دراسة في نقوش الفُسيفساء بقبة الصخرة
محمد كبديل لعيسى

حظيت النقوش القرآنية وغير القرآنية المكتوبة على قبة الصخرة باهتمام كبير من الدارسين الغربيين، في هذه الورقة يتناول روبين هذه النقوش بالتحليل ويحاول إبراز بعض السياقات الخاصة بكتابتها، كما يبين من خلالها غلط بعض آراء المستشرقين المشككين في تاريخ النص القرآني.

دراسة في نقوش الفُسيفساء بقبة الصخرة

محمد كبديل لعيسى[1][2]

مقدّمة:

  شُيدت قبة الصخرة في عهد الخليفة الأُموي عبد الملك بن مروان (توفي 86هـ/ 705م)، واستُكملت حوالي عام 72هـ/ 691م، وفي الجزء الداخلي منها توجد كتابات فسيفساء تُعَدّ جزءًا رئيسًا من بنيانها[3].

كانت هذه الكتابات الفسيفسائية وكذا الألواح التي كانت ملاصقة لبابي هذا البناء، تشتمل على عددٍ من الاقتباسات من القرآن، التي ضُمِّنَت بعضًا منها في فقرات تشتمل بعضها على الصياغة الخاصّة بـ(الشهادة) أي الاعتراف بالله كإله واحد وبمحمدٍ رسوله. وعلاوة على الشهادة والآيات القرآنية التي ضُمّنت هذه الفسيفساء توجد أيضًا آيات قرآنية ككتلة واحدة داخل بعضها بعضًا. كما أنّ بعض الآيات التي لم تكن بالقرآن تم تضمينها كذلك بالشهادة لتوسيع فكرة وحدانية الله، وأنّ محمدًا رسوله.

الدراسة المقترحة فيما يأتي حول مضمون هذه الكتابات على قبة الصخرة تهدف لتوضيح أنّ هذه الكتابات تُعظِّم صورة النبي محمد أكثر من أبعادها القرآنية، وفي الوقت نفسه تحافظ وتدافع عن الأبعاد القرآنية لصورة نبي آخر سَبق محمدًا، وهو يسوع بن مريم.

يتأسّس هذا النقاش في الدراسة -بطبيعة الحال- على الفرضية القائلة بأن القرآن الذي بين أيدينا حاليًا هو النصّ الإسلامي الأقدم المعروف لدينا، وأقدم حتى من هذه الكتابات الفسيفسائية[4]؛ فقد أشار إلى قِدَم النصّ القرآني عددٌ من الباحثين الذين أثبتوا أن صورة النبي بالقرآن تطوّرت إلى أبعادها العجائبية غير القرآنية، مثلما انعكست في النصوص غير القرآنية حول محمد في بدايات ظهور الإسلام[5].

يُشار كذلك إلى أنه لا يوجد بالقرآن ذِكْر لوفاة النبي، والفرضية هي أنه وهو حيّ لم ترِد أيّة إشارة (بالقرآن) لانتشار الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية[6].

الشهادة:

تَظهر كتابات الفسيفساء بقبة الصخرة على الجانبين الخارجي والداخلي للأقبية ذات الثمانية أضلاع التي تُحِيط بالمحيط الداخلي للبناء الذي يحتضن الصخرة نفسها[7]. وتتكوّن الكتابات التي توجد في الجزء الخارجي للأقبية من عدد من الآيات التي تحتوي على قسمي الشهادة، وفي كلّ مرة تظهر الشهادة بعد البسملة، أي الصيغة (بسم الله الرحمن الرحيم).

وهذا هو نص الشهادة على جزئي البناء كما هو ظاهر بإحدى الآيات:

الجزء الخارجي الشرقي+ الجنوب- الشرقي

بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

كما تظهر هذه الصيغة المشابهة للشهادة بجزأي البناء، على عملات الخليفة عبد الملك بن مروان وكذا على مبانٍ ومعالم الطرق الرئيسة التي وضعها على الطرق الواصلة بين القدس ودمشق[8].

