قراءة تقويمية للقول برجوع ابن مسعود عن موقفه من الجمع العثماني وموافقته الجماعة
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمّا بعد:
فإنَّ من الـمُقَرَّرِ لدى أهل العلم انعقادَ الإجماعِ على الجمع الذي أَمَرَ به الخليفةُ الرَّاشِدِيُّ الثالثُ عثمانُ بن عفَّان -رضي الله عنه-، وأنَّ الرواياتِ التاريخيةَ الصَّحيحةَ قد أَثْبَتَتْ أنَّ عبدَ الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- كان من المعارِضين والكارِهِين لِعَمَلِ عثمانَ -رضي الله عنه- في الجمع العثماني، وكان موقفُ ابنِ مسعودٍ من جَمْعِ عثمان لا يزال مَحَلَّ نِقَاشٍ وبَحْثٍ بين العلماءِ والدَّارِسين، وقد كُتِبَتْ عِدَّةُ بحوثٍ ورسائلَ في تحقيق موقف ابن مسعودٍ من الجمع العثماني، وكان مما ذَكَرَهُ العلماءُ رجوع ابن مسعودٍ في آخر الأمر إلى موافقة الجماعة، وأنَّه رَضِيَ وتابَع عثمان والصحابة، وبَقِي على موافقتهم وتَرْكِ الخلاف لهم، وهو ما سنحاول تحريرَه في هذه المقالة والتحقيق في صِحَّةِ القولِ برجوع ابنِ مسعودٍ عن رأيه وموافقة الجماعة، وسأبتدئُ المقالةَ بتمهيدٍ أذكرُ فيه أسبابَ معارضة ابن مسعودٍ للجمع العثماني، وأبرز مواقف الدارسين منها.
تمهيد: أسباب معارضة ابن مسعود للجَمْع العثماني وموقف الدارسين منها:
اختار ابنُ أبي داود (ت 316هـ) في كتابه (المصاحف) بابًا بعنوان: كراهية ابن مسعود ذلك[1]، أي: الجمع العثماني، وَذَكَرَ ابنُ أبي داود وغيرُه عَدَدًا من الروايات اسْتَخلَصَ الدَّارِسون مِن مجموعها أنَّ ابنَ مسعودٍ كان مُعارِضًا لصنيع عثمان في أمورٍ خمسة:
1- تولية زيدِ بن ثابت دونه، وتقديم زيد عليه.
2- رفضه تسليم مصحفه لإزالته بحرقه.
3- أبَى أَنْ يَتْرُكَ قراءته المخالفة للنَّصِّ العثماني.
4- إنكاره المعوِّذتين وحَكّه لهما من المصحف.
5- إسقاط الفاتحة من مصحفه.
والملاحَظ أنَّ الدارِسِين الذين حصروا المرويَّ عن موقف ابن مسعودٍ من الجمع العثماني في هذه الأمور الخمسة لم يُثبتوا أوَّلًا أنَّ إنكارَ قرآنية المعوِّذتين وإسقاط الفاتحة مِن مصحفه قد وَقَع في زمن عثمان!
ثم إنَّ القولَ بأنَّ إنكار قرآنية المعوِّذتين وقع في زمن عثمان يَلْزَمُ منه أمور:
1- أنَّ ابنَ مسعودٍ لم يعترض على إثبات المعوّذتين في صحف أبي بكر.
2- أنه لم يُنْكِر قرآنيةَ المعوّذتين قبل زمن عثمان.
3- أنه استجدَّ لديه شيءٌ حول المعوّذتين في زمن عثمان، فأنكر قرآنيتهما!
4- أنه رَجع في آخر الأمر إلى رأيه الأول في قرآنية المعوّذتين.
ومثل ذلك يُقال في إسقاطه الفاتحة من مصحفه.
ولا يَتَّسِعُ المقامُ هنا لمناقشة ذلك كلّه، وإنما أردتُ التَّنْبِيه على أهمية تحرير تلك المسائل.
وَلِلْعلماءِ والدَّارسين مواقفُ متباينةٌ مِن هذه الوجوه الخمسة، وهم ما بين مُنْكِرٍ وَمُثْبِتٍ، أو منكرٍ لبعضٍ ومثبتٍ لبعض[2]. على أنَّنا نجد أنَّ بعضَ العلماء يُصرِّحُ برجوع ابن مسعودٍ عن رأيه وموافقة الجماعة، ولعلِّي أذكرُ جملةً من أقوال العلماء في ذلك:
قال أبو الفضل الرازي (ت 454هـ): «فإنْ كان مِن بعضهم تلكؤٌ في جمع عثمان، فإنه عَاوَدَ الإجماع»[3].
