رُقوق أندلسية عتيقة من تفسير الطبري
قراءةٌ لسماعاتها ونظرٌ في صحتها

الكاتب : محمود زكي
للسمَاعات صحيحة النسبة على المخطوطات عدة فوائد في توثيق النُّسخ وغيرها، وهذا المقال يعرّف بجزأين مخطوطين من تفسير الطبري، يرجعان للقرن الخامس الهجري أو قبلها وفقًا لتاريخ السماع المُثْبَت، كما يقوم بالتحليل والتقويم لصحة قيدي السماع عليهما.

رُقوق أندلسية عتيقة من تفسير الطبري

 قراءة لسماعاتها ونظرٌ في صحتها[1]

تمهيد:

كانت المؤلَّفات في الحضارة الإسلامية تُكتب أو تُملى في مجالس، وينسخها الورَّاقون والطَّلَبة، ثم كثيرًا ما كانت تُقرأ أو تُسمع تصحيحًا وروايةً ودرسًا على مؤلِّفيها وعلى مَنْ بعدهم من العلماء بأسانيدهم إلى المؤلِّف، في مجالس عُرفت بمجالس السَّماع والإقراء، في المساجد والجوامع والمدارس، وأحيانًا في المكتبات والبيمارستانات (المستشفيات). وكان هذا السَّماع وهذه القراءة تُوَثَّق في إحدى النُّسَخ، إما نسخة الشيخ أو الطالب القارئ أو نسخة خزانة المدرسة أو غيرها، بخطِّ كاتبِ السَّماع، الذي يُعرف كذلك بكاتب الطِّباق أو الطَّبَقَة، أو مُثْبِت الأسماء[2]، حيث يُسَجَّلُ فيها اسمُ الشيخ المـُسْمِع، والقارئ، وأسماء الحضور، والزمان والمكان، وغير ذلك. وقد يُصحِّح الشيخ ذلك بخطّه، وقد يجمع السماع بالإجازة بالكتاب أو سائر المؤلفات والمرويات؛ ممّا يجعله شهادة علميّة محدّدة النطاق[3].

وهذه السَّماعات والإجازات تزيد مِن قيمة النسخة الخطية التي تتحملها، لا سيما لو كانت من قِبَل علماءَ مشهودٍ لهم بالضَّبْط. وكان العلماء ومقتنو الكتب -وما يزالون- معتنين باقتناء النُّسَخ المتقنة والمـُسْنَدَة المـُحَلَّاة بالسماعات ومطالعتها. وكذلك كان مستنسخو النُّسَخ يختارون مثل هذه النُّسَخ لتكون أصولًا لمنقولاتهم ومعارضاتهم، وكثيرًا ما كانوا ينقلون هذه السماعات كما هي بنصّها؛ لذلك ينبغي التنبّه إلى التفريق بين السماعات الأصلية والمنقولة، وهو بابٌ من العِلْمِ والدّربةِ دقيقٌ[4]. وفضلًا عن السماعات المنقولة، كان هناك وما يزال تزوير للسماعات[5] كما أن هناك تزويرًا للمخطوطات[6]، ولا تلازم بينهما؛ فقد يكون المخطوط أصيلًا والسماع الذي عليه مزوَّرًا مُضافًا.

والسماعات التي تصلنا صحيحة النسبة على ظهور المخطوطات، إضافة إلى توثيق النسخة والكتاب (النّص)، فوائدها كثيرة لا تُحصى. من ذلك: رصدها لمناحٍ من الحياة العلمية والحِراك الثقافي في وقتِ مجالس السَّمَاع والدَّرس، وكذلك الحياة الاجتماعية للعلماء والأدباء وغيرهم من المشتغلين بالعلم والفكر، واجتماعهم طبقات من علماء وطلبة ومُفيدين، وإثبات اللُّقيا والسماع، والرحلة والسُّكنى، والترجمة لأعلام العلم والرواية، مشهورهم ومغمورهم، وإثبات خطوط بعضهم، وتاريخ العلوم والنصوص، والكتب والنُّسخ، انتشارًا ودرسًا[7].