 لا شريك له:

هي الصيغة للشهادة التي أمامنا والتي تُعَدُّ فريدة من نوعها؛ فعبارة (لا شريك له) لم ترد في الصياغة المعتمدة والمتداولة حاليًا للشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله). في مقابل ذلك فإنّ هذه العبارة وردت في القرآن ثلاث مرات: السورة 6 الأنعام، الآية 163، والسورة 17 الإسراء، الآية 111، والسورة 25 الفرقان، الآية 2، واثنان منهما كانتا حول نفي أن يكون لله ذرية كجزء من الدعوة ضد المشركين، عبَدة الأصنام العرب الذين نسبوا لله شركاء وآمنوا أن له ذرية، مثل الأصنام اللات ومناة والعُزّى الذين اعتبروهم بنات الإله (السورة 53 النجم، الآيات 19- 23)؛ لذلك فإنّ الصياغة القديمة الموجودة على قبة الصخرة والعملات المعدنية كانت -هي الأخرى- جزءًا من مواجهة عقيدة أن لله ذرية شريكة له، لكن لم يكن بالقدس حينها عبَدة أصنام وكان هناك نصارى فقط. إذن، لماذا كانت هناك رغبة لتأكيد أنه لا شريك لله؟ السبب هو أن النصارى أيضًا متّهمون بنسبة شركاء لله، مثلما جاء في القرآن في السورة 9 التوبة والتي قيل فيها: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[9].

تضع هذه الآية النصارى ضمن قائمة «المُشركين» بسبب إيمانهم بألوهية يسوع، والقرآن على علم بهذه العقيدة وينكرها بشدّة في عدد من الآيات، منها على سبيل المثال السورة 5 المائدة، الآيات 17، والآيات من 72- 75، والآيات 116- 118، وذلك عن طريق تحديد أنّ يسوع ما هو إلا لحم ودَم كأيّ بشر، وكذا السورة 3 آل عمران، الآية 59، ووفقًا لذلك فإنّ العبارة التي وُضعت في القدس بأنه لا شريك لله تُفَسَّر على أنها إنكار لألوهية يسوع وأنه ابن الإله.

انطلاقًا مما سبق يظهر الهدف الرئيس لهذه الكتابات (الفسيفسائية) وللبناء كلّه، وهو تعزيز الإيمان بقلوب المسلمين، في مواجهة الانحراف العقائدي المتمثّل في الإيمان بألوهية يسوع بتأثير من الجيران النصارى، الذين كانوا يمثلون غالبية السكان إبّان هذه الفترة بالقدس وبأرض إسرائيل كلّها.

كما كان هذا هو السبب أيضًا أنّ من خَطُّوا هذه الكتابات وجدوا أنه من الحسن تخصيص غالبية المساحة في الجزء الداخلي من أقبية البناء لكتابة عدد من الآيات القرآنية التي خُصّصت للتأكيد على البُعد البشري ليسوع، وهذه الآيات هي:

الجزء الداخلي الجنوبي- الشرقي+ الشرقي+ الشمالي- الشرقي+ الشمالي

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا[سورة 4 سورة النساء].

الجزء الداخلي الشمالي- الغربي+ الغربي

﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.

في الجانب الداخلي من الكتابات تظهر أجزاء من القرآن التي تشيد بدين الإسلام، وتستنكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كفروا بالإسلام بعدما كانت أمامهم فرصة للبقاء في الطريق الصحيح.

الجانب الداخلي الغربي+ الجنوبي- الغربي

﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

محمد رسول الله: الصلاة على النبي:

بخلاف الآيات حول يسوع ودين الإسلام، تظهر كذلك بالعبارات المكتوبة بالفسيفساء آيات قرآنية تم لصقها بجزأي الشهادة للإعلان عن وحدانية الإله من جانب وعن أنّ محمدًا رسوله من جانب آخر.

