خصائص النفس البشرية وكيفية تزكيتها
قراءة في سورة الشمس
الحمد لله الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى، والصلاة والسلام على نبيّه المجتبى؛ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[آل عمران: 164].
أمّا بعد: فإنّ محاولة فهم النفس البشرية وكنهها من أكثر ما شغل الإنسان منذ القِدَم، هذه النفس العجيبة التي بين جنبينا بما فيها من رغبات وإرادات وبواعث ومحرّكات ومثبّطات، تؤثّر تأثيرًا مباشرًا على أفعال الإنسان وتدفعه دفعًا لأفعال متباينة تجلب على النفس السعادة أو الشقاء.
هذه النفس التي لديها قدرة لأن تصل إلى أعلى الدرجات بتزكيتها؛ أو تهوي لأسفل الدركات بتدسيتها.
لقد حاول الفلاسفة قديمًا وعلماء النفس حديثًا كشف لغز هذه النفس فأصابوا في أمور وأخفقوا في أمور، وأصل تخبّطهم جاء بسبب النظرة الخاطئة لحقيقة النفس.
فذهب بعضهم إلى جعل الغاية لهذه النفس هي إشباع غرائز الجسد، ولو أدّى ذلك إلى إغفال جانب الروح، فجعلوا مرجعية المثُل العليا لدى الإنسان كلّها نابعة من غرضه في تحقيق اللّذة الحسية، بل وأوغل بعضهم فأرجع كلّ سلوكيات الإنسان نابعة من دوافعه وغرائزه الجنسية، فالجنس عنده هو المحرك الأكبر لكلّ الأفعال، سواء كان هذا بعقل واعٍ أو غير واع.
وعلى النقيض من ذلك، ذهب أقوام آخرون إلى الإقبال على الروح بزعمهم، والبحث في محاولات إشباعها، ولو أدّى ذلك إلى إهمال الجسد والإضرار به، كما هو الحال في الحضارات الشرقية القديمة كالهندوسية والبوذية وما على شاكلتها.
والمؤمنون حقًّا نجوا من هذه التخبّطات؛ فعلموا أنّ خالقهم لم يتركهم هملًا؛ فآمَنوا برسله وكتبه؛ واستضاءُوا بنور الوحي الإلهي؛ وعرفوا حقيقة النفس وطرُق إسعادها في الدنيا والآخرة؛ إذ النفس لا يمكن معرفتها حقّ المعرفة إلا بالرجوع إلى خالقها سبحانه وتعالى، فهو الخبير العليم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14].
وفي هذه المقالة سنحاول -من خلال تدبّرنا لسورة الشمس- التعريف بجانب مركزي من خصائص النفس البشرية، وكيفيات التعامل معها، وطرق تزكيتها، وذلك بعد تمهيد نعرف به إجمالًا بهذه السورة ومحورها وأهمية طرحها في سياق التعرف على النفس البشرية.
التعريف بسورة الشمس ومحورها الرئيس:
سورة الشمس مكية بالإجماع، وعلى الرغم مِن قِصَرها إلا أنها احتوت على أطول قَسَم في كتاب الله؛ ففي حين أنّ مجموع آياتها خمس عشرة آية، إلا أنّنا نجد أنّ ثماني آياتٍ منها متتالية يُقْسِم فيها ربُّ العالمين بعدد من مخلوقاته العظيمة، على أنّ فلاح العبد أو خسارته في دنياه وآخرته إنما مداره على تحقيقه لتزكية نفسه أو تدسيتها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 9- 10][1].
فالمحور الرئيس للسورة يدور حول أهمية تزكية النفس، وتلحّ على هذا المعنى بأوجز عبارة وأبلغ بيان؛ بحيث يخرج القارئ والمتدبّر لهذه السورة بفهم حقيقة النفس وجبلّتها، وما يجب أن تكون عليه، وكيفيات التعامل المُثلَى مع هذه النفس في ضوء طبيعتها، وما يجب على الإنسان من استغلال الرصيد الفطري المركوز فيها للوصول بها إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.
