دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بمكتبة (موغله) برقم (1) – المكتبة السُّليمانية بإستانبول

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بمكتبة (موغله) في المكتبة السُّليمانية بإستانبول، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلميّة المتعلقة بها.

  الحمد لله الذي أنزل القرآن على نبيّه سيد ولد عدنان، وأجمل البيانَ حتى نطق اللسان بحال الجَنان، وتكفَّل بحفظ أسراره بالصدور حتى توالت الأيام على تصديره إلى السطور، فكان مداد أقصابهم شاهدًا وورق أقلامهم مشاهدًا على رَقْمهِ ورَسمه وكتابته وضبطه، حتى أكثرَت النُّسَّاخ من نسخه ونَشره، وأودعوه خزائن الملوك والأساطين ومكتبات العلماء والسلاطين.

وبين أيدينا نسخة من هذه النسخ الشريفة مكتوبة بيدٍ شهيرة محفوظة بدار كريمة، سنحاول أن نعرض لها من جانبين؛ مادّي وعلمي.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والورق والحجم:

هذه النسخة الجليلة محفوظة في مكتبة «موغله = خواجة مصطفى أفندي» في المكتبة السُّليمانية برقم (1) من الديار التركية، مكتوبة على ستٍّ وأربعين ومائتي ورقة مرقّمة ترقيمًا عشريًّا، في تسعة عشر سطرًا، بخط ثُلُث جليّ متوسط الحجم، ولون النصّ بالسواد والفواتح بالذّهب وعلامات الوقف بالحُمرة.

2- التجليد والزخرفة والتذهيب:

جُلِّدت النسخة بالجلد الملوَّن بالسواد، المُزخرف بالأشكال النباتية، حيث يتوسَّطه صُرَّة كبيرة مزخرفة بالذهب والحُمرة، ينتشر حولها زَهْرٌ على شكل نقاط مُذَهَّبة، وزواياها أركان مزخرفة بالذّهب والحمرة مُشكَّلة بالأشكال النباتية، يحيطها إطاران من ذهب بينهما زخارف نباتية ملوّنة بالحمرة متداخلة بالذهب، على كعبه زركشات يتوسطها قلادة مكتوب عليها: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، ويتّصل به لسان من الجلد مزخرف بما يماثل زخرفة الوجه مع قلادة بديعة من طرَفه.

بأوّل أوراقه لوحتان مزخرفتان بالأشكال النباتية الهندسية المتداخلة المزركشة بالذهب جميعها، تختلف اللوحة الأولى عن الثانية في شكلِ الزخرفة.

ثم في الورقة التي تليها كُتب فيها الفاتحة وأول البقرة وبين السطور مزخرف بالذّهب، وحول النصّ عمودان مطليّان بالسواد مزخرفان بالعُروق النباتية الطويلة، على جوانبهما إطاران حمراوان مذهّبان، وأعلى النصّ وأدناه كتيبة مزخرفة بالأشكال النباتية البديعة المكسوّة بالزهر الملونة بالحُمرة والخُضرة، على جوانبها ومنتصفها قلائد من ذهب بخلفية زرقاء يؤطِّرها إطار أحمر، ثم يكسو باقي الورقة زخرفات من الذهب والزرقة بأشكال نباتية يتوزع عليها الزهر والتشجير الملون بألوان زاهية من حُمرة وخُضرة وذَهب.

وقد أُطِّرت الأوراق بالذهب، ورُسمت فواتح السور بالثلُث الجلي الكبير المذهّب داخل كتيبة مذهبة.

وكُتِبَت الأجزاء والأحزاب والأنصاف بالثلُث الملوّن بالحُمرة والسواد.

3- حالة النسخة:

هذه النسخة حافظَتْ على هيكلها وجسمها من التمزق والتفكك والتقطيع، ولم تُصَب بالأَرَضة فتآكلَت، ولا بالرطوبة فتأثرَت، إلا أن الأمر لا يخلو من يسيرٍ من المواضع التي عليها بعض آثار الرطوبة والبُقَع التي تلاحَظ بالنظر ولا تترك أثرًا على المادة تُغيِّرها وتُحوِّلها. ولعلّه كان يَنْسَى بعض الكلمات فلما عاد لإلحاقها وتصحيحها كان يفتح الإطار لضمها للنصّ ويرسمه وراءها.

4- بيانات النسخ:

أشارت هذه النسخة في آخرها إلى فائدة عظيمة وهي أن نسبتها ترجع إلى الناسخ الشهير ياقوت المستعصمي، الذي كان من النُّسَّاخ الأعلام ممن أحدثوا طفرةً في تاريخ الخطوط، وهو ياقوت بن عبد الله، جمال الدين المستعصمي الكاتب؛ كان أديبًا عالمًا فاضلًا شاعرًا، بلَغ من الخط غايةً ما بلَغها ابنُ البوّاب.

