كتاب (حجية تفسير السَّلَف عند ابن تيمية: دراسة تحليلية نقدية)
عرض وتقويم
توطئة:
حظيتْ مواقف شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- باهتمام بارز في سياقنا البحثي المعاصر، وأثّرتْ تأثيرًا كبيرًا على الباحثين في مختلف فروع المعرفة الشرعية: العقديّة، والفقهية، والتفسيرية. ومن بين أبرز مواقف هذا العالِم الكبير هو منافحته عن حُجّية الأقوال التفسيرية للسَّلَف وأهمية الالتزام بها في فهمنا لمعاني القرآن الكريم، وتأتي هذه الدراسة للباحث/ خليل محمود اليماني لتقويم هذا الموقف وتحليله وبيان مقدار وجاهته واعتباره.
وتأتي أهمية هذه الدراسة من دخولها في نقاش موسّع مع مجموعة من الدراسات الحديثة التي اهتمّت بمسألة حُجّية تفسير السَّلَف عند ابن تيمية، ومن محاولتها بناء موقف منهجي متكامل لابن تيمية في المسألة، عبر جَمْع عدد من نصوصه المنتشرة في عدّة من كتبه وتوجيه المعارض منها، وكذلك من اتساعها في مناقشة دلائل ابن تيمية، والبحث في جهات التأثير والتأثّر الحاصلة لها في بناء هذه الأدلة، وأيضًا دوافعه في تبنّيها، وكيفيات تشكّلها عنده، وآثارها وانعكاساتها على طَرْحِه في عدد من القضايا. ومن هاهنا فإنّ هذا الكتاب من الكتب الحَرِيّة بالعرض والتقويم، وسيأتي كلامنا على الكتاب مقسومًا لقسمين؛ أحدهما للتعريف به وعرض محتوياته. والآخر لتقويم الكتاب وإبداء الرأي حوله.
القسم الأول: كتاب (حجية تفسير السَّلَف عند ابن تيمية: دراسة تحليلية نقدية)؛ عرض وبيان:
أولًا: وصف الكتاب:
هذا الكتاب من إعداد الباحث/ خليل محمود اليماني[1]، وهو من منشورات مركز تفسير للدراسات القرآنية 1442هـ الموافق 2021م، وقد جاء الكتاب في مقدّمة وأربعة فصول وخاتمة وملحق؛ خصّص الباحثُ المقدمةَ لبيان إشكال الدراسة، وتحديد أهدافها، والفصل الأول لعرض موقف ابن تيمية وتصوُّره لمسألة حُجّية تفسير السَّلَف والأدلة التي قامت عليها عند ابن تيمية، والفصل الثاني لنقد دلائل ابن تيمية وتقويمها، والفصل الثالث لبيان الدوافع التي أدّت إلى تبنّي ابن تيمية لهذه الدلائل، وكيفيات تشكُّلها لديه، والفصل الرابع لعرض آثار هذه الأدلة على الطَّرْح التيمي في عدد من القضايا، وأمّا الخاتمة فخصّصت لنتائج البحث، في حين خصّص الملحق لمناقشة الدراسات السابقة حول المسألة عند ابن تيمية.
ثانيًا: إشكالات الدراسة، وأهدافها، وحدودها:
انطلق الباحثُ من مسلَّمة تفسيرية، وهي أنّ فهومَ العلماء فهوم اجتهادية، وليست نقلًا لتفسير نبويّ. وتبعًا لهذه المسلَّمة، فإنّ دعوى حُجّية تفسير السَّلَف تطرح -حسب الباحث- عدّة تساؤلات وإشكالات، منها:
• غلق باب التفسير فعلًا وممارسةً.
• تقييد العقل من متابعة النَّظَر والبحث والفهم.
وفي ضوء أنّ ابن تيمية من أبرز مَن اعتنى بالتأصيل لحُجّية تفسير السَّلَف ولزوم التقيّد بهذا التفسير في فهم كتاب الله -عز وجل-، فقد تمحورت الإشكالية -كما ذكر الباحث- في تحرير دلائل ابن تيمية في القول بحُجّية تفسير السَّلَف، وتقويم هذه الدلائل وبيان الموقف منها.
وأمّا أهداف الدراسة فقد ذكر الباحث أنها تتمثّل إجمالًا فيما يأتي:
- موقف ابن تيمية من حُجّية تفسير السَّلَف وتحرير مرتكزاته ودلائله.
- تقويم الموقف التيمي ومناقشته.
- إثراء البحث الشرعي بمناقشة إحدى المسائل المنهجية المتعالقة مع عددٍ من الفنون الشرعية[2].
وأمّا عن حدود الدراسة، فقد بَيّن الباحث التزامه بإبراز الرؤية الكلية لابن تيمية، وبيان منطلقاته وأُسُسه، دون التركيز على الجزئيات والتفاصيل، إلا بقدر ما تخدم هذا المنطلق.
- أبرز قضايا الكتاب:
جاء الفصل الأول بعنوان: (الموقف التيمي من حُجّية تفسير السَّلَف؛ ضبط وتحرير)، وقد استهلّ المؤلِّف كلامه ببيان عدم إفراد ابن تيمية المسألة بتأليف مستقلّ، وهو ما دفعه إلى استقراء نصوص ابن تيمية في المسألة. وقد صرّح الباحثُ بدايةً بالنتيجة التي توصّل إليها، وهي كما يقول: «تحرّر لدينا أنّ ابن تيمية قائل بضرورة التقيّد بتفسير السّلف في طلب فهم معاني القرآن، وأنه اعتمد في تأسيس قوله ذلك على منطلق كلّي رئيس يتمثّل في وجود بيان نبوي لمعاني القرآن الكريم، وأنّ هذا البيان الذي ينطلق منه ابن تيمية يعني أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كشف عن المراد من سائر معاني القرآن، وأن الصحابة قاموا بنقل هذا البيان النبوي للتابعين الذين نقلوه لنا»[3].
وقد أخذ الباحثُ بعد ذلك في ذِكْر جملة تنبيهات، حيث ذَكَر أنّ مسألة البيان النبوي عند ابن تيمية قد أشار إليها ثلاثة باحثين، هم: محمد عمر بازمول في كتابه: (التفسير بالمأثور؛ مفهومه وأنواعه وقواعده)، غير أنه في نَظَرِ الباحث لم يتوسّع في تحرير قول ابن تيمية من مجموع نصوصه، واكتفى بالعرض المجمل لهذا الرأي. ثم أحمد فتحي البشير في بحثه: (توقّف التفسير على معرفة أقوال السَّلَف؛ دراسة في استدلالات ابن تيمية في جواب الاعتراضات المصرية)، غير أنه -حسب الباحث- قَصَر هذا البيان في البيان الكلّي لوجوه الأمر والندب والإرشاد، لا بيان المراد المباشر من وراء الألفاظ والتراكيب مما صَدّه عن التصوير الكامل والمحرّر للموقف التيمي. وأخيرًا: وليد صالح في دراسته: (ابن تيمية وتأسيس الهرمينوطيقا الراديكالية)، حيث أشار لفكرة البيان النبوي، لكنه -حسب الباحث- لم يحرّر دلائل ابن تيمية بصورة متكاملة من مجموع نصوصه ولم يبيِّن مستنداته في القول بهذا البيان.
