من أسباب الغلط في فهم معاني القرآن

يقع الخطأ أحيانًا في فهم المراد من الآيات -خاصة من عامة الناس- فيما قد يُظن أنه جليُّ المعنى، بينما المراد منه على غير ما يبدو لأول النظر، وهذه المقالة تستعرض بعض أسباب هذا الخطأ، مع التمثيل لكلٍّ منها بما يبينه ويزيده جلاءً.

تمهيد:

الناس في فهم كلام الله تعالى أصناف مختلفة: فصِنْف رزقه الله الفهم في كلامه، وحُسن الإدراك لمعاني آياته؛ فهذا على خير عظيم، فإنْ أضاف إلى ذلك أن يُعلِّمه مَن لا يَعلَمه؛ فهذا بأسنى المنازل وأرفعها؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ أفضلكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه»[1].

وصِنف لا علم له بمعاني كلام الله؛ وهذا أحد ثلاثة رجال: رجل يطلب العلم من مظانّه، ويجالس أهله، ويقتبس من نورهم، فذلك متعلِّمٌ على سبيل النجاة، لاحقٌ -إن شاء الله- بأهل الخير ما لزم طريقهم، واتّبع سبيلهم.

ورجل لا شغل له بمعاني القرآن، ولا همّة له في طلبها، قد رضي من الغنيمة بأجر التلاوة وتحصيل الثواب؛ فذلك حظُّه من كتاب الله.

وشرُّ الثلاثة رجل يخبط في معاني القرآن على غير هدى، ويتكلم في كتاب الله بغير بيِّنة؛ فذلك الكذب على الله، وليس لمقترفه من عاقبة إلّا الضلال في نفسه، والإضلال لعباد الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: 18].

وليس يَسلَم من هذه الأصناف كلِّها إلّا رجلٌ تكلم بعلمٍ أو سكت بورعٍ وحلم، وهذا واضح لا إشكال فيه.

ولكن معاني كلام الله تعالى ليست على درجة واحدة من الوضوح والخفاء؛ بل الأمر كما قال ابن عباس -رضي الله عنه- على أربعة أوجه: «وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله تعالى»[2].

والإشكال هنا في أن الحدود بين هذه الأنواع ليست واضحة جليّة لكل أحد، وأكثر الناس إنما يطلب العلم فيما خفي عليه وأشكل، دون ما ظهر له واتضح، وههنا يكمن الخطر، خاصة بالنسبة لعامة الناس في سعيهم إلى تدبر القرآن الكريم؛ فإن كثيرًا ممَّا تراه العامَّة ظاهرَ المراد واضحَ المعنى ليس كذلك؛ بل قد يكون المراد منه غير ما يبدو لأول النظر، وغير ما يظهر لبادئ الرأي؛ وبهذا تكون المعاني المتصورة في الأذهان مجرد أوهام لا حقيقة لها.

والوهم دائمًا شرٌّ من الجهل، فإن الجاهل قد يطلب العلم ليُزيلَ عن نفسه معرَّة الجهل، والواهم لا يرى بنفسه حاجة إلى التعلُّم؛ فهو راضٍ بما عنده من العلم، لا يبغي عنه حِوَلًا، ولا يطلب به بَدَلًا.

ومنشأ هذا الوهم إجمالًا: اعتقادُ الناظر في القرآن وضوحَ المعنى وعدمَ حاجته إلى التفسير والبيان، ولذلك أسباب تفصيلية كثيرة تفوت العدّ والحصر، ذلك أنها أمور راجعة إلى الناظر في معاني القرآن، وأخطاء الناظرين غير محصورة، وقد ترى في كل غلط سببًا أو أسبابًا، ولو ذهبنا نستقصي كلَّ سبب يؤدي إلى الغلط لطال الأمر وعظم الخطب، ولكنَّا نُشير إلى أهمِّها وأشهرها؛ تذكِرةً للسامع والمتكلم، وتحذيرًا للخائض والمتكلِّف، مع التمثيل على كل منها بما يبينه ويزيده جلاءً.

من أسباب الغلط في فهم معاني القرآن:

1. الغفلة عن أصول الدين والاعتقاد:

مِن أسباب الغلط في فهم كلام الله -تعالى- غفلةُ المرء عن أصول الإسلام الثابتة، وهو ما قد يوقعه في تفسير يخالف تلك الأصول المستقرة من حيث لا يشعر.

