دلالات الألفاظ القرآنية
أنواعها، وقيمتها، وكيفية الوقوف عليها (2-3)
ثانيًا: الدلالة النحوية
بينَّا في مقال سابق[1] أنّ ثمّة دلالات كثيرة للألفاظ صار لها أثرٌ كبيرٌ في تصوّر المعاني الكلية للألفاظ والتراكيب لا سيَّما مع بروز منهج الأسلوبية وبدء تطبيقه من قِبل بعض الدارسين، وأننا سنبيّن في هذه السلسلة -بمشيئة الله- هذه الدلالات ونتوسّع في إبرازها؛ بغية بيان أهميتها في ذاتها وفَتْح الباب لتأمّلها في الواقع التفسيري، وبيان تطبيقاتها لدى المفسرين وبيان مقدار اعتنائهم بها، وكذلك أثرها في إثراء المعنى التفسيري.
فالمتأمل لباب دلالات الألفاظ يجد أن من الدلالة ما يرجع إلى الصّرف، وهو الدلالة الصّرفية للصِّيَغ والأبنية الصرفية؛ حيث تدلّ على معانٍ متعددة كالفاعلية والمفعولية والمرّة والهيئة والمبالغة والطلب والمطاوعة، وهذا النوع من الدلالة هو ما بينّا أمثلته وقيمته في المقال السابق.
ومن الدلالة ما يرجع إلى الأصوات مما يوحي به الصوت من معنى يشارك به دلالته المعجمية، ومنها الدلالة النحوية، وهي دلالة الموقع النحوي، وهو ما يفيده الإعراب.
ومن ثم يهدف هذا المقال إلى الكشف عن هذه الدلالة النحوية، وبيان قيمتها في إثراء المعاني التفسيرية، وكيفية الوقوف عليها، وبيان مظانّها ومصادرها التفسيرية؛ وتفاوت معالجتها بين الدراسات القديمة والدراسات الحديثة.
قيمة الدلالة النحوية:
الدلالة النحوية من الدلالات اللغوية التي لا يستهان بها في بيان المعاني التفسيرية، وقد تنبّه لها المبرزون من المفسرين ببيان قيمتها وأثرها في إثراء المعنى التفسيري.
ولبيان قيمة هذه الدلالة؛ أقول لك: كيف تفهم قول الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28]، أو قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}[البقرة: 124].
وما العلم الذي يُفْهِمك أن المعنى: أن العلماء -على وجه الخصوص- هم الذين يخشون اللهَ من بين العباد، وأنّ إبراهيم قد ابتلاه ربُّه بكلمات، وليس كما يظنّ بعض الجهّال أن اللهَ يخشى من العلماء، أو أن إبراهيم قد ابتلى ربَّه -حاشاه سبحانه-؟ أليس هو علم النحو وإعراب القرآن؟!
ولما كان الأمر كذلك كان مقصود طالب العلم أن يقف على تلك الدلالة النحوية لكلم القرآن؛ بأن يعرف أن هذه الكلمة فاعل، وتلك مفعول، وهذه مبتدأ مؤخر، وهكذا، ولا يعنيه كثيرًا أن تبيّن له أن الفاعل هنا مرفوع بضمة ظاهرة أو مقدرة، أو مرفوع بالألِف لأنه مثنى، أو بالواو لأنه جمع مذكر سالم أو اسم من الأسماء الستة؛ فكلّ ذلك محفوظ مقرَّر؛ إنما الذي يحتاج إليه هو معرفة موقع تلك الكلمة حتى يعرف دلالتها: هل تدل على الفاعلية أو المفعولية، أو الظرفية أو الحالية، أو التمييز...إلخ؛ لأنّه يترتّب على ذلك دلالة، ويختلف لذلك تفسير القرآن، بل تختلف الأحكام والآداب المستنبطة منه، بل يدلّ على عقيدة صحيحة إنْ أصبتَ الإعراب أو على عقيدة فاسدة إنْ أخطأتَهُ؛ كما لو أعربتَ اسم الجلالة فاعلًا في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28].
