كتاب (تاريخ القرآن) للدكتور/ عبد الصبور شاهين
عرض وتعريف
يُعَدُّ كتابُ (تاريخ القرآن) مِن الكتب بالغة الأهمية في العناية بتاريخ القرآن الكريم، فالكتاب من تسعة فصول يناقش فيها المؤلفُ تاريخَ القرآن وما يتعلّق به من قضايا؛ كالأحرف السبعة، ونقل القرآن، وقضية المصاحف، وغير ذلك من القضايا الشائكة، وهو في كل ذلك يحرص على تجلية الصواب، وردّ الشبهات التي قد تُثار من هنا وهناك، وبيان الزَيغ والكشف عنه، ومِن هاهنا أحببنا في هذه المقالة التعريف بهذا الكتاب وبيان محتوياته، كما أننا سنشير لبعض مآخذ بدت لنا أثناء قراءة الكتاب، ونقدّم بين يدي المقالة بذكر بيانات الكتاب ونعرّف بالمؤلف، ثم نقدِّم إطلالة عامة على الكتاب وأهميته، لنخوض بعدها في عرض مادة الكتاب وبيان موضوعاته.
بيانات الكتاب، والتعريف بمؤلِّفه:
كتاب (تاريخ القرآن) من الكتب التي نشرتها دار نهضة مصر، ويقع الكتاب في مجلد واحد، وبلغت عدد صفحاته (306) صفحة شاملة المقدمات والفهارس، وصدرت له عدة طبعات[1]. وأما مؤلفه فهو الأستاذ الدكتور/ عبد الصبور شاهين (1929م- 2010م).
عمل إمامًا وخطيبًا لأقدم الجوامع المصرية (جامع عمرو بن العاص)، كما كان أستاذًا متفرِّغًا بكلية دار العلوم القاهرية. وفي رحاب المملكة العربية السعودية عمل أستاذًا بقسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة الملك فهد بن عبد العزيز.
له أكثر من 65 كتابًا وترجمةً تُعَدّ من ذخائر المكتبة العربية والإسلامية، وقد أثار كتابه (أبي آدم) ضجة كبيرة فور ظهوره في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
وهو من أقدر الناس على معالجة موضوع تاريخ القرآن؛ لما له من خبرة بعلم اللغة، بدايةً من المستوى الصوتي، والقراءات القرآنية؛ فقد كانت رسالته للماجستير تحت عنوان: (أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي)، ورسالته للدكتوراه تحت عنوان: (القراءات الشاذّة في القرآن الكريم).
وهو من أقدر الناس في الردّ على علماء الغرب؛ لاتصاله المباشر بثقافتهم وخصوصًا الفرنسية، فقد ترجم عنها كُتبًا جليلة لعلّ أهمها: (دستور الأخلاق في القرآن الكريم) للدكتور/ محمد عبد الله دراز، وكذلك كُتُب العالِم الجزائري مالك بن نبي. ثم إنه قد احتكّ احتكاكًا مباشرًا ببعض المستشرقين، وناقش مئات الرسائل العِلْمية حول العالم.
عن الكتاب:
كتب المؤلِّف كتابه وقد تمثّلَت أمامه الكتابات المناهضة للإسلام من العلمانيين والمستشرقين وغلاة الشيعة؛ حين تساءلوا عن تاريخ القرآن من جهات عدّة، بدايةً من حديث الأحرف السبعة التي تنزَّل القرآن بها، مرورًا بكُتَّاب الوحي وميولهم ومدى إتقانهم لقواعد الكتابة العربية، ثم تجاوزوا ذلك محاوِلين تعميم نظرية قراءة القرآن بالمعنى وعنده تنتهي قدسية النصّ، ففتّشوا عن الاختلافات بين مصاحف الصحابة وعن مدى موافقة تلك المصاحف لمصحف عثمان، وتساءَلوا أيضًا عن القراءات الشاذّة وعن أهمية الرسم العثماني للمصحف الشريف.
