عرض كتاب: (تفسير القرآن بالقرآن؛ دراسة تاريخية ونظرية) تأليف: د. محمد قَجْوِي
بيانات الكتاب:
تفسير القرآن بالقرآن؛ دراسة تاريخية ونظرية. تأليف: الدكتور محمد قَجْوِي، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط. والكتاب أطروحة جامعية، من منشورات مركز الدراسات القرآنية التابعة للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، الطبعة الأولى، 1436هـ/ 2015م. في مجلد من الحجم الكبير يتكون من 768 صفحة.
أهمية الكتاب:
تأتي أهمية الكتاب من خلال عمل المؤلف الذي استطاع أن يجمع ما تفرّق من مادة تفسير القرآن بالقرآن التي هي من أوائل طرق التفسير، وأن يتتبع تطوّره من النشأة إلى العصر الحديث. مبينًا تفصيل مفهوم هذا الفنّ، وتأصيل منهجه، وتوضيح أنواعه بواسطة أمثلة تطبيقية؛ مما جعل من هذه الدراسة لبنة أساسية في بناء هذا الصّرح العظيم.
محتويات الكتاب:
قسم المؤلف كتابه إلى قسمين رئيسين، أفرد كلّ واحد منهما بباب، وصدَّرهما بمقدمة:
فالباب الأول خصّه بالجانب التاريخي لتفسير القرآن بالقرآن، وبيان وجوه العناية التي حظي بها، مبتدئًا بتوجيهات القرآن والسُّنّة، ومنتهيًا ببيان جوانبه التي طرقها كلّ من الصحابة والتابعين ومَن جاء بعدهم من المصنفين. أمّا الباب الثاني فخصّه بالجانب النظري لتفسير القرآن بالقرآن، من خلال بيان معاني المفردات، والتراكيب، والموضوع. وأخيرًا ذيَّل المؤلف بحثه بخاتمة جعلها محلًّا لتدوين ما توصّل إليه من نتائج وملاحظات.
الأفكار الرئيسة للكتاب:
فبعد أن عرَّف التفسير لغة واصطلاحًا، وأوضح أن تقييد (التفسير) بعبارة (القرآن) يُقصد به التفسير الذي يكون استمداده محصورًا في كتاب الله تعالى وحده، وبهذا تُستثنى بقية المصادر الأخرى؛ لأنها غير مقصودة بهذه الدراسة، انتقل إلى الباب الأول الذي سماه: الجانب التاريخي لتفسير القرآن بالقرآن.
أولًا: الجانب التاريخي لتفسير القرآن بالقرآن:
ويعني به الدراسة التاريخية التي تَتَبَّعَ خلالها هذا الفنّ من النشأة إلى العصر الحديث، وبرَّر موقفه من تقديم الدراسة التاريخية على النظرية؛ لأن موضوع الثانية هو حصيلة ما وصل إليه تفسير القرآن بالقرآن من تطوّرٍ ونضجٍ عبر مراحله التاريخية.
استهل المؤلّفُ دراسة هذا الباب بالمبحث الأول: عناية القرآن بهذا النوع من التفسير؛ حيث أكّد فيه إلحاح القرآن الكريم في مواضع كثيرة على الرجوع إلى آياته، من أجل التدبُّر والتذكُّر والامتثال. كما أكّد القرآن على أن تفسير القرآن بالقرآن هو أحسن تفسير في قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان: 33]. كما أن القرآن الكريم فتح المجال لإلجاء المسلمين عامة والعلماء منهم خاصّة إلى حملِ النصوص بعضها على بعض حتى يتضح المعنى ويزول الإشكال؛ وكان ذلك على مستويَيْن:
المستوى الأول: التوجيه بتنزلاته المتدرجة؛ ومثاله ما رواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه- عندما نزل تحريم الخمر: «...فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا...}[المائدة: 93]».
المستوى الثاني: التوجيه بالإحالة على مواضع التفصيل؛ وهو عمل تربوي، من خلاله يتعلم المسلمون كيف يباشرون بأنفسهم البحث والتنقيب في كتاب الله، مثاله في القرآن الكريم كثير؛ منه قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ...}[النحل: 118]، ففي هذه الآية بيَّن الله أنه حرّم على اليهود أمورًا لم يبينها هاهنا، ولكنه أحال على موضع تفصيلها في سورة أخرى، ولا يمكن معرفتها على التفصيل إلّا بالرجوع إليه، وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[الأنعام: 146].