ومن ذلك مثلًا: قوله تعالى مخاطبًا الملائكة: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 33]، فقد يظن ظانٌّ أن الملائكة قد تكتم عن الله تعالى شيئًا أمَرهم ببيانه أو سألهم عنه، وهو غلطٌ شديدٌ مخالفٌ لأصل واضح من أصول الاعتقاد، وهو عصمة الملائكة الثابتة بنحو قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: 6]، وقوله: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 27، 28]، وغير ذلك من الأدلة؛ ولأن الملائكة -وهم بمنزلة القرب من الله والمعرفة به- ليس يخفَى عليهم أن الله تعالى مطّلع على خفايا الصدور وخلجات النفوس، بحيث لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ فكيف يحاولون الكتمان وهم يعلمون ذلك حقَّ العلم؟!

قال أبو حيان في تفسير الآية: «ليس المعنى أنهم كتموا عن الله؛ لأن الملائكة أعرف بالله وأعلم؛ فلا يكتمون الله شيئًا، وإنما المعنى أنه هجس في أنفسهم شيءٌ لم يُظهره بعضهم لبعض، ولا أطلعه عليه. وقيل: الكاتم إبليس، كتَم عداوته لآدم منذ رآه مخلوقًا، فيكون من خطاب الجمع، ويراد به الواحد نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ...}[الحجرات: 4]»[3].

ومن ذلك: قوله تعالى في قصة ولَدَيْ آدم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[المائدة: 29]، فقد يُفهم منه خطأً أن القاتل يحمل إثم قاتله مع إثم نفسه، وهو معنى فاسد مخالف لما هو ثابت في الدين من أنّ أحدًا لا يحمل وِزر أحد، كما دلّ عليه صريح قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام: 164]؛ ولذا قال أبو جعفر الطبري -رحمه الله-: «غير جائز أن يكون آثامُ المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرَّم وسائر آثامِ معاصِيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه»[4]. وقال الزجاج: «معنى: (بِإِثْمِي) بإثم قتلي، (وَإِثْمِكَ) الذي من أجله لم يُتقبَّل قربانُك»[5].

2. ضعف المعرفة بلُغة العرب وأساليبها في التعبير:

مِن أهم أسباب الغلط في فهم كتاب الله تعالى الجهل بلُغة القرآن الكريم أو القصور في معرفتها؛ فإن القرآن كتاب العربية الأكبر، وليس يفهمه حقَّ الفهم إلّا رجلٌ تمرّس بأساليب العرب وطرائقهم في التعبير، وأتقن لغتهم في مفرداتها وتراكيبها إتقانًا. فأمّا رجل قليل البضاعة من علوم اللغة وآدابها فلا يمكن أن يفهمه حقَّ الفهم، أو يدرك مقاصده حق الإدراك؛ بل سيخرج غالبًا بمعانٍ مغلوطة، ودلالاتٍ فاسدة، بعيدة كل البُعد عن مراد الله تعالى من كلامه وآياته.

ومنذ قديم الزمن تفطّن السلف -رضي الله عنهم- إلى خطر العُجمة والجهل بلسان العرب على المسلمين، وتأثير ذلك في فهم القرآن والسُّنة.

فعن الحسن -رضي الله عنه- قال: «أهلكَتْهم العُجمة؛ يتأوَّلون القرآن على غير تأويله»[6]، ويُروَى: «أهلكتهم العجمة؛ يقرأ أحدهم الآية فيَعْيَى بوجوهها حتى يفتري على الله فيها»[7].

وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «فإنما خاطب اللهُ بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعرِف من معانيها... فمَن جَهِل هذا من لسانها -وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السُّنة- فتكلّفَ القولَ فى علمهما تكلُّفَ ما يَجْهَل بعضَه، فكانت موافقته الصواب -إن وافقه- غير محمودة، وكان بخطئه غير معذور»[8].

وتواترت عبارات العلماء داعية إلى تعلُّم العربية والتضلُّع فيها، وعدم الاكتفاء بالقليل منها؛ قال أبو إسحاق الشاطبي في (الاعتصام): «فعَلى الناظر في الشريعة والمتكلِّم فيها أصولًا وفروعًا ألّا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا أو كالعربي في كونه عارفًا بلسان العرب، بالغًا فيه مبالغ العرب أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومَن أشبههم وداناهم، فإن لم يبلغ ذلك فبحسبه في فهم معاني القرآن التقليد، ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل أهل العلم»[9].