وقال أبو بكر الأنباري (ت 328هـ): «وما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك فشيء نَتَجَه الغضب، ولا يُعْمَل به ولا يؤخذ به، ولا يُشَكّ في أنه -رضي الله عنه- قد عرف بعد زوال الغضب عنه حُسن اختيار عثمان ومَن معه مِن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبَقِي على موافقتهم وترك الخلاف لهم»[4].
وقال ابن عساكر (ت 571هـ): «وقد رُوي عن ابن مسعود أنَّه رضي بذلك وتابَع ووافق رأي عثمان في ذلك وراجع»[5].
وقال ابن كثير (ت 774هـ): «وإنما رُوي عن عبد الله بن مسعود شيء من التَّغَضُّب بسبب أنَّه لم يكن ممن كَتَبَ المصاحف...ثم رَجَعَ ابنُ مسعودٍ إلى الوفاق»[6].
وقال الزرقاني (ت 1367هـ): «وقد استجاب الصَّحابة لعثمان، فحرقوا مصاحفهم، واجتمعوا جميعًا على المصاحف العثمانية، حتى عبد الله بن مسعود الذي نُقل عنه أنَّه أنكر أولًا مصاحف عثمان، وأنَّه أبى أنْ يحرق مصحفه، رجعَ وعاد إلى حظيرة الجماعة، حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية، واجتماع الأمة عليها وتوحيد الكلمة بها»[7].
وقال محمد الطاسان: «...رجوع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- إلى رأي الجماعة، وهذا أمرٌ مقطوعٌ به كقطعنا بتواتر القرآن؛ إِذْ من قراءاته العشر المتواترة قراءة حمزة والكسائي وعاصم وخلف، وقراءة هؤلاء الأربعة ترجع إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه»[8].
وليس غرضُنا في هذه المقالة مناقشة مذاهب العلماء في وجوه الاعتراضِ المَرْوِيَّةِ عن ابن مسعود، وإنما التحقيق في حُجَجِ القائلين برجوع ابن مسعودٍ لرأيِ الجماعة، وبيان الموقف منها، وهو ما سنحاول تحريره في ما يأتي:
1- تولية زيدِ بن ثابت دونه:
عن شقيق عن عبد الله، أنّه قال: {ومَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ}[آل عمران: 161]،ثمّ قال: على قراءة مَنْ تأمروني أن أقرأ؟ فلقد قرأتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعًا وسبعين سورةً، ولقد علم أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّي أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أنّ أحدًا أعلم مِنّي لرحلتُ إليه. قال شقيقٌ: فجلستُ في حلق أصحاب محمّد -صلى الله عليه وسلم-، فما سمعتُ أحدًا يردّ ذلك عليه، ولا يعيبه[9].
وجاء في أثر منقطع عن الزهري قال: فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنّ عبد الله بن مسعود، كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين أُعزل عن نسخ كتابة المصحف ويتولاها رجلٌ واللهِ لقد أسلمتُ وإنه لفي صلب رجل كافر؛ يريد زيد بن ثابت[10].
وهذه الأخبار واضحةٌ في أنّ ابن مسعود كَرِهَ تولية زيد بن ثابت نَسْخ المصاحف؛ وذلك لأنّ عثمان أراد أن يجمع النّاس على نصّ واحد ليزول الاختلاف بين المسلمين في قراءة القرآن. والأَوْلى حمل غضب ابن مسعود على أنّه كان يرى أنّ قراءته هي الأَوْلَى؛ لما له من المزية في ذلك[11]، ولأنه لم يرغب في ترك بعض الأحرف التي تلقّاها من فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن غضبه حسرةً على فوات شهرة، أو ضياع منصب! ويدلّ عليه قول ابن مسعود «على قراءة مَنْ تأمروني أن أقرأ؟».
ولم يثبت أنّ ابن مسعود شكّك في صحّة النصّ العثماني سوى ما كان من أمر المعوّذتين، -هذا إذا صحّ حمل إنكار المعوذتين على وقوعه بعد الجمع العثماني-.