أمّا في المبحث الثاني الذي خصّه بعناية السُّنّة بهذا النوع من التفسير، فقد أكّد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثاني مَن اعتنى بهذا اللون من التفسير بعد القرآن الكريم؛ فكان يأمر بالرجوع إلى الكتاب، وكان -صلى الله عليه وسلم- يلتزم السكوت عند غياب الدليل من القرآن حتى ينزل عليه الوحي، وكان يوجّه الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى هذا النوع من التفسير؛ من ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام: 82]، قلنا: يا رسول الله، أيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون! {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}: بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {...يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13]. ففي هذه النصوص، وغيرها كثير، كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- المكلَّف بمهمة البيان يعلِّم أصحابه كيف يفسرون القرآن بالقرآن.
عناية الصحابة والتابعين بتفسير القرآن بالقرآن:
عناية القرآن والسُّنة بتفسير القرآن بالقرآن، ظهرت آثاره على تفسير الصحابة والتابعين؛ فقد خلّفوا لنا من هذا الفنِّ الشيءَ العظيم، يحتاج إلى جهد كبير لجمعه وتوثيقه وتصنيفه ودراسته لاستخلاص القواعد الجزئية التي تتفرّع عن القاعدة الأُم: (قاعدة تفسير القرآن بالقرآن)، وقد اقتصر المؤلف على جمع نصيب من رواياتهم وتصنيفها حسب المباحث التي تناولها، وسيعود إلى دراستها في القسم المخصص للدراسة النظرية.
عناية المصنفين بتفسير القرآن بالقرآن:
من خلال البحث توصل المؤلف إلى أن المصنفات التي اهتمت بتفسير القرآن بالقرآن هي كثيرة ومتنوعة، يتكوّن منها تراث عظيم يحتاج إلى جهود أخرى متضافرة، يختصّ كلّ منها بجانب من جوانبه حتى يُنتفع به؛ فكانت الكتب التي أخضعها للدراسة تشمل كتب الوجوه والنظائر، وكتب المبهم، وكتب المتشابه، وكتب تأويل المشكل، وكتب المناسبة، وكتب الآيات المتشابهة، وكتب توجيه القراءات، وكتب الناسخ والمنسوخ، وكتب التفاسير الموضوعية، وفي التفاسير المصنفة حسب ترتيب المصحف. وتناول كلّ نوع من هذه المصنفات على حِدَة، معرِّفًا بموضوعها، وذاكرًا نماذج منها، كما ذكر الجوانب التي طرقتها هذه المصنفات من هذا الفنّ، وقد يختم بعض هذه الأنواع بذكرِ تعليقٍ عليها بكلمة توجيهية.
ثانيًا: الجانب النظري لتفسير القرآن بالقرآن:
ويعني به الدراسة النظرية التي تصنّف مباحث هذا الفنّ، وبيان ما فيها من وجوه تفسير القرآن بالقرآن، مع بيان منزلة هذه الوجوه وقيمتها في التفسير. وقد صدَّر هذا الباب بتمهيد وثلاثة فصول تناولَت على التوالي: بيان معاني المفردات، وبيان معاني التراكيب، وبيان موضوعات القرآن.
أثار المؤلف في التمهيد جملة من المسائل المهمّة المتعلّقة بتفسير القرآن بالقرآن التي تتلخص في:
1- أهمية هذا اللون من التفسير وسعة أطرافه: وهو ما نجده في بداية الأمر عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين حين يفسّرون القرآن بالقرآن، فيشمل المفردات والتركيب والموضوع وتوجيه المتعارض والمتشابه ونحو ذلك. وكانوا لا يميزون بين مباحث لغوية ومباحث أصولية وغيرها. حتى إذا تطوّرت العلوم الإسلامية وتشعّبت واشتغل العلماء بالتخصّص، تأثر كلٌّ بصناعته، وتعدّدت المباحث بين كتب اللغة والفقه والتفسير، وفي كلّ منها يوجد الاستدلال بالقرآن أو تفسير القرآن بالقرآن.