وقد تضمّنت السورة في آخرها مثالًا عمليًّا بذكر قصة ثمود لتدلّل على التقريرات التي جاءت في أولها وصدرها، فكانت قصة ثمود مثالًا لخيبة مَن لا يحسن التعامل مع النفس وفقًا للمسلك الذي قرّرته السورة فيحجم عن أن يزكّي نفسه ويدسيها بالطغيان. ومن هاهنا كان النظر في هذه السورة حريًّا بتسليط الضوء على النفس البشرية من حيث هي وفهمها وفهم المسلك الأنجع في التعامل معها، وفيما يأتي نشرع في بيان معالجة السورة وحديثها عن النفس البشرية وكيف تصل إلى بَرّ الأمان بتزكيتها الزكاة التي يرضَاها ربها.
أولًا: خصائص النفس البشرية في سياق سورة الشمس:
1- الأصل في النفس البشرية أنها سَوِيَّة فُطِرَت على التوحيد:
- {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس: 7].
فالنفس البشرية خلقها اللهُ سوية مستقيمة على الفطرة، خلقها في أحسن تقويم، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين: 4]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار: 7]، وتسوية الإنسان تشمل تسوية الروح والجسد.
كما أخبرَنا -عز وجل- أنه فطَر الناس على الإسلام والتوحيد: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}[الروم: 30].
وأخذ الله العهد والميثاق على الإنسان على ذلك، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}[الأعراف: 172].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ»[2].
كلّ هذه الأدلة وغيرها تؤكّد أنّ الله -عز وجل- خلق النفس البشرية سوية مستقيمة على فطرة التوحيد، وهذا يعني أنه بداخل كلّ إنسان منّا هادٍ إلى طريق الحقّ، ولكن هذه الفطرة وحدها غير كافية للوصول بالعبد إلى برّ الأمان؛ وذلك لتعرّضها لكثير من الابتلاءات الداخلية (داخل الإنسان نفسه)، والخارجية من شياطين الإنس والجنّ التي تزيّن الباطل مستغلّة ميل النفوس إلى الشهوات وإيثار العاجل على الآجل.
ولهذا فإنّ السورة لم تَدَعْ أمر تزكية النفس إلى الإنسان نفسه، بل أحالته إلى ضرورة اتّباع وحيٍ مِن خَالِقِه لتزكيتها التزكية التي أرادها الله -سبحانه وتعالى- لها، كما سيأتي في معرض حديثنا عن طرق تزكية النفس.
2- النفس مهيّأة لِقَبُول الخير والشر:
- {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس: 8].
هذه الآية جاءت قبل ذِكْر جواب القَسَم مباشرة، وهي بمثابة تمهيد، وتذكير أن هذه النفس المخلوقة مهيأة تمام التهيؤ ومستعدة تمام الاستعداد لقبول الخير أو الشرّ بحسب اختيار العبد؛ وأنّ الله تعالى الذي قدّر لها الابتلاء؛ خيّرها بناءً على هذا.
قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان: 3].
وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد: 10].
هذه الآيات وغيرها في القرآن تؤكّد أن الله -عز وجل- بيّن للنفس كِلا الطريقين، وأعطاها حرية الاختيار، وهذا هو محلّ الابتلاء، «قال ابن عباس: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}؛ بَيّن لها الخير والشّر، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك والثوري...»[3].
والنفس البشرية بذلك تختلف عن الملائكة التي هيّأها الله للخير فقط، فهم لا يعصون اللهَ ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمَرون، فليس في الملائكة نوازع الشر التي عند الإنسان.
ولكن هذا الإنسان إذا قاوم ما تدعو نفسه إليه من المعصية والطغيان وجاهدها في الله؛ فإنه يصبح عند الله أفضل من الملائكة.
3- الأصل في النفس البشرية التباين والتقابل:
من سنّة الله في الخلق أنه يخلق الشيء ومقابله، وقد بدأ الله -عز وجل- السورة بالقسَم ببعضٍ من مخلوقاته العظيمة، وأظهر -سبحانه وتعالى- فيها التقابل والتضاد؛ فهناك شمس وقمر، ونهار وليل، وسماء وأرض، وكذلك يوجد نفس فاجرة ونفس تقية، ونفس مؤمنة ونفس كافرة.
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس: 1- 8].
وقال تعالى في سورة التغابن: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[التغابن: 2].
ومما هو متقرّر عن الحكماء أنّ ذِكْر الشيء ومقابله، يُبرز المعنى ويؤكده.