ويتعامَل بعضُ المستشرقين مع القرآن بمنهج عِلْمِي، يقارنون فيه بين الكتب السماوية وغير السماوية ويطبّقون نظرياتهم الخاصّة بالتدقيق التاريخي وعلم المخطوطات وثبوت النصّ، ولا يتعاملون معه ككتاب مقدّس. وقد تأتي بعض المغالطات مِن بُعدهم عن اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ونجد آخرين ينطلقون من منطلقات أيدولوجية غير متجرّدة في التعامل مع النصّ.
وقد فهم الكاتبُ ذلك فأخذ يذودُ عن القرآن وتاريخه ذودَ خبير، حتى إنه ناقش ما لم يتطرّقوا إليه، متتبعًا بذلك تاريخ القرآن منذ نزوله حتى وصوله إلينا بتلك الطريقة المتفرّدة التي اتبعت أقوى قواعد المنهجية والنقد وأعلى طرق الإسناد والتواتر.
ولم يكن الكتابُ مجرَّد ردّ فعلٍ على المشكّكين والحاقدين، بل هو عمل منهجي قائم بذاته، وقد شغل هذا الموضوعُ كاتبَه طيلةَ حياته، ولكن الله لم يقدّر له أن يتم ويظهر إلا بعد أن عارك الكاتب الحياة وعَجَمَ سهامها ليُخرج كتابًا آية في الدّقة والإفحام.
ويُعَدّ الكتاب فردًا بين الكتب الإسلامية قاطبة، من حيث موضوعه وتنوّع مادّته؛ فقد خشي الباحثون من خوض تلك الأمور لصعوبة مباحثها ولخوفهم من نبش المطمور، فقد يكشف لهم عمّا يُؤذي ويُفْزِع. ولكن شاهين لم يُرِد لهذا الجرح أن ينزّ بالآلام كلّما ضغطَ عليه ضاغط فاتخذ سبيل علاجه بهذا الكتاب.
وقد اتبع الكتابُ في كلّ قضاياه منهجَ التأصيل التاريخي مع اعتناء خاصّ بنقد مذاهب المستشرقين ومَنْ أخذ عنهم، ثم إنه في كلّ فصل من فصوله يردّ الشبهات بطريقة نقديّة سليمة حتى إنه قد عالج قضية خَلْقِ القرآن والتي انتهتْ في القرن الثالث الهجري ليقطع ذيول تلك الفتنة في القرن الرابع عشر.
ولطالما انخدع شبابُنا المثقّف على الموائد الغربية بما ثار في وجه تاريخ القرآن من ضلالات وشُبهات؛ فكان هذا الكتابُ بأسلوبه العِلْمِيّ وتركيبه المنطقي للحقائق سبيلًا قويًّا لإقناعهم ودعم يقينهم.
مادة الكتاب:
بنيةُ الكتاب:
قسم الكاتب مادّته إلى مدخلٍ وتسعةِ فصولٍ وملحقٍ واحدٍ.
مدخل (النصّ القرآني):
يسير الكاتب في مدخله للنصّ القرآني عبر هندسة بديعة تُفْضِي فقراتُها إلى بعضها في تناغم شديد؛ حيث يبدأ بتعريفٍ دقيق للقرآن الكريم يقول فيه: «القرآنُ كلام الله المنزل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-، بوساطة الوحي -روح القُدس- منجّمًا في شكل آيات وسور، خلال فترة الرسالة (ثلاث وعشرين سنة)، مبدوءًا بفاتحة الكتاب مختومًا بسورة الناس، منقولًا بالتواتر المطلق، برهانًا مُعجزًا على صدق رسالة الإسلام».
وتتضح العقلية العملية الفذّة لعبد الصبور شاهين من خلال هذا التعريف الدقيق الذي حدّد فيه:
مصدرَ القرآن: الله.
حاملَ القرآن: جبريل أو روح القُدس.