وانظر: كيف يكون الحكم الفقهي لو قرأتَ بقراءة الجرّ لـ(أرجلكم) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة: 6]؟
وذلك أن الأرجُل في قراءة حفص هذه منصوبة؛ ومن ثم فهي معطوفة على المغسول وهو الوجوه والأيدي، فهي إذن مغسولة. أمّا في قراءة الجر، فهي معطوفة على المجرور، وهو الرؤوس؛ ومن ثم فهي مجرورة، فهي إذن ممسوحة.
وهذا مثال واحد، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
وغير ذلك أمثلة كثيرة أشار إليها أسلافنا القُدَامَى، وفطن إليها الدارسون المحدَثون خاصّة ممن استخدموا المناهج الألسنية الحديثة، وخاصّة المنهج الأسلوبي في تحليل النصّ القرآني.
فالدلالة النحوية للكلمة هي دلالة موقعها الإعرابي التي تتراكب مع الدلالة المعجمية والصرفية؛ لإثراء الدلالة اللغوية الكاملة التي هي أساس الدلالة التفسيرية التي ترتبط بالسياق والمقام وأسباب النزول وغير ذلك من القواعد التفسيرية التي بينها المصنِّفون في علوم القرآن.
فمثلًا في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}[الضحى: 9]. فلو نظرنا مثلًا إلى دلالات كلمة: (الْيَتِيمَ) نجد أن لها دلالة معجمية من مادة (يتم) تستخرج من المعجم، ولها دلالة صرفية باعتبارها (صفة مشبهة) تدلّ على ثبوت معنى اليُتْم ولزومه له، وله دلالة نحوية باعتبار كونها (مفعولًا به) مقدَّمًا؛ أي: وقع عليه فعل القهر، مع اعتبار دلالة التقديم وما تفيده من العناية والاختصاص، وكذلك في كلّ كلمة من كلمات القرآن.
التفات عبد القاهر الجرجاني للدلالة النحويّة السياقية في العديد من الأمثلة:
لقد وقف المفسرون البلاغيون وطائفة من النحاة واللغويين على تلك الدلالة النحوية على تفاوت منهم في الالتفات إلى قيمتها وأثرها في إثراء الدلالة؛ وذلك أن غاية المشتغل بالبيان أن يكشف عن دقيق المعنى بدقيق اللفظ المستعمل له في كلام البلغاء، فقد اهتم عبد القاهر الجرجاني ببيان تلك الدلالة، وبيان أثرها في إثراء المعنى وتشكيل صورته، فيقول على سبيل المثال: «فصل: القول في آية: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}[الأَنعام: 100]. واعلَمْ أنه إِذا كان بيِّنًا في الشيء أنه لا يَحتمِلُ إِلّا الوجْهَ الذي هو عليه حتى لا يُشْكِلَ، وحتى لا يُحْتاج في العلم بأنَّ ذلك حقُّه وأنه الصوابُ إلى فِكْرٍ ورويّةٍ فلا مَزِيَّةَ، وإِنما تكون المزيةُ ويجِبُ الفضلُ إذا احتمَلَ في ظاهِر الحالِ غيرَ الوجه الذي جاءَ عليه وجهًا آخرَ، ثمَّ رأيتَ النفسَ تَنْبو عن ذلك الوجهِ الآخر، ورأيتَ للذي جاء عليه حُسْنًا وقبولًا تعدمهما إذا أنت تركْتَه إلى الثاني.
