عرض كتاب: تفاسير المسلمين اليوم
الإعلام والأصول والمجتمعات التفسيرية

يُعَدّ كتاب (تفاسير المسلمين اليوم) من الكتب الصادرة مؤخرًا حول التفسير المعاصر، وتتناول فيه المؤلفة يوهانا بينك بعضَ الملامح المركزية لطبيعة حضور القرآن في الفكر الإسلامي والعربي المعاصر، وكذلك الملامح المنهجية الخاصّة للتناول المعاصر للقرآن في مقابل التناول التقليدي، كما تتوسَّع بينك في تتبُّع هذا التناول من حيث الرقعة الجغرافية والوسائط المختلفة، يقدّم ريمون هارفي هنا عرضًا لهذا الكتاب يبرز أهم مرتكزاته.

 عرض كتاب: تفاسير المسلمين اليوم
الإعلام والأصول والمجتمعات التفسيرية[1][2]
يوهانا بينك [3]

  جاءت دراسة يوهانا بينك في أوانها لتثير أطروحة قوية: درجة التركيز على القرآن في الفكر الإسلامي المعاصر لم يسبق لها مثيل منذ بزغ فجر الإسلام، فقد اتّسمَت القرون العديدة من الدراسات والممارسة الإسلامية بمزيج من التخصّصات والخطابات التي كان القرآنُ حاضرًا فيها دائمًا ولكنه لم يهيمن أبدًا. ثم جاءت الحداثة يصاحبها ضغط الكولونيالية ومحو الأمية الجماعي؛ مما أدّى إلى تصدّر القرآن المركز في الوعي الإسلامي. أضف إلى ذلك اتساع النطاق الإعلامي من خلال قنوات التلفاز أولًا فالإنترنت ثانيًا بما عزّز تلك الصدارة.

ولا تسعى بينك لشرح أسباب هذه المركزية القرآنية الحديثة بقدرِ ما تُعْنَى باستطلاع آثارها على التفسير العلمي والتربية المجتمعية وبناء الهوية في العالم المعولم، ولا يعني ذلك إخفاقها في معالجة العوامل المؤدية إلى -بتعبيرها- «انتقال القرآن للمركز». على مدى عدّة صفحات (ص17- 21) في الفصول السبعة الأولى (باستثناء التمهيد والمقدمة والخاتمة)، ترسم بينك الخطوط العريضة للعوامل التي تضافرتْ فأسفرتْ عن تلك الظاهرة.

من ذلك: أنّ روّاد الإحياء في القرنين الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، خاصّة شاه ولي الله دهلوي (ت: 1762)، سعوا لإصلاح معتقدات وممارسات في المجتمعات المسلمة، وكانت العودة للمصادر الدينية الرئيسة -وهي القرآن والسُّنَّة وإجماع السلف- جزءًا مهمًّا من ذلك الإصلاح. في القرن التاسع عشر، تسارعتْ وتيرة هذا التوجّه بدخول الإمبريالية الأوروبية واعتماد المطابع. وكانت النتيجة أنّ كلًّا من «النصوصيين المحافظين» والحداثيّين على حدٍّ سواء اتخذوا من القرآن وهداياته منطلَقًا لبرامجهم في تجديد الحضارة الإسلامية في ظلّ ظروف العالم المعولم الناشئ. في بقية الفصول تشرح بينك التحوّلات والتوترات الفكرية التي أحدثها وضع القرآن في قلب الحياة الفكرية الإسلامية واشتقاق إرشادات (عَمَلِيّة) منه بشكلٍ متزايد بدلًا من شرحه بأسلوب علمي بحت؛ وبذا تسفر هذه الدراسة عن بيان دقيق التمييز لجينالوجيا تشكُّل التفسير الإسلامي المعاصر للقرآن.

