جامع البيان للطبري؛ قراءة في أسباب مركزيته في التفسير

لا تخفى أهمية تفسير الطبري ومكانته بين كتب التفسير، وتأتي هذه المقالة لتسلّط الضوء على أحد أبرز الجوانب التي استحق من خلالها هذه المركزية في التفسير، والتي قلَّما يُنتبه إليها في كثيرٍ من كتب التراجم والمناهج؛ وهي عميق صِلَته بصُلْب التفسير ذاته لا توابعه.

تمهيد:

  يعدُّ تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) أحد أهم التصانيف في المدونة التفسيرية، ولا غرو فالإمام الطبري اعْتُبِرَ بهذا الكتاب أبًا للتفسير وشيخًا للمفسرين بلا منازع، وعُدَّ تفسيره من أقوم التفاسير وأشهرها وأكثرها أهمية بين سائر المؤلفات في المدونة التفسيرية.

وقد أجمع العلماء قديمًا وحديثًا على عظيم قيمة هذا التفسير، وتنوعت عباراتهم في الثناء على هذا الكتاب وبيان أهميته، وأنه لا غنى عنه لطالب العلم عمومًا، وطالب التفسير على وجه الخصوص.

قال أبو حامد الإسفراييني: «لو سافر رجلٌ إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا»[1].

وذكر صاحب (لسان الميزان) أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير ممن كتبه عن الطبري فردّه بعد سنين ثم قال: «نظرتُ فيه من أوله إلى آخره؛ فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير»[2].

وقال ابن تيمية: «أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المُتَّهمِين»[3].

ولمّا كان لتفسير الطبري هذه المكانة وتلك الأوصاف التي ربما لا يتصف بها غيره من الكتب في مدونة التفسير -أحببنا أن نلقي ضوءًا على أسباب تلك الأهمية من داخل فنّ التفسير ذاته؛ لنرى مسوغاتها ومرتكزاتها وما تقوم عليه من أسباب ودوافع، وذلك أنه لكي تتحدد قيمة كتابٍ في أحد الفنون والعلوم وتُعْرَف على نحوٍ دقيق، فلا بد أن ننظر في مدى خدمته لهذا الفنّ وأثره فيه، ودرجة تطويره وإضافته التي أحدثها في داخله.

فهذه أمور تبدو أصيلة في تقييمه وبيان أهميته في الفنّ الذي ينتسب إليه، وهي التي عليها المعوّل في إثبات درجة مركزيّته فيه، وقيمته النوعية في وسط مصنفاته.

ولا شك أن هناك العديد من البحوث والدراسات التي تناولت أهمية الطبري وشرحت دوره المحوري في التفسير، وكيف أنه انتقل به نقلة واسعة عمّا كان قبله، سواء ممن يدرسون كتاب الطبري على نحو خاصّ أو يؤرّخون للتفسير ومراحله بصورة عامّة، إلا أنني أودُّ هاهنا لفت النظر لجانب من جوانب أهمية كتاب الطبري في التفسير قلّما يُنتبه إليه في بيان أهميته وأثره في علم التفسير رغم عظيم جلالته؛ وهو عميق صلته بصُلْب التفسير ذاته لا توابعه، ومركزيّته الشديدة في الاشتغال بهذا الصُّلْب، وهو ما سنجليه -بحول الله- في السطور التالية.

معيار تقويم كتب التفسير:

إنّ كتب التفسير هي مؤلفات تطبيقية بالأساس تقوم بطرح مادة تتصل بتفسير القرآن الكريم وبيانه، فهي وإن تفاوتت في مفهوم التفسير والبيان الذي تريده -كما هو مشاهد لمن يطالِع مادتها- إلا أنها دائرة في فَلَكه ومن أجله قامت، ومن ثَمَّ فالمفترَض أن يكون العنصر الرئيس في عملية تقويمها منبثقًا من التفسير ذاته، وتتبُّع طبيعة دورها في إنتاجه، ومدى خدمة مادتها لذلك.

