معهد الآباء الدومنيكان بالقاهرة؛ تاريخه وأهدافه وأبرز أنشطته في خدمة البحث في التراث الإسلامي-حوار مع جون درويل مدير المعهد (1-2)

إعداد : طارق حجي
يدور هذا الحوار مع د/ جون درويل –مدير معهد الآباء الدومنيكان بالقاهرة-، حول تاريخ معهد الآباء الدومنيكان، وأهدافه، والأنشطة التي يقدّمها والتي تفيد الباحثين في التراث الإسلامي؛ مثل المكتبة، والمجلة الدورية، وفهرس الكندي، والفعاليات البحثية التي يقوم بعقدها.

 

محاور الحوار:

المحور الأول: المؤسسة، تاريخها، عملها، أنشطتها.

المحور الثاني: معهد الدومنيكان والاستشراق والإسلام.

المحور الثالث: موقع دراسات القرآن في معهد الدومنيكان.

 

مقدمة الحوار:

في إطار اهتمام «مركز تفسير» وموقعه بلفت الأنظار إلى بعض المؤسسات العلمية التي تفتح باب الاستفادة للباحثين في الدراسات القرآنية عبر الخدمات العلمية التي تقدمها، أجرينا هذا الحوار مع الدكتور جون درويل مدير معهد الآباء الدومنيكي للدراسات الشرقية، والذي حاولنا فيه إبراز تاريخ المعهد، وأهم الخدمات التي يقدّمها المعهد للباحثين، مثل مشروع فهرست الكندي، ومثل المكتبة العامرة بعددٍ كبيرٍ من المخطوطات الخاصّة بالألف الهجرية الأولى باللغة العربية، ومثل مجلة المعهد التي تصدر منذ عام 1954م، والفعاليات الدوريّة التي يعقدها المعهد بحضور باحثين عرب وغير عرب، كذلك إلقاء الضوء على بعض أُطر التعاون بين المعهد وبين «مركز تفسير».

كذا حاولنا الاستفادة من خبرة د. جون درويل في إدارة المعهد منذ 2014م، وفي التواصل مع الباحثين العرب والمصريين وكذا غير العرب، ومن اشتغاله في البحث ذاته باعتباره حاصلًا على دكتوراه في تاريخ النحو العربي عام 2012م، وكونه أحد الآباء والرهبان الدومنيكان؛ لنتحاور معه حول بعض الإشكالات التي تهمُّ الباحث في الدراسات القرآنية خصوصًا أو الباحث في الدراسات الإسلامية على العموم، مثل الاستشراق والدراسات الإسلامية، ومدى تأثير الجانب الروحاني على عملية البحث، وكيف يجعل الباحث اهتمامه الروحي طريقًا لتعميق اهتماماته البحثية.

 

نبذة تعريفية عن د. جون درويل:

جون نيكولا درويل فرنسيّ الجنسيّة، ويعيش في مصر منذ ٢٠٠٢م، بعد حصوله على ماجستير في اللاهوت المسيحيّ وعلم آباء الكنيسة القبطيّة من الجامعة الكاثوليكيّة في باريس عام ٢٠٠٢م، حصل على ماجستير في تدريس اللغة العربيّة لغير الناطقين بها من الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة عام ٢٠٠٦م، ثمّ على الدكتوراه في تاريخ النحو العربيّ عام ٢٠١٢م. كان مسؤولًا عن مشروع المائتين (٢٠١٣-٢٠١٦)، الذي كان يهدفُ إلى تحديد السياق التاريخيّ لأعمال مائتي مؤلّف من التراث العربيّ الإسلاميّ، يركّز أبحاثه الحالية على دراسة المخطوطات غير المنشورة لكتاب سيبويه. هو مدير المعهد الدومنيكيّ بالقاهرة منذ عام ٢٠١٤م.