وكذلك بَيَّن أنّ تفسير السَّلَف يدور على تبيين المعنى وتحرير المراد دون توسّع في بيان اللطائف والهدايات والأحكام مثلما هو الحال في كتب التفسير، ومن ثم فإنّ القول بوجود بيان نبوي نقله السَّلَف يعني صراحة أنّ النبيّ فَسّر القرآن كاملًا؛ ومن هاهنا يجب التقيّد بتفسير السَّلَف الناقل لهذا البيان، وهذا البيان هو الذي يمنح الحُجّية لتفسير السَّلَف وضرورة الاكتفاء بها في بيان المعنى، وهذا القول بالبيان ينتج عنه أن تفسير السَّلَف ليس اجتهادًا من السَّلَف بل مجرّد نقل. وتبعًا لهذا، فإنّ الدراسات التي نسبت إلى ابن تيمية -في تأسيسه لحجية تفسير السَّلَف- اهتمامًا بالأحوال السياقية ومقامات النزول وظروفه تصبح -بحسب الباحث- ساقطة من الأصل؛ إِذْ هي تفترض أن تفسير السَّلَف اجتهادي وليس نقلًا. كما أن هذه الدراسات لا تعين أيضًا على تحقيق القصد التيمي من وراء بناء حُجية هذا التفسير. وأيضًا أشار الباحث إلى أنّ هذا القول لابن تيمية في وجود بيان نبوي لمعاني القرآن، وإنْ وردَ في سياقات كلامية جدلية، إلا أنّ الباحث سيثبت أنه يظلّ مع ذلك قولًا تيميًّا أصيلًا؛ إِذْ يحضر في سياقات أخرى لا صلة لها بالجدليات الكلامية. وكذلك بَيّن الباحث أنه سيقرّر قول ابن تيمية الذي ذكر بدلائل كثيرة جدًّا؛ ما يخالف هذا المبدأ من بعض نصوص ابن تيمية، مما يعدُّ من التعارض المنطقي في نصوص العلماء، وقد ذكر الباحث أنه لم يجد غير نصّ واحد يخالف هذا التأسيس، وأنّ ابن تيمية كان متّسقًا مع هذا المبدأ في مختلف كتاباته[4].
لقد اعتنى الباحثُ في هذا الفصل بعدّة نقاط: دلائل قول ابن تيمية بالبيان النبوي لمعاني القرآن، مناقشة بعض الآراء المتعلّقة برؤية ابن تيمية للبيان النبوي، ذكر بعض التنبيهات حول موقف ابن تيمية من حُجّية تفسير السَّلَف والبيان النبوي. وسوف نعرض فيما يأتي لهذه النقاط بما يبرز محصولها تارِكِين التفصيل للمطالِع للكتاب.
أولًا: دلائل قول ابن تيمية بالبيان النبوي لمعاني القرآن:
ذكر الباحث أنّ الناظر في فكرة البيان النبوي لمعاني القرآن عند ابن تيمية يجد أن ابن تيمية يقصد أنّ النبيّ فَسّر القرآن وكشف عن المراد من معانيه لأصحابه الذين نقلوه لمن تلاهم، وأنّ النبي بَيّن المراد من المعاني بنفسه ولم يترك فهمها لاجتهاد الصحابة، وأنه في ضوء ذلك تترتّب حجية تفسير السّلف عند ابن تيمية باعتبار هذا التفسير هو الوعاء الناقل للتفسير النبوي للقرآن، وقد استدلّ الباحث على ذلك بخمسة مسالك[5].
أولًا: سياق توظيف البيان النبوي عند ابن تيمية ومؤشّراته في فهم ذلك البيان:
يرى الباحثُ أن ابن تيمية يلجأ في نقاش الطوائف التي يرى بِدْعِيّتها في فهم معاني القرآن إلى الإشارة لفكرة البيان النبوي للمعاني ليبرز مركزية أقوال السَّلَف التفسيرية وحُجّيتها باعتبارها نقلًا لهذا البيان، وبعد أن نَقَل بعض النصوص لابن تيمية في هذا الإطار بَيّن أنّ هذا السياق يكشف بجلاء عن أنّ البيان النبوي عند ابن تيمية يعني أنّ النبيّ فَسّر القرآن للصحابة، وإلا فخلاف ذلك يعطّل الاستدلال والاحتجاج التيمي على مركزية اللجوء لأقوال السَّلَف عن فهم القرآن ويكاد يرفعه بالكلية؛ لأن أقوال السَّلَف حينها ستكون مجرّد اجتهاد يتعذّر القطع بالإلزام به في عملية الفهم للقرآن.
وأمّا المسلك الثاني، فهو نصوص ابن تيمية نفسه، حيث أورد الباحثُ عدّة نصوص لابن تيمية يرى الباحثُ صراحتها في التنصيص على رؤية ابن تيمية للبيان النبوي للمعاني وأنه يعني أنّ النبي فسّر القرآن للصحابة.
وأمّا المسلك الثالث، فهو تأمل طريقة بناء ابن تيمية للاستدلال على حجية المعاني التي أوردها السَّلَف؛ فقد رأى الباحث أنّ استدلالات ابن تيمية ترجع لطريقين:
أ- إثبات ضرورة المصير لمقولات السَّلَف في التفسير والتزامها في فهم القرآن.
ب- وفساد فهم القرآن بعيدًا عن تفسير السَّلَف.
وكلتا الطريقتين متأسّسة على فكرة وجود البيان النبوي لمعاني القرآن؛ فبخصوص تقرير الطريق الأول من نصوص ابن تيمية؛ ينبّه الباحث على أمرين: جَمْعه لكلام ابن تيمية من مختلف السياقات وترتيبها وتقسيمها، ثم ذِكْره لهذه النصوص في المتن وذِكْر بعضها في الهامش. وهذه النصوص تؤكّد ما يأتي:
• دلائل وقوع البيان النبوي، وهي دلائل قرآنية وحديثية وعقلية منتزَعة من حُكْم العادة وقوّة الداعي عند الصحابة إلى فهم القرآن وتبيّن معانيه، ورجوعهم في ذلك للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليبيّن لهم المعاني.
• دلائل نقل البيان النبوي للمعاني عبر طبقة السَّلَف: تدور نصوص ابن تيمية التي وضعها الباحثُ هنا حول الاستدلال بالآثار التي تُبرز اعتناء الصحابة بتعليم التابعين معاني القرآن كلّها.