مُتلقي القرآن: محمد صلى الله عليه وسلم.
كيفيةَ التنزيل: الوحي.
شكلَ التنزيل: تنجيم عبر آيات وسور.
مُدّةَ التنزيل: فترة الرسالة 23 سنة.
كمَّ القرآن: المصحف المعروف الآن من الفاتحة إلى الناس.
طريقةَ المرور عبر الأجيال: التواتر المطلق.
وظيفةَ القرآن: البرهان والإعجاز.
ثم ينتقل بسلاسة إلى تحديد السور المكية والمدنية لينتهي إلى أنّ الفاصلَ بين تلك السور ليس مكان النزول وإنما زمن النزول حيث تُعتبر الهجرة هي الفاصل الحقيقي بين ما عَدَّه العلماء مكيًّا أو مدنيًّا؛ فما كان قبلها فهو مكيّ ولو لم ينزل بمكة، وما كان بعدها فهو مدنيّ ولو لم ينزل بالمدينة. وكثيرًا ما تكون السورة الواحدة تشتمل على آيات مكيّة وأخرى مدنيّة، فحَكم العلماء عليها بالأغلب.
لتأتي بعد ذلك مناقشته لحكمة التنجيم ونزول القرآن مُقسَّمًا عبرَ الزمن ليتكامل مكيُّه ومدنيُّه في تقرير الأحكام النهائية للشريعة، وقد ضرب مثالين على ذلك بقضيتي تحريم الخمر والربا، على عكس الكتب السماوية التي نزلت على الرّسل السابقين مرة واحدة؛ كألواح موسى وصحف إبراهيم. وقد بيّن الحكمة من التنجيم بتفصيل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان: 32- 33]؛ لتكون حكمة التنجيم هي متابعة أحداث الدعوة ومواجهة مقتضياتها:
النفسية: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}.
والتعليمية: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.
الإعلامية والسياسية: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}.
أضف إلى ذلك ما أقرّه من التدرّج في تطبيق الأحكام لتناسِب النفس البشرية.
والإجابة على أسئلة المسلمين والمشركين على حَدّ سواء.
ثم يناقش قضيةَ أسباب النزول؛ ليقرّر -مع العلماء السابقين- القاعدة القائلة: «بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب». ولكن يظلّ السبب جانبًا من تاريخ النصّ يُسترشَد به في بيان المراد أصلًا، وضرَبَ مثالًا بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة: 115]، الذي لو أُخِذ على إطلاقه لَمَا وجب استقبال القبلة في الصلاة، ولكن حين يُعلم سببُ النزول، يُعْلم أن السفر هو المقصود لا الحضر.
وينتقل بعد ذلك إلى قضية خطيرة اتخذها المستشرقون تُكَأة للهجوم على القرآن، وهي فكرة النَّسْخ، ويخلص في النهاية إلى أنّ قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة: 106]، قد لا يكون مقصودًا به الآية القرآنية وإنما المعجزات والأديان التي نُسخت بالقرآن والإسلام. ثم يضرب مثلًا قرآنيًّا في ما يُقال بنَسخِه للتخفيف، فبدلًا من أن يَثبتَ المسلمُ لعشرةٍ من الكفار جعلَ الواجب عليه أن يثبت لرجلين. وهنا يقول الكاتب: ولو ثبت المسلمُ الآن لعشرة كفار لكان ذلك موقفًا رائعًا وعملًا بطوليًّا لا يأباه القرآن؛ فلا ضرورة للقول بالنَّسْخ، فقد وُضع القرآنُ للعمل بمقتضاه حسب الوُسْع والطاقة.
ويقرُّ الكاتب ثبوت النصّ القرآني الحالي بالتواتر المطلق بما لم يتوفّر لأيّ كتاب غيره. وقد حافظ المسلمون على الرّسم المصحفي رغم تطوّر قواعد الإملاء، حتى أصبح ذلك الرسم -منذ عصر مبكّر- شرطًا لصحة القراءة. وهذا ما أكسبه حَصانةً صانته من أيّ تحريف قد ينشأ مِن تغيُّرِ قواعد الإملاء.