ولنضرب لذلك مثالًا؛ هذا دعاء من أدعية القرآن، اعتاد كثير من الناس أن يلهجوا به في صلواتهم وفي غيرها، ظانِّين أنه من دعاء الخير والبِر، وهو خلاف ذلك تمامًا، أعني قوله تعالى على لسان شعيب -عليه السلام-: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف: 89]، فهذا دعاء رجلٍ كذّبه قومه وسخروا منه، وتوعدوه بالطرد والإخراج فاستغاث ربَّه عليهم، وسأله أن ينتقم له منهم، فاستجاب الله دعاءه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[الأعراف: 91]، فكيف يكون مثل هذا دعاء خير وبِر؟! أم كيف يدعو مسلم بمثل هذا على قومه وهم مسلمون؟! قال ابن عباس -رضي الله عنه-: «كان شعيب كثير الصلاة، فلما تمادَى قومه في كفرهم وغيّهم، ويئس من صلاحهم، دعا عليهم فقال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف: 89]، فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالرجفة»[10].

قال أبو جعفر الطبري: «وأصل (الفتح) في كلام العرب: النصر، والقضاء، والحكم. يقال منه: (اللهم افتح بيني وبين فلان)، أي: احكُم بيني وبينه»[11]. قال يحيى بن سلام -رحمه الله-: «وكان النبي إذا سأل اللهَ أن يحكم بينه وبين قومه بالحق؛ هلكوا»[12].

وأيضًا قد يترتب على هذا الضعف بمعرفة اللغة وأساليبها تفسير القرآن على المعاني الدارجة بين الناس، ومن ذلك: غلط كثير من الناس في فهم قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}[آل عمران: 41]، حين يظنون أن المراد بالعشي وقت الليل، وليس هو بمعناه، جاء في تهذيب اللغة: «العشيّ: آخر النهار. وقيل: إذا زالت الشمس إلى أن تغيب. فإذا غابت الشمس فهو العِشاء. وصلاتا العشِيّ هما الظهر والعصر، عن أبي هريرة قال: صلَّى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدَى صلاتي العشيّ، وأكبر ظني أنها الظهر... ثم ذكر الحديث»[13].

وقال ابن جرير: «العشيّ: من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر:

فلا الظل مِن برد الضحى تستطيعه .. ولا الفيء مِن برد العشيّ تذوق»[14].

قال ابن عطية: «ومنه قول القاسم بن محمد: ما أدركتُ الناس إلّا وهم يصلُّون الظهر بِعَشِيّ»[15].

ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}[آل عمران: 152]، قد يتوهَّم القارئُ لأول وهلة أن قوله: (تحسونهم) بمعنى الإحساس، وليس كذلك؛ بل هو من الحَسِّ بغير ألف، وهو بمعنى الإفناء والقتل، كما قال المفسرون[16].

3. حمل كلام الله تعالى على اصطلاحات العلماء الحادثة:

من أسباب الغلط كذلك حمل كلام الله تعالى على اصطلاحات العلماء الحادثة بعد نزول القرآن بقرون متطاولة، وقد ضرب ابن القيم -رحمه الله- لذلك مثلًا بلفظتي: (مكروه) و(لا ينبغي)، وكيف أنهما قد اختصَّا في الاصطلاح الحادث بما ليس بمحرَّم وتركُه أرجح من فعله، مع أنه «قد اطَّرد في كلام الله ورسوله استعمالُ (لا ينبغي) في المحظور شرعًا وقدَرًا، وفي المستحيل الممتنع؛ كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم: 92]، وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}[يس: 69]، وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}[الشعراء: 210، 211]، وقوله على لسان نبيّه: «كذبني ابن آدم وما ينبغي له، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له»[17]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام»[18]، وأمثال ذلك، وقال تعالى عقيب ذِكر ما حرَّمه من المحرمات من عند قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء: 23]، إلى قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}[الإسراء: 23]، إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}[الإسراء: 31]، إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}[الإسراء: 32]، إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}[الإسراء: 33]، إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}[الإسراء: 34]، إلى قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء: 36]، إلى آخر الآيات؛ ثم قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: 38]، وفي الصحيح: «إنّ الله -عز وجل- كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»[19].

