بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن
لـ ماسيمو كامبانيني
"عرض وتقويم"

المؤلف : محمود عماد
ماسيمو كامبانيني واحد من أهم المستشرقين المعاصرين، له نتاج واسع حول القرآن الكريم والتفسير، خصوصًا نظريته حول الفلسفية القرآنية، والتي عرضها في بعض أعماله، هذه المقالة هي عرض لإحدى مقالاته التي عرضت لهذه النظرية، وتقويم لها.

  نُشرت ترجمة لورقة بحثية لأحد الباحثين الغربيين، والتي تناوَل فيها الباحث أحد الموضوعات المهمّة، وهي ورقة (بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن)[1] للباحث ماسيمو كامبانيني[2]، وفي هذه المقالة سنحاول تقويم ورقة كامبانيني وبيان الموقف منها، وستأتي معالجتنا النقدية مقسومة لقسمين؛ أحدهما لعرض البحث كما عرضه صاحبه باختصار لا يخلّ به، والثاني لتقويمه، وذلك بعد تمهيد نعرّج فيه أولًا حول ما أثاره كامبانيني من فكرة تعامل القرآن بمنظور فلسفيّ، وثانيًا حول البناءات الأوّلية التي بنى عليها الباحث أفكاره ومن ثم توصّل لطرحه حول الفلسفة القرآنية، وهو ما نتعرّض له بالتفصيل في هذه المقالة التي تعدّ مقاربة نقدية نأمل أن تكون منصفة وشارحة لمنهج الباحث قدر الاستطاعة؛ واقفة على أهم ما يميّز هذا البحث وأبرز ما اعتراه من نقص وإشكال في إيجاز شديد.

تمهيد:

إسهامات ماسيمو كامبانيني في الدراسات القرآنية:

شهدت مؤخرًا الدراسةُ الغربية للقرآن بدءَ ظهورٍ لتناوُلٍ مختلِفٍ، وهو التناول الذي يركّز على معنى النصّ نفسه ودراسة تفسيراته المختلفة، على عكس ما كان مشتهرًا قبل ذلك من دراسةِ تاريخيةِ القرآن ومدى موثوقيته، في هذا الصدد برزتْ على الساحة الاستشراقية دراسات جديدة مثل دراسة بنيوية النصوص القرآنية ودراسة التراكيب الأدبية والبلاغية وأيضًا الرؤية الفلسفية للقرآن.

ويعدّ ماسيمو كامبانيني من أهم روّاد هذا الاتجاه الأخير الذي يُطْلِق عليه مصطلحًا خاصًّا به وهو الفلسفية القرآنية؛ الذي يقصد به استشفاف النظرة الفلسفية المطروحة داخل القرآن ومدى ملاءمة اللغة النصّية وعلاقتها بتلك الأفكار. يرصد كامبانيني من جهةٍ أفكارَ النصّ ذاتِه كما يراها النصّ عن نفسه، ومن جهةٍ أخرى تعامُلَ الفلاسفةِ المسلمين على مَرّ العصور مع رؤيتهم للقرآن ومدى انطباع ذلك على تفسيراتهم له، بالطبع يقوم بذلك كامبانيني منطلقًا من قواعد فكرية مسبقة لفهم القرآن ولقراءة أفكار هؤلاء الفلاسفة، مما سيؤثّر بلا شك على فرضياته واستنتاجاته -وهذا ما سنحاول رصده في تلك الورقة- لكن تكمن أهمية البحث في طَرْقِ أبوابٍ جديدة للتعامل مع القرآن وإعادةِ بلورةٍ لمفهوم الفلسفة الإسلامية مبناها النصّ نفسه وليست رؤية الفيلسوف.

 بعد صدور كتاب (وجهات نظر فلسفية حول تفاسير القرآن المعاصرة) عام 2016م والذي أثار اهتمامًا واسعًا في أكاديميا الدراسات القرآنية، فقد نشر عدّة أبحاث تالية في ذات السياق، منها: نحو الفلسفية القرآنية، البنية والمعنى في القرآن عام 2018م[3].

 ولعلّنا نقوم بدراسة تفصيلية حول تلك الورقة في وقت يقدّره الله ويعيننا عليه، ويمكننا القول أنه يقدّم مساحة جديدة على ساحة الاستشراق الغربي حول دراسة النصّ القرآني باعتباره نصًّا فلسفيًّا له ميزاته الخاصّة وربط ذلك بمفاهيم الفلسفة الحديثة، بالإضافة إلى الورقة التي بين أيدينا الآن والتي نُشرت عام 2020م وهي بمثابة تطبيقات عملية على الفكرة الرئيسة للتعامل مع القرآن باعتباره نصًّا فلسفيًّا عميقًا يقدم رؤية لكلٍّ من العالَم والوجود/ أنطولوجية ونظرية معرفية/ إبستمولوجية وإيجاد العلاقة بين ما يقدمه القرآن من معنى وبين ما يطرحه علماء المسلمين من اتجاه المذهب الظاهري -أو فلاسفة حسب تسميته- وإيجاد علاقات بين هؤلاء العلماء وبين آخرين على فترات زمنية متباعدة (ابن حزم/ ابن رشد/ محمد عابد الجابري) ونسج خيوط فكرية يدّعي أن الاتجاه الظاهري في التفسير هو المشترك فيما بينها.