ثم يأتي إلى أحكام التلاوة القرآنية ليوضح أنها جاءت بتطبيق مباشر من النبيّ يتبع فيه أمر الوحي بالتلاوة حينًا، والترتيل حينًا، والتبيين بالقراءة على مُكْثٍ حينًا آخر. ولا يمكن أن تأتي القراءة القرآنية إلا بالتلقين وهذا من فضل الله وحفظه لكتابه عبر العصور؛ فتوفّرت في قراءته دقةُ الأداء، وفصاحةُ اللغة، والمحافظةُ على بيان كلّ صوت، ثم جمال الصوت وتطريبه.
ويناقش الكاتب بتوسّع أمر القراءات المختلفة للقرآن، وأنها كانت في البداية من باب التوسيع على المسلمين من غير اللسان القرشي. ويرى رأيًا ربما لا يوافقه فيه الكثيرون وهو: أنّ من مصلحة المسلمين حاليًا أن يقرؤوا القرآن بطريقة أدائية واحدة لينتهي الاختلاف الشّكلي بين القراءات؛ وليتّفقوا -مثلًا- على قراءة حفص عن عاصم التي استقر عليها معظم المسلمين وطُبعت بها معظم المصاحف.
وفي قضية الإعجاز القرآني انتهى الكاتب إلى عدة نقاط، وهي:
• أنّ فكرة إعجاز القرآن فكرة أبدية لَزِمته منذ أُنزِل حتى نهاية الزمان.
• وأنّ لكلّ جيل إدراكه الخاصّ منها بما يتناسب مع ثقافته.
• وأنّ القرآن ثروة لغوية لم تشهدها لغة من لغات البشر، فوسِعت ألفاظه الدلالة على كلّ حقائق الكون المنظور والمستور، وهذا أعظم أسرار إعجازه في نظر الكاتب.
الفصل الأول (الأحرف السبعة):
لعلّ حديث الأحرف السبعة: (أُنزِل القرآن على سبعة أحرف)، هو أخطر حديث أثار مشكلات عقدية وتاريخية ولغوية عند المسلمين وغيرهم، ويترتّب على موقف المسلم من تفسير هذا الحديث موقفه من القراءات بشكلٍ عام، ومن القراءات الشاذّة بشكلٍ خاصّ.
والدراسة الأوفى لهذا الكتاب هي دراسة هذا الحديث برواياته المختلفة، وقد جعل لها المؤلِّف ملحقًا في نهاية كتابه، ودرسها دراسة متفحّصة فوجد لها 46 سندًا، منها 8 أسانيد ضعيفة والباقي لا مطعن فيه من الناحية النقدية، والحديث بمجموع هذه الأسانيد يصل لرتبة التواتر.
وبعد أن أثبت تواتر الحديث وضَعَّف رأي الشيعة الإمامية برفضه تَطَرَّق إلى تفسير الأحرف السبعة عند القدماء، وأنّ الأكابر قد اختلفوا في تفسيره اختلافًا وصل به السيوطي إلى أربعين وجهًا.
وقبل أن يرجّح الكاتب تفسيرًا عن غيره رأى أن يشير إلى بعض الملاحظات:
• أنّ زمن التصريح بقراءة القرآن على سبعة أحرف كان في العهد المدني، ويدلّ على ذلك منطوق الأحاديث وبعض المواقع المذكورة فيها.
• أنّ مظاهر الاختلاف تنحصر في: (اللغة، وبعض المفردات، عدد آيات بعض السور، العجز عن النطق بسبب صغر السن أو الجهل أو الشيخوخة، النقص أو الزيادة).