ومن ذلك أيضًا: لفظ الـتأويل الوارد في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران: 7] ونحوه، فقد يظن ظانٌّ أن المراد به هذا الاصطلاح المتأخر للعلماء الذي يعنون به: (صَرْف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله)[20]، وليس كذلك، قال أبو جعفر الطبري: «وأما معنى (التأويل) في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير»[21].

وقال الواحدي: «قوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. التأويل: التفسير. وأصله في اللغة: المرجع والمصير، ثم تسمى (العاقبة): (تأويلًا)؛ لأن الأمر يصير إليها. و(التفسير) يسمى: (تأويلًا)، وهو قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف: 78]؛ أي: بعلمه وتفسيره؛ لأن التأويل: إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى.

قال ابن عباس في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59]: يريدُ: أصدق تفسيرًا. وقال قتادة والسدي وابن زيد: وأحمَدُ عاقبةً»[22].

4. ترك النظر في أسباب النزول:

من أسباب الغلط في فهم مراد الله تعالى ترك النظر في أسباب النزول، فإن لها دورًا مهمًّا في بيان معنى الآية والمراد بها، وإهمالها مُوقِعٌ في الغلط، ومُفضٍ في أحوال كثيرة إلى معانٍ فاسدة، يقول الشاطبي: «إن معرفة مقاصد العرب إنما مدارها على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِـب أو المخاطَـب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالَين، وبحسب مخاطبَين، وبحسب غير ذلك. وإذا فات نَقْلُ بعض القرائن الدالة؛ فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مُشكِل في هذا النمط؛ فهي من المهمَّات في فهم الكتاب بلا بد، والجهل بأسباب التنزيل مُوقع في الشُّبَه والإشكالات، ومُورِد للنصوص الظاهرة مَورِد الإجمال حتى يقع الاختلاف»[23].

وشاهد ذلك ما رُوي «أن عمر -رضي الله عنه- استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسَكِر؛ فقال عمر: مَن يشهد على ما تقول؟ فقال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث.

فقال عمر: يا قدامة إني جالدُك، قال: والله لو شربتُ كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولِمَ؟ قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...}[المائدة: 93]. فقال عمر: إنك أخطأتَ التأويل يا قدامة؛ إذا اتقيتَ اللهَ اجتنبتَ ما حرَّم اللهُ.

وفي رواية: فقال عمر: ألَا تردُّون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أُنزِلْنَ عذرًا للماضين وحُجةً على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرَّم عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...}[المائدة: 90]، ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإنْ كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله قد نهَى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدَقْتَ»[24].

5. الغفلة عن أحوال العرب وعاداتها وقت نزول القرآن:

من أسباب الغلط في فهم كلام الله تعالى الغفلة عن أحوال العرب وعاداتها وقت نزول القرآن، فإنّ لها حُكمَ أسباب النزول، ولكنها أسباب عامة غير مختصة بشخص معيَّن أو واقعة بعينها، ولمعرفتها أهمية كبرى في فهم النص القرآني، وعدم إدراكها مُوقِع في إشكالات كثيرة.

وممن التفتَ إلى هذا الأمر الشاطبي في (الموافقات)؛ وذلك إذ يتحدث عما ينبغي لطالب علم القرآن أن يحيط به فيقول: «ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمَّ سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلّا وقع في الشُّبَه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها»[25].

ذلك أن تلك العادات دائمة التغير عبر الأزمان، والنص إنما يُفهم حقَّ الفهم في سياقها، وبالغفلة عنها يَنْبَهِمُ معنى النص، ويلتبس المراد منه؛ ولذا كانت معرفة أحوال العرب وعاداتها زمن نزول القرآن مُعِينة على الفهم الصائب والتفسير الصحيح دون إشكال.

ومن ذلك: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: 46].

