المثل في القرآن الكريم

الكاتب : منير القاضي
استعمل القرآن الكريم أسلوب الأمثال في تصوير المعاني وبيانها، وهذه المقالة تعرّف بهذا الأسلوب في القرآن وأهم خصائصه، وتسرد أكثر من أربعين مثلًا من أمثال القرآن الكريم، مع التعليق الموجز عليها بما يبين مقصودها.

المثل في القرآن الكريم[1]

{‌وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21].

{‌وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت: 43].

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ ‌إِلَّا ‌كُفُورًا}[الإسراء: 89].

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ ‌جَدَلًا}[الكهف: 54].

إنَّ الحديد بالحديد يُفلَح.

إشاصْ شاصْ والحِمَل حِمَل.

الأمثال لا تَغيُّر في مَضْرِبها عن حال مَورِدها.

إنّ صيغة (مَثَل) وما يشتق منها تنبئ عن معنى الحضور والظهور، وقد تدلّ على المشابهة والمشاكلة، تقول (مَثَل) الرجلُ بين يدي فلان، أي حَضَر لديه منتصبًا، و(مَثَل القمر) أي ظهر، و(ماثل فلانٌ فلانًا) أي شابهه، و(ماثل فلانًا بفلان) أي شابهه به، و(فلان مثلُ فلان) أي شبهه، و(ضرب له مثلًا) أي بيَّن له حجة ودليلًا، و(بسط له مثلًا) أي أوضح له حديثًا، ولا يخرج الدليل والحديث عن دائرة معنى الظهور. و(تمثّل الشيء) أي تصوّر مثاله -والمِثال صفة مقدار الشيء - ولا يخرج تصوّر الشيء عن معنى حضوره في الخيال.

و(المثل) في مصطلح الأدب هو القول السائر الممثّل بمَضرِبه، أي المشبهة حالة مضرِبه بحالة مورِده، أي الحالة التي كان قد ورد فيها القول، فهو استعارة تمثيلية مبنيّة على التشبيه المركّب، أي تشبيه الصورة المنتزعة من حالة المشبه بالصورة المنتزعة من الحالة التي كان عليها المشبّه به، على غرار قول بشار:

كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا .. وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه

وقد حصر علماء الأدب قديمًا وحديثًا الكلام (في المثل) بهذا المعنى الذي انتهينا من تفسيره، بحيث أصبح (المثل) عند الإطلاق لا يُقصد منه إلا هذا المعنى. وقد جمعوا ما تيسّر لهم جمعه من الأمثال القديمة التي أصبح أكثرها لا يتبيَّن معناه إلا بشرحٍ قد يطول، كما أنّ أغلبها قد نفر من أنس الاستعمال، فاستوحش وصار غريبًا لا يألف أقلام الكُتّاب، ولا صحائف الكتب، ولا سطور الصحف. وقد ألَّف فيها بعضهم كتابًا؛ مثل كتاب (الأمثال) للمفضل الضبِّي، وكتاب (مجمع الأمثال) للميداني. ونظمها بعضهم وشرحها في مجلد ضخم مثل كتاب (فرائد اللآل في مجمع الأمثال) للشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي.

وقسم بعض أساتذة الأدب كلام العرب إلى منظوم ومنثور، والمنثور إلى مرسل ومسجوع، وإلى محاضرات وخطب وأمثال، وعرّفوا المثل بمثل ما سبق أن عرّفناه به. ولا شكّ أنّ هذه التقسيمات مبنية على أوصاف يمتاز بها نوع من الكلام عن نوع منه، واعتبروا تمايز الأمثال عن غيرها من كلام العرب، بكونها عبارات موجزة لبعض الناس فشَت وسار استعمالها في المخاطبات والمعاتبات، لتصوير الحال التي ذُكرت فيه بالحال التي كانت قد أُنشئت وقِيلت فيه؛ وذلك إمّا لطرافة في الصورة التي يحملها المثل، وإمّا لأن تلك الصورة توحي إلى ذهن السامع ما لا تؤدّيه رسالة أو صحيفة أو سطور من تفسير أو إيضاح، أو معنى آخر يقتضيه المقام، وهذا هو معنى الإيجاز. فالسامع عند ضرب المثل له ترتسم في ذهنه صورة حال مورده شارحة له حال مضرب المثل، فيفهم المعنى المقصود من الكلام بكلّ الدقة والوضوح فهمًا جامعًا شتى المتفرّقات، كما لو عرضت عليك صورة شخص لتعريفه إليك، فإنها تعرفه إليك وتحيطك به من حيثيته: المادية والمعنوية، بأكثر مما تعرِّفه صحف عديدة أو رسالة مسهبة. فإنّ المشاهدة تؤدّي في التعريف ما لا يؤدّيه التوصيف.

كلّ ما مرّ بحثه من خطة الأدباء في المثل صحيح مقبول مشكور، ولكنهم قد أغفلوا في كلامهم وتقسيماتهم نوعين من الأمثال يشتاق الأديب إلى البحث فيها، وتدوين ما يتيسر تدوينه منها:

الأول: أمثال القرآن الكريم، وهي الأهم علمًا، والأغزر فائدة.

والثاني: الأمثال العامية، وهي من نوع الأمثال التي جمعها السَّلَف من حيث الماهية والحقيقة، إلا أنها من وضع العامّة لم تراعَ فيها الفصاحة ولا البلاغة، فهي نوع من الأدب العامّي.