وكان عثمان حليمًا معه رؤوفًا به، فعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: أرسل عثمان بن عفان إلى أبي يسأله عنها، فقال أبي: كيف يفتي منافقٌ؟ فقال عثمان: نعيذك بالله أن تكون منافقًا، ونعوّذك بالله أن نسمّيك منافقًا، ونعوّذك بالله أن يكون منك كائنٌ في الإسلام، ثم تموت ولم تبيّنه...[12].
وقد بَوّب ابن أبي داود في كتابه (المصاحف) بابًا بعنوان: باب رضاء عبد الله بن مسعود بجمع عثمان -رضي الله عنه- المصاحف، وساق في هذا الباب روايةً واحدة، يقول فيها:
حدثنا عبد الله بن سعيد، ومحمد بن عثمان العجلي، قالا: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني زهير، قال: حدثني الوليد بن قيس عن عثمان بن حسان العامري عن فلفلة الجعفي، قال: فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه، فقال رجل من القوم: إنّا لم نأتك زائرين، ولكنّا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: إنّ القرآن أنزل على نبيّكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف -أو حروف-، وإنّ الكتاب قبلكم كان ينزل -أو نزل- من باب واحد على حرف واحد، معناهما واحد[13].
والذي يظهر لي من سوق ابن أبي داود لتلك الرواية أنّه أراد الاستدلال على رضاء ابن مسعود وقبوله بعد زوال الغضب عنه لفكرة الجمع العثماني على وجه العموم، ولعلّ ابن مسعود لم يعترض على فكرة توحيد المصاحف، وإنما اعترض على طريقة تحقيق ذلك، ولا يلزم من ذلك كلّه أنه ترك قراءته المخالفة للمصاحف العثمانية، وكان ابن مسعود ينصح للنّاس أنّ الاختلاف في الحروف اختلاف تنوّع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض.
ومن المحتمل أنّه لمّا سكت عنه الغضب، عرف حُسْن عمل عثمان، وأنّ عثمان اقتدى بالشيخين قبله أبي بكر وعمر في تكليف زيد بجمع القرآن، وكان عثمان قد استدعاه إلى المدينة، فخرج إليها[14]، وبقي هناك حتى مات سنة 32هـ[15]-رضي الله عنه-.
2- رفضه تسليم مصحفه لإزالته بحرقه:
عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، قال: أتى عليّ رجلٌ وأنا أصلّي، فقال: ثكلتك أمّك، ألا أراك تصلّي وقد أُمر بكتاب الله أن يمزّق كلّ ممزق، قال: فتجوزتُ في صلاتي، وكنت أجلس، فدخلت الدار ولم أجلس، ورقيت فلم أجلس، فإذا أنا بالأشعريّ، وحذيفة وابن مسعود يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود: ادفع إليهم هذا المصحف، قال: واللهِ لا أدفعه إليهم؛ أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعًا وسبعين سورة ثم أدفعه إليهم؟! والله لا أدفعه إليهم[16].
ومما قد يستدلّ به على رجوع ابن مسعود عن موقفه هذا إلى موافقة الجماعة حديث عبد الأعلى بن الحكم الكلابي، قال: أتيتُ دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد، فأخذتُ أرتقي إليهم، فإذا غلام على الدرجة فمنعني فنازعته فالتفت إليّ بعضهم، قال: خلّ عن الرجل فأتيتهم حتى جلستُ إليهم، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه، فقال حذيفة: كيف بما صنعنا؟! والله ما أحد من أهل هذا البلد يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابن مسعود، ولا أحد من أهل اليمن يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري[17].
ولا يظهر من هذا اللفظ رجوعٌ صريحٌ عمّا كان يذهب إليه، وإنما غاية الأمر أنّ عثمان أرسل إليهم مصحفًا، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه، ولم يرد فيه ذِكْرٌ بتسليم ابن مسعود وموافقته على إزالة مصحفه، أو إقامة مصحفه على مصحف عثمان.