وأمّا تقرير الطريق الثاني، فقد بَيّن الباحثُ أنّ ابن تيمية يُلْزِم من لم يأخذ بأقوال السّلف التفسيرية بالرجوع ولا بد إلى اللغة المحضة في طلب الفهم وأن يحاول فهم عاداتهم في خطابهم، وغير ذلك. وأنّ ابن تيمية يرى أنّ هذا الطريق تَرِد عليه آفات كثيرة، وذَكَر الباحثُ أن تأسيس ابن تيمية في هذه النقطة مبرز لرؤيته في البيان النبوي وأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فسّر القرآن، وذلك بناء على تحليلات معيّنة قام بها لكلام ابن تيمية[6].
وأمّا المسلك الرابع الذي اعتمده الباحث، فهو تأمّل بعض التأصيل الذي طرحه ابن تيمية إزاء بعض القضايا المتّصلة بالتفسير وبتفسير السَّلَف، وقد خلص منه الباحث إلى أنّ قول ابن تيمية بالبيان النبوي كان السبب وراء تفسيره:
- لقلّة الخلاف بين الصحابة.
- تنازع الصحابة في التفسير، وأن خفاء هذا البيان على بعض الصحابة كان سببًا في بعض اختلافهم في التفسير.
- أنه كذلك سبب في تمييزه بين التفسير بالنقل والتفسير بالاستدلال، وجعله الثاني في الطبقة التي تَلت السلف.
وأمّا المسلك الخامس، فهو تأمّل التأصيل التيمي في بعض القضايا العقدية، واستخلص منه الباحث أنّ موقف ابن تيمية من الصفات الخبرية وإثباته لمعناها ورفضه لتفويض المعنى الذي هو عدم عِلْم المكلّف بالمعنى واعتباره من الأقوال البدعية =ناتجٌ عن قول ابن تيمية بالبيان النبوي؛ إذ النبي -عليه الصلاة والسلام- فسّر للصحابة معاني القرآن بما فيها آيات الصفات. ويعضّد الباحث تقريره هذا للموقف التيمي بمواقف بعض القُدَامى، خاصّة المفسِّر أبا حيان والسيوطي اللذَيْن نقَلَا عن ابن تيمية قوله بالبيان النبوي لكامل القرآن.
بعد هذه المسالك الخمسة، انتقل الباحث إلى مناقشة الدراسات التي رأتْ أن مقصود ابن تيمية هو البيان الكلّي، لا بيان المعاني المباشرة للنصّ.
ثانيًا: أدلة مَن قالوا بأنّ البيان النبوي لمعاني القرآن عند ابن تيمية هو بيان المعاني الكلية:
ذهب إلى هذا أحمد فتحي البشير، الذي رأى أنّ البيان النبوي عند ابن تيمية يعني المعاني العامة والكلية للقرآن من وجوه الأمر والندب والإرشاد، لا بيان المراد من سائر الآيات. وحاصل أدلته:
• تصريح ابن تيمية أنّ بيان الألفاظ أعمّ من بيان المعاني.
• استفادة ابن تيمية من ابن جرير الطبري مسألة البيان النبوي، وابن جرير لم يَقُل بالبيان التام لجميع الآيات بل قصد البيان الكلّي الإجمالي.
• نتائج الدراسات التي أقرّت بقول ابن تيمية بالبيان النبوي الإجمالي والكلّي.
• أبو حيان لم يفهم كلام ابن تيمية على الوجه المراد؛ لكون كلامهما كان في سياق المناظرة.
غير أن الباحث يردّ على أحمد فتحي البشير من خلال: أنّ ابن جرير نفسه قائلٌ ومصرّح بالبيان الكامل للقرآن وليس لبعض الآيات فقط؛ وأنّ ابن تيمية قائلٌ بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- بَيّنَ المعاني المقصودة من آيات الصفات الخبرية كالوجه والعين واليد، وانتقد بشدّة مقالة التفويض، وهذا لا يستقيم إلا بالقول بالبيان النبوي التام للقرآن، وكذلك أنّ أبا حيان توجد عنده مؤشّرات دالّة على أنه فهم كلام ابن تيمية بشكلٍ صحيح.
ثالثًا: تنبيهات حول البيان النبوي لمعاني القرآن عند ابن تيمية:
يرى الباحث أنّ قول ابن تيمية بالبيان النبوي يهدف إلى تأسيس أمرين:
• حجية تفسير السَّلَف.
• حجية السنّة النبوية في الفهم.
وانطلاقًا من كون حُجّية تفسير السَّلَف نابعة من البيان النبوي، فإنّ ابن تيمية يؤسّس عليه موقفه من رفض إحداث أقوال جديدة في التفسير. على أنّ ثمة نصًّا لابن تيمية يبدو مخالفًا لتقرير البيان النبوي، وفيه إقرار بجواز الاجتهاد في التفسير، وإمكان العودة مباشرة للقرآن قبل التماس النَّظَر في البيان النبوي والسُّنَّة، وفيه إقرار أيضًا بعدم حُجّية أقوال التابعين[7]. وهذا يتعارض مع القول بالإلزام بتفسير السَّلَف، ومع حدوث نقل كامل للبيان النبوي، كما يتعارض مع القول بجواز الإحداث بعد السَّلَف. غير أنّ هذا التأصيل يعطّل حجية السَّلَف عند ابن تيمية -حسب الباحث- من جهة[8]، وأيضًا، يتعارض مع ما يريد ابن تيمية تأسيسه مِن جعلِ حُجّية تفسير السَّلَف إطارًا كليًّا موجهًا لعملية الفهم. وأيضًا: فترتيب مراحل هذا التفسير بدءًا من تفسير القرآن بالقرآن ثم السُّنّة لا يمكن تصوّره؛ لكون التفسير عملية تركيبية تدمج مختلف الموارد في الفهم. والسبب في هذا التأصيل حسب الباحث هو سَعْي ابن تيمية لإقامة واقع التفسير من خلال واقع أصول الفقه، على أنّ ثمة فروقًا بينهما تمنع من هذا الإجراء في نظر الباحث. وأيضًا فجَرْيًا على هذا الأمر كما يذكر الباحث، فإنّ أقوال التابعين ليست حُجّة في الأصول، وإذا سحبنا الأمر على التفسير فسنضعف من حجية تفسير السَّلَف كثيرًا لكثرة أقوال التابعين فيه، وهو ما يخالف القصد الأساس لابن تيمية. وهذا التعارض الذي وقع فيه ابن تيمية ناتج حسب الباحث من رغبته في التأصيل للتفسير انطلاقًا من أصول الفقه، وكذلك بَيّن الباحث أن تنظير ابن تيمية في هذا النصّ المعارض هو تنظير مشكل، وقد أطال الباحثُ في بيان غلط هذا التنظير من حيث هو وعدم استقامته في ذاته.
ومن الاستنتاجات التي توصّل إليها الباحث في هذا الفصل أيضًا أنّ الناظر في ما كتبه ابن تيمية يجد سردية جديدة لتاريخ علم التفسير خلافًا للشائع، مفادها:
• أنّ البيان النبوي كان شاملًا لكلّ القرآن.
• وأنّ علم التفسير شكّل مشغلًا رئيسًا للنبي -عليه الصلاة والسلام- ولم ينطلق مع الصحابة.
• وأن تفسير الصحابة كان نقلًا للبيان النبوي للمعاني ولم يكن اجتهادًا.