 

الجزء الأول

تاريخ المعهد، وأهدافه، وأنشطته في خدمة البحث في التراث الإسلامي

المحور الأول: المؤسسة، تاريخها، عملها، أنشطتها:

س1: نودُّ في البداية لو نُعرِّف القارئ الكريم بمعهد الآباء الدومنيكان للدراسات الشرقية في مصر، وبعض ملامح نشأته، وأهدافه، والنشاطات التي يقدمها في إطار دراسة الإسلام والقرآن، وفتح الباب للحوار العلمي والديني؟

هناك أمران أحيانًا يتمُّ الخلط بينهما؛ الدير، والمعهد، نحن بالأساس رهبان كاثوليك أسّسنا معهدًا، نعيش في نفس المكان، ونفس الأشخاص الذين يديرون الدير هم من يديرون المعهد، بسبب هذا يخلط الناس أحيانًا بين الأمرين، الدير جزءٌ صغيرٌ جدًّا، خمسة عشر راهبًا من مؤسسة عالمية لها سبعمائة سنة تاريخ، أو ثمانمائة سنة تاريخ، أسست في جنوب فرنسا، حاليًا موجودة في كلّ البلدان، كنوع من أنواع الرهبنة.

وهناك بالطبع رهبنات كثيرة في العالم، وكلّ رهبنة لها روحانيتها المختلفة، نحن كدومنيكان نركّز على المعرفة والبحث العلمي، البحث عن الحقيقة، الحوار بين الثقافات والأديان، فهذا النوع من الرهبنة موجود في العالم كلّه، أمَّا المعهد فتمّ إنشاؤه في مصر، لا يوجد أيّ أفرع في أي مكان آخر في العالم، والرهبنة ليس لها مؤسسات أخرى تعمل في نفس المجال، هناك مؤسسات أخرى تعمل في مجال مقارب أو مشابه، لكنهم غير تابعين لنا.

المعهد أُسس 1953 بعد طلب من الفاتيكان أن يكون ثمَّة مؤسسة علمية داخل الكنيسة الكاثوليكية تفهم الإسلام من داخله، من مصادره الأساسية.

فكأنهم شعروا آنذاك في منتصف القرن العشرين أنَّ الإسلام معروف فقط كمشكلة ثقافية وسياسية واجتماعية، وليس كدين وروحانية خاصّة وإيمان وعقيدة، فمن الممكن من الخارج أن تنظر للمسلمين فتعرف كيف يأكلون، كيف يشترون، كيف يبيعون، لكن الأهمّ في النهاية، بماذا يشعرون؟ ما شكل إيمانهم؟ حين يقول المسلم: أؤمن بالله، هل هو نفس المقصود حين يقول المسيحي أنا أؤمن بالله؟ ما تصوره، وما العمق التاريخي لهذه العقيدة؟ النبوة مثلًا، فنحن كمسيحين لنا في هذا منظور مختلف، وهذا الاختلاف واقع ولا يمكن إنكاره، حتى لو أخذنا بمنظور عام باعتبارنا كلنا مؤمنين بنفس الإله، بنفس الأنبياء، فلا بد هناك أمور تجعل الإيمان الإسلامي مختلفًا عن الإيمان المسيحي، وحتى نفهم الإيمان الإسلامي كرهبان، فلا بد أن ننسى أفكارنا المسبقة حوله.

فهذه كانت الفكرة وراء إنشاء المعهد، ووراء طلب هذا من الدومنيكان تحديدًا لا أي رهبنة أخرى «الجزويت، الفرانسيسكان»[1]، والتي يركز بعضها على أنشطة تبشيرية وغيرها من أنشطة غير علمية.

 

س2: طالما تطرقنا لمسألة النصوص والمصادر الأصلية، فالباحث المتردد على المعهد ومكتبته يعلمُ مدى الفائدة التي يمكن تحصيلها بين جنبات هذه المكتبة، وكيف أنَّها تمثلُ خدمة كبيرة يقدمها المعهد للباحثين، تجعل المرء أحيانًا يحزن لعدم معرفة البعض بهذه المكتبة، نودُّ لو تعرفوننا وتعرفون القارئ الكريم أكثر بالمكتبة، ونظامها، والخدمات التي تقدمها للباحثين بصورة أدق، حتى يكون هذا تعريفًا بها للباحثين، ودافعًا لزيارتها والإفادة منها؟