ولا شأن لنا في هذا المقال بالأمثال التي بحثَ فيها الأدباء جمعًا وشرحًا ثم نظمًا وتفسيرًا.

أمثال القرآن الكريم:

المثل في القرآن الكريم ليس من قَبِيل (المثل) المصطلح عليه عند الأدباء المعرَّف عندهم بالتعريف السّالف الذِّكْر أو بما يساويه معنى، أو بما يعادله لفظًا ومعنى، ولا هو على غراره. وليس هو من النوع الداخل في تقسيم المنثور إلى الأقسام التي مَرّت الإشارة إليها آنفًا. بل هو نوع آخر أسماه القرآن الكريم (مثلًا) من قبل أن تعرف علوم الأدب (المثل)، ومن قبل أن تسمي به نوعًا من الكلام المنثور وتضعه مصطلحًا له. بل من قبل أن يعرف الأدباء (المثل) بتعريفهم الذي سبق ذكره. فقال في سورة البقرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ‌بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}[البقرة: 26].

فالمثل بعُرْف القرآن الكريم هو الكلام الذي يقصد به تصوير حالة، أو واقعة، أو شخص، لاتعاظ القارئين والسامعين بالصورة التي صوّرها لهم، أو لإيناسهم بها، سواء أطال الكلامُ أم قَصُر، وأشاع وفشا أم بقي في لوحته اللامعة مكتوبًا محفوظًا. وهذا الضرب من الكلام من أبلغ صور التشبيه المركّب، وأدقّ ما يرمي إليه البليغ من الوسائل التي تبرز المعاني الخفية المضمرة، سافرة الوجه، واضحة الملامح، جميلة المنظر. وإلى مثل هذا يقصد المصوّرون وأشباههم في وسائلهم الميسورة لهم؛ وبهذا يتفاوت مقامهم، وتباری مهارتهم.

وحسبك معرفة بفخامة هذا الضرب من الكلام أن جاءت به الكتب المقدّسة كاثرة في إيراده: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا ‌سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}[الفتح: 29].

وحسبك علمًا بتأثيره في النفوس أنّ القرآن الكريم صدع بضرب الأمثال في كلّ مقام ومقال، وأنه في أوائل صحائفه المشرقة بنور الهداية بادر بضرب المثل، فإنه بعد أن قسم الناس في مفتتح سورة البقرة إلى متّقٍ مفلح، وكافر عنيد، ومنافق خاسر، ضرب مثلًا للمنافقين مصوّرًا حالتهم العجيبة، ما يخفون وما يبدون، وبسيرهم المعوج سير اليربوع في نافِقَائه، وبتردّدهم بين التظاهر بالإيمان وبين إبطان الكفر وإضماره، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، وبحيرتهم في أمرهم وعدم استجابتهم لدعوة الحقّ، وبِجُبْنِهم وخَوَرِهم وخِذلانهم، وبانصرافهم عن طريق الصواب وعن تدبّرهم ما يسمعون من الحكمة والموعظة =أقول ضرب لهم مثلًا رَسَم فيه هذه المعاني الكامنة في نفوسهم رسمًا يكاد يلمس باليد، ويشاهد بالعين، فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ‌اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 17- 20].

وخصّ المنافق بالتمثيل دون المتّقي والكافر؛ لأنّ أمر كلّ منهما واضح، وطوية كلّ منهما معلومة صريحة، ذلك مُعْلِن إيمانه مُفْلِح، وهذا مُعْلِن كفره معانِد مُبْلِس، فكلّ منهما معروف الحال، مكشوف السيرة. بخلاف المنافق الحائر المحيِّر، المبطن للإنكار، المتستر بالإيمان، الخدَّاع البغيض، المتلوّن تلون الحرباء، الغامضة سيرته، الخبيئة طويته، فهو الحريّ أن ترسم صورته القبيحة، ويكشف عن وجهه البشع الدّميم؛ ليعرف بين الناس، فيتقوا شرّه، ويتجنبوا طرقه الملتوية، وعمله المنكر، وسيرته الشاذّة.

إنّ أمثال القرآن الكريم آيات بيّنات تُصوّر المعاني الدقيقة والحالات الغامضة، تصويرًا بارزًا تكاد تلمس معالمه. تبعث في النفوس فرحة، أو هيبة، أو إرشادًا أو كشفًا عن حقيقة، أو هداية إلى الرشد، أو نحو ذلك من المعاني الرفيعة التي توجّه النفوس إلى قِبلة الخير، ثم إلى تزكيتها وتطهيرها من أدران الجموح والغفلة، وتزجي في القلوب أنوارًا تنظر بها إلى عجائب الكون، فتقرأ سفر الوجود آيات بينات، وتدرك فلسفة العالم العميقة الغور.

فكلّ مثل من أمثال القرآن الحكيم يشرح للناس حقيقة من حقائق الاجتماع، أو ضربًا من عجائب الطبيعة، أو حُجّة دامغة لإثبات أمر انصرف عن إدراكه كثير من الناس، أُفِك عنه مَن أُفِك، وعاند فيه مَن عاند.

وإليك ما تيسّر لي جمعه من أمثال القرآن الكريم بالمعنى الذي اصطلح عليه:

1- في تصوير حالة المنافقين وما هم عليه من الحيرة والخبث والغباوة والجُبن:

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ‌اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}[البقرة: 17- 19].