الفصل الثاني: الموقف التيمي من حجيّة تفسير السَّلَف؛ مناقشة وتقويم:
المبحث الأول: دعوى وجود بيان نبوي لمعاني القرآن:
يرى الباحث أنّ القول بالبيان النبوي مشكِل لكونه أولًا، يصادم حقيقة وضوح القرآن بصورة عامّة للعرب في زمان التنزيل؛ إِذْ وضوح القرآن للعرب زمن التنزيل لا يحتاج لتدليل، وهذا واضح من الآيات التي تأمر النبيّ بتلاوته أمام العرب: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}، {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}. ويتأيّد هذا بعدم وجود بيان نبوي لسائر المعاني في القرآن لعدم وجود المقتضي لهذا البيان التام[9]. وثانيًا، يصادم المشاغل المركزية للعقل الإسلامي، فأهم مشغل للعقل الإسلامي كان في استفراغ الوسع في فهم الكتاب والسنّة، من خلال توظيف مختلف الوسائل والأدوات الممكنة. ومن أهم أهداف العلوم التراثية كان ضبط مسالك التعامل معهما وبناء منهجية الفهم لهما بطريقة منهجية تقطع العُذْر. ومكمن المصادمة هنا أنّ القول بالبيان النبوي يجعل المجال الذي يجب الانشغال به ليس النصّ ذاته بل المعاني التي ذكرها السَّلَف باعتبارها ممثّلة لعملية التبيين التي اضطلع بها النبي -عليه السلام- ذاته. وأيضًا، فقد تتابَع المفسِّرون على حصر البيان النبوي في ما أشكل من القرآن وفي الحقائق الشرعية، وهنا يستشهد الباحثُ بابن جزيّ والشاطبي وابن كثير وآخرين. وثالثًا، مصادمته لواقع تفسير السَّلَف؛ إذ النظر في تفسير السَّلَف يفضي إلى استنتاج أنه تفسير اجتهادي. ومن الدلائل عليه: حضور جملة من الموارد التفسيرية في تفسير السَّلَف: كالأَشْعَار والإسرائيليات؛ واختلاف الصحابة في المعاني: كالخلاف بين عليّ وابن عباس في تفسير العاديات ضبحًا، والخلاف بين ابن مسعود وابن عباس في تفسير البطشة الكبرى؛ وسؤال الصحابة للنبي -عليه الصلاة والسلام- دالٌّ على اجتهادهم ولجوئهم إليه في حال الغموض والالتباس؛ ووقوع خلاف التضاد بين الصحابة مما لا يمكن معه القول بوجود البيان النبوي التام؛ وورود تفاسير متعدّدة عن مفسِّر واحد ما يدلّ على اجتهاده وتغييره لأقواله، وأنه ليس ناقلًا للتفسير.
المبحث الثاني: دلائل ابن تيمية في إثبات وجود بيان نبوي لمعاني القرآن؛ مناقشة وتقويم:
يذهب الباحث في مناقشته لموقف ابن تيمية إلى أنّ الآيات التي أشارت للبيان النبوي، والتي استدلّ بها ابن تيمية محمولة على بيان تنزيل الخطاب الشرعي للقرآن والعمل به، لا على توضيح مدلولات التراكيب والألفاظ. كما أنّ الآثار التي استدلّ بها والتي تدلّ على اهتمام الصحابة بتعلّم ما في الآيات من العلم والعمل ليست ظاهرة في الدلالة على وجود البيان النبوي، بل هي محمولة على الاهتداء بما فيها من الأحكام والهدايات في السلوك العملي... وأيضًا: فالآثار التي أَوْرَدَهَا ابن تيمية شحيحة من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ انشغال الصحابة بالتفسير كان قليلًا، ما يدلّ بوضوح على عدم وجود بيان نبوي، وإلّا لكثر اشتغالهم بنقله.
وأمّا الدلائل العقلية التي استند إليها ابن تيمية، وخاصّة حُكْم العادة القاضي بانشغال الصحابة بالتفسير وبيان النبي -عليه الصلاة والسلام- معانيه لهم، فهي في نظر الباحث لا تفي بمقاصده؛ لكون الواقع التاريخي يصادم هذا الرأي، وكذا قلّة الصحابة ممن اهتموا بالتفسير، وتفاسيرهم كانت استدلالية اجتهادية لا نقلية.
الفصل الثالث: منطلقات بناء حجّية تفسير السَّلَف عند ابن تيمية؛ النشأة والدوافع:
يهدف الباحث في هذا الفصل إلى إبراز كيفيات تشكُّل هذا القول لدى ابن تيمية ودوافع هذا التشكل. وبخصوص الجانب الأول يطرح الباحث فرضيّتين تفسيريّتَيْن للاختبار:
الاحتمال الأول: أن يكون القول بوجود تفسير نبويّ خاصًّا بابن تيمية:
ومما يقوي هذا الاحتمال -حسب الباحث- عدم نسبة ابن تيمية هذا القول لعالِم سابِق بعينه؛ واجتهاد ابن تيمية في تأسيسه؛ ما يَشِي بكونه سباقًا لهذا القول ومؤسّسًا له.
الاحتمال الثاني: أن يكون صاغه باعتباره يمثّل فكرة مستحضرة سَلَفًا إزاء البيان النبوي تأثرًا ببعض الكتابات:
وثمة دلائل لاحتْ للباحث، ظهر له من خلالها أنّ ثمة تأثرًا من ابن تيمية بعلماء سابِقِين لهذا القول في التراثَيْن التفسيري والأصولي:
- تفسير الطبري:
فالطبري -بحسب الباحث- قائل بالبيان النبوي في مقدّمات تفسيره، ومن الدلائل على ذلك أنه: يمنع من التفسير بالرأي؛ واحتجاجه على وقوع البيان النبوي بكون النبي -عليه الصلاة والسلام- بَيّن القرآن للصحابة، وكونهم كانوا يتعلّمون منه ما في الآيات من العلم والعمل؛ استنادًا إلى أثر ابن مسعود المبين لحرص الصحابة على تعلُّم المعاني[10]، واشتراطه لصحة التأويل أن لا يخرج عن قول السَّلَف، وأن يكون التفسير اللغوي موافقًا للوارد عن السَّلَف[11]. ومما يدلّ على تأثّر ابن تيمية بالطبري -بحسب الباحث-: سبق الطبري إلى القول بالبيان النبوي، ثم سبقه في الاستدلال على وجود هذا البيان عقلًا ونقلًا[12]، ثم سبقه في ردّ الاعتماد على محض اللغة، ثم أوّليته في بناء مرتكز كلّي لعملية الفهم عبر التصريح النظري بضرورة لزوم مقالات السَّلَف. من هنا يستخلص الباحث التقارب الشديد بين موقفي الطبري وابن تيمية، وأنّ طَرْح ابن تيمية في جوهره ترتيب وطرد للوازم قول الطبري مع بعض الإضافات.