وجاء في ظاهر كلام الفراء (ت 207هـ) ما يدلّ على أنّ مصحف ابن مسعود بقي إلى أيامه، وقد ورد ذِكْر (مصحف عبد الله) في معاني القرآن مرات كثيرة[18]، ولعلّ الفرّاء يفرّق بين المصحف المنسوب إلى ابن مسعود بقوله: «مصحف عبد الله»، والمصاحف المكتوبة على قراءة ابن مسعود أو المنسوخة من مصحف ابن مسعود بقوله: «مصاحف عبد الله».
قال ابن عطية (ت 542هـ): «فأمّا ابن مسعود فأبى أن يزال مصحفه فترك، ولكن أَبَى العلماء قراءته سدًّا للذريعة»[19].
وقال أبو العباس القرطبي (ت 656هـ): «فإنّه كتم مصحفه، ولم يُظهره، ولم يقدر عثمان ولا غيره عليه أن يظهره، وانتشرت المصاحف التي كتبها عثمان، واجتمع عليها الصحابة في الآفاق، وقرأ المسلمون عليها، وتُرك مصحف عبد الله، وخفي إلى أن وُجد في خزائن بني عبيد بمصر عند انقراض دولتهم، وابتداء دولة المعز، فأمر بإحراقه قاضي القضاة بها صدر الدين، على ما سمعناه من بعض مشايخنا، فأُحرق»[20].
3- أبى أن يترك قراءته المخالفة للنصّ العثماني:
لم أقف على رواية تثبت التزام ابن مسعود بالقراءة بما يوافق خطّ المصاحف العثمانية، وكان تلامذته أو بعضهم قد ظلّوا متمسّكين بقراءته، فكان سعيد بن جبير (ت 95هـ) يؤمّ الناس في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت[21].
وكان الحجّاج يتوعّد من يقرأ على قراءة ابن مسعود، وكان يقول: لا أجد أحدًا يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربتُ عنقه... قال أبو بكر بن عياش فذكرتُ ذلك للأعمش، فقال: وأنا قد سمعته يقول ذلك، فقلت: واللهِ لأقرأنها على رغم أنفك، وذلك في نفسي[22].
وفي هذا الخبر دليلٌ واضح على استمرار الناس على القراءة على حرف ابن مسعود المخالف للنّصّ العثماني.
قال ابن مجاهد (ت 324هـ): «وأمّا أهل الكوفة فكان الغالب على المتقدّمين من أهلها قراءة عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-؛ لأنه هو الذي بعث به إليهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليعلّمهم، فأخذت عنه قراءته قبل أن يجمع عثمان -رضي الله تعالى عنه- النّاس على حرف واحد، ثم لم تزل في صحابته من بعده يأخذها الناس عنهم؛ كعلقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وزر بن حبيش...»[23].
وقال: «وقرأ حمزة أيضًا على سليمان بن مهران الأعمش...، وكان حمزة يعتبر قراءة عبد الله في ما لم يوافق خطّ مصحف عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه-...ولم يخالف حمزة الأعمش في ما وافق قراءة زيد بن ثابت التي جمع عثمان -رضي الله تعالى عنه- النّاس عليها إلّا في أحرف يسيرة»[24].
وأمّا ما استدلّ به بعض العلماء من كون أسانيد بعض القرّاء العشرة ترجع إلى ابن مسعود، وأنه لو كان في قراءة ابن مسعود ما يخالف مصحف عثمان لظهر ذلك في قراءاتهم، فهو دليلٌ ظنّيٌّ في ما أرى، إِذْ إنّ أسانيد القرآن إلى الصحابة مجملة، وكانت ظاهرة الاختيار قد «أدّت إلى اختفاء قراءات الصحابة؛ مثل قراءة زيد أو قراءة عبد الله، أو ما كان يُعرف بقراءة أهل المدينة أو قراءة أهل الكوفة؛ لأنّ عناصر هذه القراءات قد دخلت في اختيارات القرّاء مختلطة بعضها ببعض»[25].
4- إنكاره المعوّذتين وحكّه لهما من المصحف:
قال ابن حزم (ت 456هـ): «وكلّ ما روي عن ابن مسعود من أنّ المعوّذتين وأمّ القرآن لم تكن في مصحفه فكذبٌ موضوع لا يصحّ، وإنّما صحّت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أمّ القرآن والمعوّذتان»[26].