هذه الوظائف القرآنية الإضافية تتغيّر من آية إلى أخرى كما تظهر بخلافها أيضًا وظائف إضافية غير قرآنية، وسنركّز فيما يأتي على الوظائف الإضافية التي ارتبطت بإعلان أن محمدًا رسول الله، وهذه هي الأولى من بينها:

الجانب الخارجي الجنوبي- الغربي+ الغربي

بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله (سورة 33، الأحزاب، الآية 56) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

الوظيفة الإضافية التي أمامنا تتكوّن من آية تشابه آية موجودة بالقرآن الذي بين أيدينا حاليًا، وقد اختارها مَن كتبوا هذه العبارات للتأكيد على أنّ محمدًا هو نبي صاحب مكانة خاصة، حتى إن الله نفسه وملائكته يصلُّون عليه؛ لذا فإنّ على المؤمنين انتهاج الأسلوب نفسه.

تظهر هذه الفقرة مرة أخرى في عبارة أخرى موجودة في (الجانب الداخلي الجنوبي- الشرقي) لكن في الفقرة التالية تظهر الصلاة على النبي بصيغة مختلفة.

الجانب الخارجي الغربي+ الشمالي- الغربي+ الشمالي

بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله وحده (...) محمد رسول الله صلى الله عليه وملائكته ورسله والسلام عليه ورحمة الله.

  في الفقرة التي أمامنا لا يوجد اقتباس مباشر من القرآن، ولكن إعلان عام يؤكّد على مضمون الفقرة بإضافة بعض الإضافات المهمّة، وهذه المرّة المصلّون على النبي ليسوا فقط الله وملائكته والمؤمنين، كما قيل في القرآن، ولكن أيضًا رسل الله.

فقد حظي محمد في القرآن بالفعل بوضعٍ خاصّ مِن بين رسل الله، فقد وُصف بـ«خاتم الأنبياء»، لكن لا يوجد ذِكْر لفكرة أنّ الأنبياء أو الرسل يصلّون عليه؛ فضمُّ الرسل إلى قائمة المصلّين على النبيّ في كتابات مرسومة على بناء يوجد بقلب مدينة ظهر بها أنبياء المِقْرا (العهد القديم) =يُظهِر المكانة العليا لمحمد من بين الأنبياء، وتُشير كذلك إلى أفضليته على يسوع صاحب الصورة المقدّسة لدى غالبية السكان بالقدس وقت بناء قبة الصخرة.

في هذا الصدد أُشير إلى أنه إذا كانت الصيغة المتداولة للقرآن قد تبلورت في وقت متأخّر عن هذه الكتابات، مثلما يقول بعضهم أنّ كتابات الفُسيفساء هذه أقدمُ من النصّ القرآني المعتمَد[10]، فإنّنا كنّا سنرى أنّ القرآن قد ضم قائمة الرُّسُل أيضًا لأولئك الذين يصلّون على النبي، لكن الأمر ليس كذلك وبالتالي فإنّ القرآن أقدمُ من هذه الكتابات الفُسيفسائية[11].

الشفاعة:

أضيفت في هذه الفقرة أيضًا لإعلان النبوّة، وظيفة إضافية غير قرآنية:

 الجانب الخارجي الشمالي+ الشمالي- الشرقي

بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له (...) محمد رسول الله صلى الله عليه ويقبل شفاعته يوم القيامة في أمته.

إنّ الوظيفة الإضافية التي تحدّد أنه بيوم القيامة سيقبل اللهُ شفاعةَ محمد، تمنحه -أي محمدًا- مكانة غير مذكورة سابقًا في القرآن. وفي مقابل ذلك فإن القرآن يذكر أنه إذا كانت هناك شفاعة ممكنة بيوم القيامة فإنها بكاملها بيد الله (سورة 32: السجدة الآية 4، السورة 39 الزمر، الآية 44، ولا يمكن أن تكون إلا بإذن منه، سورة 10 يونس، السورة 20 طه، الآية 109، السورة 34 سبأ، الآية 23، السورة 2 البقرة، الآية 255).