بعد الحرب العالمية الثانية وقبل إنشاء المعهد رسميًّا، قام الإخوة بجمع عدد كبير من النصوص، ومن وقتها والأساتذة المصريون كانوا يستئذنون في الحصول على هذه الكتب والاطلاع عليها منذ إنشاء المعهد، وربما فالمعهد أكثر اتصالًا بالأوساط الأكاديمية، فدائمًا ما كانت شهرة المكتبة متّصلة بأوساط الأساتذة، الجديد هو أن نبتدئ في التعامل مع باحثين ماجستير ودكتوراه؛ وهذا لأننا مؤمنون بأنَّ البحث العلمي الجاد يفترض التخصص في موضوع محدد، في جزئية محددة، فلا يمكنُ أن يوجد بحث علمي مفيد ومنتج، وهو يتناول عددًا كبيرًا من المجالات، دراسات إسلامية تراثية، دراسات إسلامية معاصرة، سياسة، اقتصاد، لا بد أن يكون البحث العلمي محددًا بجزئية خاصة حتى يكون مفيدًا، فنحن هنا في هذه المكتبة نملك نوعًا واحدًا من المصادر، ونشتغل على موضوع محدد، فاخترنا، الألفيّة الأولى من الهجرة، نصوص مكتوبة باللغة العربية فحسب، فنحن نركز بحوثنا في هذا السياق.

ومن الناحية التنظيمية، فالمكتبة متاحة من الثلاثاء إلى الجمعة، من التاسعة إلى الخامسة، كتبها للاطلاع فقط وليس للاستعارة.

 

س3: هذا العمل الطويل والمتخصص إذن هو ما جعل مكتبة الدومنيكان تحتوي على 20000 نصّ عربي تراثي، وهذا رقم كبير يكشفُ عن مدى الأهمية التي يحظى بها التراث الإسلامي عند المعهد، في هذا السياق نودّ لو تلقون لنا ضوءًا أكبر على المجهودات التي يقوم بها المعهد والمكتبة في إطار حفظ التراث الإسلامي وفهرسته، وتيسير وصول الباحثين له؟

حاولنا أن نساعد الباحثين في تسهيل الوصول لهذه الكتب والمصادر، خصوصًا أنَّه لا يوجد أي فهرس متاح لفهرسة الكتب التراثية، وتسهيل الوصول لها؛ لذا قُمنا ببرمجة فهرس بهدف فهرسة كلّ هذه الكتب التراثية، وهذا الفهرست متاح أون لاين، بالطبع فإنَّ المصادر ذاتها غير متاحة أون لاين بطبيعة الحال، لكن الفهرس ييسر الوصول لها، وأكثر الناس تَعْرِفُنَا عبر هذا الفهرست «فهرست الكندي»[2]، فقد أضاف شهرة كبيرة للمكتبة وللمعهد.

 

س4: كذلك من الأنشطة المهمة التي يقدمها المعهد، مجلته التي بدأت منذ عام 1954م، أي بعد عام من إنشاء المعهد، والتي تنشر بحوثًا باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية، ما دور المجلة في تحقيق أهداف المعهد، وهل هذه المجلة دورية، أم تصدر بشكل غير منتظم؟

المجلة تصدر بالفعل من وقت إنشاء المعهد، وقد وصلنا الآن إلى العدد اثنين وثلاثين، كانت تصدر كلّ سنتين، الآن تصدر سنويًّا، ومن العدد ثلاثين هي متاحة أون لاين مجانًا -خصوصًا أنها غالية الثمن قد تصل إلى ألف جنيه-، ونحن لا نهدف للربح بالطبع فنحن رهبان في الأخير، وحاليًا نعمل على إتاحة الأعداد السابقة كلها أون لاين للباحثين للاستفادة منها، كنّا ننشر بالفرنسية، لكن الآن هي تنشر بالعربية وبالإنجليزية[3].