وليس المقام هنا مقام إثبات قرآنية المعوّذتين، فهذا أمرٌ مسلّمٌ، وإنما نناقش صحّة رجوع ابن مسعود عن رأيه في المعوّذتين، وهذا الاستدلال من ابن حزم وغيره ظنّيٌّ في رأيي، سواء أخذنا بمذهب تكذيب الروايات الواردة في إنكار ابن مسعود قرآنية المعوّذتين، أم أخذنا بمذهب القائلين برجوعه عن رأيه، لأنّ أسانيد القرآن إلى الصحابة مجملةٌ كما أشرت إلى ذلك سابقًا، إِذْ لا يمكن الجزم بوجود المعوذتين في قراءات القرّاء من طريق ابن مسعود -رضي الله عنه-.
عن علقمة النخعي، عن ابن مسعود: أنه كان يحكّ المعوذتين من المصحف، ويقول: إنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعوّذ بهما، وكان عبد الله لا يقرأ بهما[27].
وعن إبراهيم النخعي قال: قلتُ للأسود: مِنَ القرآن هما؟ قال: نعم، يعني المعوّذتين[28].
فأصحاب ابن مسعود نقلوا لنا إنكاره قرآنية المعوّذتين، ولم ينقلوا لنا رجوعه عن ذلك، ولم يأتِ عن أحد منهم موافقة ابن مسعود في رأيه هذا، فيبقى الأمر محتملًا؛ إِذْ لا يوجد دليلٌ قطعيٌّ حتى الآن يثبت رجوعه عن ذلك.
وفي الحديث الذي رواه سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم عن زرّ، قال: قلتُ لأبيّ: إنّ أخاك يحكّهما من المصحف، قيل لسفيان: ابن مسعود؟ فلم ينكر، قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (قيل لي، فقلتُ)، فنحن نقول كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال سفيان: يحكّهما: المعوّذتين، وليسا في مصحف ابن مسعود؛ (كان يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوّذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته)، فظنّ أنهما عوذتان، وأصرّ على ظنّه، وتحقّق الباقون كونهما من القرآن، فأودعوهما إياه[29].
فالظاهر من قول سفيان بن عيينة (ت 198هـ) أنه يرى أنّ ابن مسعود لم يرجع عن رأيه في المعوّذتين بدلالة قوله: «وأصرّ على ظنّه».
ومما قد يُستدلّ به على أنّ ابن مسعود لم يرجع عن رأيه في المعوّذتين الحديث الذي رواه الطبراني، قال: حدّثنا سعيد بن عبد الرّحمن التّستريّ، ثنا محمّد بن موسى الحرشيّ، ثنا عبد الحميد بن الحسن، عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ عن ابن مسعود، أنّه كان يقول: لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنّما هما معوّذتان تعوّذ بهما النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: قل أعوذ بربّ الفلق، وقل أعوذ بربّ النّاس، وكان عبد اللّه يمحوهما من المصحف[30].
والشاهد فيه أنّ أبا عبد الرحمن السلمي لم يستقرّ في الكوفة إلا بعد نسخ الصّحف في المصاحف في زمن عثمان[31]. فيه: سعيد بن عبد الرحمن التستري (مجهول الحال)، ومحمد بن موسى الحرشي متكلَّم فيه أيضًا (ليّن الحديث)، وعبد الحميد بن الحسن (ضعّفه الجمهور).
وغيرهم من الثقات: رووه عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي:
1- عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن (عبد الرحمن بن يزيد) -هو عبد الرحمن بن يزيد النخعي الكوفي-: مسند أحمد (رقم: 21188)، والطبراني (رقم: 9150).
2- عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن (عبد الرحمن بن يزيد): الطبراني (رقم: 9148).
3- عن شُعبة، عن أبي إسحاق، عن (عبد الرحمن بن يزيد): الطبراني (رقم: 9149).
فالخطأ في رواية عبد الحميد بن الحسن قد يكون تصحيفًا في الكتاب، فإن سَلِمَ من هذا، فهو خطأ رواية. والخلاصة: أنّه حديثٌ غير محفوظ من حديث عبد الحميد بن الحسن عن أبي إسحاق.
وعليه فلا حُجّة في هذا الدليل؛ لأنّ الرواية عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قد تحمل على وقوع ذلك قبل زمن عثمان، أو قبل رجوع ابن مسعود عن رأيه.