ثانيًا: طرق تزكية النفس المستنبطة من سورة الشمس[4]:
قد يُظَنّ أن السورة -مع قِصرها- لم تبيّن طريق تزكية النفس، وأنّ غاية ما ذكرته هو العاقبة المحمودة لمن زكّى نفسه، وهي الفلاح في الدنيا والآخرة، والعاقبة الوخيمة لمن دسّى نفسه وهي الخسارة والهلاك.
ولكن عند التأمّل نجد أن السورة وضعت معالم تزكية النفس بالمنطوق والمفهوم والإشارة، ويمكن أن نستخرج من السورة أهم الوسائل التي تُعِين على تزكية النفس في النقاط الآتية:
1- التفكّر في آيات الله ومخلوقاته:
التفكّر في آيات الله ومخلوقاته العظيمة له عظيم الأثر في تزكية النفس؛ ولهذا فإنّ الله -سبحانه وتعالى- كثيرًا ما يدعو عبادَه للنظر والتأمّل في خلقه: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 185].
وفي السورة التي نحن بصدد تدبّرها الآن، نلاحظ أنها قبل أن تذكر حقيقة النفس وسبب فلاحها أو خسارتها، هيّأت النفوس أولًا بذِكْر بعض آيات الله الكونية الدالّة على قدرته المطلقة في خلق الشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض.
وهي آيات كونية عظيمة ينبغي للعاقل أن يتأمّلها ويتفكّر فيها كثيرًا؛ ويستدلّ بها على عظمة خالقها -عز وجل-، وهذا عكس حال أهل الكفر؛ فهم لا يعتبرون ولا يتفكّرون في هذا، قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}[الروم: 8].
وفي المقابل؛ قال تعالى مادحًا عباده المؤمنين بصفة التفكّر في مخلوقاته: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 190- 191].
فقادهم التفكر في خَلْق الله إلى الاستدلال على البعث والحساب والجزاء، فأخبتت قلوبهم للحكيم العليم القدير، الذي لا يتصوّر أن يخلق الخلق عبثًا دون غاية أو حكمة.
وهذه طريقة القرآن المطّردة، أنه دائمًا ما يقرن الحديث عن الأمور العظيمة؛ كإثبات يوم القيامة والبعث والجزاء، وصِدْق الرسالة، ووجوب إفراد الله بالعبادة =بذكر الآيات الكونية المشاهَدة؛ لما في ذلك من أثر بالغ على النفس، إذ القادر على خلق هذه المخلوقات العظيمة من العدم، ومدبّر هذا الكون؛ قادرٌ على ما هو أهون من ذلك على طريقة قياس الأَوْلى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الروم: 26- 27].
2- تذكير النفس بربوبية خالقها وأنها مقهورة بقدرته:
ما من مخلوق إلا وهو عبدٌ لله بالمعنى العام للعبودية، والتي تحمل معاني القهر والمُلْك والغلَبة للخالق -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: 93]، فهذه العبودية تشمل جميع الخلق، المؤمن والكافر والبَرّ والفاجر، فهي عبودية الربوبية والخضوع.
أمّا عبودية الإلهية بأن يصرف العبد عبادته التامّة لله وحده لا شريك له؛ فهذه لا تكون إلا اختيارًا من العبد، وهذه هي العبودية الخاصّة، والتي لا تكون إلا لتزكية النفس، وهذا هو محلّ الابتلاء في الحياة الدنيا.
فمما يُعِين على تزكية النفس أن يستدلّ الإنسان بعبودية الربوبية على عبودية الألوهية.
قال ابن القيم: «فالخلق كلّهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته»[5].
وحينما يعيش المؤمن مع النصف الأول من السورة، سيظهر له جليًّا انسجام الكون كلّه وَفق قانون مُوجِده -سبحانه وتعالى-، فالعالم العلويّ والعالم السفليّ كلاهما خاضعان تمام الخضوع للخالق؛ الشمس والقمر بحسبان، والسماء وما فيها مع الأرض وما فيها كلّهم في فلَك يَسْبَحُون خاضعون.