ويُعَدّ هذا البحث أحد تجليات هذه الأفكار وسنناقش الفكرة بمزيد من التوضيح فيما سيأتي.

القسم الأول: بحث ماسيمو كامبانيني؛ عرض وبيان:

هدف البحث:

يهدف البحث إلى تطبيق عملي لما قدّمه في أبحاثه السابقة وهي التعامل مع القرآن ككتاب فلسفي يُمثل (أليثيا al-letheia) ويجب علينا اكتشاف هذه المعاني من داخله ودراستها بشكلٍ منفصل عن الأفكار الفلسفية المسبقة، ويحاول كامبانيني في هذه الورقة قراءة بعض الآيات مستخدمًا ظاهر وباطن النصّ لاكتشاف المعنى الأصلي الذي يوضحه النصّ؛ والذي يعتبر بالنسبة له الممثّل للحقيقة التي يظهرها النصّ لدى متلقّيه، واعتماده على ابن حزم وابن رشد والجابري، إنما هو لمحاولة تدعيم فكرته بنماذج من علماء الإسلام التراثي والمعاصر فهو لا يريد أن يثبت أو ينفي علاقة تسلسلية تاريخية تحمل ذات الاتجاه الفكري بينهم قدر ما يصبو إلى استكشاف بيان النصّ = أي حقيقة معناها من حدود ألفاظه، فبيان ظاهر المعنى لدى الباحث هو معرفة مراده وليس كما يتصوّر بعضهم البيان الحرفي للنصّ.

يجادل كامبانيني كلًّا من الفلاسفة التحليليين وعلماء الاجتماع في مفهوم المقاربة النصّية التي لا تنقل سوى صورة جوهرانية ثابتة للنصوص الدينية، بينما الدين هو ظاهرة اجتماعية مرتبطة بأسلوب مادي ومتغيّر مع الزمن، ويعترض على هذا المبدأ ويتمسك بأن المقاربة النصّية لنصٍّ فريدٍ مثل القرآن يمكن أن تصبح متجدّدة ومتداخلة مع المفاهيم المعاصرة كلّما حاول القارئ اكتشاف بيان النصّ فقد يستطيع الوصول إلى مقصد الله.

منطلقات الباحث في الورقة البحثية:

وقد عرض الباحث مبادئ أوّلية يعتمد عليها في بنائه الفلسفي الذي يطرحه قبل شروعه في عملية البحث، وهي:

- اللغة ودورها في التفسير برؤية هايدجر:

يمكن أن نختصر مفهوم هايدجر عن اللغة في مقولته التي ذكرها في كتاب (رسالة في النزعة الإنسانية)
«إنّ الشأن الوحيد للفكر هو أن يحوِّل إلى شكلٍ منطوق مجيء الوجود، الذي يكمن وفي كمونه ينتظر الإنسان، والوجود بطبيعة الحال يسفر عن وجهه في اللغة»[4].

«فبدون اللغة لَمَا أمكن للإنسان أن يكون، وما أمكن أن يوجد بأيّ أسلوب يمكن أن نتخيله، إنه لوَهْمٌ عظيم إذن أن نظنّ أن الإنسان قد اخترع اللغة! فالإنسان لم يخترع اللغة، تمامًا مثلما أنه لم يخترع الفهم ولا الزمان ولا الوجود نفسه. هل يُعقل أن يكون الإنسان قد اخترع تلك القوة التي تغمره والتي بفضلها وحدها يمكنه أن يُوجد كإنسان؟ وحتى الفعل الإنشائي للتسمية، تسمية الأشياء؟ هو استجابة من جانب الإنسان لوجود الموجودات»[5]. أي أن اللغة عنده جزء لا يتجزأ عن الفهم بل والوجود بأكمله.

- الكشف بمفهوم هايدجر (الأليثيا):

يعدّ مفهوم الأليثيا لدى هايدجر من المفاهيم الرئيسة التي اعتمد عليها الباحث في تأسيس كلامه عن الكشف، لكن من المهم شرح معنى الأليثيا لدى هايدجر نفسه.

وقد نقَل مصطفى هندي مترجم المقال جزءًا من نصّ هايدجر لوصف معنى الكشف لديه، ويمكن تلخيصه في أنّ الكشف (الأليثيا) تُمثل النظر للوجود العميق الذي يُمكِّننا من إدراك الإلهي، وكلّما كان النظر في جوهر الوجود كاشفًا كلما ظهر الكائن/ الإلهي (the Being) الذي يكشف عن نفسه لنا.

لكن نلاحظ هنا أنّ كامبانيني يَستخدِم المفهومَ ذاتَه ويُلْبِسُه معنى آخر مختلفًا عن استخدام هايدجر، وسنتطرق لهذا تفصيليًّا في كلامه عن مفهوم البيان ونرى كيف يوظّفها في بحثه[6].

- النصّ القرآني (رؤية هيجل للنسق):

يستعين الباحثُ أيضًا بمفهوم النظام الفلسفي لدى هيجل ويسقطه على القرآن ويعتبره نصًّا مرتبًا هيكليًّا.