يبحث الفصل الثاني التغيّرات التي طرأتْ على محور التركيز في التقليد التفسيري النابع من هذه الظروف الجديدة. ومع أنّ بينك تُولِي بعض الانتباه لاستمرار التقليد من خلال العلماء، فإنّ جُلّ حجاجها يَنْصَبّ على حركة الإحياء السلفية في تجلياتها المتنوّعة. وأحد أهم جوانب دراستها يُعْنَى بتزايد شُهرة التفسير الذي كتبه مفسّر ما قبل الحداثة ابن كثير (ت: 1373). تحاجِج بينك بأنّ هذا العالِم الدمشقي تلميذ ابن تيمية (ت: 1328) كان شخصية هامشية نسبيًّا قبل الحداثة، ثم قُذِف به للصدارة لدرجة أنّ تفسيره «لا يُضاهى من حيث كونه التصنيف الأكثر مبيعًا وترجمة واختصارًا واقتباسًا» (ص35). ولاحقًا تقول للقارئ: «يبدو أنّ تفسير ابن كثير حلّ محلّ تفسير الرازي والبيضاوي بوصفه التفسير المعتمد الجديد، والذي يَرجع له ليس العلماء فحسب بل حتى الطلاب وعامّة المسلمين» (ص52). ومع أنّ هذه الدعوى معقولة إلى حَدّ ما، خاصّة فيما يتعلّق بسهولة الرجوع لتفسير ابن كثير بفضل ترويج المؤسّسات الدينية السعودية له، إلا أنه تفسير مهم بدرجة كافية، بحيث يستحق إشادةً خيرًا مما جعلتها له الدراسة. ثم إنه ليس من الواضح تمامًا أنّ تفسير ابن كثير غدَا مركزيًّا في التعليم والمرجعية العِلْمِيّة للعلماء على مستوى عالمي. ربما في البيئة الجديدة من محو الأمية الجماعي صار العلماء مهمَّشين نسبيًّا حتى غدَت الشعبية؛ سواء أونلاين أو مطبوعة أو في الترجمات، لها وزن أكبر في ميزان التقييم من منهج المدرسة. ومع ذلك، يبدو من المهم حقًّا أنْ نصف بدقّة حدود مسؤولية هذين النوعين من السُّلْطة. (وأيضًا، جانَبَ بينك الصواب في تقريرها بأنّ صفي الرحمن المباركفوري هو مترجِم تفسير ابن كثير للإنجليزية (ص52). وثمة ملحوظة من الناشر تذكر أنّ المباركفوري هو مَنْ قام باختصار النسخة العربية، إلا أنّ مجموعة منفصلة من المترجِمين عملت على النسخة الإنجليزية. والشكر لأزهر ماجهوتي لتنبيهي لهذا).

يتناول الفصلُ الثالث الاستهلاكَ الشعبي الرائج لتفسير القرآن، ويستعرض أنواعًا من الوسائط بدءًا من المطبوعات ومرورًا بالتلفاز وانتهاء باليوتيوب الحاضر في كلّ مكان. ففكرة القرآن بوصفه دليل إرشاد تستحوذ بقوّة على نهج الوعظ والخطاب الشعبي الذي تُوصله تلك الوسائط. وقد أحسنَتْ بينك استغلال تقنية ظاهرة على مدى كتابها، وهي عرض دراسات حالة قصيرة لتوضيح التحليلات بالمثال. وتُقَدِّم تلك الدراسات للقارئ عادة في عدّة صفحات من مواد المصدر الأساسي في تأطيرات رمادية لتمييزها عن النصّ الأصلي والاقتباسات، بما في ذلك إعادة إنتاج الرسوم ولقطات الفيديو والتفريغ النصي للتسجيلات من مختلف الأنواع. وتقتبس الآيات القرآنية بالعربية، ثم تليها الترجمات اللازمة مستوحاة بمهارة من العربية والفارسية والتركية والإندونيسية والفرنسية والألمانية. ومن نافلة القول أنّ المصادر متعدّدة اللغات التي يقدّمها هذا الكتاب رُكْن رَكِين في بِنْيَتِه. في منتصف الفصل الثالث، تناقش بينك ثمانية من فيديوهات اليوتيوب الأكثر مشاهدة، من بينها مناقشة الآية الأولى من سورة الفاتحة، يقدّمها دعاة وعلماء مشهورون وذوو شعبية، بعضهم في الدول الغربية وبعضهم من العالم الإسلامي (ص104- 107). تبني بينك تنميطًا «لليوتيوب بوصفه وسيطًا تفسيريًّا»، وتفرّق بين ثلاثة أنواع من الأداء التفسيري الذي تقدّمه تلك الشخصيات (كلّهم رجال): الخطبة، والدّرس، والندوة العامة التي تشابه في نهج عرضها ما يقدّمه المتحدّثون التحفيزيون. وجدير بالتنويه أنّ مناقشات هذا القسم من الكتاب والتي تم تأطيرها من خلال الاهتمامات النظرية الأوسع لبينك، يمكن اتخاذها نموذجًا للدراسة الأكاديمية المستقبلية لتفسير القرآن على الإنترنت.

