاغة وقد يأتي بقول للدكتور/ فاضل السامرائي، ويعطينا خلاصة وجيزة لِما توصّل إليه إثر كلّ مثال.
أبرز مزايا الكتاب:
1- أثناء عرض الأمثلة المنتقاة من القرآن الكريم استطاع الباحث أن يبيّن أثر التراكيب على اختلاف انتمائها للحقول المعلن عنها في اتساع الدلالة. فجاء التحليل تطبيقيًّا مستعرضًا أقوال المفسِّرين واللغويين في تأكيد ما توصّل إليه.
2- بذَلَ الباحثُ جهدًا كبيرًا في لـمِّ شتات الأمثلة حسَب الأبواب من خلال كتب التفسير ومعاجم اللغة. فكان بحثه تطبيقيًّا مفيدًا، مترامي الأطراف، ومتحكمًا في مراحله المختلفة.
3- جهود الباحث جلية في استعراض النماذج المتعدّدة لاتساع الدلالة في الخطاب القرآني، معتمدًا على المصادر والمراجع الخاصّة بتلك العلوم، وقد عوّل كثيرًا على أمهات التفاسير، في عروض شيقة ومتماسكة، مما جعل المادة محبّبة وقريبة للدارِسين.
4- ومن مزايا الكتاب، تصنيف المادة وترتيبها حسَب العناوين، مما جعل الاستفادة منه أسهل على القارئ.
5- انتقى الباحث الشواهد من الآيات القرآنية بطريقة ممتازة، ودرسها عبر أقوال المفسرين أو اللغويين، حسَب ما يقتضيه المقام، مما يجعل الهدف التعليمي يتحقق في أول وهلة. مثال ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31] الآية. حيث ذكر الباحث احتمالَين لجواب الشرط؛ الأول: (لكان هذا القرآن). والثاني: (لم يؤمنوا). فبعد أن أتى بقول البيضاوي في المسألة، علّق على ذلك بقوله: «فحَذْفُ جواب الشرط يفيد توسيع المعنى لاحتمالات عدة تناسب السياق والمقام، وكل ذلك صحيح ومراد، ولو أراد تعيين أحد الاحتمالات، لَنَصَّ على الجواب كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾[الأنعام: 111] الآية، ولكنه أراد إطلاق التعبير لعدّة دلالات فحذف الجواب»[12].
6- في غالب الأحيان، يختم الباحث الدراسة بعبارة تختصر وجوه الدلالات التي أدّت إليها المفردة المدروسة في المثال.
7- وفي الأخير دبّج الباحثُ خلاصة تحدّث فيها عن مراحل دراسة الموضوع من خلال الفصول الأربعة، مذكّرًا بما يراه ميزة لهذا البحث، وهو جمع المادة المتوفّرة في الموضوع، والمتناثرة في المصادر، ولمّ شملها وتحليلها ومناقشتها، مع الأخذ والردّ، والاستعانة بالشاهد والدليل لترجيح قول على قول، وموافقة رأي دون رأي.
أهم الملاحظات على الكتاب:
من خلال الكتاب يتبيّن أن الباحث بذل جهدًا كبيرًا في إخراج عمله في أحسن حُلّة، مما جعله بحثًا أكاديميًّا يفي بالغرض المطلوب في أطروحته. لكن كما لا يخلو العمل البشري من سلبيات، فهناك ملاحظات حول ما يبدو ضروريًّا، ليكون العمل أكثر إجابةً على ما يتطلّبه موضوع الدراسة، ومنها:
1- عند تعرُّض الباحث لكلمة الاتساع في اللغة والاشتقاق، نجده يسرد مجموعة من البيانات المعجمية حول الكلمة من خلال كتب المعاجم، دون أن يأتي بخلاصة توضح الرابط أو أوجه التقاطع بينها.
2- عند دراسة مفهوم الاتساع في علوم العربية، لم يستطع الباحث أن يربط بينها في العرض، بل عمد إلى اختيار مفهومٍ خاصّ للاتساع، يوافق موضوعه خارج الدراسة المعروضة التي أثبتها سابقًا، وجاء بقول ابن أبي الأصبع في باب الاتساع وتبنّاه ليكون دليلًا على تعريف دلالة الاتساع كما يتصوّرها الباحث.
3- لم يتطرّق الباحث إلى عدد من المصطلحات التي استعان بها، ومنها: مفهوم الدلالة، بما في ذلك الدلالة اللفظية والدلالة المعنوية، والعلاقة بينهما.
4- لم يستعن الباحثُ بالمؤلِّفين المحدَثِين في عرضه لمسايرة مصطلح الاتساع. كما لم يُشِر إلى ما كتبوه حول التطبيقات الخاصّة بالآيات القرآنية، عدا ما كان يستعين به مما أخذه عن الدكتور/ فاضل السامرائي.