لكن النسق لدى هيجل له مفهومه الخاصّ والذي يعني أنّ:

«كلّ جزء من أجزاء الفلسفة هو كلٌّ فلسفي، دائرة منغلقة على نفسها؛ ولكن في كلّ جزء من هذه الأجزاء، تكون الفكرة الفلسفية حاضرة في تعريف أو عنصر محدّد. لكن في نفس الوقت كلّ دائرة مفردة لكونها كلية بحد ذاتها، تخترق قيود عناصرها وتؤسّس مجالًا إضافيًّا، ومِن ثم فإنّ الكل يقدّم نفسه على شكل دائرة من ضمن دوائر أخرى، لكلّ منها لحظة ضرورية. وبالتالي فإنّ النظام المكوّن من عناصره الخاصة يشكّل الفكرة بأكملها، والتي تتجلّى بشكلٍ متساوٍ في كلّ واحدة من تلك الدوائر»[7].

وبعد أن أوضحنا المنطلقات الفكرية للباحث نشرع في استعراض البحث، وقد قسّم كامبانيني هذه الورقة إلى ثلاث نقاط رئيسة، هي:

- مفهوم البيان.

- الفلاسفة الظاهرية.

- تطبيق منهج البيان (الغزالي نموذجًا).

أولًا: مفهوم البيان لديه:

يحاول كامبانيني في هذه الورقة تسليط الضوء على اللغة واكتشاف دورها في مدى دقّة الوصول للمعنى الذي تبرزه الكلمات المعبّرة عنه، ويكمُن تركيز الباحث على الأفكار الفلسفية داخل القرآن، مثل دراسة نظرية المعرفة وعلم الوجود (إبستمولوجي وأنطولوجي)، ومن هنا يبدأ البحث بتحديد معنى ومقصود كلمة البيان على الرغم من اعترافه أن الكلمة مستخدمة في علم البلاغة، إلا أنه سيقرّر أن يضفي عليه مفهومًا فلسفيًّا حيث يصوّره بيانًا مقابل الكشف العرفاني المعروف في أدبيات الفكر الصوفي؛ وإجمالًا فالمعنى الذي يقصده بالبيان: هو الواضح الظاهر ظهورًا حقيقيًّا، ويضربُ مثالًا لذلك المعنى من القرآن حيث ذكر القرآن في:

- بداية سورة الرحمن حيث يقول الله جلّ وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾[الرحمن: 1- 5].

يذكُر ترجمتين لكلمة البيان وهما التواصل وعملية الاتصال، الترجمة الأخرى التي تعتبر تُترجمها بالتفسير والإيضاح، وهو المعنى الذي يرجحه على المعنى الأول[8].

- وأيضًا تكلّم القرآن عن نفسه باعتباره نصًّا واضحًا وكتابًا مُبِينًا كما في سورة البينة: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾[البينة: 1- 4].

من هنا ينطلق الباحث من أنّ المطلوب هو تضافر الجهود من عديد الأفهام والمنهجيات التي يمكن لها مجتمعة أن تصل إلى الفهم الشامل لمراد النصّ، فهو مغلق ولا يمكن الإضافة إليه أو الحذف منه، لكن يمكن أن يضاف إليه معاني جديدة كلما زاد وعي المتلقي. وهو ما يسعى إليه حيث يدّعي كامبانيني أنّ عِلْمَ الله هو العِلْمُ الكلّي للأمور، وعِلْمَ الإنسان هو جزءٌ ضئيل من هذا العلم؛ لذلك لا نستطيع معرفة الأشياء اللانهائية ولا نحيط بتصوّرات كلية عن الله أو عن العالم؛ فكلّ ما هنالك أننا ندرك علومًا محدودة في مقابل الله الذي يُدرك كلّ العلوم ويحيط بمنتهاها، وعليه فلا توجد أسرار أو ألغاز في ما يقدِّمه القرآن من تصوّرات تحتاج إلى الكشف الروحي الذي ينادي به الصوفي للوصول إلى اليقين، بل القياس المنطقي يكفى للوصول إلى الإدراك الظاهر/ الحقيقي، ويستشهد على ذلك بكلام الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي من أنّ الدينَ ظاهرٌ لا باطنَ فيه، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بيّنَ الشريعة كاملةً غير منقوصة ولم يكن يُخفي أسرارًا ولا رموزًا ولا فهمًا باطنيًّا.

ثانيًا: الفلاسفة (الظاهرية) والرابط بينهم:

يعرض الفلاسفة الظاهرية نظرية تأويل القرآن من داخله للوصول إلى المعنى في مقابل الكشف والعرفان المبنية على التفسيرات المجازية وتستبعد أيّ مصادر خارجية غير القرآن لتفسيره؛ فالقرآن يتم تفسيره بالقرآن. ويُرْجِع الباحثُ تطبيق ابن حزم للمنطق الأرسطي والاستعانة به إلى أنّ القرآن لا يحتوي على قدرٍ كبيرٍ من اللاهوت/ علم الكلام، وهذا الكلام فيه نظر، وسوف نناقشه تفصيليًّا عند تقويم البحث.

أمّا فيما يخصّ تعدّد المعاني لذات اللفظة الواحدة من القرآن فطريقة ابن حزم هنا هي النظر لسياق الآيات التي تظهر فيه أو ما تُعرف به تلك اللفظة من الواقع الذي يستخدمه بها متكلّموها.