وقد يُقال إنّ إقرار ابن مسعود بصحّة مصحف عثمان إجمالًا بعد ظهور المصلحة الداعية له من رفع الشقاق والخصام، ونُصْحه لأهل الكوفة بعد الجمع بأن لا يختلفوا في القرآن ولا يتنازعوا فيه =قد يفيد بقبول ابن مسعود قرآنية المعوّذتين، إِذْ إنّ قرائن الأحوال والأدلّة الإجمالية قد تفيد الظنّ الغالب، ولو لم يصحّ شيءٌ يفيد اليقين الجازم.
5- إسقاط الفاتحة من مصحفه:
قال السيوطي (ت 911هـ): «وإسقاطه الفاتحة من مصحفه أخرجه أبو عبيد بسند صحيح»[32].
ونقل السيوطي خلاف ذلك، فقال: «وفي مصحف ابن مسعود مئة واثنتا عشرة سورة؛ لأنه لم يكتب المعوذتين»[33].
إذا صحّ المرويّ عن ابن مسعود، فهو لم يُنْكِر قرآنية الفاتحة وإنما أسقطها من مصحفه، «فإن قيل: لو كانت قرآنًا لأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه، فلمّا لم يثبتها دلّ على أنها ليست من القرآن، كالمعوذتين عنده. فالجواب ما ذكره أبو بكر الأنباري، قال: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش، قال: أظنه عن إبراهيم، قال: قيل لعبد الله بن مسعود: لِمَ لَمْ تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها مع كلّ سورة. قال أبو بكر: يعني أنّ كلّ ركعة سبيلها أن تفتتح بأمّ القرآن قبل السورة المتلوّة بعدها، فقال: اختصرتُ بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لها، ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كلّ سورة، إِذْ كانت تتقدّمها في الصلاة»[34].
قال ابن قتيبة (ت 276هـ): «وأمّا فاتحة الكتاب فإني أشكّ فيما روي عن عبد الله من تركه إثباتها في مصحفه، فإن كان هذا محفوظًا فليس يجوز لمسلم أن يظنّ به الجهل بأنها من القرآن، وكيف يظنّ به ذلك وهو من أشدّ الصحابة عناية بالقرآن، وأحد الستة الذين انتهى إليهم العلم... وهي السبع المثاني، وأمّ الكتاب، أي أعظمه، وأقدم ما نزل منه... ولكنه ذهب -فيما يظنّ أهل النظر- إلى أنّ القرآن إنما كُتِبَ وجُمِع بين اللوحين مخافة الشكّ والنسيان، والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقِصَرها، ولأنها تثنّى في كلّ صلاة وكلّ ركعة، ولأنه لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلّمها وحفظها، كما يجوز ترك تعلم غيرها وحفظه، إِذْ كانت لا صلاة إلا بها. فلما أمن عليها العِلّة التي من أجلها كتب المصحف، ترك كتابتها وهو يعلم أنها من القرآن»[35].
فما دام أنّ ابن مسعود لا ينكر قرآنيتها، فلا ضير بعد ذلك أثبتها في المصحف أم لم يثبتها، ولم أقف على شيء يثبت رجوعه عن إسقاطها من المصحف على فرض التسليم بصحة ذلك.
والخلاصة:
1- أنّ القول بأنّ ابن مسعود لم يعترض على فكرة توحيد المصاحف، وإنما اعترض على طريقة تحقيق ذلك، قولٌ وجيه، واحتمالٌ وارد.
2- كما أنّه لا يلزم من القول برضاء ابن مسعود وموافقته للجماعة، رجوعه عن الأمور الخمسة كلّها؛ لأنّه ربما رجع عن بعض وثبت على بعض، وأحسب أنّ القول بترك ابن مسعود قراءته المخالفة للمصاحف العثمانية قولٌ لا يخلو من إشكال، وقد يكون مجانبًا لوقائع التاريخ.
3- القطع برجوع ابن مسعود إلى رأي الجماعة في الأمور الخمسة كلّها صعبٌ؛ إِذْ إنّ الأدلّة الإجمالية لا تفيد إلا الظّنّ الغالب في رأيي.
خاتمة:
بعد عرض أدلّة القائلين برجوع ابن مسعود لرأي الجماعة، ومناقشتها، يظهر -والله أعلم- أنّ الأدلّة لا تفيد إلا الظّنّ الغالب، إِذْ لم أقف على أدلّة صحيحة صريحة تثبت:
1- تسليم ابن مسعود مصحفه لإزالته.