وقد قررنا في مقالة سابقة[4] أن التفسير منه ما هو صُلْب، وهو المتمثّل في بيان المعاني؛ ومنه ما هو تَبَع، وهو كلّ ما يؤسَّس على المعاني من اللطائف والهدايات واستخراج الأحكام... إلخ، مما يأتي بعد بيان المعنى ويتركّب عليه؛ ومن ثَم جعلنا معيار تقويم التفاسير وتحرير جدواها في فنّ التفسير يرتدُّ ضابطه الرئيس إلى دور كتاب التفسير في صلب التفسير (بيان المعاني)؛ وأن كتاب التفسير كلما كان خادمًا بقوة لبيان المعاني ومؤثِّرًا فيها كانت إفادته في التفسير إفادة عظيمة، ويمكن اعتباره كتابًا شديدَ التميّز وعظيمَ الأثر في فنّ التفسير.

ومن هاهنا فإننا لكي نتبيّن أهمية تفسير الطبري في علم التفسير على نحوٍ دقيقٍ فإننا يجب أن ننظر إلى صِلَته ببيان المعاني وتقويم اشتغاله في هذا الجانب. 

تفسير الطبري وبيان المعاني (صُلْب التفسير):

إذا كان تبيين المعاني هو صُلب التفسير ورأسه، وهو معيار المفاضلة بين كتب التفسير وتبيّن درجات أهميتها في علم التفسير؛ فإننا إذا ما نظرنا في تفسير الطبري من هذه الزاوية وجدناه -على طوله وكثرة مجلداته وتعدُّد أجزائه- إلا أنه يتموضع بقوة في هذا الصُّلب (بيان المعاني)، حيث إنه يتمحور بتمامه حول ذلك الغرض ولا يخرج عنه.

يقول الطبري في مقدمة تفسيره: «ونحن -في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- مُنشِئُون -إن شاء الله ذلك- كتابًا مستوعِبًا...»[5].

فالطبري هاهنا يصرّح بجلاء أن مقصد كتابه يقوم رأسًا على استيعاب الكلام على بيان المعاني، وهو ما طبّقة الطبري عمليًّا، حيث حشد العديد والعديد من الأقوال التي تشتغل ببيان المعاني؛ ومن ثَمَّ أضحى بذلك تفسيره موسوعة نفيسة في المعاني التفسيرية، لا يستغني عنها كلّ من يريد النظر في المعاني واستقصاء مادتها، لا سيما وأن الأقوال التي حشدها في تفسيره هي الأقوال الأبرز في صُلْب التفسير كما سنبيّن.

وإذا كان الطبري قد نصّ على ذلكم الغرض في مقدمة التفسير فإنه في الواقع التطبيقي قد التزم به في سائر تفسيره ولم يجاوزه، حيث يسرد الأقوال الواردة في بيان المعنى ثم يوازن بينها دون التوسّع ببيان الهدايات وسرد النكات واللطائف وسوق المواعظ... إلخ، مما يعدّ من التّبع في التفسير لا الصلب، وصنيعه ظاهر جدًّا لمن طالَع كتابه.

 ومن نصوصه الدالة على صنيعه والموضحة لمسلكه في الانشغال بالكلام على المعنى دون سواه:

= ما علل به الطبري -مثلًا- عدم توسُّعه في مناقشة قراءة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 4]، حيث قال: «وقد استقصينا حكاية الرواية عمن روي عنه في ذلك قراءة في كتاب القراءات، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع؛ إذ كان الذي قصدْنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها»[6].

= كذلك قوله في ختام ردِّه على مَن أنكر أن يكون هناك ميزانٌ حقيقةً يوم القيامة: «وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصَفْنا صفته؛ إذ كان قَصْدنا في هذا الكتاب البيان عن تأويل القرآن دون غيره، ولولا ذلك لقرَنَّا إلى ما ذكرنا نظائره»[7].

= قوله -أيضًا- في بيان قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}[الأنعام: 103]، والذي لأهل الاعتزال به تعلُّقات في نُصرة بعض دعاويهم كما هو معلوم: «... إذ لم يكن قَصْدُنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم، بل قَصْدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القَدْر الذي ذكرنا؛ ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان مما يَسْهُل على أهل الحق البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة»[8].