 

س5: وكيف يتم اختيار موضوعات المجلة، ومعايير قبول الأبحاث فيها؟

نحن ننشر مقالاتنا وبحوثنا، ونرحب بأي مشاركة للنشر، لكن بالطبع تكون في نفس الموضوع، مصادر عربية تراثية من الألفية الأولى بعد الهجرة، وأيضًا بالطبع بعد أن تخضع لمرحلة تقييم علمية وفق نظام أكاديمي تختبر كونها متسقة مع المعايير العلمية.

ولكن مشكلة المقالات التي تصلنا بالذات من اللغة العربية، هي أنَّها عادة لا تتناول موضوعًا واحدًا بتركيز كما يفترض المقال العلمي، وغالب ما يردنا من مقالات يُناسب مجلات عامة ثقافية أسبوعية ربما، لكن لا يناسب مجلة علمية محكمة[4]. وذات الحال في البحوث غالبًا؛ فبعضها يكون واسع النطاق وبه سطحية وعموم.

وعلى كلّ حال فنحن نعلن كلّ عام عن موضوع المجلة لهذا العام، ثم يغلق باب الاستلام شهر مايو، للعدد الذي سيصدر بعد عام ونصف.

 

س6: كذلك في إطار مجهوداتكم في عقد الفعاليات البحثية حول العلوم الإسلامية، كنتم مؤخرًا قد أدرتم فعالية بحثية بعنوان: «ظهور الحديث النبوي كمرجعية في القرن الرابع الهجري»؟

هذه كانت ثاني فعالية لنا، عقدنا فعالية من سنتين كانت عن فن الشرح في التراث الإسلامي، والأخيرة كانت عن الحديث النبوي، واستخدام الحديث كمرجع علمي، وفي باريس هذا الشهر (أبريل) هناك ندوة عن الشيعة والمسيحية «التفاعلات بين الشيعة الاثنى عشرية والمسيحيين، تاريخًا وعقائدًا وأدبًا»، وهناك ندوة أُخرى بعد سنة -إن شاء الله-، ربما تكون عن استخدام العلوم الإنسانية لإعادة قراءة التراث الإسلامي، وهذا موضوع مهمّ في مصر ربما أكثر من خارج مصر -في أوروبا-؛ لذا فستعقد هذه الندوة في مصر، فنتساءل عن مدى شرعية وفعالية استخدام العلوم الإنسانية المعاصرة في إعادة فهم النصوص التراثية.

 

س7: هذه الفعالية شهدت حضورًا كبيرًا من أئمة الأزهر بزيهم الأزهري ذي الدلالة الرمزية الخاصة، كيف ترون هذا الحضور، وما الذي مثّله لكم، وما يكشف عنه من علاقات علمية بين الأزهر والدومنيكان؟

إلى ما قبل سنتين كانت هناك دومًا علاقات قوية ودائمة لكن غير رسمية، هذا الأمر قائمٌ منذ نشأ المعهد، وهذا مع المشيخة أكثر من الجامعة، كنَّا قريبين من فضيلة الإمام أحمد الطيب عندما كان رئيس الجامعة، كذلك محمود عزب في المشيخة، وهو مدرس اللغات السامية بباريس، الجديد منذ سنتين وعبر مبادرة قسم اللغة الفرنسية -كلية اللغات والترجمة -، وقّعنا اتفاقية تعاون بين قسم اللغة الفرنسية وبين المعهد، كان هناك بالفعل بعض الاعتراضات من داخل الجامعة بسبب كوننا رُهبان، لكن وافقت الجامعة في الأخير بسبب تصميم وإلحاح الكلية، كما طلبت الجامعة منّا إدخال كلية البنات (كلية الدراسات الإنسانية)، فالآن عندنا اتفاقية بين كلية اللغات والترجمة بنين وكلية الدراسات الإنسانية بنات قسم فرنسي، وعندنا لقاءات وسيمينارات كلّ شهرين، تدور حول موضوع ما، آخرها مثلًا كان في شهر مارس حول ابن تيمية وعلم الكلام.

علاقتنا بالمشيخة الآن منها ما له طابع رسمي؛ فأنا مترجم الفاتيكان للعلاقات ما بين الفاتيكان والأزهر، ومنها جانب غير رسمي وودي حيث نزور فضيلة الإمام، ويستعير بعض الكتب منّا، فالعلاقة الودية كذلك مستمرة.