- التأثّر بطَرْح الشافعي:
فقد جعل الشافعي حُجّية السُّنَّة بمثابة مرتكز رئيس في فهم المراد الشرعي في القرآن عبر استثماره فكرة البيان النبوي لمعاني القرآن.
ومن مناقشة الباحث للاحتمالين رجح الأول ثم ظهر له احتمال ثالث، وهو أنّ ابن تيمية صاغ الفكرة باعتبارها معبّرة عن موقفه من البيان النبوي، مفيدًا من تصوّر الطبري، وأمّا كونه لم يُحِل إليه مباشرة فلأنّ ابن تيمية في نظر الباحث اعتبر الفكرة مقرّرة وسائدة بحيث تستغني عن نسبتها لعالِم معيّن، وكذا شيوع النقل والإفادة في التراث بدون نسبة لدى كثير من العلماء.
- المبحث الثاني: منطلقات بناء حجية السَّلَف عند ابن تيمية؛ الدوافع والمسببات:
في سعيه لفهم دوافع ابن تيمية لهذا القول، رأى الباحث أنه لا بد من النظر في أمرين: بيان معاني القرآن، والبناء النظري للتفسير؛ لكونهما مهّدَا لأخذِ ابن تيمية بهذا القول كي يعالج الإشكالات الناتجة عنهما. فبخصوص تبيين معاني القرآن، فقد ذهب الباحث إلى أن ثمة مسارين يتعلّقان بالمعاني: يرتبط الأول ببيان الألفاظ كصنيع الفرّاء والزجّاج، ويتعلّق الثاني ببيان معاني التراكيب، وهو المراد من علم التفسير؛ لكون دلالاته محصورة وخاصّة. ورغم التمايز بين البيانين، إلا أنه في نظر الباحث قد وقع خلط في بدايات الكتابة في التفسير على يد أبي عبيدة في كتابه (مجاز القرآن)؛ إذ اعتمد على اللغة وحدها وجَعَل التبيين اللغوي تبيينًا تفسيريًّا، وقد تنامى هذا الاتجاه التفسيري الذي يَعُدّ اللغة وحدها كافية، إلى أن صار تيارًا قائمًا، ويستشهد عليه الباحث بالقاضي عبد الجبار، والزمخشري، وأبي حيان، رحمهم الله جميعًا. يقول الباحث: «وهذا الأمر أفضى لجعلِ ساحة النصّ مرتعًا لفهوم كثيرة، وصارت ألفاظه عرضة لعدد كبير جدًّا من الاحتمالات والمعاني، والتي ترجع كثرتها لكثرة دلالات الألفاظ اللغوية في ذاتها وتنوّعها، وهو ما أدّى بطبيعة الحال لجعل دائرة الفهم تتسع بصورة شديدة، وتصبح ظاهرة المرونة، وتبدو حمّالة أوجه، تكاد لا تتناهى ولا تقف عند حَدّ، وهو الأمر الذي فاقمه الوضع النظري للتفسير»[13]. وهذا الوضع فاقم مشكلة التفسير وممارسته بحيث أُلْغِي التمايز -في نظر الباحث- بين المعنى التفسيري والمعنى اللغوي، وصار التفسير به فاقدًا لنسقه القواعدي الخاص في إنتاجه، إلى حَدّ أضعف علميته.
وأمّا إشكال الوضع النظري للتفسير، فقد شَكّل التفسير -حسب الباحث- استثناءً من العلوم الشرعية التي كان لها إطارها النظري الضابط لقواعد اشتغالها، فقد بقي بدون إطار نظري يضبط آليات اشتغاله، وقد كان للباحث دراسات سابقة بَيّن فيها حداثة اصطلاح قواعد التفسير، وعدم انضباط منهج تحديد هذه القواعد، وأنها ما تزال في حاجة إلى البناء والتأسيس. وقد كان لهذا الغياب آثار انعكست على الممارسة التفسيرية؛ إِذْ في غيابها استمر الخلط بين المعنى التفسيري والمعنى اللغوي، وغابت قواعد المحاكمة والترجيح بين الاحتمالات... وقد كان لهذا الغياب تأثير بارز في ظهور مقولات كلامية وإشكالات تأويلية منها:
- تعذّر القطع بالمراد من النصوص وكونها ظنّية.
- حمل النصّ على دلالات لغوية حادثة بعد عصر النزول.
وأمام هذا الإشكال، فقد لجأ شيخ الإسلام إلى تأسيس حُجّية معاني السَّلَف لجعلها مرتكزًا لمحاكمة المعاني والدلالات، وكان البيان النبوي هو الحُجّة الأقوى التي عليها انبنت حُجّية تفسير السّلف عند ابن تيمية؛ ومن هنا جاءت مركزية البيان النبوي -حسب الباحث- عند ابن تيمية واشتغال ابن تيمية بالتأصيل لوقوع هذا البيان والمنافحة عن وجوده.
الفصل الرابع: منطلقات بناء حُجّية تفسير السَّلَف عند ابن تيمية؛ الآثار والانعكاسات:
عمل الباحث في هذا الفصل على الكشف عن الآثار التي نتجت عن هذا الموقف التيمي، وهي آثار يعود بعضها على ابن تيمية نفسه، وعلى علم أصول التفسير بعد ابن تيمية. ففيما يتعلّق بالآثار العائدة إلى نظرة ابن تيمية لتفسير السَّلَف؛ فقد حدّدها الباحث في:
- تناقض التأصيل التيمي:
ومن بين وجوه التناقض: اعتبار أقوال السلف مقولات لغوية، في حين يلحّ ابن تيمية كثيرًا على السياقية، وأن بناء المعنى التفسيري لا بد أن يكون سياقيًّا لا من مجرّد الدلالة المعجمية، واعتبار أقوال السلف بيانًا لغويًّا يقطع في نظر الباحث بعدم وجود البيان النبوي، فمن غير المعقول أن يشرح النبيّ للعرب لغتهم التي يعرفونها... وأيضًا فالاستبحار في اللغة يجعل المرء مساويًا لمَن تقدَّمه إن لم يكن متجاوزًا له، وهذا يكسر الإلزام بحجية فهم السَّلَف. ويستدلّ الباحث هنا باعتراض أبي حيان على ابن تيمية وتعذّر دفعه في ضوء اعتبرنا قالة السلف بيانًا لغويًّا.