فالطبري لم يخرج في واقعه التطبيقي عما نصّ عليه في واقعه النظري في مقدمة التفسير، وهو أمر شديد الوضوح لكلّ من تأمّل كتابه وطالَعه؛ ومن هاهنا يمكننا القول بأن تفسير الطبري يتمحور حول المعاني بصورة خالصة رغم طوله وكثرة مجلداته، ومن ثَم فهو يقع في صُلْب التفسير.

تفسير الطبري وطبيعة اشتغاله على بيان المعاني (صُلْب التفسير):

على أننا إذ نقول بأن تفسير الطبري يتموضع في صُلْب التفسير؛ كونه يدور بتمامه حول معاني التفسير ولا يخرج عن ذلك، إلا أن الناظر لطبيعة اشتغال الطبري في صلب التفسير يجده متكاملًا ومتفردًا على نحوٍ عجيبٍ، بحيث يمكننا القول بأنه يقع منه -أيضًا- في البؤرة، ويحتلّ منه قلب المركز، ويأتي في صُلب صُلبه؛ ذلك أن الطبري لم ينحصر في جهد الجمع العادي للأقوال فحسب، وإنما انبرى للجمع الموسوعي الموعب للأقوال في معاني القرآن، وخدمة هذه الأقوال والعناية بها بصورة شديدة النفاسة.

يقول الطبري في مقدمة تفسيره: «ونحن -في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- مُنشِئُون -إن شاء الله ذلك- كتابًا مستوعِبًالكلّ ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعًا... ومخبرون في كلّ ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحُجّة فيما اتفقت عليه منهُ، واختلافها فيما اختلفت فيه منهُ، ومُبيِّنو عِلَل كلّ مذهب من مذاهبهم، ومُوَضِّحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك»[9].

ووجوه عناية الطبري بالأقوال والمعاني التفسيرية يمكن أن نجملها من خلال كلامه السابق فيما يأتي:

1-الاستيعاب الشامل لمعاني القرآن والمغني عما سواه: حيث قال: «مُنشِئُون -إن شاء الله ذلك- كتابًا مستوعِبًا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعًا».

2- إيراد الاختلاف والاتفاق في التفسير:حيث يقول: «ومخبرون في كلّ ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحُجّة فيما اتفقت عليه منهُ، واختلافها فيما اختلفت فيه منه».

3- توجيه أقوال المفسرين: حيث يقول: «ومبيِّنو علل كلّ مذهب من مذاهبهم».

4- الترجيح بين الأقوال المختلفة: حيث يقول: «وموضِّحو الصحيح لدينا من ذلك».

5- الإيجاز والاختصار: حيث يقول: «بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه».

فالطبري -رحمه الله- لم يكن قاصدًا إلى مجرد الجمع العادي للأقوال والمعاني، وإنما قصد استيعاب الكلام على المعاني بصورة تُغني الراغب في معرفة ذلك عن النظر في غيره؛ ومن ثَمّ فَـلِكَي يتحصّل له ذلك الغرض فإنه قام في تفسيره بـ:

  • جَمْع الأقوال التفسيرية السابقة عليه واستقصائها بشكلٍ موسوعي مُذهل وعجيب.
  • ترتيب الأقوال وتصنيفها تبعًا لمضامينها ومعانيها.
  • وَضْع كلّ طائفة من الأقوال تحت التبويب المناسب لها.
  • القيام بعملية النقد والتوجيه للأقوال والاختيار بينها، وبيان صحيحها وضعيفها وقويِّها وسقيمها.
  • اختصار الكلام وتركيزه وعدم الاستطراد.

ومن ثَمّ أضحى كتابه مِن أوعى مدوّنات التفسير للأقوال التفسيرية وأكثرها عناية بهذه الأقوال تصنيفًا وتبويبًا وموازنةً، وصار متموضعًا في صُلْبِ صُلْبِ التفسير، ومرتكزًا رئيسًا فيه، وسِفرًا لا نظير له في خدمته وتحرير القول فيه.