ويُعَدُّ الرّق من أوائل حوامل الكتابة التي استُخدمت في إنتاج الكتب في الحضارات القديمة، ومنها الكتاب الإسلامي المخطوط. والرّق هو: الجلد الذي يُرَقَّق ليُكتب عليه بعد معالجة خاصّة، وجمعه رُقُوق. ورغم تراجع استخدامه في المشرق الإسلامي بعد ظهور الورق أو الكاغد في القرن الثاني الهجري، وانتشاره في القرن الثالث الهجري وما بعده، إلا أنه احتفظ بمكانته في الغرب الإسلامي وظلّ مستخدمًا لفترات أطول، لأسباب ربما منها اعتناء المذهب المالكي بالمحافظة على التزام آثار المصاحف الأولى.

مقدمة:

أصل هذا المقال تقييد وتعريف بجزء رقّيّ مخطوط من نسخة أندلسية نفيسة من «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» للطبري، ترجع للقرن الخامس الهجري أو قبلها، وفقًا لتاريخ السَّماع المـُثبت. وهو سماع للوهلة الأولى يجذب الباحثين وعُشَّاق المخطوطات، ثم لما تأملته استوقفتني فيه أشياء دعتْ إلى تقييدها وتحليلها. ثم عَرضت نسخةٌ رقيَّةٌ أخرى عليها سماع مُعجِب كذلك كُتب بعد الأول بتسعة أعوام.

يتوسَّع هذا المقال في التعريف بالجزء الخطيّ الأول وقراءة قيد سماعه، وذِكر بعض فوائد وتراجم الأعلام المذكورين فيه، ثم يوجز الكلام على الجزء الثاني المخطوط مع نشر ما أُتيح من صور الاثنين. وخلال هذه القراءة والتحليل يتعرَّض المقال إلى النظر في صحة قيدي السماع، ثم يخلص إلى نتيجة البحث ودلائله.

التعريف بالرقِّية الأولى:

كُتب الجزء المخطوط على الرّق، وهو يتكون من سبعة وعشرين ورقة، وأبعاد ورقاته 28.5×18سم، بينما المساحة المكتوبة أبعادها 24×14.5. أما مسطرة الورقة فسبعة وعشرون سطرًا. أما التجليد فيظهر أنه غلاف مضاف متأخر عن تاريخ النسخة.

نموذج (1)

الغلاف المُجَلَّد للمخطوط الأول

وحسب الصفحات التي أُتيحت، وقيد السماع في آخر الجزء، فالجزء يبدأ في أثناء تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[البقرة: 225]، الذي يقابل في طبعة شاكر: المجلد الرابع، نحو صفحة 427 وما بعدها، وينتهي إلى القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 226]، صفحة 447؛ وفي طبعة هجر المجلد الرابع، نحو صفحة 39 وما قبلها، إلى نحو صفحة 63.

نموذج (2)

من أوائل المخطوط الأول

طبقة السَّماع:

ونورد الآن نصَّ السماع وصورته من المخطوط، متبوعًا بتحليله، وتوثيق وترجمة بعض أعلامه:

«بلغ السماع من أول هذا الجزء إلى القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} على شيخنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن فتوح بن موسى الفهري البونتي أطال الله بقاه، وبقراءة الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن الصقر السرقسطي.

كلّ من السادة العلماء وهم:

أبو محمد عبد الله بن محمد البكري الشنتريني.

وأبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي.

وأبو جعفر عبد الملك بن عبد الله بن عبدون الفهري اليابري.

وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الأسدي الأموي.

وغالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي.

وأبو بكر محمد بن خلف بن سليمان ابن فتحون.

وهشام يحيى بن سهل الأسدي الغرناطي.

وأبو عبد الله محمد بن خلف الأنصاري الإلبيري.

وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الغرناطي.

وكاتب الأسماء محمد بن عبد الله بن هشام بن عبد الملك الغرناطي، وهذا خطه.

وذلك بعدّة مجالس كان آخرها اليوم الحادي عشر من شهر شعبان المكرم، عام ثلاث وثمانين واربعماية، بدار الحديث النبوي الشريف بحاضرة غرناطة المحروسة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هـ».

نموذج (3)

قيد سماع المخطوط الأول

تفصيل قيد السماع وأبرز أعلامه:

حسب السماع المذكور، فقد قُرِئَ الجزء في سنة 483هـ، في «دار الحديث النبوي الشريف بحاضرة غرناطة المحروسة». وحسب تتبّعي وسؤالي، لم أقف على ذكرٍ لدار للحديث في الأندلس، بله غرناطة في القرن الخامس، فضلًا عن عدم انتشار المدارس، وتأخُّر ظهورها في الأندلس[8]، حتى إن المـَقَّرِي (توفي 1041هـ) يقول: «فليس لأهل الأندلس مدارس تُعينهم على طلب العلم، بل يقرأون جميع العلوم في المساجد بأجرةٍ»[9].