(صُم) جمع «أصم»، وهو مَن فقدَ حاسة السمع، (بُكْم) جمع «أبكم»، وهو الأخرس، (كصيِّب) الصيِّب هو المطر، أو المطر المنهمر المتدفق، فقد جاء في الأثر: اللهم اسقنا غيثًا «صيّبًا»، أي منهمرًا متدفقًا.

فهذه الصورة التي رسمها المثل في ذهن السامع للمنافق يعجز المصوّر أن يصوّرها بريشته وأدهانه، وإذا أجهد نفسه في دقّة التصوير، فلا مناص له من أن يستمد المعونة من صورة هذا المثل، وإذا رافقه التوفيق في المعونة فلا إخال أنه يقدر أن يبعث إلى ذهن الناظر من الصورة التي أجهد نفسه في إخراجها، مثل ما يوحي به هذا المثل من أشكال، ومعانٍ، وحالات، وشؤون، وحركات، وسکنات، وتحير، وتخبط، وغباوة، وسوء فهم، وجبن، وتعشّق للحياة، ونحو ذلك مما انطوى عليه المنافق، وجُبِل عليه من الأخلاق الرذيلة، التي أوحى بها المثل.

2- في تصوير حالة المصلح الداعي إلى الرشاد، بين الضالّين المعاندين وهو يدعوهم إلى الحقّ والصواب وهم عنه معرضون، وقد دأبوا على سيرهم في غيّهم:

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي ‌يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[البقرة: 171].

(ينعق) يصيح، يقال: نعق الراعي بغنمه؛ أي صاح بها وزجرها.

فهذا المثل انتزع صورة من حالة الراعي بين غنمه ناعقًا بها، صائحًا زاجرًا لها وهي لا تعي ما يقول ولا تفهم منه شيئًا، فلا تدرك منه غير صياحه وندائه؛ لأنها لا تملك جهاز إدراك المعنى والفهم. وشبَّه بها حالة المرشد المصلح بين الضالين المعاندين، وهو يعظهم ويخطب فيهم، وهم لا ينتفعون بما يقول، ويصرون على ما هم عليه، وهم يملكون جهاز الإدراك، فلهم آذان ولكن لا يسمعون بها سماع تفهّم، ولهم عيون ولكن عليها غشاوة الضلال فلا يبصرون بها منار الهدى، ولهم ألسُن ولكن لا تنطق بالصواب والحقّ، فهم صم بكم عمي، فهم لا يعقلون. فلا فرق بينهم في النتيجة وبين غنم الراعي وهو ينعق بها.

3- في تصوير مكاسب مَن يبذل ماله في سبيل الخير، وما يجنيه من الثمرات:

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ ‌سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261].

فتصوّر بداعة منظر لشخص يدفع درهمًا في سبيل الخير لا يقصد به إلا وجه الله والمنفعة العامة، وبجانبه شخص آخر زرع حبة من حنطة مثلًا في أرض طيبة، فنبتت الحبة ونمت وتفرع منها سبع سنابل أو أضعافها خضر مليئة بالحَب، تحمل كلّ واحدة منها مائة حبة أو أكثر يأخذها زارع الحبة؛ ودافع الدرهم ينظر، مؤملًا أن ينال من الثواب الكثير مثل ما نال صاحب الحبة من الحَب الكثير، فهذا التمثيل يشرح مکاسب عمل الخير أتم شرح ويدعو إلى عمل الخير ويسوق إليه.

4- في تمثيل الباذلين أموالهم مباهاةً ورِئَاءً للناس أو لغرض شخصي، لا يقصدون به فعل الخير:

{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ‌صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة: 264].

(صفوان) صخر أملس، (وابِل) مطر شديد ضخم القطر، (صلدًا) صلبًا أملس.

فهذا المثل يبدي أجلى منظر لحالة المنفق ماله رئاء الناس، وما كسبه من الثمرات، وما آلَت إليه نفقته من البطلان والخسران.

5- في حالة الباذلين أموالهم بسخاء من أنفسهم بغية مرضاة الله تعالى وإرضاء ضمائرهم، وما تؤثله أعمالهم من خير محقّق:

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ ‌فَطَلٌّ}[البقرة: 265].

(جنة) بستان، (الربوة) ما ارتفع من الأرض، (الأُكُل) الثمر والرزق، (الطَّلّ) الندى، أو أخفّ المطر وأضعفه.

فالمثل هنا يرسم صورة زاهرة تعبر عن نفقة المنفقين أموالهم الخير وما تؤتيه من نفع. فهو يصوّرها ببستان -وهي تجمع أنواع الثمرات- قائمة على أرض مرتفعة تستدر المطر الشديد فيصيبها، أو يصيبها الطلّ وإن لم يكن مطر فهي رَيَّا دائمًا، متحقّقة الإثمار على كلّ حال، يتضاعف ثمرها لزكاة مائها وطيب تربتها؛ فنفقة الخير الخالصة لله هذه صورتها.

6- في من يبطل آثار عمله الصالح بإلحاقه إياه بعمل مفسد له؛ فمن ينفق ماله في سبيل الخير ثم يتبع نفقته بالمنِّ على من أنفق عليه أو بإيذائه بتعييره بها، فإن كرامة نفقته تزول، ويُمحى أثرها، وقد ضرب هذا المثل في هذا المضمار:

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ‌فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة: 266].

(إِعْصَارٌ) ريح تهبُّ من الأرض كالعمود، أو ريح تُثير السحاب، أو التي فيها نار.