وإنّ مما يُبرِز عظيمَ بركة الطبري على علم التفسير ومركزيته الشديدة في صُلْب التفسير واحتلاله منها البؤرة والقلب؛ هو اشتغاله بأقوال السلف في التفسير، والتي تُمَثِّل مادة كتابه كلّه كما هو معلوم؛ وذلك أن:

  • طبقة السلف كان لها عناية فائقة وكبيرة بالاشتغال ببيان المعاني كما هو معلوم لمَن طالَع أقوالهم، وعدم توسّع في الخوض في توابع التفسير كما حدث بعدهم.
  • حجم الإضافات على السلف في بيان المعاني قليلة كما هو بيِّن لمن يطالِع المعاني في كتب التفسير بعدهم.

فالطبري -عَبْر جَمْعه الموسوعي لمقولات طبقة السلف وعنايته بها- جَمَع في كتابه بذلك المقولات الأبرز في صُلْب التفسير، وبيَّن أسانيدها وسلاسل مروياتها، وحرّر ما بينها من اتفاق واختلاف، ورتّبها تبعًا لمعانيها، وبوّبها بما يدل مضامينها في كلّ آية، وبيَّن غوامضها وشرح خفيّ دلالاتها، ووازن بينها؛ فَنَقَدَ ضعيفها وبيَّن صحيحها، وأقام حِجاجًا علميًّا نفيسًا جدًّا حولها، وخلَّف ثروة هائلة من المستندات العلميّة في بيان وجوه الخَلل في سقيمها، وأسباب الإصابة في قويِّها وصحيحها، وكيفيات التعامل معها بصورة مختصرة مركّزة تبتعد عن الحشو والاستطراد.

ومن هاهنا فإنّ كتاب الطبري ليس كتابًا عاديًّا أبدًا في التفسير، وإنما يمكننا القول بأنه هو من أقام التفسير على الحقيقة عَبْر جَمْعه الموسوعي الدقيق لمادته الأكثر أولوية في صُلْبه والتي كانت متناثرة متفرقة، وبيانه لأسانيدها، وما بذله من جهود عظيمة في تذليل هذه المادة وفي ترتيب محتوياتها وتصنيفها وما طرحة من موازنات علميّة بينها، وهو الأمر الذي الْتقطه الإمامُ ابن عطية ونبّه عليه تنبيهًا نادرًا لم أقف عليه عند غيره؛ إذ قال عن كتاب الطبري وهو بصدد حديثه عن مسار التفسير: «ثم إنّ محمد بن جرير الطبري -رحمه الله- جمَع على الناس أشتات التفسير، وقرَّب البعيد، وشفَى في الإسناد»[10].

وحديث ابن عطية عن جمْع الطبري لأشتات التفسير مبرِز لعظيم بركة كتاب الطبري على فنّ التفسير، وعظيم الجهد الذي بذله الطبري في تقريب هذا الفنّ لِشُداته ودارسيه؛ حيث استقصى لهم الأقوال التي عليها مداره، ورتّبها وبيّنها ووازن بينها بصورة مركّزة، بما ييسر عليهم فهمها ودرسها وتبيّن مسالك التعامل معها، وهي -لعمري- جهود ومراحل كلّ واحدة منها تحتاج لجملة كبيرة من الأعمال حتى تنجز على النحو المطلوب[11].

وإنّ مما يزيد من أهمية هذا التفسير ويشدّد على مركزيته في التفسير وثقله فيه، أن الاشتغالَ بهذه المرحلة المركز في التفسير (بيان المعاني)، والتي أدار عليها الطبري رحى كتابه -قَلَّت العناية بها بعده بصورة كبيرة، فلم تظهر إلا في تفاسير شديدة الندرة؛ حيث غلب على مؤلفات التفسير الاشتغال بالهدايات والنكات والأحكام... إلخ، مما يندرج في توابع التفسير لا في صُلْبه؛ ومن ثَمّ صار لتفسير الطبري بذلك أهمية عظيمة بل منقطعة النظير، بحيث يمكننا القول بأنه أجلُّ مَن قام بخدمة المرحلة الرئيسة في العملية التفسيرية، وأنه لا يجاريه في ميدان صُلْب التفسيرِ تفسيرٌ، ولا يدانيه في صنيعه هذا أحدٌ على امتداد الزمان وتراخيه، بل إنّ عامة مَن جاء بعده عالة عليه في هذا الباب؛ ولذا فإن منّته على مدونة التفسير بعده منّة جسيمة، وبركته على علم التفسير عظيمة وكبيرة.