ويربط الباحثُ بين أفكار ابن حزم الظاهرية في التفسير وبين أفكار ابن رشد ورفضه للتفسيرات الباطنية، وهذا الربط ليس استنتاجًا منه على ذلك إنما هو استعانَ بتلك الفكرة من محمد عابد الجابري، بل وذكَر نصوصه كما هي من كتابيه: (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي)، وتتلخّص فكرته في أنّ ابن رشد تأثّر بالمنهج العلمي لدى ابن حزم وحاول وضع براهين منطقية للتفسير ورفض المنهج الباطني والتفسير القائم على الكشف العرفاني وهاجَم علماءَه كالغزالي وابن سينا[9]، وهذه الأفكار التي تدعو للتفكير العلمي وتركِ التقليد والرجوعِ إلى الأصل هي أفكارُ كلّ الإصلاحيين المعاصرين والتي بدأت بذورها من ابن حزم ثم ابن رشد، بيدَ أنّ ابن رشد أخذ بذور تلك المدرسة وقام بتطويرها، حيث كان يحاول إعادة بناء الدليل اللاهوتي على دعامات البرهان الفلسفي -الأرسطي- كما أنه حاول وضع نظرية تأويلية تلتزم بالاحتفاظ بالمعنى الظاهر للنصّ الموحَى به، وتقوم نظريته على أن يظلّ المعنى الظاهر هو المعنى الأصلي، ولا يجوز تجاوزه إلى المعنى المجازي بتأويله إلا في حالات خاصّة، ويعرّف التأويل بأنه إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية دون أن يخلّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز مِن تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من المعروف في الكلام المجازي، وقد وضع ثلاثة مبادئ لنظريته وهي:

1- لا يتعارض النقل مع ما يقرّره العقل وهما في وِفاق تامّ إمّا بظاهر النقل أو بتأويله.

2- القرآن يفسِّر بعضُه بعضًا، وإذا تعارض ظاهرُ آيِهِ مع ما يقرّره البرهان الفلسفي فإنه ولا بد من وجود آيةٍ في موضع آخر يشرح ظاهرها المعنى المقصود للآية الأولى والموافق للبرهان حتمًا.

3- الفصل فيما يؤوّل وما لا يؤوّل، ويقول إنّه لا يجوز التأويل أبدًا فيما يتعلّق بالإقرار بوجود الله ووجود النبوّات واليوم الآخر؛ أمّا عدا ذلك فيَقْبَل التأويل ولكن بشروط، وهي:

- احترام خصائص اللسان العربي في التعبير.

- احترام الوحدة الداخلية للقول الديني، فلا يجوز تضمينه أشياء غريبة عن مجاله التداولي الأصلي في زمن النبي ولا مجال لإقحام التصوّرات الفلسفية في الصرح الديني.

- احترام المستوى المعرفي لمَن يوجّه إليه التأويل.

وبناء على نظرية ابن رشد في التأويل يقرّر الباحث أن بذور تلك النظرية نبتت من جذور نظرية ابن حزم التي تحترم حدود اللغة وتلتزم بلسان العرب في الكلام المجازي، مما يعني تقييد التأويل العام واحترام ظاهر اللفظ، كما أنّ مبدأ وجود آيات تشرح آيات في موضع آخر يوافق العقل والنقل هي أيضًا امتدادٌ لِمَا قرّره ابن حزم من مفهوم ترجيح معنى لفظة بناءً على سياق الآيات الموجودة فيها.

ومن خلال تلك النظرية يثبت كامبانيني أنّ الفلاسفة الظاهرية حاولوا الوصولَ إلى معنى النصّ من داخله واستقراءَ جميع أجزاء النصّ، مع محاولةِ تأويلٍ منضبطة مبنية على أساس لغوي ولها شروط معيّنة، وفي الوقت نفسه ليست حرفية فهي تلجأ إلى المعنى المجازي إذا احتاجَت تفسيرَ معنًى غيرِ واضح أو معارِضٍ للعقل البرهاني في موضع من المواضع.

ويصف كامبانيني تأويلية ابن رشد بـ(المعتدلة)؛ لأنها تحافظ على أمانة الظاهر الدلالي للنصّ من جهةٍ وتقوم على بناءٍ فلسفي من جهةٍ أخرى، فابن رشد لا يرى تعارضًا بين التفسير الفلسفي للاستواء على العرش أو النعيم الروحي في الجنة (التفسيرات المجازية المعروفة لدى الأشاعرة والمعتزلة) وبين المعنى الحقيقي الذي يصل لعموم الناس.

وعلى الرغم من الاختلاف بين ما يطرحه ابن حزم وبين تأويلية ابن رشد من أن الاسم يدلّ على المعنى عند ابن حزم ورفضه التام لضرورة التأويل المجازي، إلا أنّ كامبانيني يرى أنّ ميزة القانون الذي قدّمه المنهج الظاهري لدى ابن حزم تكمن في تفسير القرآن من داخل القرآن، وتلك القاعدة متوافقة مع طَرْح ابن رشد.

ويصل إلى استنتاج أنّ مفهوم البيان يجب أن يتوافق مع مفهوم الشَّبَه، وأنّ الشبه مُعبِّر عن الحقيقة أكثر من مفهوم الرمز الذي يقوم على المجاز الذي لا يحترم جوهر المعنى المقصود من الكلام بينما الشبه ليس كذلك.

ويحاول التدليل على استنتاجه بأنّ القرآن الكريم استخدم تعبير ضربِ الأمثال لتوضيح وبيان المعنى، وأن الشبه هي الكلمة التي تنجح في فعل ذلك.