فإذا ما اختارت النفس الشرودَ عن العبودية لله؛ ستخرق هذا الانسجام التام مع الكون، وبهذا يتأكّد لدى المؤمن أنّ هذه الأنْفُس الدنيئة التي اختارتْ طرُق الغواية، بعد أن منحها اللهُ حرّية الاختيار، هي أبعد ما تكون من الضلال.
ولهذا يُشعرك القرآن دائمًا أنّ المستكبِر والمعرِض عن عبادة الخالق سبحانه وتعالى، كأنه شاذّ في هذا الكون، فالكون كلّه يسير في المسار الذي قدّره الله؛ وهو يسير في اتجاه معاكس تمامًا غير الذي خُلق له!
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج: 18].
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[الإسراء: 44].
فمَن رفض الخضوع والإذعان -كباقي مخلوقات الله- فقد أهان نفسه أيّما إهانة، فضلًا عن استحقاقه العذاب الأبدي، بل إنه حينما ينقضي أجله في الدنيا تستريح منه جميع المخلوقات، وما ذلك إلا لتمرّده على الكَوْن الخاضع بأسره لله وحده لا شريك له.
في الصحيحين من حديث أبي قتادة الحارث بن ربعيّ -رضي الله عنه-: «أنّ رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- مُرّ عليه بجنازة، فقال: مُستريح ومُستراح منه. قالوا: يا رسول الله، ما المُستريحُ والمُستراحُ منه؟ قال: العبدُ المُؤمنُ يستريحُ من نَصَبِ الدُّنيا وأذاها إلى رحمة اللّه، والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشّجرُ والدّوابُّ».
فدلّ هذا على أنّ أذى الفاجر في الدنيا يشمل جميع المخلوقات، وليس بني جنسه فحسب!
3- استحضار معنى "التزكية" و"التدسية" اللتين هما محور السورة:
- {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس: 9].
لفظ (التزكية) نفسه يعبّر عن وصف ومنهج، فالتزكية في اللغة يدور معناها على أمرين، النماء والتطهير، أو كما يقال: التخلية والتحلية، فمن أراد تزكية نفسه حقًّا، فعليه أن يجمع بين الأمرين معًا، تنمية النفس بطاعة الله، وفي نفس الوقت تطهيرها من المعاصي، بل إنّ التخلية تسبق التحلية؛ فالذي يريد أن يبني بناءً عاليًا على أرضٍ ما، لا بد أن يطهر هذه الأرض أولًا، ثم بعد ذلك يكون البناء على أرض صلبة راسخة، وهكذا تُبنى النفوس الزكية.
قال شيخ الإسلام: «وأصل الزكاة الزيادة في الخير، ومنه يقال: زكا الزرع وزكا المال؛ إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشّر، كالزرع الذي لا يزكو حتى يُزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يُزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكّيًا قد زُكّي إلا مع ترك الشّر؛ ومَن لم يترك الشّر لا يكون زاكيًا البتة، فإنّ الشر يدنّس النفس ويدسّيها»[6].
-{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 10].
كذلك فإنّ لفظ (التدسية) أيضًا يحمل في طيّاته حافزًا يُعِين على تزكية النفس؛ لأن الضد يظهر المعنى، فمَن رأى الفقر عرف قيمة الغنى، ومن رأى المرض عرف قيمة الصحة، ومن عرف فداحة تدسية النفس علم قيمة تزكيتها.
وتدسية النفس تكون بالإقدام على المعاصي بجميع أنواعها، وعدم معالجتها بالتوبة.
قال ابن القيم في معرض حديثه عن عقوبات المعاصي: «ومن عقوباتها: أنّها تصغِّرُ النّفْس، وتقمعها، وتدسِّيها، وتَحقِرُها، حتّى تكونَ أصغرَ كلِّ شيء وأحقرَه، كما أنّ الطاعة تنمِّيها وتزكّيها وتكبّرها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 9- 10]، والمعنى: قد أفلح من كبّرها وأعلاها بطاعة الله وأظهَرها، وقد خسر من أخفاها وحَقّرها وصَغّرها بمعصية الله... فما أصغرَ النّفوسَ مِثْلُ معصية الله، وما كبّرها وشرّفها ورفعها مِثْلُ طاعة الله»[7].