 

س8: كذلك لا يخفى عليكم أنَّ هذه الفعالية أثارت بعض ردود الفعل، حيث وبعيدًا عن اختلاف البعض في تفاصيل بعض المحاضرات، فقد اختلف آخرون مع عنوانها ذاته، ورأى فيه مصادرة على المطلوب، حيث الأوقع من وجهة النظر هذه أن يكون العنوان: «متى تشكّلت مرجعية الحديث النبوي؟»، وأن تترك للبحوث المقدمة عملية بحث هذا التشكّل، كيف ترون هذه الاعتراضات؟

الفكرة ربما لم تكن واضحة بالفعل في العنوان، الفكرة بالضبط كانت عن تحوّل الحديث لمرجع علمي في العلوم غير الشرعية –بالطبع في العلوم الشرعية هو يمثل مرجعية، لا يوجد سؤال هنا-، وإنما الفكرة حول العلوم غير الشرعية، مثل الطب والفلك والفلسفة، فالسؤال: كان كيف انتشرت مرجعية الحديث، وانتقلت من العلوم الشرعية إلى العلوم الإنسانية والطبيعية؟ فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ فالسؤال كان فلسفيًّا، كيف أتأكد من أنَّ معرفتي صحيحة، ما هو المرجع الذي أتأكد وأؤكد عبره كون فكرتي صحيحة؟

طبعًا العلوم غير الدينية، الفلسفة والطب والفلك، بدأت في الإسلام من منطلقات مختلفة، ونتيجة التعرف على الثقافات الأخرى، لكننا وجدنا أنَّه ومنذ القرن الرابع تقريبًا، فالعلماء في هذه العلوم بدأوا يستندون لمرجعية الحديث، والسؤال هنا تحديدًا، ما معنى هذه الظاهرة؟ ما مصداقية الحديث لإثبات معلومة في الطب أو الفلك أو الفلسفة؟ فهل النبوة تُثبت صحة كلّ المعارف الأخرى؟ رغم قول النبي – كما هو مأثور لدى المسلمين-: أنتم أعلمُ بالأمور الدنيوية. فالسؤال كان، هل هذا الانتقال حصل بالفعل، وإذا كان حصل؛ فهل حصل في كلّ العلوم أم بعضها فحسب، ومتى حصل، في اتجاه زمني متتالي، أم في زمن واحد؟

وإن كانت بعض المداخلات كانت خارج هذا الموضوع وهذا السؤال المحدد، وربما هذا سبب الإشكال، ورقتين فقط تناولا هذا السؤال؛ واحدة في الطب، وأخرى في التصوف، لكن الأغلب دار حول كيفية التعامل مع الحديث في «علم الكلام» في «المذهب الإباضي»، وهكذا، فكانت أغلب المداخلات عن كيف أتعامل مع الحديث؟ وليس لماذا أرجع للحديث؟

ما تعلمته من الندوة، أولًا: أنَّ ظاهرة «تقديس الحديث»، وانطلاق الحديث كمرجعية، جاء بعد كتب مثل صحيح مسلم وصحيح البخاري، والتي قدست و«جمعت» مجموعات من الحديث - كانت متفرقة قبل هذا-، سهلت العودة للحديث وسهلت تحويله لمرجعية.

وثانيًا: مسألة تتعلق بطريقة قراءة الحديث، ومدى صحة أو مصداقية أو شرعية استخدام المناهج الإنسانية المعاصرة في قراءة الحديث، فقد وجدتُ خلال الثلاثة أيام التي جرت فيها الفعالية أن ثمَّة منظوران، منظور تقليدي يرى أنَّ الحديث يفسر بالحديث، ومنظور يرى أنَّ الحديث ككلّ النصوص، فهو نصٌّ بشري، يفسر بالعلوم البشرية، فكان ثمَّة خلاف بين باحثين تقليديين أكثر وباحثين ذوي أفكار معاصرة غربية أكثر، الميزة هي أنَّ جميع الباحثين كانوا مسلمين، فقط كان هناك باحثَيْن مسيحيين من الخمسة عشر باحثًا، فهذا جميل جدًّا، أن تجدَ حتى داخل البحث الإسلامي منظورات متنوعة، وكذلك من الجميل جدًّا أن البحوث كانت باللغة العربية، وهذا قليلًا ما يحدث في الفعاليات العلمية حول العالم.