في الفصل الرابع تستعرض بينك التقنيات الهرمنيوطيقية المختلفة المستخدمة في التفسير الحداثي للقرآن. وإذا كان المشروع الأساسي للتفسير الحداثي هو استنباط رسائل الهداية من النص المقدّس، فمن المنطقي أنّ المنهجيات المستخدَمة ستسعى إلى التكامل بطرق مختلفة. فعلى النقيض من التقنيات الكلاسيكية المتعددة ما بين التحليلات اللغوية والعقلانية والتفسير عبر المرويات، والتي تتم للآيات فُرادَى، يطبِّق التفسيرُ الحداثي واحدًا أو أكثر من المبادئ الرئيسة لتفسير النصّ. ومن أمثلة تلك المبادئ التي تناقشها بينك: وضع القرآن في سياقه التاريخي، إعادة بناء الترتيب الزمني للوحي، اعتماد أو دحض مبدأ النَّسْخ، التفسير الدلالي والأدبي والموضوعي، تفسير التداخل النصّي، نبذ السُّنّة. وكما تلاحظ بينك في بحثها، كثيرٌ من تلك المبادئ لها جذورها في بواكير خطابات التقليد التفسيري الإسلامي. وإنما ما يميز طفوهم الحديث على السطح هو الهدف الذي وُضعوا لأجله، والانفتاح على التوليف مع الأشكال الغربية المعاصرة للمعرفة، والاستعداد لاعتماد مبدأ مختار اعتمادًا كليًّا. ويأتي تلخيص بينك لتلك المنهجيات جامعًا بين البصيرة والتوازن، حتى إنه يمكن اتخاذه مادة مطالعة ممتازة للطلبة.

الفصل الخامس يغطي الخطابات الدفاعية التي تهدف للدفاع عن القرآن -والإسلام من باب أوسع- ضد منتقديه، وإثبات إعجازه. وتظهر انتقائية بينك للمرة الثانية في اختياراتها للمادة، وتشمل مصادرُها: الإعلاميةَ المصرية الكاتبة كاريمان حمزة، والمفسِّرَيْن الإسلاميّيْن؛ سيد قطب (1906- 1966)، وأبا الأعلى المودودي (1903- 1979)، والداعية عمرو خالد، وموقعًا مجهولًا يُسمّى (معجزات القرآن). وقد تنوّعت المحاور بالتكافؤ بين: الدفاع عن جواز التعدّد، أنموذج العدالة الاجتماعية القرآني، الترتيب البنيوي للقرآن وآياته، والموضوع الجوهري للإعجاز المعاصر وهو الإعجاز العلمي. وإذا تمّ حبك هذه المواضيع معًا، انكشف النقاب عن مفارقات مثيرة للاهتمام، مثل: «تطبيق المنهجيات الحداثية باتباع أجندة غير حداثية بل ومناهضة للحداثة إلى حدّ ما» (ص191). وها هنا تظهر نباهة بينك في الإشارة لتوتّر يتولّد غالبًا عند تطبيق التقنيات الهرمنيوطيقية التي ناقشها في الفصل الرابع العلماء أو الدعاة الذين يرغبون في المحافظة على القراءات التقليدية الأساسية لمعنى النصّ، لكنهم يحتاجون لتبرير تفسيرهم للقرآن بالطريقة الشمولية التي يتوقّعها الجمهور المثقف الحديث.

