القراءة المُعاصرة للقرآن لمحمد شحرور (1-4)
باعث الاجتهاد؛ تجاوزًا وتأسيسًا

الكاتب : محمد كنفودي
ضمن سلسلة مقالات تعريفية وتقويمية بالقراءة المعاصرة لمحمد شحرور يتناول هذا المقال الأول مفهوم القراءة المعاصرة عند شحرور، ويوضح تلك المساحات التي يختلف فيها مع الأسس المنهجية للتفسير التراثي، والتي يراها أعطابًا منهجية تحتم التجاوز عبر تأسيس القراءة المعاصرة.

تسهيم:

يقول محمد شحرور: «مِن هنا يجب أن ننطلق في فهم أزمة الفقه الإسلامي الموروث والتفسير، والذي أصبح يشكّل عبئًا علينا؛ حيث أصبح غير متناسب مع معلوماتنا وظروفنا في القرن العشرين، بحيث إنّ الأزمة تنطلق مِن خطأ في المنهج، لا من ضعف في اللغة أو قلّة في التقوى»[1].

مقدمة:

ترتبط (القراءة المعاصرة) لمحمد شحرور[2] رأسًا بنصّ الوحي المنزل وحده دون سواه[3]، فمنه تبدأ وعَبْره تؤسّس، وإليه تنتهي[4]، ولا تلتفت -جملةً وتفصيلًا- إلى ما سواه، إلا من باب تغيّي النقد المفضي للتجاوز والتخطّي، ما دام أنه ينطلق من ناظم (القطيعة المطلقة)[5]، باستثناء الوصل مع بعض علماء اللغة الذين ينكرون الترادف بين تراكيب ومفردات اللغة العربية[6]. بناء عليه، نتعرّف في هذه المقالة الأولى على دلالة مفهوم (القراءة المعاصرة) للتنزيل الحكيم كما وضعه محمد شحرور، فضلًا عن بيان بعض الأعطاب المنهجية والمعرفية التي تخللت النموذج التفسيري التراثي من وجهة نظره، والتي جعلت شحرور ينتقده؛ ليؤسس بدلًا منه نموذجًا آخر في (القراءة) يتجرّد عنها ما أمكن، ونقدم محتوى هذه المقالة وفق ما يأتي:

أولًا: في دلالة مفهوم القراءة المعاصرة:

(القراءة المعاصرة) مفهوم مركب، ولا تتّضح معالم دلالة المركّب، إلا بعد تبيان دلالة مفرداته الجزئية:

1. مفردة (القراءة): دلالة مفهوم القراءة لا تتأسّس على مجرد فكّ الخطّ وصور الحروف، أو إعادة التلفظ بمكتوب ونحوه كما هو سائد[7]، وإلا لما كانت أول كلمة تطرق سمع الرسول -عليه الصلاة والسلام- وعقله: {اقْرَأْ}[العلق: 1]. بل هي تأمّل ومتابعة وتحليل يصل بالقارئ إلى فهم وإدراك ما يقرأ، والاستدلال عليه من داخل المقروء، واستعراضه في نسقٍ متكاملٍ لا نقص ولا فراغ فيه؛ وذلك كلّه يتم من خلال عُدّة منهجية مختارة، متوافقة مع النصّ المقروء أولًا، ومع النظام المعرفي المعاصر ثانيًا، قصد التوصّل ليس إلى ما أعلنه النصّ وأظهره سياقه فحسب، بل أيضًا إلى ما حجبه وأخفاه تركيب النصّ. والقراءة بهذا المعنى لا تكتفي بالمعاني الأولية الظاهرة، وكأنها من باب «بادئ الرأي»، بل هي تقتفي وتكتشف أقاصي الدلالات المتوارية خلف ألفاظ وتراكيب وسياقات ونَفَس نُصوص التنزيل[8].

2. مفردة (المعاصرة): جاءت من (العصر) الذي هو بطبيعته متجدّد، وقد أقسم الله به في قوله: {وَالْعَصْرِ}[العصر: 1]. وما دام أن نصّ التنزيل الحكيم «وحي من الله -تعالى- بالنصّ والمحتوى»[9]. فإنه بالتبَع مُقدَّس، وقَداسته تعني أنه «نَصّ حَيّ»؛ وكونه موصوف بصفة الحياة، تعني أنه كتاب جاء للأحياء لا للأموات، ويتعيّن «أن يُقرأ بعيون الأحياء لا بعيون الأموات»[10]؛ ووصفه ذلك يعكس إعجازه؛ وكونه موصوف بالإعجاز[11]، يعني أنه لا يمكن لأيّ أحد أن يحيط بدلالاته، أو يدركه كليًّا في كلياته وجزئياته، حتى ولو كان الجيل الفريد (الصحابة)، بل ولو كان الرسول -عليه الصلاة والسلام-. وما دام الأمر كذلك، فإنّ المعاصرة تعني: «إيجاد مدلولات معاصرة في العالم القائم، لدلالات موجودة في التنزيل الحكيم، تحقيقًا للانسجام بين الدّال والمدلول»[12].

3أما المُركّب: فيُمكن تَعريفه بأن (القراءة المعاصرة) تعني: استئناف قراءة نصّ التنزيل الحكيم وجهًا لوجه، بدون مُسبقات مذهبية أو تاريخية مُحمّلة، قراءة موضوعية تحليلية نسقية إنسانية، بقدر ما تنطلق من (مبدأ القطيعة المطلقة) مع كلّ التفاسير المقدّمة؛ سواء كانت كلاسيكية أو حديثة، تعتمد على النظام المعرفي المعاصر وبعض إنتاجاته، ما دام أنّ ما يتوافق مع نصّ التنزيل الحكيم، فهو بالتبَع ناظم القراءة المعاصرة، التي تتجدد باستمرار ما دام الليل والنهار خلفةً، وهي كما يؤكد محمد شحرور «التي تتناغم مع روح الرسالة ومحتوى خطاب نصّ التنزيل».