قال الإمام الطبري -رحمه الله-: «إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله -جل ثناؤه- عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه (يظن) أنه ملاقيه، والظن: شك، والشاكُّ في لقاء الله عندك بالله كافر؟

قيل له: إن العرب قد تسمِّي اليقين (ظنًّا)، والشك (ظنًّا)؛ نظير تسميتهم الظلمة (سدفة)، والضياء (سدفة)، والمغيث (صارخًا)، والمستغيث (صارخًا)، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمَّى به اليقين، قولُ دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج .. سراتهم في الفارسي المسرد

يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق:

بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم .. وأجعل مني الظن غيبًا مُرَجَّما

يعني: وأجعل مني اليقين غيبًا مرجمًا. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن (الظن) في معنى اليقين أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية»[26].

فانظر إلى أهمية معرفة أحوال العرب وعاداتها زمن نزول القرآن، وكيف أنها مُعِينة على الفهم الصائب والتفسير الصحيح دون إشكال.

6. قصر النظر على بعض القرآن دون بعض:

من القواعد الثابتة عند المفسرين قاعدة أن القرآن يُفَسِّر بعضُه بعضًا، وأن أَولى ما فُسِّر به القرآن هو القرآن، فما أُجمِل في موضع بُيِّن في موضع آخر.

وهي قاعدة لا غنى عنها لكل دارس وناظر في القرآن الكريم؛ فإن النظرة الجزئية للقرآن تعطي القارئ معانيَ ناقصة حينًا، ومشوَّهة حينًا، وباطلة تمامًا أحيانًا أخرى!

وقد نبّه العلماء كثيرًا إلى خطورة انتزاع الآيات من سياقها، والاستشهاد بها منفردة عما يفسرها ويبيِّنها من آيات أُخَر في سورتها، أو في سور غيرها من القرآن الكريم.

يقول ابن حزم -رحمه الله-: «وما ضلَّت الخوارج إلّا بتعلُّقهم بآياتٍ ما، وتركوا غيرها، وتركوا بيان الذي أمَره الله -عز وجل- أن يبين للناس ما نُزِّل إليهم وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو أنهم جمعوا آي القرآن كلَّها وكلامَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعلوه كُلًّا لازمًا، وحكمًا واحدًا، ومتبعًا كله؛ لاهتدوا»[27].

ويتحدث أيضًا الشاطبي عن منشأ البدع والخرافات فيردُّه إلى مِثل ذلك، يقول -رحمه الله-: «ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها إلى بعض، فإنّ مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تأخذ الشريعة كالصورة الواحدة، تحتسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها، ومُطْلَقها المحمول على مقيّدها، ومُجملها المفسَّر بمبيَّنِها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلّا بجملتها؛ لا من دليل منها أيّ دليل كان، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل فإنما هو توهُّميّ لا حقيقي!»[28].

ولنضرب لذلك مثالًا يبين عظيم خطر هذا الأمر وشدة أهميته.

الشفاعة في القرآن الكريم:

كَثُر الكلام قديمًا وحديثًا حول قضية الشفاعة، وأنكر بعضُهم وقوعها يوم القيامة، واستشهد لإنكاره بآيات من القرآن الكريم ذاته، يقول ابن حزم -رحمه الله-: «احتج المانعون بقول الله عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر: 48]، وبقوله عز وجل: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار: 19]، وبقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}[البقرة: 254]...، قال أبو محمد: قول من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض، ولا على بعض السنن دون بعض، ولا على القرآن دون بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال له ربه عز وجل: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل: 44]، وقد نص الله تعالى على صحة الشفاعة في القرآن فقال تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}[مريم: 87]، فأوجب -عز وجل- الشفاعة لمن اتخذ عنده عهدًا بالشفاعة، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}[طه: 109]، وقال تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ: 23]؛ فنَصَّ تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده -عز وجل- ممن أذن له فيها ورضي قوله، ولا أحد مِن الناس أولى بذلك من محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أفضل ولد آدم -عليه السلام-.

فقد صحَّت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصحَّت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة بنقل الكواف لها؛ فصحَّ يقينًا أن الشفاعة التي أبطلها الله -عز وجل- هي غير الشفاعة التي أثبتها -عز وجل-، وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطل -عز وجل- هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلَّدون في النار، قال تعالى: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} و{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}[فاطر: 36]، نعوذ بالله منها»[29].