5- استعرض الباحث مفهوم الاتساع في القراءات، واقتصر على معنى التجاوز في المدود، بينما فيما هو تطبيقي لم يتعرّض لموضوع تعدّد القراءات في اتساع الدلالة كدراسة مستقلّة في الكتاب؛ وذلك لأنّ هاجسه آنذاك كان هو استعمال المفهوم في الباب. كما أنه كان يتعرّض للوقف والابتداء أثناء تغيير المعنى في بعض الأمثلة المختلفة، فلو أدرج عامل الوقف والابتداء في دراسة خاصة لكان أوْضَحَ في الدراسة التطبيقية وأبْيَن.
6- افتقار التحليل إلى إثبات عنصر السياق أثناء التطرّق إلى الأمثلة المدروسة إلا قليلًا مثل: «أن يفهم من السياق تعليل الدعاء، أي: وَادْعُوه لأجل الخوف والطمع؛ فتُعرَب مفعولًا لأجله»[13]، وإن كان الباحث يعتبره في تحليله دون أن يذكره، مما جعل ذلك يترك قصورًا في البيان، أثناء استعراض الدلالات المستخرجة؛ لأنّ كلّ معنى محتاج إلى بيان سياقه في التحليل.
7- في بعض الأحيان، قد يذكر الاحتمال المرجوح، مثل: عائد الضمير، في قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾[يوسف: 23]. ففي عائد الضمير في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ رَبِّي﴾ رأيان عند المفسّرين؛ الأول: أن يعود الضمير على الله تعالى، ويكون ﴿رَبِّي﴾ بمعنى: خالقي. والثاني: أن يعود على زوجها العزيز، بمعنى سيدي ومالكي. وقد رجّح أبو حيان الرأي الأول، ورجّح الألوسي الرأي الثاني، وجمع ابن عاشور بين القولين. فتبنّى الباحث القولين معًا كمثال لاتساع الدلالة، رغم ما ذكره أبو حيان عن الرأي الثاني في قوله: «ويبعد جدًّا؛ إِذْ لا يُطلِقُ نبيٌّ كريمٌ على مخلوق أنه ربّه، ولا بمعنى السيد؛ لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكًا له»[14].
الخاتمة:
يُعتبر كتاب: (اتساع الدلالة في الخطاب القرآني)، نواة للدارسين في هذا الفنّ، وقد استطاع الباحث أن يستفرغ الجهد الكبير في أطروحته. ومن خلال هذه القراءة يتبيّن أنّ مثل هذا العمل يبقى نبراسًا للدارسين، لرفع الروح المعنوية وشحذ الهمم لكلّ مَن سار في درب البحث العلمي الرصين.
وكما هو معلوم فإنّ البحوث التقنية في مجال اللغة العربية، بقدر ما تتسم به من صعوبة على الدارسين المبتدئين، بقدر ما هي شيّقة وتحتاج إلى الصبر وطول النّفَس، حتى تأتي بنتائج في مستوى البحث العلمي.
ومن هذه القناعة، أقول بأن:
- بعد هذا العمل الجيد، اتخذ الدكتور/ محمد نور الدين المنجّد مسارًا متميزًا في مجال البحث العلمي والتدريس، حيث اكتسب الدربة والمهارة في الميدان اللغوي، وله مؤلَّفات عدة، ينصح بقراءتها، والاستفادة منها.
- مفهوم الاتساع في الدلالة يحتاج إلى بحوث خاصّة لبيان تطوّره وتأصيله، عبر المدارس العربية المختلفة، حتى يكون في متناول الدارسين.
- الاتساع في الدلالة في الخطاب القرآني يعدّ ميدانًا واسعًا، والكتابة فيه تحتاج إلى التخصّص في باب واحد حتى يكون البحث وافيًا من الناحية النظرية والتطبيقية.
تقبّل اللهُ منّا جميعًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] من منشورات دار الفكر بدمشق، الطبعة الأولى، 1431هـ= 2010م، في مجلد يتكوّن من 464 صفحة. وأصل الكتاب أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه.
[2] الدكتور/ محمد نور الدين المنجِّد هو الأستاذ الجامعي بكلية اللغة العربية، جامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان. له كتب ودراسات عديدة، منها: كتاب الاشتراك اللفظي في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، وكتاب التضاد في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، وكتاب الترادف في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، والعديد من الدراسات؛ منها: الإحالة بالضمائر في سورة الحاقة- دراسة إحصائية نصية، التكامل الدلالي بين الرسم العثماني والتفسير القرآني، الأضداد في كتاب الكامل للمبرد؛ تأمل في المفهوم والمنهج، وغيرها.
[3] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، محمد نور الدين المنجّد، ط1، (دمشق: دار الفكر، 1431هـ= 2010م)، ص16.
[4] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، محمد نور الدين المنجّد، ص18.
[5] القواعد والإشارات في أصول القراءات، الحموي أبو العباس، ط1، (دمشق: دار القلم، 1406هـ)، (1/ 53).
[6] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، المنجد، ص31.
[7] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، المنجد، ص32.
[8] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، المنجد، ص61.
[9] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، المنجد، ص61.
[10] تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، ابن أبي الأصبع، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1963م)، ص454- 455.
[11] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، المنجد، ص77.
[12] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، المنجد، ص397.
[13] اتساع الدلالة في الخطاب القرآني، المنجد، ص111.
[14] البحر المحيط (5/ 294).