ومثالُ ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}[الأَنعام: 100]، ليس بخافٍ أنّ لتقديمِ (الشركاء) حُسْنًا وروعةً ومأخذًا من القلوب، أنت لا تجدُ شيئًا منه إِنْ أنت أخَّرْتَ فقلتَ: (وجعَلوا الجنَّ شركاءَ لله)، وأنك ترى حالَك حالَ مَنْ نُقِلَ عن الصورةِ المُبْهجة والمَنْظر الرائقِ والحُسْنِ الباهرِ، إلى الشيءِ الغُفْل الذي لا تَحْلَى منهُ بكثيرِ طائلٍ، ولا تصيرُ النفسُ به إلى حاصلٍ. والسببُ في أَنْ كان ذلك كذلك، هو أن للتقديم فائدةً شريفةً ومعنًى جليلًا لا سبيلَ إليه مع التأخير.
بيانه، أنَّا وإنْ كنَّا نرى جملةَ المعنى ومحصولَه أنَّهم جعلوا الجنَّ شركاءَ وعبدوهُم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يَحْصُل مع التأخير حصولَه مع التقديم، فإِنَّ تقديمَ (الشركاء) يفيدُ هذا المعنى، ويفيدُ معه معنًى آخر، وهو أنه ما كان يَنبغي أن يكونَ لله شريكٌ، لا من الجنِّ ولا غيرِ الجنِّ.
وإذا أخَّر فقيل: (جعلوا الجنّ شركاء لله)، لم يُفِد ذلك، ولم يكن فيه شيءٌ أكثر من الإِخبار عنهم بأنهم عبَدوا الجنَّ مع الله تعالى، فأمّا إنكارُ أنْ يُعْبَد مع الله غيرُه، وأنْ يكونَ له شريكٌ مِن الجنِّ وغيرِ الجنِّ، فلا يكونُ في اللفظ مع تأخير (الشركاء) دليلٌ عليه»[2].
فانظر إلى الفارق في الدلالة بين اعتبار الدلالة النحوية لتقديم الشركاء وتأخير الجنّ وبين إهمال تلك الدلالة؛ حيث إنّ أكثر الناس يذهب وَهلُهُ إلى أنّ جملةَ المعنى ومحصولَه أنَّهم جعلوا الجنَّ شركاءَ وعبدوهُم مع الله تعالى، ولكن إن كان المعنى المراد كذلك فما قيمة التقديم والتأخير، ولو أراد الله المعنى على تقديم الجنِّ لقدَّمه، وإنما المعنى على إنكار الشرك واتخاذ الشركاء سواء كانوا من الجنّ أو من غيرهم.
فانظر: كيف اختلف المعنى بناء على اعتبار الدلالة النحوية أو إهمالها؟!
فلو أن الله تعالى لم ينزل آية في ذمّ الشرك والشركاء غيرها لما كان في الآية دلالة على إنكار اتخاذ الشريك من غير الجن؛ (هذا لمن لم يعتبر الدلالة النحوية، وهي دلالة التقديم والتأخير).
أما والدلالة النحوية معتبَرة فالآية حجة على إنكار الشرك على مَن عبدوا الجن أو عبدوا غيرهم من الشركاء؛ حتى لو لم ينزل الله في إنكار الشرك آية غيرها.
والدليل على أن هذا المعنى هو ناتج الدلالة النحوية أن عبد القاهر يقول بعده: «وذلك أنَّ التقديرَ يكونُ مع التقديم: أنَّ {شُرَكَاءَ} مفعول أول لجعل، و{للهِ} في موضعِ المفعولِ الثاني، ويكونُ {الجِنَّ} على كلامٍ ثانٍ. وعلى تقديرِ أنه كأنه قيل: (فَمَن جَعلوا شركاءَ لله تعالى؟)، فقيل: {الجِنَّ}. وإِذا كان التقديرُ في {شركَاءَ} أنه مفعولٌ أوّل، و{لله} في موضعِ المفعولِ الثاني، وقَعَ الإنكارُ على كونِ شركاء لله تعالى على الإطلاق، من غيرِ اختصاصِ شيءٍ دون شيءٍ. وحصَلَ من ذلك أنَّ اتخاذَ الشريك من غير الجنِّ قد دخَلَ في الإنكار دخولَ اتِّخاذِه من الجنِّ؛ لأَنَّ الصفةَ إذا ذُكرت مُجَرَّدة غيرَ مُجْراة على شيءٍ، كان الذي تعلَّق بها من النَّفْي عامًّا في كلِّ ما يجوزُ أن تكونَ له تلك الصفةُ»[3].