 

س9: دعنا هنا ننتقل إلى سؤال أعم، وهو رؤيتكم للبيئة العلمية في مصر، كباحثين مختصين في دراسة الإسلام في مصر، كيف تجدون هذه البيئة، هل هي بيئة مشجعة على البحث؟ وما هي الصعوبات التي تواجهكم في هذا البحث في الإسلام وتراثه، سواء في البيئة العلمية، أو حتى الإدارية المرتبطة بالقدرة على الوصول للمصادر، أو بترتيب فعالياتكم البحثية؟

الحقيقة أكثر صعوبة نواجهها، هي اللوجيستيكس، أي: الماديات، النت، الكهرباء، البريد...إلخ، فلكي نحصل على دوريات من خارج مصر نُنفق أموالًا كثيرة ووقتًا كثيرًا، وأحيانًا بعض الدوريات لا تصلنا حتى، فهذه الأمور قد تبدو بسيطة، لكن هي حيوية ومهمّة وكبيرة جدًّا وتأخذ منَّا جهدًا كبيرًا، وتصعب علينا إدارة المعهد والبحث.

لكن لو تركنا المشكلات العامة والإدارية وتحدثنا عن المشكلات العلمية، فربما من الإشكالات الرئيسة التي تواجهنا في هذا الصدد هي مشكلة عدم معرفة الكثير من الباحثين العرب –خصوصًا العاملين في مجالات الدراسات الإسلامية- للغات غير عربية، هذا يؤدي مثلًا لنقص كبير في الأبحاث والمقالات التي تُرسَل لنا، حيث تُعاني من نقص كبير جدًّا في معرفة ما كُتِبَ في نفس الموضوع بلغات أُخرى، فكثير من هؤلاء الباحثين يتعاملون وكأنهم بلا حاجة تمامًا لأي مراجع غير عربية، بالرغم من أن موضوع بحثهم قد يكون قد كُتِبَ فيه الكثير باللغات الأخرى، حينها نضطر طبعًا لرفض هذه البحوث.

 بالطبع هذا لا يعني أن أُلقي اللوم على الباحثين العرب فقط؛ لأن نفس الإشكال يحدث أحيانًا في أوروبا وأمريكا، فعادة الباحثين لا يعرفون العربية، فيبحثون في فتوى لابن تيمية أو في كتاب سيبويه، لكن حتى إن قرأوا المصادر الأصلية ببعض العربية المتاحة لهم، فعادة لا يستطيعون قراءة أي بحث جديد ومعاصر، كأننا أمام جزيرتين، ومن فوائد الفهرست عندنا في المكتبة -تجاوزًا لتلك المشكلة وإسهامًا في حلها- أنه يتيح لك أن تتطلع على عناوين البحوث التي تمت في موضوع ما بالعربي وبالإنجليزي.

فمثلًا بالأمس فقط كانت تُحدثني باحثة أوروبية تعمل دكتوراه عن الأستراباذي[5]، ولم تكن تعرف هذا المصدر الذي كتب في السعودية عام 78، والذي عرفته عبر الفهرست، فهناك كثير من الإنتاج العربي غير معروف للباحث الغربي وهذا يحدث يوميًّا، فنحاول عبر الفهرست أن نجمع ما يكتب في العالم العربي والغربي، بحيث يجدُ الباحث المستخدم للفهرست الأبحاث المكتوبة حول شخص أو موضوع معين في العالم الأكاديمي العربي والغربي مجموعة في مكان واجد.