ثالثًا: تطبيق منهج البيان، الغزالي نموذجًا:

يستعين كامبانيني بتفسير الغزالي لآية النور 35: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ...﴾ كمثال على التطبيق العملي لمنهجية البيان القائم على التشابه وليس الرمز، فيقول أنّ النور هو صفة من صفات الله ويعكس التجلي الإلهي لجوهر الذات على الموجودات من العالم والبشر، فهو المصباح الذي يضيء دُجَى العالم، وكما قال ابن حزم أن الاسم يدلّ على المعنى؛ أي النور دالٌّ على معنى الله فهو ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾، وهكذا يعيد التشابهُ إنتاج ما يشبهه كما يُظهِر النورُ جوهرَ الله.

بينما المخلوقات ممكنة بذاتها وتصبح ضرورية بفعل الوجود الضروري/ النور الذي يفيض على المخلوقات الممكنة/ المظلمة من خارجها فينقلها إلى الوجود/ الضرورة[10].

وعلى ذلك فإنّ الله لا يُشبَّه بخلقه إلا من الناحية الرمزية فقط وليس من ناحية الجوهر كما تذكُر سورة الشورى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وأنّ الله رمز لنفسه فقط ولا يمكن مقارنته بشبيه؛ لأنه لا يشبهه أحد من خلقه فهو أسمى مَثَل/ رمز، ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ كما في سورة الروم الآية 27.

وهذا يعني أن الله غيرُ قابلٍ للمعرفة فهو فوق جميع الجواهر ولا يشبهه أيٌّ منها، وأن الكون هو آية من آيات الله تدلّ عليه = تُظهِر وجوده، فمن خلال بنية الكون المعقدة ومنطق صيرورته ندرك نشاط الله.

نتائج البحث:

يقدِّم كامبانيني في نهاية المطاف مثالًا على منهجية مقترحة لفهم القرآن عن طريق مسار فلسفي تأويلي قائم على اللغة وظهور معانيها بمصطلحات المذهب الظاهري، ويصف هذا المنهج الظاهري بأنه مفيد ويستطيع أن يقدّم رؤية واضحة في التفسير، حيث إنه يقف في منعطفٍ وسَط بين استقطاب التأويل المجازي الباطني والالتزامِ التامّ بحرفية النصّ، وأنّ إشكالية التفسير تكمن في الالتزام بأمانة النصّ الموحَى به والوصول إلى المعنى بعيدًا عن غموض المجاز والحرفية المطلقة للنصّ. يُقدِّم المنهجُ الظاهري محاولةً أفضل للوصول إلى بيان النصّ.

وبذلك نكون قد انتهينا من عرض بحث كامبانيني، والآن ننتقل لمراجعة ما قرّره في بحثه وبيان أهم الأخطاء التي وقع فيها الباحث، لكن أولًا نقف على أهم ما جاء في دراسته من مميزات وأبرز ما يمكن الاستفادة منه حتى لا نبخسه حقّه.

القسم الثاني: بحث كامبانيني؛ نقد وتقويم:

أهم مزايا البحث:

ينطوي البحث على بعض الميزات، أهمها ما يأتي:

أولًا: تسليط الضوء على دراسة تفسير النصّ:

يشير الباحث إلى أهمية دراسة معنى النصّ وسبر أغوار حقيقة معناه من حدود ألفاظه التي يتكلّم بها، ويحاول اكتشاف المعنى الأصلي الذي يُعتبر بالنسبة له الممثل للحقيقة التي يُظهِرُها النصّ لدى متلقّيه، فبيان ظاهر المعنى لدى الباحث هو معرفة مراده وليس -كما يتصوّر بعضهم- البيانَ الحرفي للنصّ.

ثانيًا: محاولة استكشاف الجهود التفسيرية في التراث الإسلامي:

حاول كامبانيني إيجاد علاقة لما يطرحه من فكرة ظاهر النصّ وبين جهود بعض الفلاسفة داخل التراث الإسلامي وقدّم نماذج من الفلاسفة المسلمين في عصور مختلفة لمحاولة التدليل على وجود بذور فلسفية لتلك الفكرة داخل النسق الإسلامي، وإن كنّا نختلف معه فيما توصّل إليه إلا أنه من المفيد للبحث دراسة الأفكار السابقة من داخل المنظومة المعرفية المنتمي لها.

ثالثًا: محاولة الإصغاء للأفكار الفلسفية داخل القرآن:

أشار الباحث إلى أهمية التركيز على نصّ القرآن نفسه وليس على الأفكار الفلسفية لدى الفلاسفة المسلمين وآرائهم المختلفة حول التأويل المتناول للذّات الإلهية وللكون والوجود، ويؤكّد على ضرورة الإصغاء إلى صوت القرآن ذاته عند دراسته للوصول إلى نتائج أكثر دقّة في عملية البحث.

أهم إشكالات البحث:

ينطوي البحث على بعض الإشكالات، وأهمها ما يأتي:

أولًا: إشكالات داخل البحث:

1- نقص الأدوات المعرفية (قبل المنهج):

يبدو أنّ الباحث لم يستجمع كلّ الأدوات التي تؤهّله للبحث في التراث التفسيري للفلاسفة المسلمين؛ فهو يعتمد على ترجمات إنجليزية لقراءة القرآن مع ملاحظة أن الإيطالية هي لغته الأم، أي أنه يفهم بلغة قد تعلّمها ولا نعلم درجة إتقانه لها لفهم نصّ مكتوب بغير لغته الأصلية؛ وهذا من شأنه بناءُ حواجز تَحُول بينه وبين ما يقوم بدراسته.