كان قد اشتراه الخليفة المستعصم صغيرًا، ورُبِّي بدار الخلافة، واعتنى بتعليمه الخط صفيُّ الدين عبد المؤمن، ثم كتَب على ابن حبيب، وكتَب عليه أبناء الأكابر ببغداد، وحظِي عند علاء الدين ابن الجويني صاحب الديوان، وكتب عليه أولاده وأولاد أخيه، وكانت وفاته في شهور سنة ثمان وتسعين وستمائة، رحمه الله تعالى[1].

وإذا كان الناسخ قد مات قبل نهاية القرن السابع بسنتين فلقد رفع القلم عن هذه النسخة قبل وفاته بثمان وعشرين سنةً، حيث أثبت في آخرها اسمه وتاريخ نَسْخِه.

«كتبه الفقير ياقوت المستعصمي حامدًا لله تعالى 670 هـ»

وقد وقفتُ على عدد من منسوخات ياقوت، وقد وقع التزوير في خطّه رغبةً في غلاء النسخة، والظاهر -والله أعلم- أنه خطه.

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- أعداد آيات السور في النسخة[2]:

إذا استعرضنا فواتح السور نجد أنّ الناسخ قد جعل سورة «البقرة» مائتين وستين وسبع آيات وهو قول البصري فيها، و«آل عمران» مائة وتسعًا وتسعين وهو قول مخالف للجميع؛ لأنه تم الاتفاق على أنها مائتان، ثم تابع مخالفته للأقوال فجعل «النساء» مائةً وستين، وهي بين الأقوال مائة وسبعون وخمسٌ أو ستٌّ أو سبعٌ، ثم جعل «المائدة» مائةً وعشرين وهو قول الكوفي دون الباقين، وجعل «الأنعام» مائةً وستًّا وستين آيةً، و«الأعراف» مائتين وخمسًا وهما قول البصري والشامي، و«الأنفال» ستًّا وسبعين وهو قول المدنيين والمكي والبصري، وجعل «التوبة» مائةً وثلاثين وهو قول الجمهور وخالفهم الكوفي فجعلها مائةً وتسعًا وعشرين، وسورة «يونس» جعلها تسع عشرة ومائةً، و«هود» مائةً وعشرين وهما مخالفان لكلّ الأقوال.

ويظهر لنا من خلال تتبُّع عيِّنةٍ مما اعتمده المستعصمي في نسخته أنه لم يلتزم بقولٍ واحدٍ من الأقوال المعتمَدة عند علماء العدد، فكان أحيانًا يلفّق بين الأقوال، وأخرى يُهملها جميعًا ويقول بقول مختلِف وبعيد.

2- علامات الوقف والابتداء:

اعتنى المستعصمي في هذه النسخة بعلامات الوقف، فسمَّى كلّ وقف برمزه ولونه، وأشار إليه أحيانًا إذا فاته لئلا يكون من النصّ شيء خاليًا عن علامة من علاماته المهمّة.

وللوقف أقسام مختلِفة تختلف حسب تقسيمات أهل هذا الفنّ لها، وقد اتّبع المستعصمي في هذه النسخة تقسيمات السجاوندي، حيث يقول: «مقصورة على خمس مراتب: لازم، ومطلق، وجائز، ومجوَّز لوجه، ومرخَّص ضرورة»[3].

ولنأخذ مثالًا من النسخة على الوقوفات المتَّبَعة:

{الذي خلق} جائز، {مِن علق} جائز، {ما لم يعلم} مطلق، لأنَّ {كلَّا} للابتداء، {ليَطغى} لا وقف عليه، {استغنى} مطلق[4].

3- الرسم العثماني:

إن المتصفِّح لهذه النسخة يجد أن الناسخ قد التزم بالرسم العثماني بنَسْخه وبعلاماته وشروطه، إلا أنّ بعض الألفاظ لم تُكْتَب حسب قيود الرسم العثماني، فاتّكأ في بعض المواضع على الرسم الإملائي للكلمة ولم يتّبع ما أرساه علماء الرسم لها؛ حيث اعتمدوا على تمييز الرسم العثماني عن غيره بظواهر جرَّدَته عن غيره من الرُّسوم، ومنها:

 ظاهرة الحذف: كحذف الألف من جمع المذكر السالم؛ ففي كلمة: {ر ٰعون}[المؤمنون: 8] تحذف الألف عند الرسم[5]، ولم يحذفها المستعصمي من نسخته هذه.