ثانيًا: في مَشروعية القراءة المعاصرة:

لتحقيق القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم، أكّد محمد شحرور على ضرورة إعادة النظر في منهج التراث التفسيري. ومنهج إعادة النظر النقدي الذي ينهجه محمد شحرور، ينصبّ على دائرتين: دائرة الضوابط المنهجية، ودائرة المضامين المعرفية، ومآلاتهما معًا، وبيان ذلك كما يأتي:

أ. نقد الضوابط المنْهجيّة لعلم التفسير التراثي:

اعتمدت منهجية التفسير الموروث عدّة ضوابط، هي في نظر محمد شحرور لا تتناسب مع خصوصية كتاب الله تعالى، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يأتي:

- النّظر إلى التنزيل الحكيم بوصفه نصًّا يشتمل على الترادف بين المفردات والتراكيب، والتناوب بين الحروف، وما هو زائد زيادة فضلٍ وحشوٍ:

تعامل المفسّرون وخصوصًا أصحاب التفسير التأسيسي، ومَن سار على مهيعهم من (مُقلِّدة المتقدمين) مع نصوص التنزيل الحكيم على مستوى تدبّر مفرداته وتراكيبه، وهم مشبّعون بـ(آفة) أو (وَهْم الترادف)[13]، الذي يجعل مجموعة من المفردات والتراكيب تحمل المعنى نفسَه وتدلّ عليه بالتمام والكمال، مما أسقط دلالات مفردات وتراكيب التنزيل الحكيم في «قانون التلاعب اللامحدد واللامحدود»؛ إِذْ كلّ مفسّر يُحمِّل مفردةً ما الدلالة التي تخدم مذهبه أو مُسبقاته، فضاعت -مِن ثمة- الدلالة الموضوعية الذاتية الأصيلة لمفردات وتراكيب نصّ التنزيل. والسبب الذي قادهم إلى ذلك من منظور محمد شحرور، اعتمادهم المطلق على الشعر الجاهلي لبيان دلالات مفردات وتراكيب نصوص التنزيل، بدعوى أن الله وصف كتابه العزيز بكونه (أُنزِل بلسان عربي مبين)، فحملوا (عربية القرآن) على (عربية اللسان) المتزامن مع زمن النزول، مع العلم -كما يؤكد محمد شحرور- «أن لغة الشعر الجاهلي عاجزة عن استكناه لُبّ دلالات نصّ التنزيل»؛ إِذْ شتان بين تعالي المطلق وتحيّز النسبي[14]. ومن الأمثلة الدالة على ذلك، تجد أنّ الشافعي أصَّل -انطلاقًا من قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم: 3، 4]- أن القرآن إذا كان وحيًا من الله تعالى، فكذلك السُّنّة النبوية؛ بدليل آية النجم[15]. والذي حَمَل الشافعي على القول بذلك -كما يرى محمد شحرور- هو اعتماده على الترادف بين مفردة (القائل-القول) و(الناطق-النطق)، فطابق بينهما دلاليًّا. إلَّا أن ذلك لا يستقيم، فالقائل للوحي هو الله تعالى، أما الرسول -صلى الله عليه وسلم- فدوره يقتصر على النطق به لبيانه توضيحًا عمليًّا، وإظهاره كشفًا[16]. وعليه، يكون مسمى الوحي منطبقًا على كتاب الله تعالى دون أيّ شيء آخر.

والأمر نفسه ينسحب على (وَهْم التناوب بين الحروف)، الذي يجعل مطلق الحروف ينوب بعضها عن بعض في نصّ التنزيل الحكيم، ليؤدي الواحد منها دورَ الآخر نفسه دلاليًّا بالتمام والكمال؛ والذي حمَلهم -في الغالب- على ذلك هو الشعر العربي، فأسقطوا قوانينه على نصّ التنزيل الحكيم دون مراعاة خُصوصية هذا وذاك. ومن الأمثلة الدّالة على ذلك، تجد ابن قتيبة لمّا وقف عند قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه: 71]، نصَّ على أنّ حرف (في) يؤدي دلالة حرف (على) نفسها، فناب حرف (في) عن حرف (على)، بدليل أن الشعر العربي يعبر بـ(في) ويقصد دلالة (على)، قال عنترة بن شداد العبسي في معلقته:

بطل كأن ثيابه في سرحة  ..  يحذى نعال السبت ليس بتوأم[17]

ومما يدلّ أيضًا على (آفة الزائد) في نصّ الوحي المنزل، الذي دقته لا تقلّ عن دقة العلم والخَلق، والتي تَنُصّ على وجود العديد من الأدوات أو الحروف زائدة زيادة فضل وحشو، لا زيادة توكيد ودلالة؛ بمعنى أنّ وجودها لا يترتب عنه أيّ تأسيس دلالي معتبر، مثل: (ما) تكون زائدة بعد (إذا)، كما في قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}[البقرة: 281]، وبعد (أيّ الجارّة)، كما في قوله تعالى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}[القصص: 28]. وكذا فإن (الباء) تكون زائدة في خبر ليس، كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين: 8]، ونحو ذلك.

وهكذا تلاحظ أنّ القوانين المستنبطة من الشعر العربي، قد أعمَت الفكر الإسلامي التأسيسي عن اكتشاف فَرادة لسان الوحي المنزل وخُصوصية دلالاته، فالشعر العربي إن كان لا يعيبه الترادف أو التناوب أو الزائد؛ نظرًا لضرورات النظم الشعري، فإنّ تنزيل كلّ ذلك على القرآن يلغي كلية مفهوم إحكام نصّ الوحي المنزل.