 كان أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن فتوح بن موسى الفِهْري البُونْتي، هو الشيخ المـُسْمِع. ونسبته إلى "البونت" أو "البُنْت" (Alpuente). وتشير الموسوعة الإسلامية “al-Bunt”إلى أنها اسم لموطنين بالأندلس؛ الأول وهو المعروف بالمصادر العربية: حصنٌ (مدينة صغيرة مُحَصَّنة) من أعمال بَلَنْسِية بالأندلس، والثاني: قرية أو مزرعة بغرناطة[10]، وعرَّف الأخيرة بعض أصحاب معاجم البلدان بانتساب والد الشيخ المذكور صاحب السماع إليها[11]؛ وهو أبو محمد عبد الله بن فتوح (توفي 462هـ / 1070م): فقيه مالكي، روى عن أبيه وغيره، وله كتاب مشتهر في الوثائق والأحكام يُعرف بـ«الوثائق المجموعة»[12].

وأما حضور مجلس السماع فثلةٌ من العلماء، والشعراء، والأدباء، واللغويين؛ منهم:

- عبد الله ابن صارة (سارة) البكري الشَّنْتَريني (المتوفى سنة 517هـ / 1123م)[13].

- وابن السِّيد البَطَلْيَوْسي (المولود سنة 444هـ /1052م، والمتوفى سنة 521هـ/ 1127م)، الذي وصفه الفتح ابن خاقان إلى جانب أوصاف أُخر بالفقيه الحافظ، والإمام الأوحد[14].

نموذج (4)

وصف ابن خاقان للبطليوسي

من الكتاب الذي استله الفتح لترجمة ابن السيد، من كتاب له كبير في تراجم الأندلسيين

نحو ق4 من مخطوط الإسكوريال، رقم 488

- والقاضي أبو بكر ابن العربي الإشبيلي (المولود سنة 468هـ، والمتوفى 543هـ)، صاحب المؤلفات التي سارت بها الركبان، ومنها «أحكام القرآن»، الذي أفاد من تفسير الطبري المسموع، ومدحه في مقدمته[15].

 

نموذج (5) و(6)

وصف تفسير الطبري من أثناء مقدمة مخطوط أحكام القرآن لابن العربي

ورقة 1ظ/2و - نسخة جامعة النجاح الوطنية (رقم 958)

ومما وقع في السماع مما يستوقف أنّ ابن العربي نُسب فيه إلى غرناطة، وهو إشبيلي. وقد حكى عن نفسه أنه مَرَّ على غرناطة ولم يُطِل، في رحلته الاضطرارية عن بلده التي بدأها قبل تاريخ السماع بسنة واحدة، سنة 484هـ[16]. وعند سرده لما قرأ وأفاد من كتب التفسير ذكر مختصر الطبري دون أصله، رغم أنه أملى كتابه «قانون التأويل» سنة 533هـ[17].

ترجمة بعض الأعلام الآخرين، وملاحظات حول أوصافهم ونسبهم في السماع:

عبد الرحمن ابن الصقر السرقسطي:

هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن الصقر[18] الأنصاري بلنسي المولد، مري النشأة، وأصله من ثغر سرقسطة الأعلى. كان من أهل العلم، والخير، والدِّين، معتنيًا بالحديث وروايته، عارفًا بطرقه، وصحيحه، وسقيمه، سكن فاس ووعظَ بها الناس، ثم استوطن بآخَرةٍ مراكش وتوفي بها[19]. وقد ذكر ابن القاضي المكناسي أنه في فاس التزم الوراقة في حانوب بغربي جامعها، متقللًا من الدنيا زاهدًا فيها. كما ذكر شيوخه في الرواية، ومنهم في غرناطة زميله في مجلس السماع أبو بكر غالب ابن عطية وله منه إجازة. من مصنفاته: مختصر السّير والمغازي من سير ابن إسحاق وتاريخ الطبري في سِفْر متوسط. ولد سنة 454هـ، وتوفي سنة 523هـ، وقيل: 511هـ[20].