في هذه الآيات يظهر أنّ القرآن يمنح الملائكة إمكانية الشفاعة وقت يكون الأنبياء شهداء على ذلك، إلا أن الملائكة أيضًا يحتاجون لإذن من الله، السورة 53 النجم الآية 26؛ لذا فإنّ الفكرة الظاهرة في هذه الكتابات حول أنّ الله قَبِل شفاعة محمد من أجلِ أمّته، تشير إلى رؤية أخرى وجوهرية جدًّا في تعظيم الصورة القرآنية للنبي. وفي حقيقة الأمر فقد ظهرتْ هنا، ليس فكرة سموّ مكانة محمدٍ وحسب بل أيضًا سموّ مكانة أمّة العرب على بقية أمم الأنبياء غير العرب. فمِن بين كلّ الأمم ستحظى أمة محمد النبي العربي بأن يشيد بها أمام الله، وعليه فإنها سترث في الآخرة. وبالتالي فإن هذه الكتابات تُظهِر مفهومًا قرآنيًّا بأنّ المؤمنين بالنبي هم الأمة الأفضل (سورة 3 آل عمران، الآية 110). كما أن هذا المفهوم حول قبول شفاعة محمد لأمّته يوجد أيضًا على كتابات غَطّت أبواب قبة الصخرة[12].

الأكثر من ذلك، فإنّ تقديم محمد كمَن يشفع لأُمّته هي المقابل الواضح والمباشر للنموذج النصراني الذي وفقًا له قام يسوع وبُعث بعد ثلاثة أيام من وفاته وصعد إلى السماء ومنذ ذلك الحين وهو يشفع لأجل المؤمنين به عند الإله، وهو ما ذُكر في العهد الجديد من أن «يسوع بُعِثَ من جديد وهو يوجد بيمين الإله ويشفع فينا» (الإنجيل، رسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 8 فقرة 34).

وبما يشابه ذلك، فإنه يرِد في موضع آخر بالعهد الجديد أن يسوع «يقدر أن يخلص أيضًا إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله؛ إِذْ هو حيّ في كلّ حين ليشفع فيهم» (الإنجيل، رسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 7، الفقرة 25)، وفي مقابل هذه الرؤية النصرانية فإن الكتابات الفسيفسائية ذكرتْ أن حقّ الشفاعة مُنِحَ لمحمد، لكن سيستخدمه يوم القيامة وحسب، حينما يُبْعَث محمد مع بقية البشر.

موت يسوع:

الكتابات الفسيفسائية لا تصادر حقّ يسوع في الشفاعة بكلّ وقت وحسب، ولكنها تحدّد أيضًا أنه مات وسيُبعث كواحد من البشر، أي: يوم بعث الموتى، مثلما يظهر من الفقرة الآتية:

الجانب الداخلي الشمالي+ الشمالي- الغربي

اللهم صلِّ على رسولك وعبدك عيسى ابن مريم والسلام عليه يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

يتضمن الجزء الأول من الفقرة، غير الوارد بالقرآن، طلبًا لصلاة الإله على يسوع عبده، بغرض تنزيل يسوع من مكانة ابن الإله إلى عبد الله، وبهذا تحافظ هذه الكتابات على الفكرة القرآنية أن يسوع ليس إلا عبد الإله وليس ابنه (سورة 43 الزخرف، الآية 59. انظروا أيضًا: سورتي 4 النساء، الآية 172، 19 مريم، الآية 30).

كما أنّ محمدًا أيضًا يظهر في القرآن كعبد الله (سورة 72 الجن، الآية 19) وأيضًا في هذه الكتابة (الجانب الداخلي الجنوبي يرِد: محمد عبد الله ورسوله). ووفقًا لحرفية كلام القرآن فإنه يصف الأنبياء وبني البشر بـ(عباد الله) على حد سواء، وجميعهم يحظون باختيار الإله لأنهم من عبادِه المُخلِصين (سورة 27 النمل، الآية 59: السورة 35، فاطر: الآية 32). وبقية الفقرة يَرِد فيها طلب لسلامة يسوع في كلّ محطات حياته؛ ولادته وموته وبعثه يوم بعث الموتى، وهي صياغة البركة والسلام نفسها الواردة في القرآن حول يحيى الذي هو يوحنان بن زكريا: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [سورة 19 مريم، الآية 15].