وهكذا تجد أنّ هذا المهيع المتَّبَع من قِبَل أهل التفسير، بقدر ما يصادر خصوصية التنزيل الحكيم، يخالف أيضًا منطق اللغة؛ فأما كونه يصادر خصوصية كتاب الله تعالى؛ فذلك مردُّه إلى أن دِقَّة الله في وَحْيه الشريف، لا تقِلّ عن دقته -سبحانه- في خَلْقه العظيم، وقانون الدقَّة يقتضي أنّ كلّ مكوّن من مكونات النصّ يؤدي وظيفة لا يؤديها عنه مكوّن آخر، حتى ولو اشترك معه في خصيصة أو أكثر، وإلا انتفت عنه صفة (الإعجاز)[18]. وأما كونه يخالف منطق اللغة؛ فذلك مردُّه إلى أن لغة المعرفة لا ينتظم أمرها، وخصوصًا المجرّدة منها، إلا «بقانون الاستقلالية الدلالية»، ومقتضاه؛ أن كلّ حرف مستعمل في عبارة نصية يؤدي دلالة لا ينوب عنه أيّ حرف آخر في أدائها، وإلا انهارت ماهية اللغة، وتلاشت قوانين التخاطب بين الناس، خصوصًا على مستوى الفهم والإفهام ونحو ذلك.

- النَّظر إلى الوحي المنزل بوصفه نصًّا يشتمل على النّاسخ والمنْسوخ:

تعامل جُلّ أصحاب مصنفات علوم القرآن التأسيسية وما اتصل بها مع كتاب الله تعالى، من «أن آياته ينسخ بعضها بعضًا؛ دلالةً وحكمًا»، ووضعوا لذلك تحديدات وتقسيمات وتنويعات وتمثيلات دالة على ما ادّعوا. فعدّ اجتراح (الناسخ والمنسوخ) من أكبر (إشكالات النموذج المعرفي السلفي) ومَن سار على هداه، والتي لا بد من إعادة النظر فيها من جديد، ما دام أن القول بذلك والتسليم به لا يتوافق ألبتة مع خصوصية نصّ التنزيل الحكيم[19].

بناءً على ما سبق، اعتبر محمد شحرور أنّ التسليم به من قِبَل أهل التفسير الموروث، «تناسب مع نَمَطِهم المعرفي السائد» وقتئذٍ، الذي كان يعتمد على «النظرة التجزيئية»، قصد «حلّ التناقض» الظاهر لهُم بين دلالات وأحكام بعض آيات التنزيل الحكيم، مما أدى إلى تثبيت الأحكام الفقهية الاجتهادية، على حساب دلالات كتاب الله تعالى المتعالية، فضلًا عن التلاعب بنصوصه، فما هو ناسخ عند مذهب هو نفسه منسوخ عند آخر[20]؛ وذلك كلّه ناشئ عن «التفسير الخارجي المُحمّل»؛ لتسويغ آراء الرجال بآيات الرحمن. مع العلم أنك «لا تجد نصًّا متواترًا موثوقًا به» يؤكد ادّعاءهم؛ لا من نصوص التنزيل الحكيم، ولا من الأحاديث الثابتة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-[21]، اللهم إلَّا بعض المأثورات عن الصحابة ومَن تبعهم من التابعين؛ لذا يعدُّ التسليم به -كما يؤكد محمد شحرور- من أكبر «نتائج الاستبداد على علوم القرآن»[22]، أو هو وسيلة من وسائل «تعطيل آيات عديدة»[23]، أو هو من أهمِّ الوسائل التي تجعل نصّ التنزيل الحكيم، مجرد «نصّ تاريخاني» لا أقل ولا أكثر[24]، للتدليل على ما سلف، نورد بعض الأمثلة الدّالة، ومنها:

- يقول ابن العربي: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، نُسخ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}، وهو ناسخ لمائة وأربع وعشرين آية، ثم نُسخ بقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 5][25].

- يرى الإمام الشافعي أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}[البقرة: 180]، نَسَخه حديث من أحاديث المغازي والأخبار، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا وصية لوارث»[26].

لذا يرى محمد شحرور أنّ أول خطوة يتعيّن القيام بها لإبطال شبهة أو وَهْم الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى، إزالة (وَهْم النسخ) عن النصوص التي اعتبروها منسوخة، أو التي تؤصّل لوجود النسخ في التنزيل الحكيم. سنقف في هذا السياق على مثال واحد لإبطال شبهة النسخ من منظور محمد شحرور، وهو نصّ اعتُمِد لتأصيل وجود النسخ، فإذا انهدَّ الأصل، انهدّ بالتبَع ما بُنِيَ عليه، وهو قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 106]. انطلاقًا من الآية، فالنسخ يقع على معنيَين:

الأول: رفع شيء وإثبات شيء آخر مكانه، كما في قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الحج: 52].

الثاني: رفع الشيء نفسه من مكان إلى آخر، كما في قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية: 29][27].

بناءً على ما سبق، فإنّ النسخ بمعنى: (إبطالُ الأحكام وإلغاؤها واستبدالها بغيرها)، لا يكون داخل الرسالة السماوية الواحدة، بل بين الرسالات السماوية في ما بينها؛ لأن ذلك لا يتم في مدة وجيزة كالسَّنة والشهر ونحو ذلك، بل لا بد من مدة طويلة يتحقق فيها معنى النسخ، ما دام أنه سُنَّة إلهية جارية[28].

- النظر إلى نصّ التنزيل الحكيم بالتوسّل بمرويات علم أسباب النزول:

أصَّل (علم التفسير) الموروث على المستوى المنهجي، أنّ التعامل مع نصّ الوحي لا يتم على وجهه المشروع بمعايير الأرضية المعرفية وقتئذٍ، إلَّا بالاعتماد على مرويات (علم أسباب النزول)، بدليل أن العديد من نصوص التنزيل ارتبط نزولها بسبب أو ظرف أو «وضعية عامة للخطاب»[29]؛ لذا فإنّ التفسير الأمثل لآيةٍ ما، يتوقّف على معرفة وفهم سبب نزولها، إذ «العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب»[30]، والربط بين الآية وسبب نزولها محكوم تراثيًّا بالقاعدة الآتية: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)؛ بمعنى أنَّ الآية وإنْ توقَّف نزولها على سببٍ ما أو عدة أسباب، فإن السبب لا يستغرقها وحده، أو قُلْ: لا يستنفذها، أو أنها مقتصرة عليه لا تتعداه إلى غيره، بل هو مجرد «مناسبة مصاحبة، لا علّة باعثة»[31].