ومن اللطائف القرآنية التي أشار إليها الإمام الربّاني ابن القيم -رحمه الله- أنّ القرآن دائمًا ما يعبّر عن الاستقامة على منهج الله بكلمات توحِي بالعلوّ، وحينما يعبر عن الضلال والغواية، فيعبر عنه بألفاظ تُشْعِر بالسفول.
فقال -رحمه الله-: «...قال في حقّ المؤمنين: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة: 5]، وقال لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}[النمل: 79]، واللّه -عزّ وجلّ- هو الحقّ، وصراطه حقّ، ودينه حقّ، فمن استقام على صراطه فهو على الحقّ والهدى، فكان في أداة (على) على هذا المعنى ما ليس في أداة (إلى) فتأمّلْه، فإنّه سرٌّ بديع...
وهذا بخلاف الضّلال والرّيْب، فإنّه يؤْتَى فيه بأداة (في) الدالّة على انغِماس صاحبه، وانقِماعه وتدَسُّسِه فيه؛ كقوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة: 45]، وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ}[الأنعام: 39]، وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون: 54]، وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[هود: 110] .
وتأمّلْ قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[سبأ: 24]، فإنّ طريق الحقّ تأْخُذُ عُلُوًّا صاعدةً بصاحبها إلى العليّ الكبير، وطريق الضّلال تأْخُذ سُفْلًا، هاويةً بسالكها في أسفلِ سافلين»[8].
4- الاستعانة بالله:
ومحلّ الشاهد من السورة هو أحد قولي أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 9- 10].
إذ ذكرَ المفسِّرون أنّ الضمير في {زكّاها} و{دسّاها} قد يكون عائدًا على الإنسان، أو عائدًا على الله سبحانه وتعالى.
فيكون المعنى على القول الأول: أفلح مَن زكّى نفسه بطاعة الله، وخاب وخسر مَن دسّى نفسه بمعصية الله عز وجل.
وعلى المعنى الثاني: أفلحَت نفسٌ زكّاها الله، وخابَت نفسٌ دسّاها الله.
قال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ذكر التفسير على المعنى الأول: «...وقد يُحتمَل أنْ يكون المعنى: قد أفلح مَن زكّى اللهُ نفسَه، وقد خاب مَن دسّى اللهُ نفسَه، كما قال العَوْفيّ وعليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس»[9].
ولا شكّ أنّ المعنيَيْن متلازمان فَمَن زكّى نفسه وحمَلها على طاعة خالقها، وفّقَه اللهُ ويسّر له وزكّاه؛ إِذْ لا تزكو النفس إلا بتوفيق الله -عز وجل-، وكذا يمكن أن نقول في مَن اختار تدسية نفسه؛ فإنّ الله يدسّيه، والجزاء من جنس العمل، والمؤمن يعلم أنه لا يمكنه أن يستقلّ بتزكية نفسه دون العون من ربه -سبحانه وتعالى-، فإيّاه نعبد وإياه نستعين، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف شاء.
والمقصود أنّ تزكية النفس ليستْ بالأمر الهيّن، بل هي أمر شاقّ يحتاج إلى مجاهدة ورياضة؛ ذلك أنّ الله -عز وجل- قدّر أن يبتلي هذه النفس البشرية بأمور عديدة؛ مِن حبّ الشهوات والاغترار بزينة الدنيا وتزيين الشيطان للباطل واتّباع النفس لهواها، هذا فضلًا عن الابتلاء بالصفات المذمومة الكامنة في النفس البشرية نفسها من شُحّ وهَلَع وظُلْم وجهل، وغيرها من الصفات التي جاء ذِكْرها في القرآن والسنّة، والتي لا ينجو منها إلا مَن عصمه الله.
ولهذا يحتاج العبد مع حملِ نفسه على تزكيتها أن يستعين بالله ليزكيه الزكاة التي تنفعه في دنياه وآخرته، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا».
5- اتّباع رسل الله:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}[الشمس: 11]، ذكرَت السورة رسالة نبي الله صالح إلى قوم ثمود كإشارة إلى أنّ طريق الفلاح وتزكية النفس إنما يكون باتّباع رسل الله -عز وجل-، فلما لم يؤمنوا به وكذّبوه خسروا دنياهم وأخراهم.
لذلك فإنّ من المسَلّم به في دين ربّ العالمين، أنه لا سبيل إلى تزكية النفوس إلا باتّباع ما جاءت به رسل الله، وقد ذكر الله لنا في كتابه الخاتم أنه أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للناس لتزكيتهم، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2].