• أن إباحة القراءة على سبعة الأحرف لم تكن مطلقة، بل كانت مقيّدة بالتعلُّم والتلقين إمّا عن رسول الله أو عن أحد الصحابة، فلم يُسمح لأحد أن يقرأ بقراءة غيره ولا يُسمح له أن يماريه.
وقد حاول المحدَثون الإدلاء برأيهم في قضية الأحرف السبعة؛ فرأى بعضهم أن السِّرّ في الرقم 7 ذاته. كما ظهرت النظرية (التسع عشرية) المبنية على الرقم 19، وكلّها تكلّفات في نظر الكاتب لا تمتُّ إلى الإحكام بصِلَة. فأسرارُ القرآن في كلماته وآياته ولغته وسوره ومادّته وروحه.
وبعد بحث طويل [نوصِي بقراءته]، استقرّ رأي الكاتب على أنّ الأحرف السبعة لم يأتِ الإذن بها إلا في أواخر الرسالة -السنة التاسعة من الهجرة- حين دعت الضرورة القصوى إليها بعد تشعُّب الداخلين في الإسلام وعدم قدرة بعضهم على استخدام لغة قريش، وقد ضاقت الإمكانيات عن تعليم تلك الأفواج تعليمًا دقيقًا، فكان الإذن بالتوسّع أمرًا منطقيًّا، واستجابةً لضرورة إعلامية تهدف لنشر النصّ القرآني في ربوع الجزيرة العربية وخارجها. وكلّ ما نشأ عن ضرورة يزول بزوالها، وقد ألِفَ الناسُ القرآن واستقامت ألسنتهم عليه منذ عهد عثمان فلم تَعُد هناك حاجة لتلك الأحرف.
الفصل الثاني (النصّ القرآني بين المشافهة والتسجيل):
يبدأ هذا الفصل بمناقشة أمر معرفة النبي للقراءة والكتابة وحديث المستشرقين في هذا الأمر استنادًا إلى بعض الأحاديث المؤيدة لمعرفته أو النافية لها. وقد اهتدى الكاتب إلى رأيه التفنيدي على النحو الآتي:
• أنّ الصحابة قد رووا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلّ جلسة ووقفة ونظرة، وقد امتلأت كتب السيرة بذلك، ولم يذكروا أن الرسولَ قد عرف القراءة والكتابة.
• أنه على طول عهده بالوحي وقد أمَر الصحابة بكتابته، لم يكتب هو آية واحدة من كتاب الله، على أنه كان يتولّى التلقين والتحفيظ بنفسه، ولو كان يجيد الكتابة لما تردّد فيها.
• أنه كان حريصًا -وقد فاته تعلّم القراءة والكتابة صغيرًا- أن يتعلّمها أهل بيته وصحابته، ويجوز أنه قد ألمّ بهما بعض الشيء في آخر حياته من كثرة اتصاله بهما.
ثم انتقل الكاتب للحديث عن كُتَّاب الوحي، وعن سؤال المستشرق (بلاشير) عن مدى الثقة التي يستحقونها؟ ويردّ الكاتب على النحو الآتي:
• أنّ القرآن قد ثبتَ تسجيلًا ومشافهةً في عهد الرسول.
• وأن المشافهة كانت تضمّ حروفًا لم يعرفها التسجيل الذي كان على حرف واحد بكلّ تأكيد.
• أنّ الرسول كان يراجع النصّ القرآني كلّ عامٍ كضمان أكيد لسلامة النص من النقص والزيادة والتحريف، حتى كانت العرضة الأخيرة.
الفصل الثالث (الخطّ الذي كُتب به الوحي):
تضاربَت الأقوال حول نشأة الخط العربي، وكاد الرواة يتّفقون على دخول ذلك الخطّ إلى قريش في الجيل السابق للرسول مباشرة، ففي عهده -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يجيد الكتابة غير قلّة من القرشيين، وهذا يؤكّد عدم معرفة النبيّ بالكتابة، ويفسّر أيضًا رداءة الخط الذي كُتب به الوحي كنتيجة طَبَعيّة لضعف تجرِبة الكتَبَة الجُدُد.