يتضمن هذا الكلام مثلًا بارعًا لمن يحصل على نتائج مرضية من جهوده ثم يطرأ عليها ما يمحوها من الوجود والاعتبار، وليس له قوّة ولا نصير لدفع ما ألمّ بها.

7- في حالة المُرابي من انشغال باله بإنماء ماله بلا تعب، وذهوله عن نفسه باضطراب ذهنه دائمًا في حساب الدينار والدرهم والفلس من الربا، وتحضير ما يدعو إلى خضوع المراجعين لأمره من أساليب، وتعمقه في الحساب الدقيق:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ‌مِنَ ‌الْمَسِّ}[البقرة: 275].

أي كما يقوم المجنون في حال جنونه إذا صرع وسقط، فما أصدق هذا التصوّر المعجِز في المرابي، يقال: (تَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ) إذا مسَّه بأذى.

8- في بيان مصير ما ينفقه ذوو المبادئ الفاسدة الرخيصة لتدعيم مبادئهم، وما تخلفه تلك النفقات:

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا ‌صِرٌّ ‌أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[آل عمران: 117].

(الصِّر) شدة البرد.

فهذا التصوير يؤدّي أوضح بيان عن مغبة مثل هذه النفقات، فإنها تضمحل ولا يبقى لها أثر، كما تهلك الريح العاصفة ما أتت عليه من زرع ونحوه.

9- في تصوّر حالة من يرجع إلى ما كان عليه في ماضيه الأسود، بعد أن دخل في حياة مشرقة بنور الصلاح والهدى:

{كَالَّذِي ‌اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى}[الأنعام: 71].

(‌اسْتَهْوَتْهُ) استزلّته، أو زيّنت له هواه، (حَيْرَانَ) لا يهتدي لسبيله.

10- في المقارنة بين من يستجيب للمصلحين فيستمع القول ويتبع أحسنه، فيصبح عضوًا صالحًا في المجتمع، وبين من يبقى عاكفًا على ضلاله:

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ‌لَيْسَ ‌بِخَارِجٍ مِنْهَا}[الأنعام: 122].

11- في طيب الأصل وزكاة المنبت، وفي فساد الجرم وخبث المنبت:

{‌وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}[الأعراف: 58].

(نَكِدًا) قليلًا عَسِرًا.

فما أدقّ هذا التمثيل في طيب الأعراق وخبثها، وما ينبعث عنهما من نتائج صالحة أو طالحة.

12- في من يُديم على سوء خلقه، ويقيم على قبيح عمله، ولا ينفع فيه ما يدعوه إلى تعديل ما اعوجّ فيه، وتبديل ما قبح منه، فهو لا يقلع عن خطّته:

{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ‌الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف: 176].

(إن تحمل عليه) أي تهاجمه، (يلهث) يخرج لسانه تعبًا أو عطشًا؛ ولا تخفَى طرافة هذا التمثيل ودقّته في الموضوع.

13- في الغافل الذي لا ينتفع بما يملكه من وسائل الانتفاع:

{وَلَقَدْ ‌ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[الأعراف: 179].

(ذَرأ) خلق، (قلوب) عقول، القلب يطلق على العضو المعروف في الإنسان الذي يضخ الدم الواصل إليه إلى المجاري الدموية، ويطلق على العقل. والقرآن الكريم جرى على هذا الإطلاق الثاني، وكذلك أكثر الأحاديث النبوية، فهذا المثل يصوّر من العقل والبصر والسمع -وهي وسائل الفهم- ولم ينتفع بها فيما يراه ويسمعه ويدركه، يصوّرهم بالأنعام التي لا تملك العقل فلا تدرك مما تراه وتسمعه إلا قَدْر ما يهديها إلى رزقها، وما يشعرها بما يضرها -ألهمها فجورها وتقواها-، بل قدّر أنّ الأنعام أحسن حظًّا منهم لأنّ الأنعام تدرك هذا القَدْر من ضرورياتها مما تسمع وترى، وهم غافلون.

14- في تصوير صفة الحياة الدنيا في تقلبها، كتجهُّمها بعد انشراحها؛ وانقباضها بعد انطلاقها، وانطفاء جمالها بعد بهجتها وازدهارها، وعسرها بعد يُسرها، وضيقها بعد اتساعها، فهي لا تستقر على حال فلا تصلح أن تكون منتهى ما يتطلّبه العاقل، والغاية المثلى التي يجري وراءها:

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ‌كَأَنْ ‌لَمْ ‌تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24].

(زخرفها) كمال حسنها وألوان نباتها، (حصيدًا) محصودة لا زرع فيها، (لم تغنَ) تكن.

فهذا المثل المبين لتقلب الحياة من صفو إلى كدر، ومن زهو إلى عدم، ومن أمل إلى يأس، ومن رجاء إلى قنوط لأبلغ مثل لقوم يتفكرون، يعجز أمهر المصورين من تصوير ما جاء به، مهما أُوتي من أصماغ وريش، ويقف النحَّات عند حدّه مهما أوتي من ألواح طيّعة وأزاميل قوية حادّة.

15- في بشاعة وجوه الكافرين يوم الحساب:

{كَأَنَّمَا ‌أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}[يونس: 27].

(‌أُغْشِيَتْ) غُطّيت. فالوجوه الكالحة المظلمة من سوادها، لا تمثّل بأبلغ من أن تكون قد غُطيت بقطع من الليل المظلم، لا بقطعة واحدة منه. فالذهن يستخلص من هذا المثل الموجز صورة بالغة في السواد والقبح؛ فتدركه عظة بالغة، لا تدركه من لوحة المصور، وإن عظم حجمها وأغمق سوادها فاحمًا. فما أبلغ هذا الإيجاز!