قال ابن القيم: «فإنّ تزكية النفوس مسَلّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولّاهم إيّاها، وجعلها على أيديهم دعوةً وتعليمًا وبيانًا وإرشادًا، لا خلقًا ولا إلهامًا؛ فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم...»، إلى أن قال: «فالرسل أطبّاء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان»[10].
6- استغلال رصيد الفطرة الكامن في النفس:
كما سبق في ذكر خصائص النفس البشرية، فإنّ الله -عز وجل- قد فطر النفوس على التوحيد والإيمان؛ وبناء على هذا فإنّ المطلوب من الإنسان أن يستخرج جوانب الخير المبثوثة في نفسه وفطَرَه الله عليها؛ ليصل بذلك إلى برّ الأمان.
لأنّ الاستفادة من الخير لا تكون عادة بمجرّد وجوده، بل باستخراجه والاستفادة منه؛ ولنضرب على ذلك مثلًا:
هب أنّ مدينة سكّانها من الفقراء، فأعلن حاكمها أن في باطن كلّ بقعة من أرض هذه المدينة يوجد كنوز ومعادن ثمينة، وأنه سيعطي أدوات حفر لكلّ فرد من سكانها، وأنّ من استخرج هذه الكنوز والمعادن فهي له، فانقسم الناس إزاء هذا إلى قسمين: قسم اجتهد في استخراج هذه الكنوز وانتفع بها وصار في أفضل الحالات بعد ما كان معوزًا، وقسم آخر تكاسل وانشغل بأمور لا تنفعه وأخلد إلى المثبطات، فبقي على حاله من الفقر.
وهكذا الناس في تعاملهم مع نفوسهم وما أودعه الله فيها من خير، أناس قاوموا المثبطات والمغريات وأقبلوا على أنفسهم وزكَّوها بتوحيدِ الله وفعلِ كلِّ ما يحبّه ويرضاه فانتفعوا بالكنوز التي أودعها الله في فِطَرهم ونفعوا بها غيرهم، وأناس آخرون أغفلوا هذا الخير المركوز في فِطَرهم وأخفوه ودسّوه تحت الأرض فلم ينتفعوا به ولم ينفعوا غيرهم.
7- التذكير بالعاقبة (تقوى الله عز وجل):
ختمَت السورة ببيان عاقبة قوم ثمود بسبب طغيانهم: {...فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس: 14- 15].
قَالَ الْحَسَنُ: «مَعْنَاهُ: لَا يَخَافُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ تَبِعَةً فِي إِهْلَاكِهِمْ».
ولعلّ في هذا تعريض لكلّ نفس مخلوقة، أنها لا بد أن تخاف من العاقبة؛ إذ العاقل يعلم أنّ خالقه أوجده لغاية؛ وأنه لا بد وأن يُحاسَب: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115].
وهذه هي الحجة التي قالها مؤمن سورة يس حبيب النجار حين قال لقومه: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس: 22].
فاستدلّ بخلق الله لهم، على أنه لا بد أن يرجعوا مرّة ثانية إلى خالقهم بعد مماتهم، أمّا الخالق -سبحانه وتعالى- فلا يملك أحدٌ من خلقِه أن يعقّب على حكمه، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، سبحانه وتعالى عمّا يشركون.
والمؤمن في طريق سيره إلى الله يذكّر نفسه دائمًا بعقاب الله إنْ هو أقدَم على معصيته، وهذه هي التقوى التي أمر الله بها عباده في مواضع كثيرة من كتابه: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}[الزمر: 16].
وكان آخر ما نزل من القرآن قول الله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: 281].
والتقوى هي أن يجعل العبد بينه وبين عقاب الله وقاية بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهذا من أعظم ما يزكّي المؤمن به نفسه.
ومما يُعِين على ذلك أيضًا استحضار معنى الفلاح والخسارة {أفلَحَ}، {خابَ}، والتي تشمل الجزاء والعقاب فتورث في النفس الترغيب فيما عند الله من الثواب، والترهيب في ما عند الله من عقاب، ولا تصلح النفوس إلا بهذا.