وقد كُتِب مصحف عثمان بلا نقط أو إعجام، وظلّ الأمر كذلك حتى عهد عبد الملك بن مروان فبدأ النقط والإعجام، وعَدَّه التابعون نورًا للقرآن ومنعًا للخطأ في قراءته، خصوصًا بعد اتساع رقعة الدولة إلى حدود لم يُحْسِن أهلُها استعمالَ العربية بسليقتهم.
الفصل الرابع (القراءة بالمعنى):
وقد اتخذ المستشرقون من الروايات التي تختلف فيها بعض الكلمات القرآنية عملًا على منطق الأحرف السبعة =ذريعةً لدعوى قراءة القرآن بالمعنى. ويسوق الكاتب دوافعه اعتمادًا على ما تم إقراره في الفصول السابقة من أنّ القرآن قد كُتب على حرف واحد، بِغَضّ النَّظَر عن قراءته -في نهاية عهد النبي- على سبعة أحرف. والرسول قد نهى الصحابة أن يكتبوا عنه غير القرآن.
ويرى الكاتب أن اللغط قد حدث بعد ذلك لسببين:
أولهما: أنّ الرسول قد لقَّن بعض الصحابة وجوهًا أخرى من القراءة من باب التوسيع، ولم تُكتب، ولكنها نُقلت عنهم.
وثانيهما: أنّ بعض الصحابة قد أضافوا إلى هامش صحفهم بعض التفسيرات التي تسهم في تفسير النصّ، فتناقلها الورثة على أنها من النصّ.
وقد تتبّع الكاتب أقوال المستشرقين وتلاميذهم في كلّ ما عدُّوه اختلافًا بين قراءات الصحابة للنصّ القرآني، وعزاه إلى السببين السابقين أو إلى غلوٍّ في النقل الشاذّ بدون سند أو إثبات.
الفصل الخامس (النصّ القرآني بعد وفاة النبي):
ويؤصِّل الكاتب في هذا الفصل لحروب الرِّدة ومانعي الزكاة ومطالبة عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما- بجمع القرآن بعد وفاة عددٍ كبيرٍ من الحَفَظَة في معركة اليمامة، وهو تأصيل دقيق رفع به كلّ شبهة وادّعاء، وأشار في طيّاته إلى الأصل العربي لكلمة مصحف وأنها كاملة التصرّف وقد تكون من المشترك بين اللغات الساميّة؛ وقد عرَفَها العربُ قبل جمعهم للقرآن في سِفْرٍ واحد.
وكُلّف بالجَمْع زيد بن ثابت الأنصاري وعاونه في ذلك بعض الصحابة متّخِذِين طريقة التحقيق العلمي المتبعة حاليًا بدقّة دونها كلّ دقّة، وقد اختلف زيد بن ثابت وعمرُ بن الخطاب في حرف واحد من القرآن فدار بينهما سجال علمي إلى أبعد درجة انتصر فيه زيدٌ في النهاية.
وردًّا على المستشرقين استند الكاتب إلى رأي الدكتور/ محمد حسين هيكل في سبب اختيار زيدٍ دون غيره لجمع القرآن، فقال:
• لأنه أقدر منهم على العمل؛ لكونه شابًّا.
• وهو لشبابه أقلّ تعصّبًا لرأيه واعتزازًا بعِلْمه، فسيَسمع لكبار الحَفَظَة من الصحابة دون إيثار لحفظِه.
• علاوة على ذلك فقد حضرَ العرضة الأخيرة للقرآن في سنة وفاة النبيّ.
• ثم إنه كان حافظًا مُتثبتًا واعيًا لما حفظ؛ ولعلّ جداله مع عمر في حرف الواو وثبوت رأيه يدلّنا على ذلك.