16- في من يتطلب الشيء ممن لا يقدر عليه، أو من يطلب المُحال:

{‌كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}[الرعد: 14].

فالقرآن العظيم ضرب هذا مثلًا لعبَدة الأوثان ونحوهم ممن يتضرعون إلى غير الله طالبين منه ما يرجون حصوله وتحقيقه من الشؤون؛ ومن المُحال أن يستجيب لهم. ولا أبلغ من صورة هذا المثل في الموضوع!

17- في الموازنة بين الضالّ والمهديّ:

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ‌هَلْ ‌يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}[هود: 24].

لا يستويان بلا شك.

18- في المقايسة بين الضالّ والراشد، والضلال والهدى:

{‌قُلْ ‌هَلْ ‌يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}[الرعد: 16].

فالضال كالأعمى الأصم الذي لا يرى المصلح ولا يسمع ما يقوله سماع تفهُّم، والمهديّ الراشد بصير يرى المصلح ويسمع ما يقوله سماع تفهّم. والظلمات تطمس السُّبُل والصّوى، وتضلّ الدليل وتغشى الحقائق، وهكذا الضالون. والنور ينير السبل ويجلّي الصّوى ويظهر الحقائق، وهكذا المصلحون.

19- في الحقّ والباطل، وثبات الحقّ وزوال الباطل:

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ ‌زَبَدًا ‌رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}[الرعد: 17].

(‌رَابِيًا) عاليًا على وجه الماء، (حِلْيَةٍ) ما يزيَّن به من مصوغ المعدنيات والحجارة، (جُفَاءً) ما رمى به الوادي إلى جنباته من الغثاء.

صوّر هذا المثل للحقّ والباطل صورة مشتقّة من سيل الوديان بمياه الأمطار الغزيرة الجارفة تحمل على وجهها ما اعترضها من غثاء زبدًا رابيًا، كما تحمل معها مواد نافعة للزراعة والعشب.

فهذا السيل الطاغي يرمي في مسيره بالزّبد إلى جنباته؛ إِذْ لا فائدة فيه للأرض فيذهب جفاءً، وما ينفع الزراعة والعشب من المواد كالغرين ونحوه؛ يبسطه على وجه الأرض ماكثًا فيها لينتفع منه الناس.

فالباطل مثل هذا الزبد يذهب جفاءً وإن جاء راكبًا ظَهْر الماء، وما ينفع الناس يبقى ثابتًا على وجه الأرض وإن جاء سائحًا مع الماء.

ويتمّم المثل هذه الصورة بحال المعادن من ذهب وفضة وحديد وصفر ونحوها، عندما يراد الصنع فيها فتسلّط عليها حرارة عالية تصهرها حتى تذوب فيطفو ما خالطها من مواد خبيثة غريبة عنها زبدًا رابيًا على وجه الذوب. فينفي الصانع هذا الزبد ويرمي به جفاءً وتمكث مواد أصل المعادن في محلها محتفظًا بها، فيصنع منها الحلي للزينة، أو الأمتعة الأخرى من سائر مرافق الحياة.

فهذا الزّبد يمثّل الباطل الذي يزول ويزهق وإنْ علا وقتًا ما، وأصل مواد المعادن التي تبقى للانتفاع منها تمثّل الحقّ الذي يبقى راسخًا في محلّه يصارع الباطل فيزهقه.

20- في صفة الجنة التي يستحقّها المتّقون بوعد الله وثوابه:

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ‌أُكُلُهَا ‌دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}[الرعد: 35].

(عُقْبَى) جزاء، فالعقبى جزاء الأمر، يقال: أعقبه، أي جازاه.

فهذا المثل يصوّر الجنة التي وعد الله تعالى المتّقين بها. وما ألطف صورتها في المثل؟! فهي عُقبى الراغب فيها وجزاؤه، كما أنّ النار جزاء الكافر بالله الجاحد نعمه وفضله.

21- في مغبّة أعمال المفسِدين وما تقدّموا به من خير على زعمهم:

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ ‌كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم: 18].

(يَوْمٍ عَاصِفٍ) يوم تعصف فيه الريح، أي تشتد.

يصوّر المثل أعمال المفسِدين وآثارها في سبيل الفساد برماد عصفت به الريح في يوم استمرّت فيه الرياح العاصفة، (يَوْمٍ عَاصِفٍ) فمحتْ آثاره ولم يبقَ منه شيء ما، يقدر صاحبه على الاحتفاظ به والإفادة منه، فأصبحتْ أعمالهم المبنية على الفساد والإفساد هباءً منثورًا.

22- في قوّة الكلام الطيب ونتائجه الطيبة، وقوّة الكلام الخبيث:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[إبراهيم: 24- 26].

 (اجْتُثَّتْ) استُؤصِلَتْ أي قُطعت بعروقها، لضعف العروق.

الشجرة الطيبة مثل النخلة من الأشجار الراسخة العروق في الأرض لا تقتلعها الزعازع، تعطي الناس ثمرًا طيبًا في موسم الإثمار حينًا بعد حين.