يقول د. مساعد الطيار؛ تعليقًا على قول الطبري بأنه سينشئ كتابًا مستوعبًا في التفسير: «ونحن إذا تأملنا مقصد الطبري من كتابه، وهو تبيين معاني القرآن واستقصاء وجوه تأويله دون غيرها من المطالب التي ظهرت وانتشرت فيمن جاء بعده، لربما قلنا: لا يزال تفسير الطبري من أوعى كتب التفسير وأجمعها، والزيادات على ما فيه قليلة، ولا تتسم بالتحرير ذاته والتأصيل للمعاني التي يتّسم بها تفسير الطبري؛ بل إنّ المساحة التي قطعها الطبري في تفسيره، وجلَّاها بتأصيله وتحريره صارت تتناقل في كثير من كتب التفسير دون تدقيق وتعميق؛ اعتمادًا على ما أصَّله الطبري وحرَّره»[12].

وبذلك تتجلى لنا أهمية تفسير الطبري ومركزيته الشديدة في علم التفسير، وأنه كتاب لا غنى عنه لِشُداة هذا الفنّ وراغبي دراسته، وهي أهمية نعتقد أنه بالرغم من ظهورها لمن يتأمل مؤلفات التفسير وينظر للتفسير ذاته، إلا أنها لا تحظى بتسليط الضوء عليها ولا تظهر في ثنايا العديد من الدراسات التي تقوم على كتاب الطبري، أو التي تهتم بالتأريخ للتفسير وترصد مسيرته وتطوّره، وكذا في العديد من عبارات الثناء التي يحظى بها هذا التفسير في كتب التراجم والسِّيَر وغيرها مما تنقله الدراسات دومًا إبَّان حديثها عنه.

وفي ضوء هذه الأهمية العظيمة لتفسير الطبري في فنّ التفسير فإنّ الواجب على الدارسين للتفسير الاهتمام بهذا الكتاب بصورةٍ كبيرةٍ، وإدامة النظر فيه وإجالة البصر في مسالكه في التعامل مع الأقوال، وعقْد حِلَق النقاش لمدارستها، والاهتمام البحثي به بالصورة التي تتناسب مع قيمته وأهميته، لا سيما استقراء أصوله التي درج عليها في بيان المعنى، وقواعده التي سار عليها في التعامل مع الأقوال نقدًا وترجيحًا وتوجيهًا، ففي ذلك نفع عظيم للدارسين وللدرس التفسيري كلّه.

رحم اللهُ الإمامَ الطبري وأجزل له المثوبة على الجهد العظيم الذي بذله في فنّ التفسير، ويسّر لنا حُسْن الفهم لكتاب هذا الإمام والانتفاع به على الوجه الأمثل والنحو الأكمل؛ والله الموفِّق.

 

[1] سير أعلام النبلاء، (14/272).

[2] لسان الميزان، ت: أبو غدة، (7/25).

[3] مقدمة في أصول التفسير، (ص: 51).

[4] كانت المقالة تحت عنوان: معيار تقويم كتب التفسير؛ تحرير وتأصيل، وهي منشورة على موقع مركز تفسير، ورابطها: tafsir.net/article/5110

[5] تفسير الطبري، (1/7).

[6] تفسير الطبري، (1/150).

[7] تفسير الطبري، (10/72).

[8] تفسير الطبري، (9/463).

[9] تفسير الطبري، (1/7).

[10] تفسير ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، (1/ 42).

[11] إنّ مقولة الإمام ابن عطية في شأن كتاب الطبري مقولة تدلّ -بلا شك- على بصر ابن عطية بالتفسير ومعرفته بصُلْبه؛ ولا غرو فكتاب ابن عطية وتفسيره هو صنو تفسير الطبري في الاشتغال بصُلْب التفسير، ونسأل الله أن ييسر لنا الكتابة قريبًا عن ابن عطية وبيان جهده في الاشتغال بصُلْب التفسير، وأهم المساحات التي تميّز بها وانفرد بها في هذه البابة.

[12] شرح مقدمة الطبري، (ص: 99).

الكاتب

خليل محمود اليماني

باحث في الدراسات القرآنية، عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر، له عدد من الكتابات والبحوث المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))