ينتقل الفصل السادس من تناول عملية التفسير ووظيفته إلى (المجتمعات التفسيرية) التي تؤلّف التفسير وكذلك تستجلب جمهوره. وكما هو الحال في سائر الكتاب فإنّ التركيز له سياق عالمي، وهذا يعني عمليًّا توجيه النظر بالأساس إلى الغرب، والعالم العربي، وتركيا، وإندونيسيا. تتأمل بينك كيف أنّ السياقات المحلية المختلفة تؤثّر على نهج المقاربة التفسيري، خاصّة في المصنفات التفسيرية التي تضعها الدولة أو العلماء المكلّفون من قِبَل الدول. وكتبتْ أيضًا بطلاقة عن اختيار المؤلّف استخدام اللهجة العامية المحلية أم العربية الفصحى (التي لا تزال اللغة المرموقة للمنح الدراسية الإسلامية التقليدية) أم اللغة الإنجليزية وهي اللغة الأكاديمية العالمية (ص208- 209). وقد ثبتت أهمية زاوية أخرى وهي أن بينك وضعتْ في اعتبارها اختلاف المشارب في الكيان السياسي الإسلامي، بما في ذلك السُّنّة والشيعة والصوفية وطوائف أخرى. وثمة دراسة حالة مثيرة للاهتمام تختصّ بالجماعة الأحمدية، وهم طائفة ظهرتْ في القرن العشرين في شِبْه القارة الهندية وتُعتبر عامّة خارجة عن الإسلام لإنكارها ختم النبوّة. تعرّضت بينك للجدلية المثارة على مواقع بين الأحمديّين والسلفيّين حول تفسير الآية 55 من سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ...}. الفهم الإسلامي الشائع لهذه الآية أنّ عيسى رُفِعَ إلى السماء حيًّا وسيعود في آخر الزمان؛ أمّا تفسير مؤسّس الأحمدية ميرزا غلام أحمد (ت: 1908) فمفاده أن عيسى -عليه السلام- فقد الوعي على الصليب ثم أفاق فسافر إلى الهند وتوفي وفاة طبيعية في كشمير (ص234). وفي حين تعرِض بينك ببراعة الحُجَج والحُجَج المضادة حول تفسير تلك الآية، فإنها تختتم العرض بملاحظة تبدي التحيّر من احتدام الجدل حول وفاة عيسى -عليه السلام-، بينما هناك «قضايا أكثر جوهرية على المحكّ» (ص239). فهي ترى أنها نقطة خلاف رمزية ومخصوصة بالأحمديّين فحسب، ولم تحتفظ بأهميتها إلا بسبب انتشار الطوائف الأحمدية في الغرب (المسيحي). وعلى ذلك، يبدو أنّ التركيز السُّنّي على هذه النقطة (كما جاء في اقتباس لأحد المحاورين، ص234) هو أنه إذا كان عيسى -عليه السلام- قد رُفع حيًّا بالفعل وسينزل ثانية حقًّا، فلن يقدر ميرزا غلام أحمد على تأويل النصوص الكتابية التي تشير إلى عودته تأويلًا مجازيًّا. وهكذا، فإنّ جدلية وفاة عيسى محورية في دعاوى الأحمدية بصحة مذهبهم.

يتطرّق الفصل السابع لمجالات الصراع في التفسير المعاصر للقرآن. فتلقي بينك الضوءَ على السجالات حول الجنس والشذوذ، وتضعهما في سياقات مجتمع اليوم المعولم، وتشير إلى أنّ التركيز عليهما من المسائل المستجدة في تاريخ التفسير. وتستعرض بينك كذلك ظهور الاتجاهات (ما بعد الحداثية) التي تشدّد على ذاتية عملية القراءة والفهم لأيّ نصّ، بما في ذلك القرآن، وهي تمثّل تناقضًا مهمًّا للمناهج الحداثية التي تم تكريس الكتاب لعرضها حتى الآن. وفي حين تعتقد المناهج الحداثية أنها موضوعية بوضع النصّ ضمن نموذج متّسق عقلانيًّا لاستخلاص رسائل مناسبة لظروف الحداثة، تعرف ما بعد الحداثة أنها ذاتية في اختيار الإطار التفسيري الذي سيؤدي إلى نتيجة معينة مرجوّة (ص280). هذه نظرة ثاقبة مهمّة للغاية، عرضتها بينك بمهارة ورونق، إلا أنه من المؤسِف أنها لا تأتي إلا في نهاية الفصل الأخير. ولو أنها عرضتْ لفئة ما بعد الحداثة في مرحلة أسبق من الكتاب لكانت قد وفّرت الفرصة لمزيد من استكشاف مفارقاتها مع الحداثة.