كما أنه يعتمد على قراءة الجابري لابن رشد وابن حزم لا كما يجب من خلال كتاباتهما مباشرةً؛ وهذا يعكس نقصًا ظاهرًا في أدوات الباحث التي تؤثّر -بلا ريب- في إدراكه لأفكار هؤلاء العلماء وفهمِ منهجياتهم.

ولكلام محمود شاكر هنا لفتة مهمّة في دور اللغة لدى الباحث وتأثيرها على منهجية البحث فيقول:

«هذا الذي يسمَّى (منهجًا) ينقسم إلى شطرين: شطر في تناول المادة، وشطر في معالجة التطبيق

 فشطر المادة يتطلّب قبل كلّ شيء، جمعها من مظانّها على وجه الاستيعاب المتيسّر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصًا دقيقًا، وذلك بتحليل أجزائها بدقّة متناهية، وبمهارة وحذق وحذر، حتى يتيسّر للدارس أن يرى ما هو زيفٌ جليًّا واضحًا، وما هو صحيح مستبينًا ظاهرًا»[11].

أمّا (آداب اللسان) فإنّ الناس لا يحتاجون إلى ما سميته (ما قبل المنهج) إلا بعد أن تستوفي «الآداب» نموّها عن طريق «اللغة» التي هي وعاء المعارف جميعًا، وبعد أن تستوفي أيضًا نموّها عن طريق «الثقافة» التي هي ثمرة المعارف جميعًا، وبعد أن تستوفي حظًّا من القوّة والتماسك والشمول والغلبة عن أصحاب هذه (اللغة).

 فمن طريق «اللغة» التي نشأ فيها صغيرًا، فإنه يسدّده أو يتهدّده، الإحاطة بأسرار «اللغة» وأساليبها الظاهرة والباطنة، وعجائب تصاريفها التي تجمّعت وتشابكت على مَرّ القرون البعيدة، فصارتْ ألفاظها وتراكيبها الموروثة والمستحدثة تحمل من كلّ زمان مضى وكلّ جيل سبق، نفحة من نفحات البيان الإنساني بخصائصه المعقّدة والمكتمة، أو خصائصه السمحة والمستعلنة[12].

ويقصد شاكر بهذا أنّ اللغة ومعرفتها أساسٌ لا بد منه ليقوم عليه بناء الباحث، فمن غير تَمكّن جلي يستعصي أن يُقدِم الإنسان على بحث يتّسم بالمنهج العلمي السليم.

2- الخلل المنهجي:

من المعروف لدى الدرس الاستشراقي دراسة القرآن في ضوء الكتاب المقدّس، ومن أثر ذلك تفسير المصطلحات القرآنية ومعانيه من خلال تفسير الكتاب المقدّس، وبالرغم من أن الباحث لم يفعل ذلك إلا أنه وقع في ذات الخطأ حيث استخدم المصطلحات الفلسفية وحاول إسقاطها على مفاهيم التراث الإسلامي، ويمكننا أن نرى ذلك بوضوح حين خلط بين الظاهرية والظاهراتية

فقد انطلق الباحث من منهج الفينومينولوجي (الظاهراتية) لدى هوسرل وجاء يبحث عنه في التراث الإسلامي ليجد المنهج الظاهري فيظنّ أنه قد وجد ضالته، ويمزج المنهجين معًا دون اكتراث للاختلافات الجوهرية بينهما، وهذا بالطبع خللٌ واضح في منهجية البحث.

بل إنه استورد أفكارًا ولم يدلّل عليها؛ فقد عرض الباحث فكرة الظاهرية وحاول الربط بين هذا المنهج وبين أفكار ابن رشد، وهو ربطٌ مخلّ لا يستقيمُ، وإيجاد تشابهٍ في أفكار ابن حزم من اعتماده للمنطق الأرسطي لا يجعل بينه وبين ابن رشد رابطًا فلسفيًّا حقيقيًّا، وهذه الفكرة المستلهمة من عابد الجابري لم يستطع التدليل عليها بوضع محدّدات منهجية يمكن القياس عليها[13].

وأيضًا اجتزأ بعض المفاهيم ووظّفها في غير موضعها؛ حيث يمكن للناظر بسهولة استنتاج عدم التوافق بين المفاهيم المستخدمة من قِبل كامبانيني وبين المواضع التي يضعها فيها؛ فهو يجتزئ مفاهيم من أنساق فلسفية ويرمي بها في أنساق مختلفة لا تناسبها، وحتى لو يقصد بها معاني أخرى يُشكّلها هو من جديد، فهذا يضر سلامة البحث ويحطّ من علمية المقال، وقد كرّر هذا الخطأ في أكثر من مرة، منها:

1- استعان بأليثيا هايدجر مقتطعة من منظومة هايدجر الكاملة:

اعتبر أنّ مفهوم الأليثيا يُمَثّل ظاهر النصّ بمعنى حقيقة النصّ المقصوده من مؤلِّفه، وهذا بالطبع لم يقصده هايدجر في مفهومه عن الأليثيا التي تُعَدّ كشفًا كاملًا عن جوهر الإلهي. فقد استعان بمفهوم هايدجر لكن لم يُطبّق مقصوده منه.