فيلاحظ أنه ما توصَّل إلى ذلك المعنى الدقيق إلّا بتلك الدلالة النحوية.
مظانّ الدلالة النحوية في كتب التفسير عند نابهي اللغويين والبيانيِّين:
ظهر استثمار دلالة الموقع النحوي في إثراء المعنى التفسيري لدى عدد من المفسرين البيانيين أمثال الزمخشري والآلوسي والطاهر بن عاشور على اختلاف عصورهم؛ مع استثمار تلك الدلالة على حياءٍ لدى كلّ من ابن عطية والسمين الحلبي، وإن كان الاهتمام ببيان تلك الدلالة النحوية قد ظهر مبكرًا عند الطبري شيخ المفسرين في كتابه (جامع البيان)؛ وذلك حيث تمسّ الحاجة إلى بيانه، ولعلّ ما أشرنا إليه من تفاوت هؤلاء المفسرين في التفاتهم إلى الدلالة النحوية يتضح من الأمثلة التحليلية التي سوف نوردها في هذا المقال، ويمكننا أن نرتّب أهم هذه الكتب التفسيرية التي عنيت بالدلالة النحوية حسب تواريخ وفيات أصحابها، كالآتي:
1. جامع البيان في تأويل القرآن، المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ).
2. الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ).
3. المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، المؤلف: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542هـ).
4. البحر المحيط في التفسير، المؤلف: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745هـ).
5. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، المؤلف: أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم، المعروف بالسمين الحلبي (المتوفى: 756هـ).
6. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي (المتوفى: 1270هـ).
7. التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ).
أمثلة تحليلية لبيان أثر الدلالة النحوية في اتساع المعاني التفسيرية:
تتعدّد الدلالات النحوية للكلمة بتعدّد التوجيه الإعرابي لموقعها النحوي، وقد يحتمل السياق تلك الدلالات جميعها، أو يرجح واحدة منها على باقيها، وسوف أتناول هنا بشيء من التفصيل بعض الظواهر النحوية التي تؤدي إلى اتساع المعنى أو تعدُّده، مع دراسة أثر السياق في تحديد أحد هذه المعاني، أو اتساعه لها جميعًا، فمن هذه الظواهر:
1. اتساع الدلالة من خلال التضمين النحوي.
2. اتساع الدلالة من خلال تعدُّد التوجيه الإعرابي للكلمة.
3. تعدُّد المعنى بسبب الاحتمال في الإحالة النحوية.
وسوف نلقي الضوء على بيان أثر كلٍّ في اتساع المعنى التفسيري بضرب أمثلة له.
أولًا: اتساع الدلالة من خلال التضمين النحوي:
وصف ابن جِنّي ظاهرة التضمين بقوله: «باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف، وهو اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدى به؛ لأنه في معنى فعل يتعدى به. من ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}[سورة البقرة: 187]؛ لمّا كان في معنى الإفضاء عدَّاه بإلى»[4].
ويبينه ابن هشام بقوله: «قد يُشرِبون لفظًا معنى لفظٍ، فيعطونه حكمه، ويسمَّى ذلك تضمينًا»[5].
ونرى أن تعريف ابن هشام أوسع من تعريف ابن جنّي؛ حيث إنه لا يقتصر على الأفعال وحدها بل يتسع لغيرها كذلك من أنواع الكلم.