والشجرة الخبيثة مثل الحنظل من شجار التي لا قرار ولا رسوخ لها في الأرض، فهي تنتزع من أصلها بأقلّ عمل، وتقتلع بجذورها بأدنى تعمُّل، ‏ولا يجتني منها غير خبيث الثمر ورذاله. وكذلك الكلام الطيب يدخل في القلوب فيبقى راسخًا فيها، وتحفظه الكتب فيبقى حيًّا فيها إلى ما شاء الله، يغذي النفوس بطيبه كما ردّدته الألْسُن، وينفذ من الأسماع إلى قرارات النفوس فيستقر فيها، فتنعم بطيبه وخيره، وتهنأ بثماره المعنوية. والثمار المعنوية خير وأبقى من الثمار المادية.

والكلام الخبيث لا يقوى على القيام بنفسه، تكرهه الأسماع، وتمجّه النفوس، فلا قرار له ولا بقاء، كالضباب يغطي الرياض برهة فيزول، والنفوس منه منقبضة، والقلوب له كارهة.

23- في من ينجز عملًا صالحًا مفيدًا له أوله وللمجتمع، ثم يفسده ويبطله بعد إتمامه بعمل نقيضه، فيخسر الفائدة والثواب، ويضيع الوقت بالعبث:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ‌أَنْكَاثًا}[النحل: 92].

(النَّكث) بالفتح النقض، و(النِّكث) بالكسر ما نقض من الغزل والأكسية، جمعه (أنكاث).

فما أوجز هذا المثل! وما أدقّه في تصوير مثل هذا العمل الذي لا يأتي به إلا أخرق أحمق!

24- في زوال النعمة بكفرانها بطرًا، وحلول النقمة بدلها جزاءً وفاقًا:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ‌فَكَفَرَتْ ‌بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل: 112].

الرزق (الرغد) الطيب الواسع، يقال: رغد عيشه رغدًا، إذا طاب واتسع.

فشكر النعمة بالعمل بها في الصالحات؛ يديمها، وكفرانها بالعمل بها في الموبقات والتبذير، وبالتخلف عن الشكر يزيلها.

إذا كنتَ في نعمة فارعها .. فإنّ المعاصي تُزيل النعم

فأمهر المصوّرين لو أراد أن يصوّر للذهن في لوحة قرية تتدفّق عليها الخيرات الناعمة الكثيرة من سائر الأماكن والأطراف وأهلها آمنون مما يكدِّر صفوهم، مطمئنون في رغد عيشهم، ثم يأخذهم البطر، فينصرفون عن رعاية تلك النعم العظيمة بالشكر إلى كفرانها بالعمل خلاف مقتضى الشكر، فتضيع النعم، ويحلّ البؤس والنقم، فيتبدّل رغد عيشهم جوعًا، ورفاهية أَمْنِهم وحلاوة طمأنينتهم خوفًا محرجًا مرًّا؛ أقول لو أراد المصوّر الأمهر أن يتحف الأذهان بتصوير هذه الشؤون والمعاني، للاعتبار؛ لوَقَف عاجزًا أن يأتي بما يقارب ما يصوّره هذا المثل الموجز لفظًا الواسع المطنب معنى.

25- في المقايسة بين الصنم العاجز، وبين الخالق القادر، أو بين الأمة المستعبدة المقيدة، وبين الأمة الحرة الطليقة المالكة نفسها:

{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا ‌مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ}[النحل: 75].

صورة كلّها بيان ودقّة في إظهار البون الشاسع بين الفريقين، ليدرك ذو اللُّب أيّ الفريقين أحقّ بالاعتبار.

26- في الموازنة بين الفَدْم البليد العاجز الكَلّ على غيره، وبين المصلح المستقيم اللامع:

{وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ ‌كَلٌّ ‌عَلَى ‌مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النحل: 76].

(الكَلُّ) الثقيل لا خير فيه، جمع «كُلول».

المثل يصوِّر للذّهن شخصين؛ جمعَ أحدهما البكم والعجز والبطاءة وثقل الطبع على من يعتمد عليه، لا يأتي له بخير في أيّ عمل يوجهه إليه، ويصوِّر له شخصًا آخر مصلحًا على نهج مستقيم، يطلب من الناس الأخذ بالعدل في أعمالهم وتصرّفاتهم ثم يطلب منك أن توازن بينهما في المماثلة والمساواة.

27- في الطاغي المغرور بماله الغافل عن شكر الله:

 {إِنَّ الْإِنْسَانَ ‌لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 6- 7]، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ‌وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا}[الكهف: 32- 43].

(يحاوره) يراجعه الكلام، يقال: تحاوروا أي تراجعوا الكلام بينهم، (حسبانًا) جمع حسبانة وهي الصاعقة والبرَدَة، (الصعيد) وجه الأرض، (زلقًا) أملس لا تثبت عليه القدم، (غورًا) غائرًا ذاهبًا في جوف الأرض، (خاوية) ساقطة، (عروشها) العرش ما يستظلّ به كالعريش؛ وعرش البيت سقفه، وعرش الكرم فروعه ودواليه تفرش على قوائم خشب ونحوه فتصبح كالمظلّة.

فما أبلغ ما صوّره هذا المثل من غفلة المغرور، وترفّعه بغروره على من هو دونه في الثراء، وتعسُّفه وزهوه وخيلائه في المحاورة، وجهله قيمة نفسه وضعف قوّته، وازدرائه بصاحبه، وما اكتسبه في غروره من خسران فظيع، مع فقدِ الناصر له، ومجافاة النصر إيَّاه، وما أبلغ هذه الصورة عظة للأذهان المدركة.

28- في زهرة الحياة الفانية:

{مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ ‌هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}[الكهف: 45].