2- استعان بهيجل في استخدام النظام الفلسفي وأسقطه على القرآن:

ربط بين مفهوم هيجل عن النظام الفلسفي وجعل كلّ جزء منفصل يُمثّل الكلّ كما يقول هيجل، بيدَ أنّ هذا التصوّر لا يمكن إسقاطه على القرآن؛ فليست كلّ آية في القرآن الكريم يمكنها أن تعبّر عن محتوى ومراد القرآن ككلّ، فهذه الفكرة فاسدة من أساسها ولا تُعبّر عن القرآن بحال من الأحوال.

ويمكن أن نصف الخلل المنهجي لدى البحث في عدم إمكانية وضع نسق فكري له جذور وبنية محدّدة لدراسة أفكار أخرى ليس لها نفس النسق الفكري، وهذه هي مشكلة البحث موضع الدراسة.

3- الأمثلة غير الدقيقة لتطبيق الفكرة:

جانَبَ كامبانيني الصواب في اختياره للمثال التطبيقي من وجهين:

الوجه الأول: اختيار خاطئ للآية نفسها:

فقد اختار لفكرته، وهي أنّ ظاهر النصّ يحمل المعنى الأمين للنصّ ويمكن لنا الوصول إلى فهم مقصد القرآن على الحقيقة (أليثيا)، فكان من الممكن أن يختار آيات قابلة لتطبيق الفكرة وإيضاحها للقرّاء والباحثين، لكن بدلًا من ذلك فقد اختار كامبانيني المثال الأصعب، وقرّر أن يأتي بآية سورة النور التي تتحدّث عن الإله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وحاول مقارنة التفسير الظاهري والباطني لها مع تعقيداتٍ هو نفسه على دراية بها وسبق له الحديثُ عنها باستعراض وصف الله بأنه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وأنّ إدراكنا لصفة النور الإلهي يصبح مستحيل المعرفة، فأضاف غموضًا على غموض، وأصاب الفكرة بتشوّش لم تكن تتوق إليه من قريب أو بعيد، بل إن نصّ كلامه في كتاب (وجهات نظر فلسفية حول التفسير القرآني الحديث) الذي يقول فيه أن: الله لا يُشبَّه بخلقه إلا من الناحية الرمزية فقط وليس من ناحية الجوهر كما تذكر سورة الشورى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وأن الله رمز لنفسه فقط ولا يمكن مقارنته بشبيه؛ لأنه لا يشبهه أحد من خلقه فهو أسمى رمز، يناقض تمامًا فكرة المقال الذي يحاول إثباتها = أن مفهوم البيان يجب أن يتوافق مع مفهوم الشبه، وأنّ الشبه معبّر عن الحقيقة أكثر من مفهوم الرمز[14].

الوجهة الثاني: اختيار خاطئ للمُفسِّر:

اختار الباحث بغرابة شديدة الغزالي ليقوم بتفسير الآية التي يريد تطبيقها، وإن كان من المثير للتساؤل: لماذا لم يأتِ بتفسير ابن حزم أو ابن رشد أو حتى للجابري؟ لكن اختياره للغزالي تحديدًا الذي ينتمي لمدرسة الرمز والمجاز لهو حقًّا أمر يؤدي للعجب! واستغراب لفعل الباحث، بل والتساؤل الذي يطرأ على المنهجية المتبعة من جهة كامبانيني، لا يمكن أن نجد تفسيرًا لاختيارات الباحث إلا أنه يُفضّل اجتزاء المقاطع من هنا وهناك ومحاولة ربطها بعضها ببعض، وهي جرأة شديدة كما يصف، إلا أنّ ذلك يُشكّل نموذجًا مشوّهًا لا ينتمي لأيّ منهج منضبط.

4- الاضطراب الواضح في طرح الورقة:

يتّسم المقال باضطراب عام قد طال جميع أجزائه ويرجع ذلك لسببين رئيسين:

1- عدم وضوح الفكرة الرئيسة للمقال؛ فقد تنقّل المقال بين ما أسماه الفلسفية القرآنية إلى دراسة بعض الفلاسفة المسلمين في فترات مختلفة، ثم انتقل إلى مناهج غربية حاول إقحامها في كلامهم دون مسوغ بحثي معتبر، بالإضافة إلى اختيار مثال غير موفّق للتطبيق، كلّ ذلك أسهم في إظهار المقال بشكلٍ مفكّك ومضطرب نوعًا ما.

2- الخلط المفاهيمي في توصيف العبارات؛ فقد استخدم الباحث بعض الألفاظ وأراد معاني أخرى، نذكر منها على سبيل المثال: «الظاهرية» و«الفينومينولجي»/ «الكشف» و«الأليثيا»/ «المتشابهات» و«المشابهات»، وليس ضروريًّا أن يكون هذا ضعفًا في التعبير لدى كامبانيني، بل من الواضح أنه قد وقع في هذا الخلط نتيجة عدم معرفة الباحث للعربية ونقله من المصادر المترجمة.