بناءً على ما تقدّم، نصَّ محمد شحرور على تبنِّيه (القطيعة المطلقة) مع مرويات علم أسباب النزول، باعتبار أنها «وإنْ صحَّت، تبيِّن تاريخية الفهم لآيات التنزيل الحكيم»، ولا تشكِّل ألبتة عللًا للتنزيل أبدًا، ما دام أنه مستقلّ عن كلّ ذلك جملةً وتفصيلًا، استقلال المسك عن دم الغزال. وأما نحن اليوم -كما يؤكّد- «فلا تهمنا في شيء أبدًا»؛ لأن كتاب الله تعالى «كينونة في ذاته مغلق ذاتيًّا»[32]، ليس في حاجة إلى أيّ مُعِين خارجي عنه لقراءته وتفسيره، وإلَّا سقطنا في «قانون قراءة الماركسيين الماديين الجدليين»، الذين يجعلون التنزيل الحكيم مجرد نصّ تاريخاني، يعكس نسق أفق واقع محدد زمكانيًّا لا يتعدّاه. ومرويات علم أسباب النزول عمومًا، بقدر ما تؤدي إلى مقصد الجدليين نفسه[33]، تنتج عنها أمور -كما يرى محمد شحرور- لا تتجانس مع خصوصية نصّ التنزيل الحكيم، ومنها:

1. رغم القاعدة المتبعة من قبل أهل أسباب النزول، فإنها تخضع نسق أفق التنزيل الحكيم، إلى نسق أفق حقبة تاريخية إنسانية معيَّنة، وأنَّى للنِّسبي أن يحيط أو يستنفذ المطلق[34].

2. تعكس مرويات علم أسباب النزول الخلط الجليّ الصريح بين التاريخاني واللاتاريخاني في نصّ التنزيل الحكيم[35].

3. كون نصّ التنزيل الحكيم قديمًا قدم الذات الإلهية، وأسبابِ نزوله حادثةً حدوث المخاطب به، تناقضٌ حادٌّ يصعب حَلُّه؛ إِذْ كيف يكون الحادث علةً أو سببًا أو مناسبةً لنزول القديم؟! فضلًا عن أن أسباب النزول تصوّر كتاب الله تعالى في نزوله وكأنه مجرد تخطيط مسرحي ليس إلَّا[36]. ثم إن المتتبع لمصنفات مرويات أسباب النزول كما هي عليه اليوم، ما دام أنها لم تخضع لمحكِّ النقد التاريخي الغربالي، تستوقفه -كما يرى محمد شحرور- العديد من الملاحظات، منها:

أ. وجود العديد من مرويات (علم أسباب النزول)، تعكس جليًّا عدم التجانس بين سبب النزول ونصّ الوحي المنزل.

ب. تتضمن مرويات (علم أسباب النزول) أحكامًا لا تتناغم مع مقاصد التنزيل الحكيم وشيم الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

ج. توجد العديد من مرويات أسباب النزول رغم أنها أحداث مكية، فإن الآيات المنزلة مدنية، أو أن الأحداث مدنية، والآيات المنزلة مكية[37].

بناءً على ما سبق من تمهيدات، فإنّ الأمر الذي أراد أن يخلص إليه محمد شحرور، بعد القطع مع مرويات (علم أسباب النزول) وتوأمه (علم الناسخ والمنسوخ)؛ هو اعتبار الآيات التي صحّ في نزولها سبب أو أسباب عبارة عن تفاعلات مرحلية بين الرسول -عليه السلام- ومحيطه، لا عللًا حقيقيةً للنزول[38]، وتدرج ضمن عموم ما سماه بـ(القصص المحمدي)، الذي يعدّ هو «الوجه التاريخي لكتاب الله تعالى، والذي لا تؤخذ منه الأحكام إطلاقًا، بل العبر فقط»[39].

- النظر إلى نَصّ التنزيل بواسطة النصوص الخَبرية الإسرائيلية، وعُموم المَرويات القَصَصية:

مما يدلّ على هذا الأمر، ذكر محمد شحرور العديد من الأمثلة، نذكر من بينها المثال الآتي:

يرى محمد شحرور أن دونيَّة صورة المرأة/الأنثى، قد تكرَّسَت وأخذَت أبعادًا خطيرة من خلال التساقط اللامشروط على الموروث الإسرائيلي خصوصًا، والسابق على الإسلام عمومًا؛ وذلك بالنظر إليها بوصفها هي (مصدر الشّر المطلق)، الذي جعلها تُغوي آدم وتُغرِّر به، ليرتكب الخطيئة الكبرى. وتنمَّطَت دونيّتها أكثر من خلال مجموعة من النصوص الحديثية، التي يرى محمد شحرور أنها لا تتوافق مع خصوصية نصّ التنزيل الحكيم، الذي تحدّث عنها انطلاقًا من أفق إنساني محض، ومن تلك الأحاديث، قوله -عليه السلام-: «لولا بنو إسرائيل لم يَخْبُث الطعامُ ولم يَخْنَز اللحم، ولولا حوّاء لم تَخُن أنثى زوجها الدّهر»[40]. وقوله أيضًا في الحديث المشهور: «يا معشر النساء تصدقن، فإني أُرِيتُكُنَّ أكثر أهل النار. فقلْنَ: وبمَ يا رسول الله؟ قال: تُكْثِرْنَ اللعن، وتَكْفُرْنَ العَشِير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للُبّ الرجل الحازم من إحداكُنَّ. فقلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك نقصان عقلها. أليست إذا حاضت لم تصلِّ ولم تَصُم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها»[41]. وقوله أيضًا: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤخرة الرحل»[42]. وفي مقابل ما سلف، فإنّ الله يتحدث عن المرأة -حواء- بوصفها مخلوقًا مكلَّفًا، مثلها مثل آدم -عليه السلام- على حدٍّ سواء. يقول الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 35]، [الأعراف: 19]، [طه: 117، 121]. والمعصية التي ارتكبت، ارتكبت من قِبَلهما معًا، بوسوسة الشيطان لهما، مع العلم أن الله حذَّرهما من اتباعه، وهذا يدلّ على أنّ المعصية سُبِقَت بالشعور بالحرية التامّة، والاختيار الإرادي الذاتي. يقول تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[البقرة: 36]، [الأعراف: 20-22]، [طه: 117- 120]. وبالتبَع، تَحمَّلَا معًا مسؤولية مخالفتهما للأمر الإلهي: [البقرة: 38]،[الأعراف: 24، 25]، [طه: 121- 124].