وكحذف الألف من جمع المؤنث السالم؛ ففي كلمة: {المؤتفكـٰت}[الحاقة: 9] تحذف الألف بالاتفاق[6]، ولم يحذفها هنا من نسخته أيضًا.

وظاهرة الزيادة: كزيادة الألف في الكلمة، مثل كلمة (شيء) كُتبت في كل المواضع على شكلها القياسي إلا في موضعٍ واحدٍ زِيد فيها الألف[7]: {لشايء}[الكهف: 23]، فكتبها المستعصمي على أصلها القياسي من غير ألف. 

وظاهرة الإبدال: حيث أبدلوا حرفًا مكان حرف كإبدال الألف واوًا في كلمة: {الغَدَوٰة}[الأنعام: 52] حيث تُرسَم الواو بدلًا من الألف بالاتفاق[8]، وكَتبها ناسخُنا هنا برسمها الإملائي من غير تعديل حيث أثبت الألف كما هي.

وظاهرة الوَصْل والفَصْل: وهي أن يكون الاتصال بسبب التأثر الصوتي، بأن يكون الصوتُ الأول -في آخر اللفظة الأُولى- نونًا ساكنة أو ميمًا ساكنة، يليه ميمٌ أو نونٌ أو لامٌ في لفظة أخرى[9]. مثل كلمة: {إنْ مَا} رُسمت في القرآن متصلة -بغير نونٍ- إلا في موضع واحد وردت مفصولةً[10]، وفي نسخة المستعصمي أوردها متصلة.

خاتمة:

لمثل هذه النُّسَخِ أن تكون أصلًا معتمَدًا في أيّ بحث؛ لمكانةِ الناسخ الشهيرة في النِّساخة، وموثوقية طريقته التي يتّبعها في كتابته لولا أن يكون محتواها القرآن الكريم، أمَا وقد كان ذاك هو المحتوَى فإن النسخة قد أصبحت محلّ دراسة لغلَبة أهمية المحتوى على الناسخ، وما يَزيدُها الناسخ إلا حرفةً في الأداء؛ ولذلك بُحِثَتْ من حيث المكان والحجم والورق والزخرفة والتذهيب وحالتها المادية والناسخ وزمنه، ومن جانبها العلمي من حيث الرسم العثماني وعلامات الوقف والابتداء وأعداد الآيات.

فاجتهدتُ في سَبْر أغوارها ما أسعفَتْني به القُدرة وأحاطَتْ به الإرادة، ولعلّ في أسرارها ما لم تتكشف لي حقيقته أو تستبِنْ لي صورته، وما ذاك إلا جهد المقلّ، والحمد لواهب العقل.

 

 

[1] ينظر: فوات الوفيات، أبو شاكر الكتبي، دار صادر- بيروت، الطبعة الأولى، ج4، 263.

[2] ينظر: البيان في عدّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث- الكويت، الطبعة الأولى، 1414هـ-1994م. ص140-165.

[3] ينظر: الوقف والابتداء، السجاوندي، دار المناهج، عمان- الأردن، الطبعة الأولى، 1422-2001. ص105.

[4] ينظر: المرجع السابق نفسه، ص500.

[5] ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد- المدينة المنورة، 1423هـ-2002م، ج5، ص1229.

[6] ينظر: المرجع السابق نفسه، ج5، ص1506.

[7] ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ص49.

[8] قال أبو عمرو: باب ذكر ما اتفق على رسمه مصاحف أهل الأمصار من أول القرآن إلى آخره... وكتبوا: {بالغدوٰة والعشي} بالواو. ينظر: المقنع، الداني، ج1، ص89.

[9] ينظر: رسم المصحف إحصاء ودراسة، صالح محمد صالح عطية، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، الطبعة الثانية، طرابلس- ليبيا، 1430-2001. ص175.

[10] [الرعد: 40]، قال أبو داود: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ} كتبوه في جميع المصاحف بالنون على الأصل، ليس في القرآن غيره، على أربعة أحرف: «إ، ن، م، ا» وكتبوا سائرها فيما مضى قبلُ، أو يأتي بعدُ، بغير نون على الإدغام على ثلاثة أحرف: «إ، م، ا» ينظر: مختصر التبيين، سليمان بن نجاح، ج3، ص743.
قال محمد بن عيسى عن إسحق بن الحجاج عن عبد الرحمن بن أبي حماد عن حمزة بن حبيب الزيات وأبي حفص الخزاز: ليس في القرآن «وإن ما» بالنون إلا حرفًا واحدًا في الرعد: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ}، وحدثنا محمد بن علي قال حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا إدريس قال: لم يُقطع مِن (إنْ) (مَا) في المصحف إلا حرفٌ واحدٌ في آخر سورة الرعد: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ}. ينظر: المقنع، الداني، ج1، ص75.

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))