وفي آيات أخرى من السورة نفسها يقول يسوع على نفسه هذه الكلمات (مريم: 33): {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}.

انطلاقًا من ذلك، فإنّه وفقًا للمفهوم القرآني فإنّ يسوع مثله مثل يوحنا [يحيى]، مات بالفعل ومن المنتظَر أن يُبعث مع بقية البشر في يوم بعث الموتى[13].

وتوجد فقرة أخرى (الجانب الداخلي الشمالي+ الشمالي- الغربي) تتكرّر فيها الفكرة نفسها عن يسوع لكن هذه المرة بصيغة الغائب، مثلما عن يوحنا [يحيى] في القرآن، والتي هدفت إلى تعزيز ما تم الإشارة إليه في القرآن والتأكيد على أن يسوع خاضع لدورة الحياة الاعتيادية لكلّ إنسان، أي: الولادة والموت والبعث يوم بعث الموتى[14]. وأن أفضليته، مثله مثل يوحنا، وهي أنه يمر بهذه المحطات بسلام لكونه صِدّيقًا ومن المُتَّقِين.

الخلاصة:

رأينا كيف أنّ الكتابات الفسيفسائية أبرزت المواجهة بين يسوع ومحمد، وهذا كان السبب وراء أنهما كانا النبيَّيْن الوحيدَيْن اللذَيْن ذُكرا في هذه الكتابات. وكان الغياب التام لذكر بقية أنبياء المِقْرا (العهد القديم) دليلًا على أنّ مَن كتبوا هذه الكتابات ركّزوا على الصراع بين الإسلام والنصرانية وليس مع اليهودية[15].

هدفتْ هذه الكتابات إلى أن تضع أمام أعين المؤمنين الرواية الإسلامية حول صورة يسوع، التي رُسمت بشريتها في القرآن وعلى المسلم أن يؤمن بها. وفي مقابل ذلك فإن هذه الكتابات تُقدِّم محمدًا في صورة مُعظَّمة، ففي بقية الفقرات غير القرآنية تم عرضه ككبير الأنبياء ولا أحد آخر غيره سيكون في موقع المُخَلِّص بيوم الدِّين. ويُضاف إلى ذلك مكانة قبة الصخرة كمكان ارتقَى منه محمد إلى السماء؛ إِذْ هدفت هذه الكتابات إلى تحويل القدس من مدينة يسوع إلى مدينة محمد.

صورة محمد على العملات النقدية:

يُشار إلى أن استبدال محمد بيسوع لم يُلحظ في الكتابات الفُسيفسائية وحسب، ولكن أيضًا في العملات النقدية لعبد الملك بن مروان، والذي صَكَّ هذه العملات في إطار حرب العملات النقدية مع القيصر البيزنطي جيستنيان الثاني؛ فقد أضاف صيغة الشهادة إلى وجه العملة البيزنطية ومسح من فوقها الأذرع الأفقية للصليب المنصوبة على السلالم[16]، وكردِّ فعلٍ على ذلك قام القيصر البيزنطي بطباعة صورة يسوع على العملة، وكردِّ فعلٍ مضاد قام عبد الملك بن مروان بطباعة صورة شخص واقف وسيف[17].

اعتقد الباحثون بشكلٍ عام أنّ هذه الصورة (شخص واقف وسيف) هي صورة عبد الملك نفسه، لكن روبرت هويلاند[18]، رأى أن هذه صورة النبي محمد، وتم وضعها كمقابل لصورة يسوع النصراني، وأنّ الدليل على ذلك أن اسم عبد الملك لم يظهر على العملة، ويظهر عليها فقط اسم محمد كجزء من صيغة الشهادة[19].

