الاستشراق والدراسات القرآنية بين الأمس واليوم
د. رغداء محمد أديب زيدان
يقدّم هذا البحث قراءة وصفية لتاريخ الاستشراق ونشأته وأهدافه، والمناهج التي يستخدمها في تناول القرآن الكريم، ويستشكل مقولةَ مَوْتِ الاستشراق، ويبين من خلال بعض النماذج استمرارية كبيرة للاستشراق في المناهج والأدوات، وكذلك يثير تساؤلات عن مدى كفاءة مناهج الاستشراق في دراسة القرآن الكريم.
تنبع أهمية الدراسات الاستشراقية التي تناولت الإسلام وقدمته وفق مناهجها وتصورها الخاصّ، من كونها أفرزت أسلوب (تعامُل) مع الإسلام، وأسلوب (خطاب)، كان وسيلة لرسم الشرق وتقديمه، ليس فقط للغرب ولكن لأهل الشرق أنفسهم. فمنذ بداية ظهور الاستشراق لم يكن اهتمام المستشرقين بالقرآن الكريم وليد الحاجة المعرفية والبحثية، بل كان نابعًا من الحاجة لمعرفة دين العدو المنافس، وهي حاجة محكومة باعتبارات دينية، تُشَيْطِنُ المسلمين وكتابهم ونبيّهم، وتنظر مسبقًا نظرة تكذيب وتشكيك بالقرآن والإسلام. ثم تَحَوَّل هذا الاهتمام -مع تغيُّر موازين القوى العالمية، وصعود أوروبا عسكريًّا وحضاريًّا- لحاجة المستعمِر الساعي للسيطرة إلى معرفة دين الشعوب التي يخطط لاستعمارها واستغلالها، حيث عمل على رسمها ثقافيًّا ومجتمعيًّا بما يتناسب مع أهدافه التسلُّطيَّـة.
وعندما شرع المستشرقون في دراسة القرآن دراسة بحثية لغرض معرفي سيطرَ عليهم ماضٍ ثقيلٌ وإرثٌ معرفيّ تعامَل مع الإسلام والقرآن من منطلق التكذيب والاستخفاف، ولم تنفع محاولة تلك الأبحاث في البُعد عن التشنُّج الديني والخبث الاستعماري، في تقديم منهج صحيح للدراسة؛ فقد تم التعامل مع القرآن على اعتبار أنه من تأليف محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، واتجه البحث إلى تاريخه ومصادره وأصل ألفاظه وطريقة جمعه وتدوينه وترتيبه...إلخ. فتم منذ البداية استبعاد إمكانية كونه وحيًا من الله، أنزله على نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- لتبليغه للعالمين.
وعندما أراد الباحثون الغربيون في العصر الحديث التخلص من إرث الاستشراق الثقيل لم يستطيعوا تنحية العقلية التي حكمت أسلافهم في تعاملهم مع الإسلام والمسلمين ودراساتهم للقرآن الكريم وعلومه. وتحوّلت الأبحاث الغربية في السنوات الأخيرة لترسيخ شَيْطَنة الإسلام، وتصوير القرآن على أنه يصدِّر العنف ويحضُّ أتباعه على القتل ونفي الآخر وقمع المرأة. كما انصبّت الدراسات الاستشراقية -في جانب مهم منها- على اللغة، ودُرِسَ القرآن باعتباره كتابًا لغويًّا نصيًّا، واستخدموا فقه اللغات philology لدراسة القرآن، واستغرقوا في البحث في أدق التفاصيل اللغوية فيه، محاولين إرجاعها إلى ما يتصورون أنه أصلها في اللغات الشرقية الأخرى، وهذا ما أدى إلى الوقوع تحت تأثير الحدس والتخمين القائم على استقراء مجتزأ، بعيدًا عن النتائج العلمية الموضوعية الواقعية الصحيحة.
وفي العصر الحديث ظهر باحثون دعَوا إلى تطوير مناهج البحث في الدراسات الإسلامية لتلافي مثالب المناهج البحثية القديمة، لكن مناهجهم الحديثة تصلح للعلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، ولا تُخْرِج نتائج بعيدة عن الإطار الحدسي التخميني الذي هو وليد نظريتهم الأزلية التي تنفي الغيب، وتتعامل مع القرآن على أنه نتاج بشري وليس وحيًا من الله.
المشكلة الآن ليست في الدراسات الاستشراقية بحدّ ذاتها رغم ما يعتريها من عوار منهجي وعلمي، لكن المشكلة تكمن في أن كثيرًا من الباحثين المسلمين؛ ونتيجة استلابهم المعرفي، وجدوا في هذه الدراسات ومناهجها أسلوبًا علميًّا لدراسة القرآن الكريم، وراحوا يروِّجون لاستخدامها بحجّة قدرتها على استنطاق النصّ؛ وهو ما أدى لانحرافٍ في فهم القرآن ودلالاته، ولقصورٍ في العمل على تطوير منهج بحثي صحيح للدراسات القرآنية.
يهدف هذا البحث لطرح مجموعة من الأسئلة التي ستساعد محاولةُ حلِّها على تقييم تلك الدراسات الاستشراقية ومدى صلاح مناهجها في دراسة القرآن.