لماذا ذكر اللهُ قصة ثمود تحديدًا كمثال على تدسية النفس؟!
من الأسئلة التي قد تدور بذهن متدبّر سورة الشمس: لماذا اختار الله -عز وجل- ذِكْرَ قصة ثمود تحديدًا كنموذج لمن دَسّى نفسه وطغى؟!
ألم يذكر لنا القرآن الكريم قصص عدد من الأمم المكذِّبة؛ كقوم عاد، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة وغيرهم من الأمم المكذِّبة؟! فلماذا اختصّ الله ذِكر تكذيب قوم ثمود تحديدًا؟!
لعلّ السبب في ذلك -والله أعلم- أمران:
الأول: هو أنّ الآية الحسّية التي أرسلها الله لقوم ثمود كانت آية شديدة الوضوح: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}[الإسراء: 59].
فكانت آية الناقة واضحة بيّنة بمنزلة رؤية الشمس والقمر، دالّة على قدرة الله؛ ورغم ذلك كفروا بها، وخالفوا أمر الله وعقروها.
فكأنّ السورة الكريمة تريد أن تبيّن لنا أن طغيان النفس؛ ليس مرتبطًا بعدم وضوح الآيات الحسّية التي أنزلها الله للدلالة على صِدْق رسله؛ وأنّ النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة يكون بقرار من الداخل بتزكية النفس وإخضاعها لله وحده لا شريك له، لا بسبب خارجي عنها.
وقد ذكر لنا القرآن الكريم في آيات كثيرة تعنُّت الكافرين في طلبهم للآيات الحسّية، وأنهم كثيرًا ما يزعمون أن سبب عدم إيمانهم أن الآيات الحسيّة غير كافية لتصديقهم رسل الله، وما فطنوا أن عدم إيمانهم غير متعلّق بالآية وإنما بعدم رغبتهم في تزكية أنفسهم وإخلادهم إلى الأرض ورضاهم بالحياة الدنيا.
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[الأنعام: 109- 111].
تأمّل هذا، يخبر ربنا -تبارك وتعالى- أننا لو أجبناهم بالإتيان بما اقترحوه من الآيات الحسّية، فنزّلنا عليهم الملائكة وشاهدوهم، وكلّمهم الموتى، وأخبروهم بصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به، وجمعنا لهم كلَّ شيء مما اقترحوه يواجهونه معاينة؛ ما كانوا ليؤمنوا، إلا من شاء الله له الهداية منهم، ولكنّ أكثرهم يجهلون ذلك، فمشكلة الكفر إذن ليست في عدم وضوح الآيات الحسّية، وإنما في عدم إرادة الله لهم الهداية لرفضهم تزكية أنفسهم.
وفي حادثة انشقاق القمر في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي جعلها الله كإحدى الآيات المعجزة الدالّة على صِدْقه -صلى الله عليه وسلم-، ماذا كان ردّ فعل الكفار آنذاك؟! هل آمنوا؟!
عن عبد الله بن مسعود قال: «انشقّ القمرُ على عهد رسُول اللّه -صلى الله عليه وسلّم-، فقالت قُريش: هذا سحرُ ابن أبي كبشة. قال: فقالُوا انظُرُوا ما يأتيكُم به السُّفّارُ، فإنّ مُحمّدًا لا يستطيعُ أن يسحر النّاس كُلّهُم، قال: فجاء السُّفّارُ فقالُوا ذلك»[11]، وأصل قصة انشقاق القمر في الصحيحين.
وهكذا المكذّب المتكبّر، منهجه عدم قبول الحقّ، مهما أتته من آيات حسية أو معنوية، قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر: 14- 15].
فالقضية إذن ليست في نوعية الآيات؛ وإنما في قرار الإنسان النّابع من داخله، هل يريد تزكية نفسه أم الإخلاد إلى الأرض والاستسلام للهوى والشهوات؟! هل يريد الهداية أم يريد الغواية؟!
والنفوس مهيأة لكِلا الأمرين.
الأمر الثاني لسبب ذِكْر قصة ثمود:
أنّ الفساد الباطن هو السبب الرئيس في الفساد الظاهر، وأنّ الإنسان إذا استكبر عن قبول الحقّ وأبى تزكية نفسه؛ فإنه سيُقْدِم على فعل كلّ قبيح، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[12].