ومن وجوه التناقض عند ابن تيمية كذلك أيضًا: مناقشة مقولات السَّلَف التفسيرية بطريقة متعارضة: طريقة مناقشة ابن تيمية لأقوال السّلَف ترتكز كثيرًا على النظر في القرائن للموازنة بين الأقوال والترجيح بينها، وهذا لا يستقيم على أساس كون تفسيرهم بيانًا لغويًّا؛ إِذْ يتوجّب حينها نقاشه من خلال مجرّد الثبوت اللغوي. وثالثًا: اعتبار السَّلَف نقَلَة للإسرائيليات: للإسرائيليات حضور ظاهر في تفسير السّلف، وهذا الحضور في نظر الباحث حضور استدلالي لا نقلي، وبالتالي، فهو يكشف عن كون تفسيرهم تفسيرًا استدلاليًّا وليس نقلًا للبيان النبوي. وأنّ ابن تيمية في ضوء قوله بالبيان النبوي اضطرّ للقول بأنّ السّلف كانوا نقَلة للإسرائيليات، وهو نظر توسّع الباحث في بيان إشكاله وغلطه مبينًا أنه على أصل ابن تيمية بوجود بيان نبوي للقرآن كاملًا، فالسَّلَف سيكون لجوؤهم معه للإسرائيليات لمجرّد الاستشهاد والتعضيد، وهي نظرة مخالفة لواقع تفسير السلف وتروِّج لِلَمْزِهم والطّعْن فيهم من جوانب تَوَسَّعَ الباحثُ في ذِكْرها. وهذا مظهر آخر من مظاهر تناقض طرح ابن تيمية -رحمه الله-.
- القول بأنّ اللغة التي بين أيدينا ليست هي لغة قريش التي تكلّم بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- والسَّلَف:
يذهب ابن تيمية بسبب قوله بالبيان النبوي -حسب الباحث- إلى أنّ اللغة التي بين أيدينا ليست هي لغة قريش، وبالتالي فاعتمادها مشكِل؛ ولذلك هاجم ابن تيمية الطوائف التي اعتمدت تلك اللغة. غير أنّ هذا مخالف للمتقرّر في عموم التاريخ حسب الباحث «من أنّ اهتمام علماء اللغة بتقرير لغة قريش لأنها أفصح اللغات وهي التي نزل بها القرآن»[14].
وأمّا الآثار المتعلّقة بالطَّرْح التيمي في قضايا التفسير، فمن أهمها:
- عدم قدرة التأصيل التيمي على إنتاج علمٍ تأصيلي في تاريخ التفسير كما وقع مع رسالة الشافعي:
فقد تصدّى ابن تيمية للتأصيل للتفسير في مقدّمته الشهيرة، إلا أنّ تأصيله لم ينتج بروز علم نظري ضابط للتفسير له نسق كما حدث مع رسالة الشافعي، رغم تقارب الظروف وتشابه المشاغل، وهو ضرورة تكوينِ مرتكزٍ كلّي للفهم وتأصيلِ ضابطٍ نظري كلّي للفهم وخَلْقِ مجالٍ معرفي يُعنى بهذا الغرض؛ لكن موقف ابن تيمية من وجود البيان النبوي للمعاني من شأنه سَدّ باب الممارسة التفسيرية بالكلية، وإيقاف باب الاجتهاد في التفسير، وعليه فلا حاجة لوضع القواعد طالما أنّ تفسير السَّلَف كافٍ.
- شدّة التشنيع على الأقوال التفسيرية المنتجة بعد عصر السَّلَف:
وذلك أنّ اتساق ابن تيمية مع موقفه من وجود البيان النبوي دَفَعَه للتشنيع على مَنْ أنتج أقوالًا تفسيرية جديدة لكونه خروجًا عن البيان النبوي.
- الغلط في بيان دور السُّنَّة في التفسير:
أعطى ابن تيمية -بحسب نظرته للبيان النبوي- دورًا موسّعًا للسُّنَّة في بناء المعاني، في حين أنّ السُّنّة ليس لها مثل هذا الدور في الصناعة التفسيرية.
- التأصيل للقضايا التفسيرية من خلال المنظور الأصولي:
حرص ابن تيمية على إبراز فكرة البيان النبوي جعله ينظر لقضايا التفسير من خلال عباءة أصول الفقه، دون مراعاة الفروق بين تغاير المجالَيْن؛ هذا أنتج مسألتين ليس لهما -حسب الباحث- كبير أثر في ميدان التفسر: ترتبط الأولى بمسألة الإحداث الجديد في التفسير؛ إِذ انتقد ابن تيمية التفريق بين إحداث قول ثالث في الفقه وإحداث قول ثالث في التفسير، لكونهما من باب واحد، ولكون الأمر خروجًا عن الإجماع. ويرى الباحث أنّ هذا الموقف مشكِل لكون إجماع السَّلَف في التفسير غالبه سكوتيّ ظنّي يسوغ مخالفته وفقًا لابن تيمية نفسه، وليس إجماعًا مقطوعًا به. والثانية بالتأصيل لقضية توظيف الإسرائيليات في التفسير: إذ انشغل ابن تيمية بالتأصيل الفقهي والأصولي للتعامل الشرعي مع مرويات الإسرائيليات بدل بيان كيفيات توظيف السَّلَف لها واستدلالهم بها، وهذا خروج عن مقاصد علم التفسير.
الخاتمة:
خصّص الباحث الخاتمة لذِكْر أهم نتائج دراسته، وترجع هذه النتائج إلى: كون ابن تيمية قائلًا بحجية تفسير السَّلَف انطلاقًا من وجود بيان نبوي للقرآن كاملًا. وهي المسألة التي ينتقدها الباحثُ لوجود دلائل كثيرة تنقضها، وأيضًا، فقد كان لابن جرير الطبري السبق في القول بها. كما خلص إلى أنّ ثمة احتمالًا ظاهرًا في كون ابن تيمية متأثّرًا بالطبري، إلى جانب رغبته الملحّة في تأسيس مرتكز ترتدّ إليه دائرة الفهم لنقد الأطروحات التي تفرّعت عن مرونة هذه الدائرة، وقبولها احتمالات ووجوه يتعذّر معها تحديد المراد القاطع. ونتيجة لضعف هذا المرتكز التيمي وغلطه، يستخلص الباحثُ ضعف البناء النظري لعلم التفسير وعدم العناية باستخراج قواعد المفسِّرين، وهو ما أسهم في حَجْب تصوّره وتصوّر إشكالاته حضور المرتكز التيمي واعتباره صالحًا للفصل بين المقولات التفسيرية. إنّ عدم صلاحية هذا الأصل لتقنين علم التفسير يشكّل -بحسب الباحث- دافعًا للعقل المعاصر إلى النظر في تأسيس الفهم بصورة منهجية تضع للفهم ركائز علمية محرّرة تمكن من تمييز صحيح الأقوال من زائفها، وصون الفهوم الجديدة للقرآن من أن تكون عرضة للزّلل والإشكالات ونهبًا لكلّ قائل، وهذا -حسب الباحث- لا يتأتّى إلا ببناء النّسق القاعدي على نحو منضبط. ومن شأن هذا المطلب الملحّ أن يدفع العقل الإسلامي إلى إعادة النظر في محصول العلماء وتقويمه وسدّ ثغراته، وإعادة استئناف مسيره في الإنتاج العلمي والعطاء المعرفي التي انقطع عنها.