 فمن هذا المثال نرى المنكرين للشفاعة قد أتوا إلى الآيات التي تنفي الشفاعة فضربوا بها تلك التي تُثبتها، وقضوا بنفي الشفاعة مطلقًا، ولو أنصفوا لجمعوا الآيات بعضها إلى بعض، وتدبَّروا في سياق هذه وسياق تلك، وعلموا أنّ النفي إنما ورد في شأن الكافرين، وأنّ إثباتها إنما هو للمؤمنين. لكن النظرة الجزئية غالبًا ما تخدع صاحبها، فإذا به يرى من الحقيقة جانبًا وتخفى عليه جوانب، ويظهر له شيء وتغيب عنه أشياء.

فالغلط إنما يأتي من تضييق مجال النظر، وقصر الاطلاع على بعضٍ دون بعض، فأمّا إذا ضُمَّت أطرافه وجُمِعَت متفرقاته، ونُظِر فيه ككلٍّ واحد متكامل، فحينها يَرى المرء أنه يُتمِّم بعضُه بعضًا ولا ينقض بعضُه بعضًا.

 يقول د. محمد عبد الله دراز: «فعندما نريد أن نقدِّر جمالَ لوحةٍ مرسومةٍ، لا ينبغي أن نحصر نظرتنا في جزء ضيق منها، حيث لا نجد إلّا ألوانًا متنوعة تتجاور أو تتنافر أحيانًا؛ بل يجب أن نرجع قليلًا إلى الوراء؛ ليتسع مجال الرؤية ونحيط بالكل في نظرة شاملة تستطيع وحدها أن تلاحظ التناسق بين الأجزاء والتوافق في التراكيب»[30].

وختامًا:

فلا يخفَى ضرورة السعي إلى تصحيح الفهم لمراد الله -عز وجل- من كلامه، وتجنُّب أسباب الخطأ في فهمه، وقد تبيَّن مما سبق بعض هذه الأسباب التي يقع بها الغلط في فهم معاني القرآن الكريم، والتي جاءت على سبيل التمثيل لا الحصر، مع التمثيل لكلٍّ منها؛ نصيحةً لكتاب الله ولعامّة المسلمين، ونسأل الله أن يرزقنا حُسن الفهم لكتابه، وحُسن العمل به.

 

[1] رواه البخاري (5028).

[2] جامع البيان، لابن جرير الطبري (1/ 75).

[3] البحر المحيط في التفسير (1/ 244) باختصار وتصرف.

[4] جامع البيان (10/ 217).

[5] معاني القرآن وإعرابه (2/ 167).

[6] تفسير القرآن من الجامع لابن وهب (3/ 44).

[7] المحرر الوجيز، لابن عطية (1/ 40).

[8] الرسالة (ص: 20، 21)، باختصار.

[9] الاعتصام (498).

[10] تفسير القرطبي (7/ 251).

[11] جامع البيان (2/ 254).

[12] تفسير يحيى بن سلام (1/ 352).

[13] تهذيب اللغة (3/ 38) باختصار، والحديث أخرجه البخاري (1229)، ومسلم (573) وسياق البخاري هكذا: عن محمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشيِّ -قال محمد: وأكثر ظني العصر- ركعتين، ثم سلَّم...».

[14] جامع البيان (6/ 391).

[15] المحرر الوجيز (1/ 432).

[16] جامع البيان (6/ 443).

[17] صحيح البخاري (3193).

[18] صحيح مسلم (295).

[19] إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 34) بتصرف يسير. والحديث أخرجه البخاري (2408)، ومسلم (1715).

[20] البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 37).

[21] جامع البيان (6/ 204).

[22] التفسير البسيط (5/ 52)، (6/ 547).

[23] الموافقات (4/ 146) باختصار.

[24] الأثر أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9/ 241)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 513).

[25] الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي (3/ 261).

[26] جامع البيان، (1/ 623).

[27] الإحكام في أصول الأحكام (3/ 40).

[28] الاعتصام (ص: 184).

[29] الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل (4/ 53) بتصرف واختصار.

[30] مدخل إلى القرآن الكريم (ص: 119).

الكاتب

الدكتور أسامة المراكبي

حاصل على الدكتوراه في أصول الدين - تخصص التفسير وعلوم القرآن، وأستاذ مساعد بجامعة الأزهر وجامعة الطائف، وله عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))