 وذكروا أنه اعتنى بولده المقرئ أحمد ابن الصقر في صغره، فأسمعه كثيرًا من الشيوخ (منهم عبد المجيد ابن عبدون وعبد الحق ابن عطية[21]؛ أخذ عنهم قراءةً وسماعًا، وممّن هو في مجلس السماع: ابن العربي)، وشاركه في بعضهم (مثل: غالب ابن عطية). ثم عُني هو بنفسه، وتواضع فأخذ العلم عن الكبير والصغير. وكما أن له درسًا ورواية عن أبيه، فلابنه أبي عبد الله عنه رواية. ثم إنه لم يأخذ عن أبيه العلم فحسب بل أخذ عنه أدبه وحذقه، فمن ذلك زهده، وفنّ الكتابة؛ فكان آنق أهل عصره خطًّا وأجملهم فيه منزعًا، وكتب من دواوين العلم ودفاتره ما لا يحصى كثرةً وجودةً وضبطًا. وكان جمَّاعةً للكتب، وامتُحن فيها مرات. ولد سنة 492هـ وقيل: 502هـ، وتوفي سنة 569هـ[22].

غالب ابن عطية الغرناطي:

هو: أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب ابن عطية المُحاربي (ولد سنة 441هـ وتوفي 518هـ). تفقَّه صغيرًا على فقهاء بلده غرناطة وسمع منهم، وتأدَّب وقرأ القراءات السبع، وغلب عليه الأدب في شبيبته، وأجاد نظم الكلام والشِّعْر، ثم عطَف على الفقه والحديث. كما ارتحل إلى الشرق؛ أفريقية ومصر ومكة، وتفقَّه فيها في الفقه والأصول وعلم الاعتقاد وغيره، وحصَّل علمًا جمًّا، وتَقَدَّم في علم الحديث وأَحْسَنَ التقييد والضَّبْط. تصدَّر ببلده للفُتيا، والتدريس، والإسماع، والتفسير، وانتفع به الناس، وأخذوا عنه كثيرًا، وكان شيخهم المـُقدَّم[23].

وهو والد عبد الحق ابن عطية صاحب التفسير المعروف بـ«المحرر الوجيز» (اختُلف في تحديد وفاته؛ فقيل: 542، وقيل: 546هـ)، والذي كان عمره نحو العامين في وقت مجلس السماع[24]. وقد روى عبد الحق عن والده، الذي كان أيضًا حريصًا على الاستجازة له من علماء وقته[25]، إلا أن عبد الحق لم يذكر روايته للطبري عن والده، وإنما ذكر مختصره لأبي عبد الله محمد بن أحمد النَّحْوي، قال: «أخبرني به عنه منه سماعًا وإجازة»[26]، وقد وصف صنيع الطبري بقوله في مقدمة كتابه: «جمع على الناس أشتات التفسير، وقرَّب البعيد، وشفا في الإسناد»[27].

محمد بن خلف ابن فَتْحُون:

هو أبو بكر محمد بن خلف بن سليمان ابن فَتْحُون[28]. ترجم له الزركلي بقوله: «فاضل، نقاد، عارف بالتأريخ. من أهل أوريولة (Orihuela) من أعمال مرسية. له في الاستدراك على كتاب (الصحابة) لابن عبد البر كتابٌ سمّاه (التذييل) في مجلدين كبيرين، وكتاب في أوهام (كتاب الصحابة) المذكور، وآخر في (إصلاح أوهام المعجم لابن قانع). توفي بمرسية سنة 520هـ»[29]. وهو مُحَدِّثٌ حافظٌ، وصفه الصفدي بأنه كان مُعتنيًا بالحديث عارفًا بالرجال[30]. وفصَّل ابن الأبار بعض من روى عنهم ومن تحمَّل عنه، ومنهم القاضي ابن العربي زميله في مجلس السماع[31].

محمد بن خلف الأنصاري الإِلْبِيرِي:

هو أبو عبد الله محمد بن خلف بن موسى[32] (ولد سنة 457هـ، وتوفي سنة 537هـ). من علماء الكلام، أصله من إلبيرة (Elviraسكن قرطبة[33]. قال ابن عبد الملك: «وكان متكلِّمًا واقفًا على مذاهب المتكلِّمين، متحقّقًا برأي أبي الحسن الأشعريّ، ذاكرًا لكتب الأُصول والاعتقادات، مُشاركًا في الأدب، متقدمًا في الطبّ»[34].