وبهذا تستكمل العملات النقدية لعبد الملك بن مروان حملة تبديل محمد المسلم بيسوع النصراني، وهي الحملة التي بدأت بالكتابات الفُسيفسائية لقبة الصخرة.

قائمة بيبلوغرافية:

הברית החדשה, תרגום חדש, החברה לכתבי הקודש בישראל, 1991 (מהדורהמקוונת www.kirjasilta.net/hadash)  : ( נצפהב 20.6.2016 ).

הקוראן, תרגם מערבית: אורי רובין, מהדורה חדשה, מעודכנת ומורחבת, תלאביב 2016.

Donner, F.M., Narratives of Islamic Origins: The Beginnings of Islamic Historical Writing, Princeton 1998.

Elad, A., ‘ꜤAbd al-Malik and the Dome of the Rock: A Further Examination of the Muslim Sources’, Jerusalem Studies in Arabic and Islam, 35 (2008), pp. 167–226.

Grabar, O., ‘The Umayyad Dome of the Rock in Jerusalem’, Ars Orientalis, 3 (1959), pp. 33– 62.

_____, ‘The Meaning of the Dome of the Rock’, in Studies in Arab History (The Antonius Lectures, 1978–87), ed. D. Hopwood, New York 1990, pp. 151–163.

_____, The Dome of the Rock, Cambridge, MS – London 2006. Hoyland, R., ‘Writing the Biography of the Prophet Muhammad: Problems and Solutions’, History Compass, 5 (2007), pp. 581– 602:

.79–78 'עמ, Robinson, ꜤAbd al-Malik 12 ראו

13 ראו

 coins of abd al-malik - Google Search

.596–594 'עמ, Hoyland, ‘Biography’ 14 ראו

10.1111/j.1478-0542.2007.00395; onlinelibrary.wiley.com/doi/epdf/10.1111/j.1478-0542.2007.00395.x (accessed on 3.2.2020)

Kessler C., ‘ꜤAbd al-Malik’s Inscription in the Dome of the Rock: A Reconsideration’, Journal of the Royal Asiatic Society, 102 (1970), pp. 2–14.

Prémare, A.-L. de., ‘ꜤAbd al-Malik b. Marwān and the Process of the qur ān’s Composition’, in The Hidden Origins of Islam: NewYork 2008, pp. 189–221 .

 Robinson, C.F., ꜤAbd al-Malik (Makers of the Muslim World), Oxford 2005.

Robinson, N., ‘Jesus’, in Encyclopaedia of the Quran, ed. J. Dammen McAuliffe, Washington, DC, https://referenceworks.brillonline.com/Reference-Works-Brill (brillonline.com)(accessed on 3.2.2020)

Rosen-Ayalon, M., The Early Islamic Monuments of al-Ḥaram alSharīf: An Iconographic Study (Qedem: Monographs of the Institute of Archaeology, 28), Jerusalem 1989.

Sharon M., ‘Shape of the Holy’, Studia Orientalia, 107 (2009), pp. 283– 310.

Whelan, E., ‘Forgotten Witness: Evidence for the Early Codification of the Qurʾān’, Journal of the American Oriental Society, 118 (1998), pp. 1–14.

 

 

[1] بحث منشور في كتاب تذكاري حول البروفيسور (يوحنان فريدمان) بمناسبة بلوغه سنّ التقاعد، أكاديمية إسرائيل للعلوم والإنسانيات، القدس، 2021، ص1- 10.

[2] ترجم المقال، د/ أحمد صلاح البهنسي، أستاذ الديانة اليهودية والأديان المقارنة بقسم اللغات الشرقية بكلية الآداب بالقاهرة، له عدد من المؤلفات المنشورة. ويجدر الإنباه أن العنوان الفرعي كان هو الرئيس في المادة، ولكننا آثرنا جعله كما ذكرنا؛ لأنه الأليق بالمادة، فهي تدرس نقوش قبة الصخرة في ضوء نقطة محددة، ومن هاهنا فحق هذه النقطة أن تكون عنوانا فرعيا دالا على اشتغال المادة الخاص على هذه النقوش. قسم الترجمات

[3] حول الكتابات عن قبة الصخرة والأبحاث التي كُتبت حولها حتى اليوم، انظر: Elad, abd al-Malakעמ 184- 187.