الملحق:
ذيّل الباحث بحثه بملحق رَصَد فيه واقع الدّرْس لحجيّة تفسير السّلف عند شيخ الإسلام ابن تيمية، وسعى إلى تقديم نظرات نقدية عامة حول هذا الدّرْس. فرأى أن ثمة إشكالات كثيرة في طرحهم وتناولهم للمسألة عند شيخ الإسلام، جراء إشكالهم في التعاطي مع رؤيته للبيان النبوي وعدم استيعابهم لها بشكلٍ دقيق. ومن هذه الإشكالات:
أولًا: تفريغ رؤية ابن تيمية في البيان النبوي من مركزيتها والغلط في مناقشتها: وذلك حين يربطونها بالبيان الكلّي والمجمل لا بالبيان التفصيلي الذي قصده ابن تيمية. وهذا -حسب الباحث- بارز عند أحمد فتحي البشير وكأنّه استعظم هذا القول من ابن تيمية فرغب في تنزيهه عنه، وهو ما يخالفه فيه الباحث، لمركزية المسألة عند ابن تيمية.
ثانيًا: تجاوز رؤية ابن تيمية في البيان النبوي في تأسيس حجيّة تفسير السَّلَف: وهذا الملمح حاضر عند مَن يبحثون عن كيفيات بناء حجيّة السَّلَف عند ابن تيمية بعيدًا عن البيان النبوي، إمّا بإبراز تأكيده على علم السَّلَف بالأحوال السياقية للنصّ، أو بعلم السَّلَف باللغة، أو بخلوّ السَّلَف من النزعة العقائدية؛ ومن هؤلاء: الدعجاني في كتابه (منهج ابن تيمية المعرفي)، وياسر المطرفي في كتاب (العقائدية وتفسير النصّ القرآني)، وعمرو الشرقاوي في بحثه (بيان غلط نسبة القول بتوقف التفسير على معرفة أقوال السلف لابن تيمية). وفي ضوء واقع تفسير السلف نفسه، وهو ما جعله يكشف عن مخالفة تنظير ابن تيمية لواقع هذا التفسير الذي هو تفسير اجتهادي لا نقلي لبيان نبوي كما بين الباحث من خلال عدد من الدلائل. على أنّ هذه المحاولات حسب الباحث أخطأت في تصوير موقف ابن تيمية، وفي توظيف نصوصه وحُججه حين غفلت عن مسألة البيان النبوي وإهمال أبعاد هذه الحجة وسياقات تأسيسها ودوافعها. وأيضًا، فهذه المحاولات كانت ستصحّ لو أن تفسير السّلف كان اجتهاديًّا، غير أنّ هذا يصادم طرح ابن تيمية بالأساس؛ لأنه يرى أن تفسير السَّلَف ليس اجتهادًا بل نقلًا للبيان النبوي.
ثانيًا: كتاب حجيّة تفسير السّلف عند ابن تيمية: دراسة تحليلية نقدية؛ نظرات تقويمية:
للكتاب ميزة منهجية مهمّة، تتجلّى أساسًا في المنهج المتّبع في بناء الدراسة، وفي بناء الإشكال ومعالجته؛ ومن أهم ما يميز الدراسة:
- التسلسل المنطقي للمباحث:
أجاد الباحث تقسيم دراسته، حيث بدأ بإحكام تصوّر دلائل ابن تيمية لحجية تفسير السّلَف، ثم ناقش الاعتراضات التي قد تتوجّه لهذا التصوّر؛ وهذا أمر مهم جدًّا، يبرز جانبًا موضوعيًّا مهمًّا، فلا يمكن محاكمة موقف عالم من العلماء دون إحكام تصوّره. وهذا دفع الباحث لمناقشة الدراسات السابقة في موضوعه، وبيان نقاط اتفاقه واختلافه معها، ثم الاستدلال على صحّة تصوّره لموقف ابن تيمية.
بعد هذا الوصف، قام الباحث بتقويم موقف ابن تيمية وبيان نواقصه وثغراته، واختبار تماسكه الداخلي. بعدها انتقل إلى تفسير هذا الموقف التيمي، بالعودة أولًا إلى المصادر التي يمكن أن تكون قد شكّلت موقفه، أو أفاد منها، فعاد إلى الطبري والشافعي، ثم بالعودة إلى مسار علم التفسير السابق لابن تيمية، والإشكالات المعرفية الناتجة عن هذا المسار، والتي دفعت ابن تيمية إلى القول بالبيان النبوي.
وأخيرًا انتقل الباحث إلى بيان انعكاسات هذا التصوّر على البحث في علم أصول التفسير، وتأثيره عليه، وضرورة تجاوزه إلى مواقف أخرى...
- البناء المنهجي للدراسة:
اتبع الباحث في دراسته منهجًا تحليليًّا استقرائيًّا؛ ففي الخطوة الأولى، تتبّع الباحث نصوص ابن تيمية في مسألة حجيّة تفسير السَّلَف، وفي البيان النبوي، وهو ما دفعه إلى تتبّع كلامه في المسألة في أكثر من كتاب. كما تتبَّع الباحث أيضًا دلائل ابن تيمية التي احتجّ بها لإثبات حجية تفسير السَّلَف، ليكتمل بذلك تصوير موقف ابن تيمية الكلّي من هذه القضية.
هذا الجمع لأدلة ابن تيمية مَكّن الباحث من مناقشتها التفصيلية، في ضوء الواقع العلمي للتفسير، وممارسات المفسِّرين القُدَامى، وفي ضوء واقع تفسير السلف نفسه، وهو ما جعله يكشف عن مخالفة تنظير ابن تيمية لواقع هذا التفسير الذي هو تفسير اجتهادي لا نقلي لبيان نبوي كما بين الباحث من خلال عدد من الدلائل.
ثم انتقل إلى تفسير الموقف التيمي؛ فسعى أولًا إلى إبراز التأثرات المحتملة للأئمة السابقين على ابن تيمية، ما أداه إلى هذا القول، من خلال تتبّع أصول القول عند ابن جرير والشافعي. وثانيًا: راح الباحث يتتبّع الإشكالات المعرفية التي واجهها علم التفسير في المراحل التي سبقت ابن تيمية، وهي الإشكالات التي جاء موقف ابن تيمية من البيان النبوي التام ليجيب عنها، خاصّة مسألة انفتاح دلالة النصّ القرآني، وظنية الدلائل اللفظية التي قال بها بعض المتكلمين كالرازي.
وأخيرًا، فقد اتّبع الباحث نهجًا تحليليًّا تقويميًّا، سعى فيه إلى تتبّع آثار هذا الموقف من ابن تيمية على طرح ابن تيمية ذاته، وعلى علم أصول التفسير، وبيان خطورته على هذا العلم، وقَدَّم مقترحاته لتجاوز هذه الإشكالات وهذا أمر مهمّ جدًّا؛ لكونه يمكِّن من الحكم والتقويم، من خلال النتائج الواقعية للقول/ الموقف، ودوره في تطوّر العلم أو إعاقته.