وعلى هذا النحو جُمع القرآن في عهد أبي بكر، ولما مات انتقل إلى عمر، فلما مات انتقل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب حتى طلبه عثمان، رضي الله عنهم أجمعين.
وحين اتّسعت الدولة في عهد عثمان بدأ الخلاف يدبّ بين القرّاء في الأمصار، فكان لا بدّ من عمل يوحّد المسلمين ولا يزيد الشقة والعصبية بينهم، فنسخ عثمانُ مصحفَ أبي بكر وأرسله إلى الأمصار ليكون مرجعهم، بعد أن أحرق ما عَداه. ولعلّ أهم ما أثبته الكاتب بهذا الصّدد هو إرسال كلمات ثلاث اختُلف في كتابتها إلى أُبَيّ بن كعب ليصحّحها باعتباره أحد مراجع الكتابة الدقيقة في صدر الإسلام.
الفصل السادس (مشكلة المصاحف):
أصبح مصحف عثمان هو حجر الاستقرار في تاريخ القرآن، واعتُبرت كلّ قراءة تخالفه شاذّة. ويؤكِّد الكاتب أنه لم يجتمع المصحف كاملًا لأحد من الصحابة قبل جمع أبي بكر له، وإنما سُمّيت (مصاحف) على التغليب. ولم تختلف تلك المصاحف عن مصحف عثمان إلا في النذر اليسير.
وقد تتبّع الكاتب تلك المصاحف بدقّة متناهية فلم يجد اختلافًا مسجّلًا بينها وبين مصحف عثمان إلا في كلمات يسيرة. وعقد الكاتب دراسة متفحّصة على مصاحف (ابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وابن عباس، وعليّ بن أبي طالب) فلم يجد منهم خروجًا على مصحف عثمان إلا ما كان تفسيرًا فعدَّه المتلقون من أصل النصّ القرآني، أو ما كان من الأحرف السبعة أيام الرّخصة في التوسّع.
ومما يُثبِت ذلك أن هؤلاء الصحابة أنفسهم كانوا يقرؤون بقراءة السواد من المسلمين على مصحف عثمان، حتى كان أُبيّ من مراجعيه كما عرفنا، بل ويتّصل بهم سند القُرَّاء الحاليين كعاصم ونافع وغيرهما.
وقد نشأ علم التفسير على فهم هؤلاء الكبار للنصّ القرآني، فتأسّست أحكام ونظريات على هذه الروايات التي حفلَتْ بها كتب التفاسير، على أنها آراء أئمة متقدّمين في الأخذ والتلقي عن الرسول.
الفصل السابع (بدء تشذيذ القراءات):
استطرد الكاتب في تعريف الشذوذ لغةً وفي معنى الحرف والمقصود منه على خمسة أوجه. وفي هذا الفصل يتوسّع الكاتب أيضًا في التأريخ لبداية التشذيذ في القراءة، ويؤصِّل إلى أنّ الشروط الثلاثة المعمول بها في صحة القراءة حاليًا ليست بدعًا من صنع أجيال حديثة، وإنما هي متفق عليها منذ القِدَم، ونعني بالشروط الثلاثة:
• موافقة العربية ولو بوجهٍ.
• موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
• صحة السّنَد.
وقد احتمل الرسم العثماني أوجه القراءات المتواترة؛ فليس علينا أن نُنحِي على كاتبيه باللائمة وقد أدى رسمهم مقصده في أروع صورة، والرسم في النهاية لا يُنشِئ القراءة وإن كان يحكم عليها.
واستفاض الكاتب في هذا الفصل مما جعله -في حدّ ذاته- دراسة جديرة بأهل التخصّص أن يراجعوها.