(‌هَشِيمًا) يابسًا متكسرًا، (تَذْرُوهُ) تُفرّقه وتطيره وتذهبه.

أبْيَن مثل، وأعمق تصوير للحياة الدنيا؛ فبينما نراها زاهرة تملأ الصدور فرحًا، والنفوس سرورًا، والقلوب آمالًا، إذا هي مظلمة داكنة، طعمها صاب، وأيامها عذابٌ، بعد أن كانت عِذابًا، ومباهجها أحلام وسراب، كالنبات يبهجه الغيث الدوم؛ فتصبح الأرض مخضرة نضرة، شذية عطرة، حتى إذا استغلظ واستوى وبلغ المدى أصبح هشيمًا تذروه الرياح كأنْ لم يكن بالأمس. وهكذا الحياة الدنيا وزينتها.

29- في ضعف الباطل، ووَهنه وخَوره، أمام الحقّ في سلطانه وقوّته وسطوته:

{‌بَلْ ‌نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}[الأنبياء: 18].

 (نقذف) نرمي، «دمغ فلان فلانًا» ضربه في دماغه، فالتعبير في المثل (يدمغه) من باب المجاز، (زاهق) مضمحلّ، «زهق الباطل» أي اضمحلّ.

أروع مثل يصور بأوجز عبارة مبلغ قوّة الحقّ وسلطانه على الباطل، وأنّ الباطل لا يقوى على مصارعة الحقّ، فالحقّ راسخ والباطل مضمحلّ.

30- في من يخضع له الناس، ويستمدون العون منه، وهو في الحقيقة والواقع عاجز عن الذَّبِّ عن نفسه وماله:

 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ ‌وَالْمَطْلُوبُ}[الحج: 73].

(استنقذه منه) خلَّصه منه واسترجعه إليه.

أطرف وأدقّ مثل في تصوير من يتخذه الناس سندًا وغوثًا في شؤونهم، وهو أضعف من الذباب وأحطّ منها في الواقع، كالأصنام. فإنها عاجزة عن دفع الذباب عنها، بل هي عاجزة عن استرداد ما يأخذه الذباب عنها من طيوب ضمخت بها، ودهون مسحت بها، فما أَسْفَهَ من يعبدها، وما أجهلَ من يستنجد بها، ومثلهم في الحكم من يتخذ شِرار الناس أئمة، وضِعافهم قادة، وضُلّالهم هداة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

31- في كيفية استيلاء الله تعالى على العالم، وانكشاف العالم وظهوره بوجوده وقدرته وحكمته:

{اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ‌كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النور: 35].

(المِشكاة) الطاقة غير النافذة، وقد شرح الإمامُ الحجة أبو حامد الغزالي -عليه الرحمة- في رسالته «مشكاة الأنوار» هذا المثل العظيم شرحًا اقتبس أنواره من‏ نور الإلهية، بإلهام من تجلّي الربوبية.

وليس بمقدوري أن أوفي هذا المثل المعجِز حقّه من الشرح والتأويل في هذا المقال الموجز بيدَ أني أعتقد أن مَن تدبّره وتعمّق في تفهّمه، وله ذَوْق صوفي، وعلم بالأشعّة والأنوار، يدرك منه تصويرًا بليغًا لوجود العالم وقيامه بوجود الواحد القهار، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

32- في تصوير مبلغ أعمال المفسدين -ومنهم الكافرون بالله أو بأنعمه- المخادعين، ومقدار نفعها والانتفاع منها:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ‌وَمَنْ ‌لَمْ ‌يَجْعَلِ ‌اللهُ ‌لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور: 39- 40].

(السراب) شعاع يُرى على الأرض وسط النهار في شدّة الحر يشبه الماء، (قِيعة) جمع «قاع»، (لجّي) عميق، (الظمآن) العطشان.

يصوّر هذا المثال أعمال المفسِدين التي يخدع ظاهرها، وهي لا قوام لها ولا حقيقة تقوم عليها، بالسراب الذي يخدع الظمآن ويضلّه، فيسعى إليه متلهفًا طلبًا للماء، فإذا جاءه لم يجد ماءً، فيخيب أمله ويضيع سعيه، ويندم على ما فات، إِذْ لم ينتفع بتشبّثه بالسراب.

وهكذا أعمال المفسِدين، وهي من وجه آخر كقطع اللّيل المظلم لا يتبيّن منها خير وليس لها بصيص من نور يرمق، بل هي حالكة أشدّ الحلكة، كظلمات في بحر عميق تشتد الظُّلْمة فيه وحشة، تتراكب الأمواج عليه بعضها فوق بعض، فتزداد الظُّلْمة حلكًا؛ سماؤه سحاب، وماؤه عباب، نهاره فاحم، وليله قاتم، ظلمات بعضها فوق بعض.

33- في تصوير من يلتجئ في اتقاء السوء والاستزادة من الخير إلى ملجأ وهين لا يدفع ضرًّا، ولا يدرأ شرًّا، أو يأوي إلى ركن ضعيف، لا يسند من ركن إليه، ولا يحمي له ظهرًا:

{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ ‌الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ ‌الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 41].

(الولي) النصير والمنعم، جمعه «أولياء»، (أوهن) أضعف.

ما أصدق هذا التصوير البارع لمن يستقوي بغير الله تعالى، ويستعين في درء المكاره عنه بغير القادر القاهر، ويتخذ غير الله تعالى وليًّا له.