- مناقشة الدراسات السابقة:
سعى الكاتب إلى مناقشة الدراسات السابقة له من جهتين: الأولى، من حيث نسبة القول بالبيان النبوي التام لابن تيمية، فأبرزَ الإضافات العلمية التي قدّمتها، وناقش جوانب اختلافه معها، والحُجَج التي استندت إليها، وأبدى موقفه منها. ومن جهة أخرى، ناقش هذه الدراسات في مسألة تقريرها لحجية تفسير السَّلَف انطلاقًا من القرائن السياقية، وهو ما لم يكن ليستقيم إلا بالقول باجتهادية تفسير السَّلَف، وهو ما لا يقول به ابن تيمية في نظر الباحث، وأنّ هذا الخطأ كان ناتجًا عن إغفال القول بمركزية البيان النبوي في القول بحجية تفسير السَّلَف.
إنّ هذا الحوار مع الدراسات السابقة، وإبراز إسهاماتها وإضافاتها ونواقصها أمرٌ منهجيّ مهمّ في تطوير البحث، وهو يؤدِّي إلى تحقيق التراكم وتقدّم البحث وزيادة المعرفة، وفي غيابه تضيع جهود كثير من الباحثين، بل وتُهدر الأوقات في بحث المبحوث وتكرار نفس الأخطاء والنقائص. وقد انعكس هذا النقاش على الدراسة التي بين أيدينا بالإيجاب والعمق في تناول الإشكال المدروس؛ إِذْ سعى إلى محاورة الدراسات السابقة، والاستفادة منها، والاستدلال على ما يراه مخالفًا للصواب فيها.
- السياقات المعرفية للمقالات:
من أهم ما ميّز ابن تيمية -رحمه الله- قدرته الكبيرة على تتبّع أصول المقالات، وتأثّر العلماء بعضهم ببعض، وانتقال المقالات من طائفة إلى أخرى، ورصده للتحوّلات المعرفية التي تطرأ على بعض الفِرَق والطوائف... وهذا النهج يفيد في أمرين: معرفة تاريخ المعرفة وتطوّراتها وتحوّلاتها، ومن جهة أخرى: فهم السياق المعرفي، والإشكالات المعرفية التي تدفع بالعلماء إلى اقتراح الإجابات. وفي ما يتعلّق بسياق الكتاب، فقد سار الباحث على نفس هذا النهج، حين حاول بدايةً تتبّع الأصول المعرفية لقول ابن تيمية بالبيان النبوي، انطلاقًا من موقفي: ابن جرير الطبري، والإمام الشافعي، باعتبارهما سلفًا لابن تيمية، وأحد أهم مَن أثر عليه من العلماء المتقدمين، خاصة وأنّ هذين الإمامين لم يكونا من المتكلّمين، ووكلاهما حاجج عن فكرة البيان النبوي واستثمرها.
ثم انتقل ثانيًا إلى بيان الإشكالات المعرفية التي كان يسعى ابن تيمية إلى الإجابة عنها، فعاد إلى ما قبل ابن تيمية، وبيّن أن التفسير كان يواجه إشكال (انفتاح الدلالة وظنية ضبط المراد)، فسعى ابن تيمية إلى تجاوز هذا الإشكال، وبالتالي، حصر المعنى المراد في تفسير السَّلَف وأسّس لحجية هذا التفسير من خلال فكرة البيان النبوي. وبهذا، أوضح الباحث الدوافع المعرفية التي تشكّل في ضوئها موقف ابن تيمية، ثم سعى إلى تتبّع تأثير هذا الموقف في السياق اللاحق على ابن تيمية، وخاصّة في السياق المعاصر؛ وهذا ما جعل الدراسة أكثر تكاملًا في مختلف أبعادها المنهجية: الوصفية، والاستقرائية، والتحليلية، ثم التقويمية.
خاتمة:
لقد جاءت هذه الدراسة للباحث تتويجًا لاشتغال واسع وممتد بعلم التفسير وقواعده وأصوله وحدوده. وقد تجسّد هذا الانشغال عبر مجموعة من الدراسات التي غلب عليها البُعد التقويمي؛ فمنها مقالات تقويمية لموقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الإسرائيليات، ودراسة تقويمية لقواعد علم التفسير، وأخرى تقويمية للتأسيس الحاصل لعلم أصول التفسير قديمًا وحديثًا. والباحث لم يقف عند حدود النقد والتقويم، بل إنّ له أيضًا دراسات وضع فيها اقتراحات تأسيسية لحقل التفسير وقواعده وأصوله، وتحقيبه وتصنيف مؤلَّفاته[15]. ومن شأن هذه الدراسة التي قام بها الباحث حول ابن تيمية وموقفه من حجية تفسير السَّلَف أن تفتح المجال لدراسات أخرى، وأن تغني النقاش حول هذه القضايا، وتعمّق النقاش حولها، والنهوض بالواقع البحثي في مجال علم التفسير، وهو ما لا يتأتّى إلا بالدراسات النقدية التي تعيد النظر في منطلقاتها ومناهجها؛ لاستئناف مسيرة الاجتهاد في هذا العلم الشريف. ومثل هذه الدراسات -مهما كان الموقف من نتائجها- جديرة بالتقدير، وبالمناقشة الجادة؛ لكونها تضع اليد على الإشكالات، وتحسّن تصويرها، وبالتالي، تحرّر مواطن النزاع والخلاف، ومواضع الإشكال، وهو ما يمهّد لبحوث لاحقة تتابع مسيرة الإغناء والإضافة والاستدراك، وبهذا تتطوّر المعارف وتنمو، خاصّة في سياق عربي تهيمن عليه رغبة (التأسيس)، و(السبق)، و(تجاهل الدراسات السابقة). إنّ الجدل بين الدراسات مسلك نفتقده في حياتنا البحثية الراهنة، وهي سمة من أميز سمات تراثنا المعرفي الذي قام على الشرح والتعليق والاستدراك والنقد والردّ والتناظر.
[1] خليل محمود اليماني، مدرّس مساعد بجامعة الأزهر، شارك في عددٍ من الأعمال العلمية المنشورة؛ منها: موسوعة التفسير المأثور. المؤلفات في أصول التفسير؛ دراسة وصفية موازنة. أصول التفسير في آراء المتخصّصين؛ دراسة استطلاعية، وغيرها. كما له عدد من البحوث والترجمات المنشورة.
[2] حجية تفسير السلف، ص16.
[3] حجية تفسير السلف، ص21.
[4] حجية تفسير السلف، ص27.
[5] راجع: عرض كتاب: (حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ دراسة تحليلية نقدية) المنشور على المرصد تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3913
[6] يراجع: حجية تفسير السلف، ص49- 52.
[7] حجية تفسير السلف، ص86. وهذا النصّ -كما ذكر الباحث- هو حديث ابن تيمية على أحسن طرق التفسير في مقدمته في أصول التفسير.
[8] حجية تفسير السلف، ص87.
[9] حجية تفسير السلف، ص99.
[10] يقول ابن مسعود: «كان الرجل منّا إذا تعلَّم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن».
[11] حجية تفسير السلف، ص159.
[12] حجية تفسير السلف، ص162.
[13] حجية تفسير السلف، ص176.
[14] حجية تفسير السلف، ص225.
[15] تجد هذه الدراسات وغيرها على صفحة الباحث بموقع مركز تفسير: tafsir.net/author/3341.