أبو جعفر عبد الملك بن عبد الله بن عبدون الفهري:

لم أقف له على ترجمة، ولعله تحرّف[35] عن ذي الوزارتين أديب الأندلس وشاعرها أبو محمد عبد المجيد بن عبد الله بن عبدون الفهري اليابري (قيل: توفي سنة 529، أو 527هـ، وقيل غير ذلك)، وهو من شيوخ القاضي عياض الذين يشتركون مع طبقة الحضور[36].

ملاحظات لغوية وأساليب غير معهودة في السماعات[37]:

ظهرت لدى الكاتب بعض الأخطاء في لغة السماع وأسلوبه، فمن ذلك وهو عجيب، قوله: «على شيخنا أبو عبد الله»[38]، و«وبقراءة الشيخ» ولا حاجة للعطف، فضلًا عن عدم استعماله. وكذلك: «بعدّة مجالس»، والمعتاد الجر بـ«في» لا بالباء. وأيضًا ركاكة عبارة «كلّ من السادة العلماء وهم...». وأخيرًا، فإنّ الكاتب يجمع بين عبارتي: «كاتب الأسماء» و«وهذا خطه»[39]، وهما يستخدمان في السماعات منفردتان، إِذْ تغني إحداهما عن الأخرى.

 

الكلام على الرقِّية الثانية:

يحوي الجزء ستّ ورقات فقط، ومقاسه 27 × 21سم، ومسطرتها 15 سطرًا، مجلدًا بغلاف حديث مشابه للجزء الأول. وهو يتضمن جزءًا من تفسير الطبري من أثناء الآية 75 من سورة هود.

كتب قيد السماع في الحاشية اليُمنى من إحدى ظهور المخطوط، وهو سماع يذكر أنه وقع في مجالس سنة 494هـ، جامعًا كبار الأعلام كذلك، كثير منهم مشترك مع السماع السابق كما سبق بيانه، إلا أن المجالس هذه المرة بــ«دار العلم بحاضرة قرطبة المحروسة» بدلًا من «دار الحديث بحاضرة غرناطة المحروسة»!

نموذج (7)

قيد سماع المخطوط الثاني ظاهرًا بالحاشية اليمنى من ظهر الورقة

نموذج (8)

تفصيل قيد سماع المخطوط الثاني

ويكفي أن نطالع قيد السماع هذا فنجد الجزء مسموعًا على أبي الوليد ابن رشد (الجدّ)، موصوفًا بأنه (قاضي الجماعة)، بينما تشير المصادر إلى أنه لم يتبوّأ هذه المنصب إلا بعد ثمان وثلاثين سنة من التاريخ المذكور[40]! وبينما توجد بعض الأخطاء والنسب غير المعروفة للأعلام الكبيرة التي ذُكر أنهم اجتمعوا في الدار المذكورة يسمعون تفسير الطبري، رجعت نسبة (ابن العربي) إلى إشبيلية بدلًا من غرناطة كما قيد السماع الأول، مُلقبًا بالقاضي، في حين أنه تولى قضاء إشبيلية بعد هذا التاريخ بسنوات طوال (سنة 528هـ)[41]. ومما يذكر متصلًا أن ابن العربي رجع من رحلته إلى المشرق بعد غياب دام نحو إحدى عشر سنة حسب ما قرّره بعض الباحثين (حيث خرج سنة 484 أو 485هـ، ورجع نحو سنة 495هـ)، وأنه في طريقه من رحلته دخل تونس في شهر ذي الحجة من العام المذكور (494هـ)[42].

هذا، فضلًا عن الأخطاء اللغوية والعبارات غير المعهودة، ومنها قوله كما السماع الأول: «على شيخنا قاضي الجماعة أبو الوليد»، وعبارات من مثل: «بلغ السماع لهذا السفر»، و«كان نهاية هذا السماع في اليوم التاسع عشر... عام اربع وتسعين واربعماية».