5- إشكالية تفسير القرآن بالقرآن:

تُعَدّ من الأمور التي ظهرتْ في فترات جديدة نسبيًّا فكرة تفسير القرآن من داخله دون الاستعانة بالمرويات التراثية في التفسير أو ما بات يُعرف بتفسير القرآن بالقرآن، وهذه المنهجية إنما تعكس حالة مِن الصراع الذي يقع فيه مَن يُسمُّون أنفسهم «بالقرآنيين» بين منجزات العلم والحضارة الحداثية وبين المخزون التراثي الذي يدفعهم لرفض المرويات وتهميشها والاعتماد على التفسيرات الحداثية للقرآن، وهذه المحاولات (وإن كانت حسنة النية وتهدف لبقاء المسلم المعاصر -المنبهر بمنجزات الحداثة- على إيمانه بالقرآن) إلا أنها تقع في إشكاليات من جانب أنها أفكار مستوردة من باحثين غربيين وليستْ أفكارًا أصيلة ناتجة من بحث حقيقي وعميق لدى مَن يتبنى تلك الأفكار، ومن جانب أنها تفصِل القرآن عن الواقع الذي نزل فيه، وهذا من شأنه أن يُنتج المعنى وعكسه في آن واحد، ويصبح المفسِّر قادرًا على إنتاج أيّ معنى من النصّ وادّعاء أنّ هذا استقراء من داخل القرآن؛ لذا يصبح من غير المعقول ادّعاء فرضية الوصول إلى المعنى الأمين الذي يتكلّم به النصّ بعد حرمان المرويات من قول كلمتها، سواء كانت أسباب نزول أو إسرائيليات أو حتى آراءً للمفسِّرين التراثيين، ولمناقشة هذه الفكرة بالتفصيل يمكنك قراءة بعض الأبحاث التفصيلية المنشورة على موقع تفسير[15].

6- العلم الإلهي يخالف العلم البشري:

ذكَر كامبانيني أنّ الفارق بين علم الله وعلم الإنسان هو الكَمّ لا الكيف، بحيث اعتبر أنّ الله عنده علم كلي يحيط بكلّ الأشياء بينما يعلم الإنسان عددًا محدودًا منها فقط، وبالطبع هذا مخالف لما يقرّره المولى -عز جل- في الآية الكريمة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وعلى الرغم من أنّ هذه الآية كان قد ذكرها الباحث في مقاله وتعرض لها بالشرح والتفسير من خلال تطبيقاته في تلك المقالة إلا أنه يناقض ما قال عن الله بجعل صفة العلم الإلهي من جنس العلم البشري المخلوق، وهذا لا يصح، وقد ذكر القرطبي في تفسير الآية: «والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله جلّ اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعَلِيّ صفاته، لا يشبه شيئًا من مخلوقاته ولا يشبه به، وإنما جاء مما أطلقه الشّرع على الخالق والمخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي؛ إِذْ صفات القديم -عز وجل- بخلاف صفات المخلوق، إِذْ صفاتهم لا تنفكّ عن الأغراض والأعراض».

ومن المعلوم أنّ الكلام في الصفات كالكلام في الذات، وهذه من الإشكالات التي ذكرها الباحث[16].

خاتمة:

وبعد هذا النظر في فحص هذه الدراسة التي قدّمها الباحث، تبيّن لنا جوانبُ إيجابية لدراسة النصّ القرآني باعتباره نصًّا فلسفيًّا، أي ننظر إلى الأفكار الفلسفية التي يعرضها القرآن لا كما يعرض الفلاسفة تصوّراتهم على القرآن، وأيضًا تقديمه لمفهوم البيان بتفسير ظاهر النصّ الذي يؤدِّي لاكتشاف المعنى الأصلي الذي يوضّحه النصّ والذي يعتبر الممثل للحقيقة التي يُظهرها، وتعرّضنا بعد ذلك للأخطاء الذي وقع فيها الباحث، وقدّمنا بعض الإشكالات التي توضّح ضعفًا في الأدوات المنهجية واجتزاءً لمفاهيم وإسقاطها في غير موضعها، وكيف أنّ هذه البناءات بها عِلل واختلال منهجي قد أدّى إلى استنتاجات غير سليمة. 
 ونسألُ اللهَ أن يكون قد وَفَّقَنا في عرض وتقويم هذا البحث، وأن يغفر لنا الزَّلَل الذي لا نُبرّئ أنفسنا من الوقوع فيه ولا بد.

 

[1] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ترجمة: مصطفى هندي، مركز تفسير للدراسات القرآنية، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/83

[2] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص2.

[3] نحو الفلسفية القرآنية، البنية والمعنى في القرآن، ماسيمو كامبانيني، ترجمة: مصطفى هندي، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/112

[4] كتاب فهم الفهم، مدخل إلى الهيرمنيوطيقا، عادل مصطفى، ط. هنداوي، ص148.

[5]  كتاب فهم الفهم، مدخل إلى الهيرمنيوطيقا، عادل مصطفى، ط. هنداوي، ص148.

[6] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص9.

[7] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص8.

[8] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص12.

[9] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، أنجيليكا نويفرت، ص19.

[10] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص35.

[11] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، محمود شاكر، ط. مكتبة الأسرة، ص22.

[12] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، محمود شاكر، ص27.

[13] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص37.

[14] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص37.

[15] منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، وتقويم لمنطلقاته وغاياته، خليل محمود اليماني، وهي منشورة على مرصد تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3871

[16] بيان المعنى في المنهج الظاهري في قراءة القرآن، ماسيمو كامبانيني، ص14.

المؤلف

محمود عماد

باحث في التفسير وعلوم القرآن

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))