[4] حول مسألة العلاقة بين كتابات قبة الصخرة والقرآن «الرسمي» انظر: Whelan,Robinson “Forgotten Abd al-Mailk ;Witness ‘עמ 100- 104.

[5] انظر بشكل خاص: Donner, Narrativesעמ 50- 52.

[6] باعتبار القرآن وحي الله المنزل على النبي فمن غير المنطقي أن يتحدث عن وفاة النبي، وإن كان القرآن أشار لأن النبي سيموت في غير ما موضع، ومن ذلك مثلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وأما مسألة انتشار الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية فالقرآن صرح كثيرا بعالمية رسالته، ومن ذلك: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، قسم الترجمات

[7] صيغة الفقرات التي تم اقتباسها من هذه الكتابات هي وفقًا لـ Kessler ,”Abd al-Malik’s Inscription”الكتابة في أصلها مكتوبة بالخط الكوفي وبدون تنقيط تشكيلي.

[8] انظروا: “Shape of the Holly”, Sharon, עמ .293

[9] ترجمة فقرات القرآن هي وفقًا لترجمة القرآن لروبين.

[10] على سبيل المثال: “Abde al-Malik” Premareעמ، 189- 221.

[11] في ضوء بروز الاتجاه التنقيحي فقد طعن البعض في تاريخ القرآن وادعوا تأخره عما هو مقرر في التقليد الإسلامي، وتأتي أمثال هذه النتائج لبعض المستشرقين لتبين غلط فرضيات الاتجاه التنقيحي وغلط مقرراته من داخل الدرس الاستشراقي نفسه. وكنا قد عقدنا ملفا حول الاتجاه التنقيحي يمكن مراجعته ضمن ملفات القسم على الموقع تحت الرابط التالي: tafsir.net/collection/662، قسم الترجمات.

[12] انظروا: Whelan,’ Forgotten Witness’עמ، 6- 7.

[دراسة إستل ويلان المشار إليها هنا، مترجمة للعربية بعنوان «الشاهد المغفول عنه، دليل على التدوين المبكر للقرآن»، ترجمة: محمد عبد الفتاح، يمكم مطالعتها ضمن ترجمات ملف (تاريخ القرآن) على قسم الترجمات بموقع تفسير، قسم الترجمات]

[13] حول المقارنة بين يوحنان ويسوع، التي هدفت لإثبات أنّ يسوع مات بالفعل ولم يُبعث بعدُ، انظروا: “ Jesus” Robinson.

[14] مريم وزان ايالون تعتقد أن هذه الكتابة تتبنى الأطروحة المسيحية أنّ يسوع بُعث بالفعل Rosen- Ayalon, The Early Islamic Monumentsעמ 67 لكن المقارنة بين يسوع ويوحنان في القرآن لا تعتمد هذا التفسير.

[15] حول القيمة المحتملة لقبة الصخرة فيما يتعلّق بعلاقات الإسلام بالنصرانية انظروا بشكل خاصّ إلى:

Grabar, The Dome of the Rock; idem, ‘The Meaning of the Dome of the Rock’, .passim; idem, ‘The Umayyad Dome of the Rock’

[16] انظروا: , Robinson, ꜤAbd al-Malik עמ 78- 79.

[18] باحث ومؤرّخ متخصّص في تاريخ القرون الوسطى للشرق الأوسط، ويعمل حاليًا أستاذًا للتاريخ الإسلامي المتأخر والشرق الأوسط المبكّر في معهد العالم القديم بجامعة نيويورك. (المترجم).

[19] انظروا: Biography Hoylandעמ 594- 596.

المؤلف

أوري روبين - אורי רובין

أستاذ الدراسات القرآنية والتراث الإسلامي القديم في قسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الدراسات الإنسانية والاجتماعية في جامعة تل أبيب.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))