اقتراح مقارنة الجزئين برقوق خزانة القرويين وغيرها:

تحتفظ خزانة القرويين بعدد من الأجزاء الرقية العتيقة من تفسير الطبري، بعضها عليه تاريخ مقابلة سنة 371هـ، مكتوبة بخطوط مختلفة، وقد وُصِفت في فهارس المكتبة وأولها «قائمة لنوادر المخطوطات العربية المعروضة في مكتبة جامعة القرويين» حيث وصفت بعض الأجزاء[43]. ثم وَصَفَها بشيء من التفصيل محمد عابد الفاسي -رحمه الله- في الجزء الثالث من فهرسه، خالصًا أنها عشرة أجزاء غير تامّة من الكتاب، كُتبت بخطوط أندلسية مختلفة، وأنها مُلفَّقة من عدّة نسخ[44]. ولعلّ من المفيد مقارنة أوراق هذين الجزئين بأجزاء القرويين وغيرها[45]، وقد صوّرها أو بعضًا منها قديمًا معهدُ المخطوطات العربية، ثم مركز جمعة الماجد، ويحتفظ غيرُهما من المراكز بنسخ رقمية، وأكتفي هنا بأن أضع أمام الباحثين نموذج من نسخة رقم 19 ج1 (ومسطرتها 28 × 20سم):

نموذج (9)

مخطوط خزانة القرويين. نسخة رقم 19 ج1

نتائج البحث وخاتمته:

يظهر مما سبق ومن النظر في قيدي السماع من حيث المحتوى والشكل، وقوعُ أخطاءٍ مضمونية وأسلوبية، وأيضًا اتخاذ طابعٍ خطيٍّ وبصريٍّ (لا سيما إخراج التقييد في الصفحة) فيه شيء من محاولة محاكاة تقاليد نِساخة المخطوطات وكتابة السَّماعات؛ مما يثير الرّيبة في أصالة هذه السماعات، ويطرح احتمالية كونها مزوّرة، وأن ما ورد من أسماء ومعلومات، ومن ألفاظ وتراكيب تستوقف الباحث، قد يكون مردّها إلى هذه المحاولة. وهذا لا يتعلّق بأصالة المخطوطين من عدمهما؛ فهذا مبحثٌ آخر، ومعاينة الأصول مهمّة فيه. ثم بمقارنة قيدي السماع يتبيّن بالدلائل السابقة أنهما يشتركان في روح القلم والشّكل والأسلوب والأخطاء، إلا أنهما يختلفان في اسم كاتب الطِّباق أو مُثْبِت السماع!

وتجدر الإشارة إلى أنّ كلا المخطوطين كانا معروضَين بأخَرةٍ في مزادين بلندن[46]، ولا يُعلم مآلهما الآن؛ أإلى مكتبة أو متحف عمومي فيظهرا أم مجموعة خاصّة فيُدفنا، أو لعلّ أحدهما يظهر في مزاد جديد في هذا القرن أو ما بعده! وهذه دورة حياة المخطوطات وتداولها في عالم المزادات. وهذا مما يستدعي تساؤلات حول أصالة بعض ما يعرض في المزادات ومن قِبَل تجار الكتب والتحف من مخطوطات، وموثوقيتها، فضلًا عن مصادرها، لا سيما في المزادات الأقل شهرة من مزادي كريستيي وسوثيبي، وإن كان وقع فيهما أمور أيضًا.

وأخيرًا، بعد هذا التعريف والتقييد للأشتات المعرفية السابقة، التي آثرت التعجيل بتقييدها وإتاحتها لمجتمع الباحثين؛ فإنه من المفيد في هذا السياق كذلك مراجعة النصوص المتعلقة بدخول تفسير الطبري للأندلس، ونسخه وتداوله والعناية به[47]، والمراجع التي تناولت الحركة العلمية في الأندلس في الفترة المذكورة، وخاصة تاريخ التحديث ومجالس السماع والتفسير، والمدارس ودور العلم.

لحقٌ:

أثناء تصحيح المقال ومراجعته، ظهرت نسخة رقيّة ثالثة في مزاد مغمور ثالث، لكنها هذه المرة جزء من (صحيح الإمام مسلم، أثناء أبواب الحج)، ذكر أنه سُمع في المدينة الثالثة الكبرى (إشبيلية) بعد قرطبة وغرناطة[48]، بعد تسعة وعشرين عامًا من السماع الثاني (سنة 523هـ)، حيث اسم القاضي أبو بكر ابن العربي حاضرٌ كذلك لكن بوصفه (الشيخ المُسْمِع)!