2- أخطاء مفسرين بسبب غفلتهم عن المفسّر من القرآن: حيث توجد تفسيرات كثيرة جانَبَ أصحابها الصواب لغفلتهم عن هذه المسألة، وقد ساق المؤلف أمثلة تطبيقية؛ منها تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...}[يوسف: 24]، حيث فُسِّرتْ على أن يوسف -عليه السلام- هَمَّ بها همًّا فعليًّا، وأوردوا في ذلك روايات مما ينافي عصمة الأنبياء. وقد ردّ المفسرون هذا التفسير الباطل معتمدين على شواهد قرآنية، التي تشهد ببراءة يوسف -عليه السلام- مما نُسِب إليه.
3- مسألة الفروق وصحة تفسير القرآن بالقرآن: ففي القرآن الكريم لا يوجد الترادف، ونفي الترادف في الكلمة لا يعني نفي اشتراكها في نفس المعنى، وخاصّة إذا كان القرآن الكريم هو الذي اعتمد المفردتين في التعبير عن القضية الواحدة، فيبقى بعد ذلك الانتباه إلى السياقين أو القراءتين لاستدراك تلك الجزئيات؛ وقد ساق المؤلف أمثلة نقف عند واحد منها، في قوله تعالى: {...فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا...}[البقرة: 60]، وفي الأعراف: {فَانْبَجَسَتْ}[الأعراف: 160]؛ فالمفردتان معًا وردتَا في سياق الإخبار عن حدث واحد، مما جعل أغلب المفسّرين يكتفي ببيان إحداهما بالأخرى، والصحيح أن هذا الإخبار يكتمل بالجمع بين المفردتين؛ فنعلم أن موسى -عليه السلام- عندما ضرب الحجر بعصاه انشقّ فانبجس منه الماء، وخرج قليلًا، وبعد ذلك تدفّق بشدة.
4- مسألة الوضوح والخفاء في تفسير القرآن بالقرآن: فقد نحتاج إلى بيان القرآن من القرآن، وهذا البيان نفسه منه ما هو بيِّن، ومنه ما هو خفيّ يحتاج إلى جهد وتأمُّل وتفكير؛ فمثال الأول ما أورده أبو حيان في تفسيره عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}[الأعراف: 81]: «هذا بيان لقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}[الأعراف: 80]».
وأمّا ما خفي لتعدّد الاحتمالات أو لتشابه الآيات أو لدقته فلم تهتدِ العقول إليه، أو لغير ذلك، فيحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لاكتشافه؛ ونكتفي بمثال واحد في تفسير القرطبي لقوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]، نوجز منه ما أورده في الاختلاف حول تفسير (العالمين)؛ فقال قتادة: جمعُ عالَم، وهو كلّ موجود سوى الله. وقيل: أهلُ كلِّ زمان عالَـمٌ. وقال ابن عباس: العالَمون: الجنّ والإنس. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالَم عبارة عمّن يعقل، وهم أربعة أُمَم: الإنس، والجن، والملائكة، والشياطين. ورجّح القرطبي القول الأول؛ لأنه شامل لكلّ مخلوق، دليله قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُوقِنِينَ}[الشعراء: 23-24].
5- الاختلاف في تفسير القرآن بالقرآن، وأحسنيّة هذا النوع من التفسير: وهذه مسألة أخرى حيث إن تفسير القرآن بالقرآن لم يسْلَم من الاختلاف في طريق ترجيح هذا النوع من التفسير، وهذا الاختلاف ليس له صورة واحدة، بل لكلّ صورة حكم يناسبها:
- فمنها ما يكون بسبب احتمال الآية لمعانٍ متعدّدة يشهد لها جميعًا شاهدٌ من القرآن أو أكثر.
- ومنها ما يكون بسبب احتمال الآية لمعانٍ متعدّدة يشهد لها جميعًا شاهدٌ من القرآن أو أكثر، إلا أن بعضها يمتاز بدليل آخر يرجّحه على بقية الاحتمالات الأخرى.
- ومنها ما يكون بسبب تعدّد القراءات، وكلّ معنى تشهد له قراءة متواترة.
- ومنها ما يكون بسبب الخطأ في التماس الدليل من القرآن.
وقد أورد المؤلف لكلّ حالة من هذه الحالات أمثلة تطبيقية توضّحها؛ وبعد هذا التمهيد أفرد ثلاثة فصول على التوالي لكلّ من: بيان معاني المفردات، بيان معاني التراكيب، بيان موضوعات القرآن. وأعطى لكلّ فصل حقّه من الأمثلة التطبيقية التي لا غنى للقارئ عنها إلّا بقراءة الكتاب واستيعاب ما جاء فيه من الدّقة والتوضيح.