الفصل الثامن (مشكلة القول بخلق القرآن):
نشأت فتنة القول بخَلْقِ القرآن على يد المعتزلة في بدايات القرن الثاني الهجري، ثم نامت لتصحو مرّة أخرى في بداية القرن الثالث (218هـ) حين أرسل المأمون إلى الأمصار كتابًا يأمر فيه الولاة بجمع العلماء وامتحانهم في قضية خلقِ القرآن؛ فمَن قال إنّ القرآن مخلوق تُرك، ومَن اعترض أُرسل إليه مقيدًا، ويموت المأمون في العام نفسه، وتبقى الفتنة في عهد المعتصِم ومِن بعده الواثق ثم أنهاها المتوكِّل عام 234هـ، وقد مات في هذه الفتنة كثيرٌ من علماء الإسلام وضُرب فيها الإمامُ أحمد بن حنبل وسُجِن.
وربما قال قائل: ما الضرر إن كان القرآن مخلوقًا أو غير مخلوق؟ ولكن العلماء الأوائل التفتوا إلى أنّ القول بخلق القرآن يجعله شيئًا قابلًا لعوامل الزّمن التي تُصيب جميعَ المخلوقات؛ مِن ضعفٍ إلى قوة إلى ضعف فموات، وها قد وصلنا إلى زمن يدّعي مدّعوه أنّ القرآن كان صالحًا في عهد الصحابة والتابعين وليس صالحًا لهذا الجيل. فليرحم اللهُ الإمام أحمد وكلَّ مَن عُذّب أو قُتل في فتنة خَلْقِ القرآن.
الفصل التاسع (القرآن والتحدي):
مضتْ أربعةَ عشرَ قرنًا على القرآن منتصرًا في تحدّيه على الإتيان بمثله، أو بعَشر سور منه، مُنهِيًا التحدي بسورة من مثله. ولم يستطعها إنس ولا جانّ. فاستطاع القرآن أن يفرض حُجَّته في كلّ القارات بما يملك من قوّة وجاذبية وسلامة في المنهج.
وقد ألَّف المبشّرون في بداية الألفية الثالثة كتابًا أسموه: (الفرقان الحق)؛ يشعلون به النار في كلّ قيمة أخلاقية، ويقلبون به الحقائق الدينية ليشوِّهوا صورة سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، بعدما جذب الإسلامُ عقولَ متحضِّري الغرب، وقد سُمّي كتابهم بالفرقان خداعًا وافتراء؛ فانبرى الكاتب -رحمه الله- للدفاع عن الإسلام ونقض تلك العقائد الشائهة بطريقة علمية رصينة.
وقد استند في كتابه إلى 97 مرجعًا عربيًّا وأجنبيًّا ضمّنها في ملحق مَراجِعِه، كما أنه راسلَ الموجودين من المستشرقين وتلاميذهم ليستوثق منهم في بعض الأقوال المنشورة في كتبهم أو المنقولة عنهم. لنرى مدى الدّقة العِلْمية التي تمتع بها صاحب القلم المعتدل في بحثه.
وليت الباحثين ينهجون نهجه فيما يتّصل بمباحثهم، وهم شباب وهو رجل قد قارب الثمانين حين أخرجَ هذا البحث الثمين.
وإن أخذنا عليه الإطالة والاستطراد في بعض الأبواب والتّكرار في بعضها بما لا يتناسب مع بحث شامل بهذه الدرجة، وقد كان يكفي أن يجعل تلك الاستطرادات والمقارنات في ملاحق كملحق الأحاديث الذي صنعه، بما لا يؤثّر على جودة واطّراد البحث في ذهن القارئ. كما يمكن أن نأخذ عليه -وَجِلِين- نصب أقوال المستشرقين والمشكّكين أمامه في كلّ خطوة يخطوها؛ مما قد يُفرغ البحث من مضمونه الرائع في بعض الأحيان. وفي غير ذلك فهذا كتاب غاية في الدّقة والمنهجية، واللهَ أسأل أن ينفع به وبعرضنا له وتعريفنا به سواد الأمة.
[1] والطبعة التي عملنا من خلالها في هذه المقالة هي الطبعة الثالثة الصادرة في مارس 2007م.