وأقرب ما يكون القارئ من مثل ذلك الاستقصاء هو في الخاتمة، حيث تتطرّق الكاتبة للردود المتنوّعة للآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء؛ «وهي آية يبدو أنها تجيز للزوج ضرب زوجته» (ص284). تضع بينك باقتدار الدفاعية الحداثية على طرف النقيض من الإستراتيجيات ما بعد الحداثية التي جاءت بها مفسِّرات (نسويات)، ومع أنه لا كبير جديد في ذلك المحتوى للمطّلعين بالفعل على تلك السجالات، إلا أنه سمح لبينك أن تخلص إلى عددٍ من النقاط الختامية المهمّة عن نهج ما بعد الحداثة الوليد. أولًا: دائمًا ما تشتبك عملية التفسير مع الأُطر الأوسع للمعنى وإلى حَدّ ما يكون ما بعد الحداثيين أكثر وعيًا ذاتيًّا بهذه الحقيقة. ثانيًا: قد يسعى ما بعد الحداثي إلى تفكيك مركزية القرآن للاستفادة من مصادر المعرفة الأخرى وحتى معايير العدالة. ثالثًا: قد يكون ما بعد الحداثي منفتحًا على التشكيك في محفوظية النصّ القرآني من التحريف وكمال معناه. وفي حين ترفض بينك بحكمة التكهُّن حول ما إذا كان اتجاه ما بعد الحداثة هذا سيتوسّع وراء حدود موقعه الهامشي الحالي، إلا أنها تترك مساحة مفاهيمية واسعة للآخرين للبناء على تقييمها من خلال مناهجهم التحليلية والبنائية.

«تفاسير المسلمين اليوم» له العديد من الصفات الممتازة. وتدور عين بينك النقدية بين المواد في العديد من اللغات الرئيسة المستخدمة في التفسير المعاصر في العالم الإسلامي وفي مجموعة واسعة من السِّجِلّات، بدءًا من الرسوم الكاريكاتورية ومشاركات المدونات إلى التفاسير والدراسات الأكاديمية متعدّدة المجلدات. ولم تتسع هذه المراجعة إلا للتطرّق لبعض المؤلّفين والأعمال والمواقف التي تمت دراستها في الكتاب، الذي هو حقًّا أشبه بلقطة فوتوغرافية عالمية. علاوة على ذلك، تحافِظ بينك على مستوى رائع من الوضوح والدّقة التحليلية في التعبير عن المواقف المختلفة التي تبحثها. إنها تتناول القضايا الرئيسة، وتحدّدها بوضوح، وفي رأي هذا المراجع على الأقلّ، دائمًا ما تضع إصبعها على الأسئلة الرئيسة المطروحة على المحكّ.

يجب على أيّ مؤلِّف يرجع إجمالًا لمثل هذه المجموعة الكبيرة من مواد المصادر الرئيسة أن يكون انتقائيًّا بشأن ما يقدّمه للقارئ، وأن يكون -على ذلك- منفتحًا للتحقيق في معايير اختيارهم: لماذا هذه النصوص والآيات القرآنية بالذّات؟ ويبدو جواب بينك الضمني هو أنّ تلك النصوص والمقتطفات المختارة تمثّل توجّهات معينة أوسع، إلا أن هذه النصوص والمقتطفات تحضر كأمثلة على تحليل بينك [المسبق] لها. والخطر الداهم يكمن في الدوران في حلقة مفرغة واختيار الأدلة التي تدعم التصوّرات المسبقة الحالية للفرد. ومع أنّ هذا ربما يكون أمرًا لا مَفَرّ منه لدرجة ما، إلا أنّ أيّ إثباتٍ (ما بعد حداثي) لحضور هذا التحدي ضمن مشروع الكاتبة نفسه لم يكن ليذهب سدى.