وقد تعدّدت الدراسات لهذه الظاهرة في القديم والحديث، وإن كانت قد انحصرت في معظمها في دائرة الدراسة النحوية، حيث اقتصرت معظم هذه البحوث على محاولة تحديد موقع التضمين، وهل هو الفعل أو الحرف؟
ففي مثل قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}[سورة الأنبياء: 77]، يذهب بعضهم إلى وقوع التضمين في الفعل، فيرى أنه قد ضُمِّن معنى التنجية، بينما يرى فريق آخر أن التضمين إنما وقع في الحرف لا الفعل، فيرى أن الحرف (مِن) قد ضُمِّن معنى (على)[6].
لكننا نرى أن فائدة التضمين هنا أن يعطي الفعل معنى الفعلين معًا (نصَر) و(نجَّى)، فيكون المعنى: (نجيناه من القوم، وكانت هذه النجاة نصرًا له)؛ وذلك لأن النصر هنا لم يكن غلبة له على القوم، ولكنه كان تخليصًا وتنجية، ولكن هذه التنجية هي في حد ذاتها نصر من الله له.
ويجري على التضمين بهذه الدلالة كثير من أفعال القرآن الكريم. ومن ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}[سورة البقرة: 187]، يقول الدكتور: محمد نديم فاضل: «فتضمين الرفث وهو مقدمات المباشرة أو المباشرة ذاتها معنى الإفضاء، والتعدِّي بـ(إلى) يمنح العلاقة بين الزوجين لمسة إنسانية تترفع بها عن عالم الحيوان، لمسة حانية، فيها من الرفق والنداوة والشفافية مثلما فيها من سُمُوِّ المشاعر، وتحسر (إلى) هذه عن مسافر وجهها الجميل لتحكي ما اشتملت عليه المشاعر حين جمعت الرفث إلى الإفضاء فيما أحل الله للزوجين في شهر الصيام لتنأى بهما عن عُرام الجسد،والحبس في الرغبات المكبوتة في اللحم والدم بعد أن تستتبع خلفها معنى الستر؛ يتدثر به كلّ من الزوجين، وتتّصل بأفق أرفع من الأرض وبغاية أسمى من اللذة، ترقّ وتَرْقى إلى معارج عُليا... وحَسبُ التضمين أنه جعل في لفظ الرفث نداوة يخضرّ بها ويرمي ظلاله، ولمسة رفافة تنأى عن عُرام الجسد تبتغي الإعفاف والإنجاب، وتوقظ معنى الستر في هذا الحرف (إلى)، فجمع من صنوف البيان ما ذاع صيته على كلّ لسان»[7].
فمقتضى التضمين هنا أن الآية ضمَّت إلى معنى الرفث معنى الإفضاء ولم تُلْغِ دلالة الرفث، وإلّا فلماذا ذكر لفظ الرفث أصلًا إن كانت دلالته هدرًا؟!ولماذا لم يُستبدل بالإفضاء إن كان هو المقصود وحده؟!
ولكن الحقّ أن المزية التي يرجع إليها التضمين هي كما قال الزمخشري وورد نحوه عن ابن هشام وأبي البقاء الكفوي آنفًا: «فإن قلت: أيّ غرض في هذا التضمين؟... قلتُ: الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنًى فذٍّ»[8].
ثانيًا: اتساع الدلالة من خلال تعدُّد التوجيه الإعرابي للكلمة:
وذلك يكون لأسباب، منها:غياب الحركة الإعرابية: فقد يحتمل الموقع النحوي أكثر من وجه، وتكون العلامة الإعرابية هي الحاسمة في تحديد الوجه المراد، وعندما تكون العلامة مقدرة -غير ظاهرة لأسباب تقتضيها طبيعة اللغة- تتعدّد الأوجه. ومثال ذلك قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ اْلأَعْلَى}[سورة الأعلى: 1]، يحتمل الموقع الذي يشغله (الأَعْلَى) وجهين؛ لتعذر ظهور الحركة على الاسم، فيجوز فيه أن يكون في موضع نصبٍ، صفة لـ(اسمَ) الذي عُرِّف بالإضافة، ويجوز فيه أيضًا أن يكون في موضع جر صفة لـ(رَبِّ) الذي عرِّف بالإضافة[9]. وقوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنـزلْنَاهُ}[سورة الأنبياء: 50]، يحتمل موقع (أَنـزَلنَاهُ) وجهين؛ لعدم ظهور الحركة على الجملة، فيجوز أن تكون الجملة في موضع رفع، صفة ثانية لـ(ذِكْرٌ)، ويجوز أن تكون في موضع نصب، حالًا من (ذِكْرٌ)، لأنه خُصّص بالوصف[10].