نموذج (10)

سماع مخطوط رقي ثالث

 

[1] شكر وإهداء: أشكر أخي العزيز الباحث الكريم الباذل أبا عمر عادل العوضي، صاحب الطبري وجامع تراثه في ببليوجرافيات ومشروعات علميّة نافعة، نُشر بعضها وبقيّتها قيد الطباعة أو الإعداد؛ على ما تفضّل به عليَّ من مصورات نُسخ خطيّة ومراجع، كان لها أكبر الأثر في هذا العمل، الذي أُهديه إياه محبةً في الإمام الطبري -رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه-.

[2] للاستزادة راجع إن شئت: مثبت الأسماء أو كاتب الطباق لأسامة بديع سعيدان، الطباق عند المحدثين: مفهومه، ونشأته، وأهميته، وفوائده لصالح بن عبد الله بن شديد الصياح، وكتب مصطلح الحديث.

[3] إجازات السماع في المخطوطات القديمة لصلاح الدين المنجد -رحمه الله-، مجلة معهد المخطوطات العربية، 1/ 2: ص(232-251)، المرجع في علم المخطوط العربي لآدم جاسيك، ترجمة: مراد تدغوت، ص(265-269)، السماعات على المخطوطات العربية.. أهميتها وفوائدها للدكتور محمد مطيع الحافظ، أنماط التوثيق في المخطوط العربي للدكتور عابد سليمان المشوخي: ص(79-97). ولنموذج مختار، انظر: من مجالس سماع مسند الإمام أحمد في أواخر القرن السابع لمحمد السريع. ثم نماذج مفصّلة في: كتب متعددة لمطيع الحافظ؛ ومعجم السَّماعات الدمشقية من إصدار المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، 1996-2000، وخطوط العلماء من القرن الخامس إلى العاشر الهجري لعبد الله الكندري وجاسم الكندري.

[4]  لقرائن مساعدة في الفصل بينهما ونماذج، انظر: عن الحافظ المزي وخطوطه على الكتب والأجزاء الحديثية لمحمد السريع.

[5]  إجازات السماعات القديمة وإجازات الشهادات الحديثة للدكتور جمال عزون.

[6]  كتب البعض في الموضوع، ومنهم: د. عابد المشوخي في كتابه التزوير والانتحال في المخطوطات العربية.

[7]  لبعض التفاصيل راجع مثلًا: مجلس السماع في المخطوطات العربية.. قيمته العلمية ودلالته الحضارية لمأمون الصاغرجي؛ وبحثَي المنجد والحافظ.

[8] راجع مثلًا: تاريخ المدرسة النَصْرية لرشيد العفاقي، دار جداول، 2015؛ معاهد العلم والتعليم بالأندلس في عهد المرابطين لعصمت عبد اللطيف دندش.

[9] نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، (1/ 220).

[10] Encyclopedia of Islam، الإصدار الثاني، (1/ 1309-1310).

[11] انظر: الروض المعطار، تحقيق إحسان عباس، ص(115)، ومعجم البلدان لياقوت، ط. صادر، (1/ 511).

[12] للمزيد عن الكتاب والعَلَم، راجع تعريف عبد القادر الزكاري وما أحال عليه من مصادر:www.alfiqh.ma

[13] لترجمته راجع: الأعلام للزركلي ومصادره، (4/ 122-123).

[14] نحو ق4 من مخطوط الإسكوريال، رقم 488 (أوراقه غير مرقمة)؛ كما نقله المقري في أزهار الرياض في أخبار عياض، (3/ 105).

[15] مقدمة أحكام القرآن لابن العربي، قراءة وتعليق: عبد الرزاق هرماس، ص(51)، وانظر مثلًا: مصادر التفسير الفقهي عند ابن العربي في كتابه أحكام القرآن للربيع منصف القماطي، ص(197-198).

[16] مع القاضي أبي بكر ابن العربي لسعيد أعراب، ص(14)، وتحقيقه لرحلة ابن العربي «ترتيب الرحلة للترغيب في الملّة»، السابق، ص(194)، قانون التأويل لابن العربي، ص(423).

[17] قانون التأويل، ص(391، 455-456)، مع القاضي، ص(225).

[18] ورد اسمه ضمن حضور مجلس سماع الجزء الثاني، كما سيأتي.

[19]  مستفاد من بحث الفاضل محمد اليولو: رِحْلَةُ الحُفَّاظ والمعتنين بالحديث الأندلسيين إلى بلاد المغرب، عن جذوة الاقتباس (مما سيأتي في الهامش التالي).

[20]  جذوة الاقتباس، (2/ 408-409).

[21] هما من حضور مجلس السماع الثاني.