 

س10: بالعودة لمجلة المعهد، فالعدد الذي سيصدر هذا العام (العدد 33) يتناول الإسلام والتعددية، وهو لا شك موضوع شديد الأهمية، ما هي رؤيتكم، من واقع خبرتكم البحثية والعملية في المعهد في مصر حول مسألة الإسلام والتعددية؟ وما العلاقة بين هذه الرؤية المحصلة عمليًّا وتلك التي تتصورونها نظريًّا عن هذه العلاقة؟

فعلًا، وهذا في التراث، بمعنى المصادر الإسلامية التراثية التي تتناول تعددية الأديان، عن رؤية الإسلام للأديان الأخرى والمؤمنين الآخرين من كلّ المنظورات، سواء الرافضة أو المتسامحة وغيرها، والعدد إن شاء الله سيصدر شهر مايو، أون لاين، مجانًا، وورقي بالطبع كذلك.

 

س11: كذلك وفي إطار نشاطات المعهد، فقد عقدت مؤخرًا بينكم وبين «مركز تفسير» شراكة علمية، نودّ لو تلقون لنا بعض الضوء حول مساحات التعاون بين المؤسستين، والأنشطة التي تزمعون إقامتها في ظلّ هذا التعاون، وكيف ترون تأثيره على حقل دراسات القرآن وعلومه؟

التعاون العلمي والبحثي مع مركز تفسير في ظني مفيدٌ للطرفين، فهذا يُتيح لنا خدمة أعداد أكثر من الباحثين المهتمين بالدراسات الإسلامية سيعرفون عن المعهد وتزداد ثقتهم به عبر هذه الشراكة، كما يتيح  لمركز تفسير الاستفادة أكثر مما يقدمه المعهد والمكتبة، مثلًا حاليًا يحاول المركز تقديم ترجمة لعناوين وملخصات البحوث الغربية حول القرآن وعلومه، والموجود في «index Islamicus» وهو متاح بكلّ أجزائه، وكذا بعض المجلات المشار إليها فيه في مكتبتنا، وهذا في محاولة لتكوين قاعدة بيانات حول الدراسات الغربية حول القرآن تساعد الباحث.

كذلك في المستقبل ستكون بيننا وبين المركز وعلى إثر هذه الشراكة عدد من الفعاليات العلمية المشتركة.

 

 [1]رهبنة الجوزيت، هي رهبانية كاثوليكية ذكورية أسسها القديس أغناطيوس دي لويولا (1591 - 1656) منذ حوالي خمسة قرون، وهي منتشرة في أكثر من مائة دولة حول العالم، ويتركز وجودها في إسبانيا والبرتغال، وتنشط في مجالات الثقافة والتعليم والتربية والبحث العلمي والخدمة الاجتماعية، ولها حول العالم عدد كبير من المؤسسات التعلمية، مثل: المدارس والكليات والجامعات.

ورهبة الفرانسيسكان، هي رهبانية كاثوليكية أسسها القديس فرنسيس الاسيزي (ت 1226) في القرن الثالث عشر، وتقوم بالأساس على روحانية الاسيزي، وتهتمُّ بالفقراء، ولحماية الأراضي المقدسة، ولها ثلاثة رتب، رهبنة ذكورية «رتبة الرهبان الصغرى»، ورهبة نسائية «وسام سانت كلير»، وثالثة «الوصية الثالثة للقديس فرنسيس» ينضم لها المدنيون.

 [3]رابط مجلّة المعهد(MIDEO) :

https://www.ideo-cairo.org/ar/category/mideo-ar/

 

 [4]نرجو أن يكون هذا الحوار بداية لتعريف الباحثين الجادين بالمعهد ومجلته؛ مما يُثري البحوث المنشورة فيها بعدد من البحوث والدراسات الجادة.

[5] محمد بن الحسن الرضي الأستراباذي، من أهم علماء النحو، ولد في بلدة أستراباذ في طبرستان، والتي تقع في شمال إيران الحالية، ويعتبره البعض من نحاة المدرسة البغدادية التي تميل لمسلك الموازنة بين آراء نحاة الكوفة والبصرة، ومن أهم مؤلفاته: «شرح شافية ابن الحاجب» في الصرف، و«شرح كافية ابن الحاجب» في النحو، وقد تُوفي عام 686.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))