ومن المواضع التي تظهر فيها ميول بينك الشخصية بوضوح، رؤيتها للمشهد العلمي المعاصر، والتي يمكن القول إنها تضخّم (نجاح) النموذج السَّلَفي على حساب مرونة نهج علماء السنّة الأكثر تقليدية. وفي حين أنه لا شَكّ في أنّ السَّلَفِية والحداثة كانا لاعبَيْن رئيسَيْن في ساحة التفسيرية المعولمة، إلا أنّ إحدى السمات المُعتبرة للعلم في العالم الحديث هي -نسبيًّا- التأثير الراسخ والمُستدام للعلماء. تتحدّث بينك في المقدّمة عن تبنِّيها لمنهج فوكو في الجينالوجيا المعرفية الذي يشدّد على الاستمرارية قبل التمزّق والتغيير، وهذا أليق ما يكون في حقل التفسير (ص8). ويمكن للمرء أن يقول على سبيل السجال: إن ظاهرة الاستخدام المعاصر للتفسير الكلاسيكي في المدرسة والمسجد وعبر الإنترنت كان يمكن أن تحظى في الكتاب بتصدير أكثر مما تم عرضه. ومع ذلك، فأحد الأسباب التي يمكن المحاججة به فيما يتعلق بتهميش التأثير المستمر للعلماء التقليديّين في الكتاب هو أنه يعارض أطروحتها الرئيسة عن مركزية القرآن. ويبدو ممكنًا أنه بالنسبة لأمثال أولئك العلماء وللأعداد الغفيرة من المسلمين الذين يرجعون إليهم في مسائل دينية، فإنّ القرآن لم يتحوّل عن مكانته الكلاسيكية في مصفوفة التخصّصات الفكرية. إذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أنّ هناك مجالًا لتكملة السّرْد الوارد في هذا الكتاب بآخَر يركّز على المعارضين المعاصرين للتفسير الحداثي (وما بعد الحداثي). وينبغي ألّا يُنْظَر لهذه النقاط النقدية على أنها تهوين من قَدْر إنجازات بينك البارزة في هذه الدراسة، التي تُعَدُّ إضافة مبتكرة للسلسلة الواعدة (موضوعات في الدراسات القرآنية) من إكوينوكس.

 

[1] هذه المادة هي ترجمة لعرض كتاب: Muslim Qurʾānic Interpretation Today: Media, Genealogies and Interpretive Communities المنشور في مجلة: Journal of Qur’anic Studies في 2021م.

[2] مترجم هذه المادة: هدى عبد الرحمن النمر، كاتبة ومترجمة، لها عدد من الأعمال المطبوعة.

[3] يوهانا بينك، Johanna Pink، باحثة ألمانية، أستاذ الدراسات الإسلامية وتاريخ الإسلام في جامعة فرايبورغ.
حاصلة على الماجستير من جامعة بون، والدكتوراه من الجامعة نفسها حول المجتمعات الدينية في مصر.
عملت كأستاذة زائرة في عدد من الجامعات.

تتركَّز اهتماماتها في التفسير الحديث والمعاصر للقرآن، وكذلك ترجمات القرآن ولها عدد من الكتب والدراسات في هذا السياق، من أهمها الكتاب الذي تعرضه هذه المقالة.
وقد ترجمنا لها دراسة حول التفاسير المعاصرة بعنوان «التقليد والمرجعية ﻭﺍﻻﺑﺘﻜﺎﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻔﺎﺳﻴﺮ ﺍﻟﺴﻨﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ؛ ﻧﺤﻮ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻟﺘﻔﺎﺳﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻭإﻧﺪﻭﻧﻴﺴﻴﺎ ﻭﺗﺮﻛﻴﺎ»، ترجمة: د/ حسام صبري، يمكن مطالعتها ضمن الترجمات المنوعة على قسم الاستشراق بموقع تفسير. (قسم الترجمات).

المؤلف

ريمون هارفي - Ramon Harvey

باحث أمريكي، محاضر في الدراسات الإسلامية في كلية إبراهيم في لندن.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))