2- والالتزام بقراءة القرآن بما يوافق خطّ المصاحف العثمانية.
3- ولم أقف كذلك على شيء صريح يُثبت رجوعه عن رأيه في المعوّذتين، والفاتحة -إذا صحّ ذلك عنه-.
على أنّي لا أنكر احتمال رجوعه عن ذلك كلّه، وأمّا القطع بذلك، فمحلّ نظر.
وأرى أنّ موضوع رجوع ابن مسعود إلى رأي الجماعة في أمر الجمع العثماني لا يزال بحاجة إلى مزيد بحث وتحقيق، وكذلك بحث صحّة حمل الرّوايات الثّابتة في اعتراض ابن مسعود على قرآنية المعوّذتين، وإسقاط الفاتحة من مصحفه -إذا صحّ ذلك عنه- على وقوع ذلك قبل الجمع العثماني.
وأختم هذه المقالة بالتّنبيه على أنّه لا يضع من العالم الزّلل والخطأ، فما بدا من عبد الله بن مسعود، لا يُعمل به ولا يُؤخذ عنه، وليس في هذا طعنٌ على ابن مسعود، ففضله ثابتٌ، وقَدْره في القرآن والفقه معروف.
ولا ينبغي أن يشكّ إنسانٌ في صحّة موقف عثمان والجماعة في إقامة المصاحف على لغة قريش، وتوحيدهم النّاس على مصاحف يرجعون إليها في ضبط قراءتهم، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] ينظر: المصاحف (1/ 179- 192).
[2] ينظر: تحقيق موقف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من الجمع العثماني، محمد الطاسان.
[3] معاني الأحرف السبعة، الرازي، ص526.
[4] ينظر: تفسير القرطبي (1/ 53).
[5] تاريخ دمشق (33/ 140).
[6] فضائل القرآن، ص67- 68.
[7] مناهل العرفان (1/ 261).
[8] تحقيق موقف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من الجمع العثماني، ص66.
[9] أخرجه مسلم (رقم: 2462).
[10] أخرجه الترمذي (رقم: 3014) وغيره.
[11] ينظر: فتح الباري، ابن حجر (9/ 49).
[12] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (رقم: 10987) وغيره.
[13] ينظر: المصاحف (1/ 193).
[14] ينظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (1/ 489).
[15] ينظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (1/ 489).
[16] أخرجه أبو عبيد في (فضائل القرآن، ص285)، والطبراني في الكبير (9/ 71)، والحاكم في المستدرك (رقم: 2955).
[17] أخرجه عمر بن شبة في (تاريخ المدينة 3/ 998)، وابن أبي داود في (المصاحف 1/ 240) وقال محققه د. محب الدين واعظ: «فيه عبد الأعلى بن الحكم، لم أجد فيه جرحًا ولا تعديلًا».
[18] ينظر مثلًا: معاني القرآن، الفراء (1/ 95)، (1/ 145)، (2/ 313)، (2/ 351)، (3/ 189)، (3/ 286).
[19] المحرّر الوجيز (1/ 48).
[20] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 374).
[21] ينظر: معرفة القرّاء، الذهبي (1/ 57)، وغاية النهاية، ابن الجزري (1/ 305).
[22] ينظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (12/ 160).
[23] السبعة، ابن مجاهد، ص66.
[24] السبعة، ابن مجاهد، ص73.
[25] ينظر: محاضرات في علوم القرآن، غانم قدوري الحمد، ص125.
[26] المحلى، ابن حزم (1/ 32).
[27] أخرجه البزار في مسنده (رقم: 1586)، والطبراني في الكبير (رقم: 9152).
[28] أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30197).
[29] أخرجه أحمد في مسنده (رقم: 21189).
[30] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (رقم: 9151).
[31] أبو عبد الرحمن السلمي وجهوده في الإقراء وتعليم القرآن الكريم، غانم قدوري الحمد، ص35- 36.
[32] الإتقان، السيوطي (1/ 522)، وينظر: فضائل القرآن، أبو عبيد، ص318.
[33] الإتقان، السيوطي (1/ 423).
[34] تفسير القرطبي (1/ 110)، وينظر: تفسير ابن كثير (1/ 103).
[35] تأويل مشكل القرآن، ص47- 49.