وكما في احتمال (مَن) معنى الفاعلية أو المفعولية في قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[سورة الملك: 14]، والسياق يحتمل المعنيين. وكما في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[سورة النجم: 18]، فإن الكبرى تحتمل النصب على المفعولية، أي: رأى الآية الكبرى، أو الجر على النعت للآيات.
ولا مانع من الجمع بينهما فلقد رأى العديد من الآيات العظيمة في معراجه، كما رأى الآية الأعظم في لقائه لربه ورؤيته إياه أو رؤية نور جلاله على الاختلاف الوارد في ذلك.
«قال جماعة من أهل التأويل، معناه: رأى الكبرى من آيات ربه، والمعنى: {مِن آياتِ ربه} التي يمكن أن يراها البشر، فـ{الكبرى} على هذا مفعول بـ{رأَى}. وقال آخرون المعنى: {لقد رأى} بعضًا {من آياتِ ربه الكبرى}، فـ{الكبرى} على هذا وصفٌ للآيات»[11].
وهكذا تتعدد وجوه المعنى وتتسع بتعدد وجوه الإعراب.
ثالثًا: تعدد المعنى بسبب الاحتمال في الإحالة:
نستطيع أن نتأمل ذلك في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق: 2، 3].
عجبُهم إنما كان من كون الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشرًا مثلهم {مُنذِرٌ منهُم}، ومن كونه ينذرهم بالبعث والنشور[12].
ويظهر جمال القرآن وإعجازه هنا في توسط هذه الجملة: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} في موضع تصلح أن تكون إحالة الإشارة (هذا) إلى ما قبلها أو إلى ما بعدها، أي: تكون الإشارة إلى ما قبلها وهو قوله: (منذِرٌ منهُم) فيكون التعجب من بشَرِيَّة المنذِر، أو من مجيء منذِر، ومن كونه بشرًا، فيمكن أن تعود الإحالة الأولى إلى أمرين تعجَّب منهما الكفار.
ويمكن أن تكون الإحالة في (هذا) إلى ما بعدها وهو قوله: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}، وهو البعث.
ويمكن الجمع بين هذه المعاني كلّها؛ فيقال إنهم تعجبوا من مجيء منذِر، ومن كون هذا المنذِر بشرًا منهم، ومن كونه ينذرهم بالبعث والحساب والعذاب بعد الموت.
وفي هذا جمع بين المعاني الممكنة مما لا يأباه السياق بل يقتضيه أشدَّ الاقتضاء.
- ومن صور تعدد المعنى واتساعه للاحتمال في الإحالة كذلك: ما في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[سورة الرعد: 27].
حيث يحتمل الضمير المستتر في (يشاء) الإحالة إلى لفظ الجلالة أو إلى (مَن)؛ والجمع بين الإحالتين يفيد أن الله تعالى يضل مَن أراد الضلالة واختارها على الهدى، وأن ذلك يكون بمشيئة الله تعالى وقدره في الوقت نفسه؛ إذ لا يكون في الكون إلّا ما شاء الله وقدَّره وقضاه.