وظاهر سياق الآيات التي ذكرت فيها قصة ثمود أنها جاءت بهذا الترتيب: أنهم كذّبوا رسولهم صالح، فلما أتاهم بآية الناقة ونسبها إلى الله تشريفًا وتعظيمًا {نَاقَةَ اللهِ} ما زادهم ذلك إلا تكذيبًا وكفرًا، أي أنّ التكذيب الأول في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} غير التكذيب الثاني في قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}.
قال الطاهر بن عاشور: «والفاء من قوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} عاطفة على {كَذَّبَتْ} فتفيد التّرتيب والتّعقيب كما هو الغالب فيها، ويكون معنى الكلام: كذّبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتحدّاهم بآية الناقة وحذّرهم مِن التعرّضِ لها بسوء ومِن مَنْعِهم شُرْبَها في نوبتها من السُّقْيا، وعطف على {فَكَذَّبُوهُ}، أي: فيما أنذرهم به، {فَعَقَرُوهَا} بالتّكذيب المذكور أوّل مرّة غير التّكْذيب المذكور ثانيًا. وهذا يقتضي أنّ آية النّاقة أُرسلَتْ لهم بعد أنْ كذّبوا وهو الشّأْن في آيات الرّسل، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود»[13].
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}؛ وقد ظهر هذا الطغيان حين اجتمع قوم ثمود على الدفع بأشقاهم وهو (قدار بن سالف) لعقر الناقة، وجاء العطف بالفاء ليدلّ على سرعة التكذيب وسرعة ذبح الناقة مما يدلّ على أنهم وصلوا بالطغيان إلى درجة عالية، بسبب دناءة نفوسهم.
الخاتمة:
تناولَت المقالة الحديث عن سورة الشمس لاختصاصها بكشف حقائق عظيمة عن النفس البشرية وطبيعتها من حيث هي، كما سلّطَت المقالة الضوء على أهمية تزكية النفس، باعتباره هو مقصد السورة والمعنى الرئيس الذي تدور حوله، وكيف أنّ السورة في سياق مطالبتها بذلك وإلحاحها عليه بيّنت طرق تزكية النفس المستنبطة من السورة لتصل إلى مرضاة الله والفلاح، ثم خُتمت المقالة بمحاولة معرفة الحكمة من ذكر قصة ثمود تحديدًا كمثال عملي على تدسية النفس.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير مَن زكّاها، أنت وليّها ومولاها.
[1] هذا قول جمهور المفسرين، وذكر بعضهم غير ذلك، قال أبو حيان في البحر المحيط: «قال الزجّاجُ وغيرُهُ: هذا جوابُ القسم، وحُذفت اللّامُ لطُول الكلام، والتّقديرُ: لقد أفلح. وقيل: الجوابُ محذُوف تقديرُهُ لتُبعَثُنّ. وقال الزّمخشريُّ: تقديرُهُ ليُدمدمنّ اللهُ عليهم، أي على أهل مكّة، لتكذيبهم رسُول اللّه صلّى اللهُ عليه وسلّم، كما دمدم على ثمُود لأنّهُم كذّبُوا صالحًا».
[2] متفق عليه، واللفظ للبخاري.
[3] تفسير ابن كثير – ط. العلمية (8/ 400).
[4] الأصل أنّ من أراد علم أمرٍ من أمور الشريعة فإنه يجمع جميع ما جاء في الكتاب والسنّة وآثار الصحابة حول هذا الأمر، لكن التزامنا في هذه المقالة بالاعتماد على سورة الشمس باعتبار أنها جمعت أصول تزكية النفس بأوجز عبارة وأبلغ بيان، والتفاصيل تُعرف بالضرورة من باقي نصوص الوحيين.
[5] مدارج السالكين، ط. الكتاب العربي (1/ 126).
[6] مجموع الفتاوى (10/ 629).
[7] الداء والدواء، ص78.
[8] مدارج السالكين، ط. الكتاب العربي (1/ 40).
[9] تفسير ابن كثير، ط. العلمية (8/ 400).
[10] مدارج السالكين، ط. الكتاب العربي (2/ 300).
[11] دلائل النبوة للبيهقي (2/ 266).
[12] متفق عليه.
[13] التحرير والتنوير (30/ 373).