- النظر إلى نصّ كتاب الله تعالى بالانطلاق من مطلق معهود نصوص اللسان العربي بنوعيه:

مما يدلّ على ما نحن بصدد الحديث عنه، نورد ما يلي:

أ. فَسّر الشافعي قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة: 150] بقوله: «فرض عليهم حيث ما كانوا أن يُوَلُّوا وجوههم شطرَه، وشطرُه جهتُه في كلام العرب... وكذلك تلقاءه... وأنَّ كلَّها معنًى واحدٌ، وإنْ كانت بألفاظ مختلفة». يقول الشاعر:

أقولُ لأمّ زِنْباعٍ أقيمي .. صُدورَ العِيس شَطْر بني تميم[43]

ب. فسّر ابن قتيبة قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}[القيامة: 31] «أنَّ (لا) بمعنى (لم)، والمعنى لم يصدِّق ولم يصلِّ... يقول الشاعر:

إنْ تغفر اللهم تغفر جمّا .. وأيّ عبد لك لا ألمّا»[44]

ومن الأمثلة التي توضح مسلك محمد شحرور في قراءته المعاصرة، نذكر المثال الآتي:

يقول الله تعالى في سياق الحديث عن عاد قوم هود -عليه السلام-: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}[الشعراء: 133]. فمفردة (البنين) قد تأتي من فعل (بنن)، وقد تأتي من فعل (بنو). ومفردة (بنانة) تُجمَع على (بنان)، وجمع الجمع (بنون)، هذا على مستوى تقليب المفردة لغويًّا. أما دلالتها من نصّ التنزيل الحكيم، فقد جاءت من (الأبنية والبنيان)، وليس من (البنين) بمعنى الأولاد الذكور والإناث[45]، وأدلة ذلك ما يلي:

1. في مرحلة نبوّة هود -عليه السلام- حصلت قفزة نوعية كبرى في المشهد الوجودي العام، تعلقت بقدرة الإنسان على تذليل الأنعام، وبناء الأبنية الواقية من الطوفان، علمًا أن هود جاء بعد نوح -عليهما السلام-. والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً -الريع: المكان المرتفع من الأرض- تَعْبَثُونَ... وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء: 128- 134][46].

2. دأب منهج نصّ التنزيل الحكيم على الجمع بين مفاخر ومباهج الدنيا: الأموال والأبنية، مثل قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء: 88، 89]. وقوله أيضًا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران: 14].

3. قوانين العقل السليم تقتضي أنّ الله تعالى لا يسوّي في المقام؛ سواء كان مقام الخطاب أو مقام الجزاء، بين الإنسان المكرَّم المشرَّف المكلَّف، وجملة مباهج الدنيا من أموال وأبنية ونحوها. باستثناء مقام الإخبار الخلقي. يقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}[الحديد: 20][47].

ب. نقد ما ترتّب عن الضوابط المنهجية لعلم التفسير التراثي:

بناء على الضوابط المنهجية السالفة، نجمل أهم الانتقادات المترتبة عنها من منظور محمد شحرور، ومنها:

1. نصّ التنزيل الحكيم ومَحمولات زَمن النزول:

يَنماز كتاب الله تعالى بخصيصة تعكس فرادته الذاتية والموضوعية، وهي تعاليه عن مطلق الأزمنة وعن كلية اللحظات الثقافية، حتى ولو كان زمكان النزول ولحظته الثقافية؛ سواء على مستوى المحمولات الدلالية أو على مستوى تركيباته وأسيقته واستعمالاته، وعدم أخذ كلّ ذلك بعين الاعتبار أثناء القراءة والتفسير يُلغي ضابط الخصوصية التي هي له بالأصل الأول المنزل، لا بالاعتبار الإنساني المؤول اللاحق. والناظر في ضوابط التفسير الموروث السابق ذكرها يؤدي بك إلى القول بأنها جعلت تفسير نصّ التنزيل رهينًا بنصوص مختلفة؛ سواء كانت سابقة عليه في الوجود، أو ارتبطت بزمن نزوله، وإلى حدٍّ ما بأزمنة التأويل الأولى أيضًا، التي تضم زمن الصحابة والتابعين وصولًا إلى القرن الثالث الهجري. هذا الأمر جعل محمد شحرور يؤكّد على أنّ أولَى ضوابطِ القراءة المعاصرة، بوصفها «قراءة ثانية وليست أخيرة أو نهائية»[48]، قائمة على فكّ الارتباط بشكلٍ كلّي بين نصّ الكتاب المنزل، وواقع أو زمن النزول المؤول، وأيضًا بكلية النصوص السابقة عليه[49]؛ سواء انتمت إلى الخطاب الاجتماعي القديم السائد في مجتمعات الظاهرات الدينية، أو إلى الكتب المنزلة وقت النزول، وما آلت إليه أيضًا؛ إِذْ كلّ ذلك ليس في مكنته الإسعاف على المساعدة إلى التوصل لدلالات نصّ التنزيل الحكيم بشكلٍ علمي موضوعي، ما دام أنه ليس بمشروط بتاريخ وثقافة محدّدة، أو بلحظة فكرية عابرة، عكس ما سبق تمامًا. ولتوضيح ما سلف ذكره، نقدم المثال الآتي من باب توضيح المقال بالمثال:

أهل التفسير الموروث باعتمادهم على الأخبار الإسرائيلية وغيرها، جعلوا من نصّ التنزيل الحكيم مجرد نسخة طبق أصل سابق مستوحى من كتب منزلة أو أخبار سائدة، في حين أنه ينصّ على أنه جاء من أجل النقد والغربلة (التصحيح والتصديق. [المائدة: 50])، فضلًا عن جعله مجرد نصّ خبري، يحكي ما سبق كما سبق، بطريقة وأسلوب الوثائق التاريخية، المهتمة بتحديد وتفصيل أحداث الماضي بدقائقها وجزئياتها، وهذا ما أسهم في تغييب -كما يؤكد محمد شحرور- عِبَر القصص القرآني، علاوة على جعل نصّ الكتاب المنزل يتساوى بغيره من النصوص المنزلة السابقة عليه، ولا يختلف عنها إلا بـ(اللغة وطريقة العرض)، كما يتوهم البعض[50]. والأمثلة الدالة على هذا الأمر تجدها مبثوثة في أغلب القصص القرآني؛ سواء في كتب التفسير: كتفسير الطبري وتفسير ابن كثير، أو في كتب التاريخ: كتاريخ الأمم والملوك للطبري، والبداية والنهاية لابن كثير.

2. نَص الكتاب المنزّل وإشكالات ومُشكلات عَصر التأسيس والتدوين والترسيم:

انتقل التفسير منهجيًّا ومعرفيًّا بأطوار متعدّدة ومختلفة، بالنظر إلى طبيعة النظام المعرفي السائد، وطبيعة الإشكالات والمشكلات المطروحة أزمنة التأويل المتعاقبة وصراعاتها. فلو أخذنا (مرحلة الإبداع والتأسيس في التفسير الموروث)، لتسنى لك أن تلاحظ بعد أن تنظر فيه -كما يؤكّد محمد شحرور- أنّ جُلّ إشكالات ومشكلات عصر التدوين أُلصقت به عبر مختلف التفسيرات المقدمة[51]، مع العلم أنها مجرد مقاربات نسبية تاريخية مشروطة بسقفها المعرفي. ومن أُولى خطوات إنجاز القراءة المعاصرة، أن نقوم بفكّ الارتباط بين ما هو من نتائج تفاعلات التاريخ، وبين ما جاءنا من دائرة الوحي في صيغة تتعالى على التاريخ[52]، علاوة على أنه لم يعد من الممكن فهم التنزيل من خلال سياقه التاريخي الذي نزل فيه وضمن الشروط الفكرية والثقافية لذلك السياق[53]، للتوصّل إلى نوع وطبيعة العلاقة بين النصّ النازل وزمنه. ومن أهم إشكالات عصر التدوين التي أُلصقت به، وإن كانت في كثير منها لا تنسجم ولا تتوافق معه ألبتة، منها: إشكال المحكم والمتشابه، إشكال الناسخ والمنسوخ، إشكال الظاهر والباطن، إشكال الخبر الغيبي واستعمال التأويل العقلي، إشكال الإجماع والقياس، إشكال العقل والنقل، إشكال الترادف والتناوب، إشكال التمذهب ونحو ذلك.

خاتمة:

إنّ محمد شحرور بالانطلاق مما سبق، أراد الخلوص إلى جملة تصورات عامّة، تحدّد الإطار العام لقراءاته المعاصرة للتنزيل الحكيم، ومنها:

1. القراءة المعاصرة التي يؤسّسها تسعى إلى أن يكون التعامل مع نصّ الوحي المنزل وجهًا لوجه بدون مُسبقات؛ مما جعله لا يعتمد أيّ تفسير ولو كان منسوبًا للرسول -عليه السلام-، وذلك عكس منهج أهل التراث التفسيري من وجهة نظره. فيكون بالتبَع، أنّ من أُولى مهامّ القراءة المعاصرة لمحمد شحرور -التي تنحى منحى الدراسة التاريخية النقدية- أن اجتهدَتْ في سبيل فكّ الارتباط بين نصّ التنزيل الحكيم وما أُلصق به عبر مراحل تاريخ التفسير وعموم الفكر الإسلامي، خصوصًا من قبل الأنموذج المعرفي السلفي[54]، والسعي نحو تأسيس نموذج آخر للقراءة، نتعرف على ضوابطه المنهجية المحددة له في المقالة الثانية.

2. منهج القراءة المعاصرة لمحمد شحرور قائم على ناظم القطيعة المطلقة في الغالب، بلا رجوع إلى كلّ التفاسير، حتى ولو كانت منسوبة إلى الرسول -عليه السلام- أو الصحابة والتابعين أو غيرهم، إلا من باب النقد المفضي للتجاوز والتخطي؛ لكون كلّ تفسير يحمل طابع مرحلته التاريخية، ما دام أنه تفاعل تاريخي إنساني مع النصّ المنزل، فضلًا عن أن جُلّ التفاسير ما زالت تشكل عبئًا ثقيلًا علينا، خصوصًا على مستوى التأصيل؛ لأنها انطلقت -كما يرى محمد شحرور- من أخطاء منهجية بقدر ما أساءت إلى نصّ الوحي شوهت الوعي الجمعي للمسلمين في نظرتهم إلى العديد من القضايا[55].