الخاتمة:
حاول هذا المقال الإشارة إلى تعدّد دلالات الألفاظ القرآنية وتنوعها بتعدّد مستويات اللغة بين الأصوات والمعجم والصرف والنحو والبيان، وبيان قيمتها التفسيرية مع التركيز على قيمة الدلالة النحوية خاصّة وأثرها في إثراء المعنى.
كما اهتم المقال ببيان مظانِّ الدلالة النحوية في كتب التفسير عند نابهي اللغويين والبيانيين والمفسرين، مع عرض أمثلة تحليلية لبيان أثر الدلالة النحوية في بناء وإثراء المعاني التفسيرية.
[1] منشور على هذا الرابط: tafsir.net/article/5251.
[2] دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني (ت: 471هـ)، تحقيق: محمود محمد شاكر أبو فهر، الناشر: مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة، الطبعة الثالثة: 1413هـ-1992م، (1/ 286).
[3] دلائل الإعجاز، (1/ 286).
[4] وهو من شواهد ظاهرة التضمين، وإن لم يسمها ابن جني بذلك. الخصائص، تحقيق: د. محمد على النجار، ط. دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، س1958م، (1/ 226).
[5] ابن هشام، مغني اللبيب، المحقق: د. مازن المبارك/ محمد علي حمد الله، الناشر: دار الفكر، دمشق، الطبعة السادسة: 1985م، (897).
[6] ومن ثم ذهب جماعة من المصنفين في حروف العربية ومعهم علماء الكوفة وآخرون [ممّن سمّاهم ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد، ط. دار الفكر، بيروت، (920): بظاهرية النحاة] إلى حَلّ هذه الإشكالية بالقول بنيابة الحروف أو بوقوع التضمين فيها، وهذا ما نجده في العديد من كتب هذا الفنّ مثل: (رصف المباني) للمالقي، و(الجَنَى الداني) للمرادي، و(مغني اللبيب) لابن هشام، و(مصابيح المغاني) للموزعي. فالفعل إذًا باقٍ على معناه المعهود، ولم تنتقل دلالته المعنوية إلى معنى فعلٍ آخر، واختلاف المعنى محصور في الحرف؛ إذ اكتسب معنىحرفٍ آخر يستحق هذه التعدية. وممّن ينحو هذا المنحى في التفسير الإمام ابنقتيبة في كتابه: (تأويل مشكل القرآن)، ابن قتيبة -أبو محمد عبد الله بن مسلم- شرح ونشر: السيد أحمد صقر، دار التراث، القاهرة، ط2، 1393هـ-1973م، (ص567). وقد عقد بابًا بعنوان: «دخول بعض حروفالصفات مكان بعض»، ويستشهد على ذلك بقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه: 71]، فيرى أن حرف الجر (في) بمعنى (على)، والمعنى: على جذوع النخل. وبقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان: 59]، أي: عنه. وبقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم: 3]، أي: بالهوى، فحرف الجر (عن) بمعنى الباء.
أمّا ابن هشام في (مغني اللبيب) فقد عبّر عن هذا الباب بـ(المرادفة). مغني اللبيب: (1/ 148). وأورد طائفةً من الآيات على هذا المصطلح؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}[الشورى: 25]، فيرى أن الحرف (عن) مرادف للحرف (مِن) فيكون المعنى: (وهو الذي يقبل التوبة من عباده).
[7] د/ محمد نديم فاضل (التضمين النحوي في القرآن الكريم)، طبع ونشر مكتبة دار الزمان، بالمدينة المنورة، (1/ 367).
[8] الكشاف، للزمخشري. دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الثالثة: 1407هـ، (257).
[9] مغني اللبيب، (ص722).
[10] مغني اللبيب، (ص561).
[11] المحرر الوجيز، تحقيق: على عوض وزميله، دار الكتب العلمية، (6/ 226).
[12] انظر: أبو حيان الأندلسي، تفسير البحر المحيط، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود- وعليّ محمد معوض، ط. دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1413هـ-1993م، (8/ 120).