[22] الديباج المذهب لابن فرحون، (1/ 211-214)، الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام للسَّمْلالي، (2/ 72-84)، الأعلام، (1/ 146).

[23] مستفاد بتصرف من «الغُنْيَة»: فهرست شيوخ القاضي عياض. تحقيق: ماهر جرار، ص(189-190). وقد أفدتُ أولًا في هذه الترجمة وغيرها، من موسوعة أعلام المغرب والأندلس على الشبكة. ثم راجع إن شئت الترجمة الضافية التي سطرها ولده في فهرسه: فهرس ابن عطية، ص(59) وما بعدها.

[24] بينما كان عمره في مجلس السماع الثاني نحو إحدى عشر سنة، موصوفًا في طباق السماع: بـ«الشاب النجيب».

[25] انظر: فهرس ابن عطية، ومقدمة تحقيقه، ص(12-13)، وبيوتات العلم والحديث في الأندلس لمحمد بن زين العابدين رستم، ص(58) وما بعدها.

[26] السابق، ص(73).

[27] المحرر الوجيز. ط. قطر، الثانية، (1/ 24).

[28] من حضور السماع الثاني.

[29] الأعلام، (6/ 115).وقيل: توفي 519هـ.

[30] الوافي بالوفيات، (3/ 38).

[31] المعجم، ص(104-107)، مع القاضي، ص(91).

[32] من حضور السماع الثاني.

[33] الأعلام، (6/ 115).

[34] الذيل والتكملة. ط. الغرب الإسلامي، (4/ 211).

[35] على الصواب في قيد سماع المخطوط الثاني.

[36] الغُنْيَة: ص(71)، وفيه مصادر ترجمته، والأعلام للزركلي، (4/ 149)، وفيه خطأً: «اليابرتي»، وهو على الأرجح من خطأ ناشر الطبعة الرابعة وما بعدها بعد وفاة المؤلف، فلتراجع، فالنسبة إضافة لما ورد في الطبعة الثالثة، وهي آخر طبعة طبعت في حياة المؤلف -رحمه الله-. واليابري نسبة إلى يابُرة (Evora)، ولمزيد حوله وغيره من أهله وأهل العلم من اليابرين، راجع: ابن طلحة اليابري (ت 523هـ) ومختصره في أصول الدين. دراسة وتحقيق: الدكتور محمد الطبراني.

[37] الشكر لأخي الباحث المدقّق محمد السريع على إفاداته، وعلى ما تفضّل به من نظر في هذه الجزئية والمقال عامّة.

[38] وقد يُعتذر بتوجيهها على الحكاية.

[39] وهذا متكرر في سماع المخطوط الثاني. انظر أمثلة لعبارات تقييد كاتب السماع في: خطوط العلماء للكندري، ص(22)، وطوال الكتاب.

[40] ابن رشد وكتابه المقدمات للمختار بن طاهر التليلي، ص(95).

[41] مع القاضي، ص(84، 87).

[42] مع القاضي، ص(71)، مقدمة تحقيق قانون التأويل، محمد السليماني، ص(87-88).

[43] ص(9-10).

[44] ص(16-20). وانظر: الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط (آل البيت): علوم القرآن، التفسير وعلومه: ج1 ص17. وبعض التفاصيل في مقال: أقدم مخطوط لتفسير القرآن لابن جرير الطبري، لميكولش موراني بملتقى أهل التفسير.

[45] حول تسرب رصيد الخزانة، طالع مثلًا: خروم خزانة جامع القرويين لمحمد الهاطي: مقال دعوة الحق - مقال ميثاق الرابطة.

[46] ذكر الأستاذ عبد العزيز الساوري خبير المخطوطات بوزارة الثقافة بالمغرب، عبر تغريدات على "توتير"، أنه في مكتبة خاصة.

[47] راجع مثلًا: تراث أبي جعفر الطبري في الأندلس لحسن الوراكلي، في: أبحاث أندلسية ص(91-122).

[48] «بدار العلم بحاضرة إشبيلية من حواضر بلاد الأندلس (المحروسة)»! وذات أساليب السماعين وتراكيبهما، ومنها: «كلّ من السادة العلماء الأجلاء!».

الكاتب

محمود زكي

حاصل على ماجستير علم المخطوطات من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، وماجستير علم المكتبات والمعلومات من كلية لندن الجامعية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))