3. سعى محمد شحرور إلى أن يبلور منظور بحث قرائي لنصوص التنزيل، قائم على أنّ تقصِّي دلالات نصّ التنزيل الحكيم رهين بالتطورات المعرفية والعلمية المعاصرة، فضلًا عن مراعاة وجود الناس كلهم في العالم، ما دام أن ذلك لبنة أساسية للبرهنة على مصداقية نصّ التنزيل في السياق المعاصر، كما يتضح ذلك أكثر في المقالات الآتية.

 

 

[1] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الأهالي، دمشق. سوريا، ط2، 1990، ص: 579.

[2] محمد شحرور مفكر وباحث سوري، من مواليد 1938، دمشق سوريا، درس ودرّس الهندسة المدنية، تخصُّص ميكانيك التربة. اشتهر في الوطن العربي بدراساته المعاصرة للتنزيل الحكيم منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، أغلب مؤلفاته باللغة العربية، يعدّ كتابه: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، أصل دراساته وأبحاثه، فضلًا عن الكثير من المحاضرات واللقاءات التلفزيونية في مختلف أقطار العالم. أنجزت حول اجتهادات محمد شحرور وأفكاره مجموعة من الدراسات العامّة والخاصّة، أغلبها ينحو منحى النقد والدحض. كلّ مؤلفات محمد شحرور تنطلق من التنزيل الحكيم وتدور في فلَكه، من خلاله يؤسّس ويؤصّل، وبمادته يبني اجتهاداته وأفكاره. مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الإسلام والإيمان، الدولة والمجتمع، نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، الدين والسلطة، الدولة والمجتمع هلاك القرى وازدهار المُدن، الإسلام والإنسان، الإسلام الأصل والصورة، السُّنة الرسولية والسُّنة النبوية، تجفيف منابع الإرهاب، القصص القرآني -جزأين-، أمُّ الكتاب وتفصيلها.

[3] قد أشاد طه عبد الرحمن بالقراءة المعاصرة لمحمد شحرور، أثناء تمييزه بين (القراءة الحداثية) و(القراءة العصرية). روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. المغرب، ط1، 2006، ص: 177.

[4] السُّنة الرسولية والسُّنة النبوية، محمد شحرور، دار الساقي، بيروت. لبنان، ط1، 2012، ص: 44.

[5] خصوصًا على مستوى (أدوات المعرفة)، ما دام أن المعرفة كما يقول محمد شحرور «أسيرة أدواتها». الدولة والمجتمع، ص: 204، 236.

[6] يقول محمد شحرور: «لقد استعرضنا معاجم اللغة العربية فوجدنا أن أنسبها هو معجم مقاييس اللغة لابن فارس تلميذ ثعلب الذي ينفي وجود الترادف في اللغة، فقد تم الاعتماد عليه بشكل أساسي». الكتاب والقرآن، ص: 44.

[7] يقول الراغب الأصفهاني: «القراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل». مفردات ألفاظ القرآن، ص: 419.

[8] مثلًا يقول الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}[البقرة: 35]. تفيد مفردة (أنت) تخصيص المخاطب دون غيره من مجموعة أفراد هو موجود بينهم، ما دام أنه سيكون محلًّا للاصطفاء الإلهي له بالاختيار والتفضيل والتخصيص. القصص القرآني، ج1، ص: 271، 272.

[9] السنة الرسولية والسنة النبوية، ص: 72، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة، ص: 60، ونحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص: 53.

[10] يقول رجاء جارودي: «...وقاية الإسلام من دائه الأكبر: قراءة القرآن بعيون الموتى». الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، تعريب: خليل أحمد خليل، دار عالم ألفين، باريس. فرنسا، ط1، 1992، ص: 97.

[11] نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص: 54.

[12] دراسات إسلامية معاصرة -5- تجفيف منابع الإرهاب، محمد شحرور، الأهالي، دمشق. سوريا، ط1، 2008، ص: 260، والكتاب والقرآن، ص: 32، 33.

[13] الدولة والمجتمع، ص: 324. ألَّف الفيروزآبادي كتابًا سمّاه: (الروض المسلوف فيما له اسمان إلى أُلُوف). عرَّف الجرجاني الترادف بقوله: «ما كان معناه واحدًا وأسماؤه كثيرة، وهو ضد المشترك». التعريفات، ص: 138. أو هو: «عبارة عن الاتحاد في المفهوم». نفسه، ص: 41. أما المرادف فهو: «ما كان مسماه واحدًا وأسماؤه كثيرة، وهو ضد المشترك». نفسه، ص: 145.

[14] تجفيف منابع الإرهاب، ص: 34، 57.

[15] السُّنة الرسولية والسُّنة النبوية، ص: 56، 57. وقد حمل الشافعي أيضًا أن المقصود بـ(الحكمة) في العديد من الآيات القرآنية، سُنّة الرسول -عليه السلام-، وأنها مثل الكتاب الذي يقصد به القرآن أيضًا. الرسالة، ص: 111 وما بعدها.

[16] بيان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يُحْمَل إمّا على التوضيح القولي والعملي ومجالُه الشعائر، وإمّا على الإظهار والكشف ومجالُه ما أخفاه أهل الكتاب من اليهود وغيرهم. تجفيف منابع الإرهاب، ص: 289، 290.

[17] تأويل مشكل القرآن، ص: 507.

[18] نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص: 179، 180.

[19] القصص القرآني، ج1، ص: 99. يقول طه جابر العلواني: «قضايا الناسخ والمنسوخ التي نتداولها باعتبارها علمًا من علوم القرآن، اشتملت على أمور سلبية كثيرة، حملت القرآن مجموعة من الأمور التي ما كان ينبغي للأمة أن تغفل عنها، خصوصًا ما يوحي بتعرّض القرآن للتحريف». أفلا يتدبرون القرآن؟ معالم منهجيّة في التدبّر والتدبير، دار السلام، القاهرة. مصر، ط1، 2010، ص: 95 وما بعدها.

[20] القصص القرآني، ج1، ص: 102.

[21] الدولة والمجتمع، ص: 177.

[22] الدولة والمجتمع، ص: 271.

[23] الإسلام والحداثة إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، إدريس هاني، ص: 307، 308.

[24] مفهوم النص، ص: 131 وما بعدها. النصّ القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، ص: 237 وما بعدها.

[25] الناسخ والمنسوخ، ص: 139.

[26] الرسالة، ص: 160 وما بعدها.

[27] الدولة والمجتمع، ص: 281.

[28] السُّنة الرسولية والسُّنة النبوية، ص: 64، والقصص القرآني، ج1، 20. انظر: الحق المطلق، ص: 421 وما بعدها.

[29] مفهوم (الوضعية العامة للخطاب)، مقتبس من المتن الأركوني -نسبة إلى محمد أركون-، ويقصد به: «مجمل الظروف التي جرى في داخلها فعل الكلام، ولكلّ كلام ظروف تختص به». القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ت: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت. لبنان، ك. 2، 2005، ص: 114.

[30] يقول ابن تيمية [ت 728ﻫ]: «وقد أشكل على جماعة من السلف معاني آيات، حتى وقفوا على أسباب نزولها، فزال عنهم الإشكال». أسباب النزول، السيوطي [ت 911ﻫ]، تحقيق: محمد تامر، دار التقوى، ب.ت، ص: 5. مقدمة التفسير، ص: 270.

[31] مقدمة التفسير، ص: 269. التفسير ورجاله، محمد الفاضل بن عاشور، دار السلام، القاهرة. مصر، ط1، 2008، ص: 21.

[32] نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص: 54، 94.

[33] القصص القرآني، ج1، ص: 105. اتفق المستشرقون والماركسيون والماديون رغم اختلاف منطلقاتهم، على أن القرآن نصّ تاريخي، والقصد من وراء ذلك: إنكار الوحي، إنكار كونه نصًّا سماويًّا لفظًا ومعنًى، نفي صفة القدسية والعالمية عنه. أما المولعين بأسباب النزول من المفسرين فيرون على المستوى التطبيقي: أن القرآن نصّ سماوي، لا يفهم إلا من خلال ما دبّجه السلف، ويتوهمون بوجود آيات قابلة للطيّ والنسيان بفعل النسخ. نفسه، ص: 109، 110.

[34] نفسه، ص: 104.

[35] نفسه، ص: 105.

[36] القصص القرآني، ج1، ص: 105.

[37] نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي. ص: 83-93.                           

[38] القصص القرآني، ج1، ص: 113.

[39] نفسه. يرى محمد شحرور أن كتاب الله تعالى يشتمل على سور وآيات تدرج ضمن ما سماه بـ(القصص المحمدي). وسنفصل القول في ذلك لاحقًا في المقالة الرابعة من هذه السلسلة المتعلقة بالقراءة المعاصرة من منظور محمد شحرور.

[40] نفسه، ص: 89. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، حديث رقم: 1468.  

[41] نفسه، ص: 90. الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم: 1951.

[42] عن مسروق أنه ذكر لعائشة الحديث أعلاه، فقالت: «شبهتمونا بالحُمُر والكلاب، والله لقد رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدوا لي الحاجة فأكره أن أجلس فأُوذي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنسَلّ من عند رِجْلَيه». اللؤلؤ والمرجان، كتاب الصلاة، رقم: 290. صحيح مسلم، حديث رقم: 511. وفي رواية البخاري: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار». صحيح البخاري، حديث رقم: 2858، 2859، 5093. وقد استدركت عائشة على أبي هريرة فقالت: «لم يحفظ أبو هريرة، إنه دخل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاثة: في الدار، والمرأة، والفرس، فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوَّله». الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، الزركشي، تحقيق وتخريج: رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي، القاهرة. مصر، ط1، 2001، ص: 104.

[43] الرسالة، ص: 73.

[44] تأويل مشكل القرآن، ص: 491.

[45] القصص القرآني، ج2، ص: 64 وما بعدها، والكتاب والقرآن، ص: 699 وما بعدها.

[46] القصص القرآني، ج2، ص: 65، والكتاب والقرآن، ص: 698.

[47] إنّ من أهمّ ما يُسهم في تشكيل الدلالات الموضوعية مراعاةَ السياق النصي للتنزيل الحكيم؛ سواء كان كليًّا عامًّا، أو جزئيًّا خاصًّا. أما نسف النصّ من سياقه والتعامل معه بوصفه مادة لغوية جامدة، لا يولد إلا تشكيلة من الدلالات التقويلية التعسفية. تجفيف منابع الإرهاب، ص: 108 وما بعدها.

[48] وإلا وقعنا في ما وقع فيه مقلدو ومقدّسو التراث. تجفيف منابع الإرهاب، ص: 26، 27.

[49] القصص القرآني، ج1، ص: 108.

[50] يزعم محمد عابد الجابري أن الحقائق التاريخية مشتركة بين الكتب المنزلة، ما دام أنها تنتمي إلى ما سماه بـ(التاريخ المقدّس)، وما يختلف فيه القرآن عن الكتب السماوية السابقة، هو (طريقة العرض)، وكونه أنزل بلسان عربي مبين فقط. مدخل إلى القرآن الكريم، ص: 240- 392.

[51] نفسه، ص: 119.

[52] نفسه، ص: 120. آفة الدراسات الاستشراقية أنها تتناول التنزيل وما أنتج حوله، وتضع الكلّ في سلّة واحدة، مما يفضي إلى انعدام أصالة نصّ التنزيل الحكيم. نفسه، ص: 119.

[53] نفسه، ص: 120.

[54] القصص القرآني، ج1، ص: 114.

[55] الكتاب والقرآن، ص: 579، 714.

الكاتب

محمد كنفودي

باحث مغربي حاصلٌ على إجازة في الدراسات الإسلامية، درجة الماجستير في فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وله عدد من المؤلفات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات ومراكز بحثية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))