34- في خطأ اعتقاد الإنسان بأن يكون لله شريك في ملكه، بدليل مما عليه الإنسان في ملكه:

{‌ضَرَبَ ‌لَكُمْ ‌مَثَلًا ‌مِنْ ‌أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الروم: 28- 29].

(ما مَلكَت أيمانكم) أي مماليككم.

وجه المثل هو أنكم لا تسلِّمون بأن يكون لمماليككم شركة معكم في أموالكم وأرزاقكم، ولا تعتبرونهم سواء معكم في تلك الأموال، فتلاحظونهم كما تلاحظون أنفسكم فيها، ولا ترضون بذلك، فينبغي أن يكون الأمر كذلك في الله تعالى مع عباده، فلا يجوز أن يكون لأحد من عباده شركة معه في شيء من ملكه، فما لا ترونه صحيحًا فيكم كيف يجوز لكم أن تروه صحيحًا في حقّ الله تعالى؟! فالصورة التي لا تستبيحونها لأنفسكم لا يجوز أن تستبيحوها في حقّ الله تعالى، والحال التي لا ترضونها لأنفسكم كيف ترضونها لله تعالى فلا شريك لله تعالى في ملكه.

35- في تمثيل حالة من وافقه الخذلان، وجفاه التوفيق، وعَدّته الهداية، وحالفته الضلالة؛ فأصبح لا يرى نور الحقّ، ولا منار الصواب، ولو كانت له عينان براقتان:

{إِنَّا ‌جَعَلْنَا ‌فِي ‌أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}[يس: 8- 9].

(الغُلّ) طوق من حديدٍ أو جِلْدٍ يُجعَل في العنق أو في اليد، جمعه «أغلال»، (الذقن) مجمع اللحيَين، (مقمحون) رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، يقال: قمح الغلُّ الأسيرَ؛ ترك رأسه مرفوعًا لضيقه، (فأغشيناهم) غطّيناهم.

لو أراد المصوّر أن يصوّر مثل هذا الخائب الخاسر تصويرًا يوحي إلى الذِّهن حالة الشخص الذي لا يرى نور الهدى الساطع، ولا مناره اللامع، وهو حديد البصر، عالي النظر، لما استطاع في أداء مراده أن يخرج عن الحدود التي رسمها هذا المثل في تصوير تلك الحالة.

36- في تمثيل عناد الجهول العنيد الذي لا يتدبّر ولا يتذكّر:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا ‌الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}[يس: 13- 19].

(فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) فقوّيناهما بثالث، يقال: عزَّزه أي قوّاه، (تطيَّرنا) تشاءمنا، يقال: تطير به وتطير منه، والاسم «الطِّيَرَة»، وضدها الفأل؛ كأن يسمع المريض «يا سالِم» وطالب الضائع «يا واجِد».

كتب هذا المثل أوضح تصوير للعنيد الجهول: يكذّب بلا دليل، ويردّ الشاهد بلا حجة، ويقيم نفسه مقياسًا لغيره فلا يجوِّز أن يكون مَن هو مِن نوعه ومثله أرقى منه، وإذا أعوزه الدليل أصرّ على الإنكار والتكذيب، لا يساير مجاملة الخصم إياه، وإذا خسر الحُجّة لاذ بالتشنيع والتهديد، وهو بعد هذا لا يرجع إلى التفكير في نفسه وسوء عمله، ليعرف نفسه، ومَن هو، وكيف يجب أن يناظر ويجادل، ويكسب الصواب؛ إنه لمثل عظيم، من عزيز حكيم.

37- في تصوير الفرق الكبير والبَون الشاسع بين الخالص لجهة واحدة وبين المرتبط بجهات مختلفة: كالموحد والمشرك، والمخلص والمنافق:

{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ ‌شُرَكَاءُ ‌مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الزمر: 29].

(متشاكِسون) مختلفون عسيرون، أي متنازعون صعبة أخلاقهم، والشَّکِس، هو صعب الخلُق، جمعه «شُكس»، (سَلَمًا) خالصًا.

نعم، لا يستوي المستقل والمشترك فإنّ بينهما تفاوتًا عظيمًا في السلوك، والتصرّف، والاستقلال، والمنزلة. فالمشرك منحطّ في هذه الأمور ونحوها عن الموحّد، والمنافق بعيد فيها كلّ البُعد عن مقام المخلِص.

38- في تصوير النعيم المقيم، والعيشة الرغدة:

{‌مَثَلُ ‌الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد: 15].

(آسِنٍ) متغير الطعم، ومثله الآجِن ولكن تغيُّر الآجِن شديد يعافه الشارب، (لَذَّةٍ) لذيذة.

ما أطيب العيش في هذا المغنى وما ألذَّه، جمعَ أطايب النعم، ولا سائل فيه ولا مسؤول، ولهم مغفرة من ربهم.

39- في تمثيل الحياة الدنيا؛ الزاهرة، فالذّابلة، فالفانية:

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ ‌وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}[الحديد: 20].

(أعجبَ الكفار) أعجب الزرّاع فالزارع يسمّی کافرًا وكذلك اللّيل والبحر، مِن «كَفَرَ الشيءَ» إذا غطّاه، (حُطامًا) ما تكسّر من اليبيس.

تصوير بليغ لحياة تبسم فتعبس، وتزهر فتذبل، وتشرق فتغيب، وتنمو فتموت. وما عند الله خير وأبقى.

40- في جلال القرآن العظيم ورزانته، وما يحمله للناس من حِكَم وعلوم وهدًی وموعظة، وما ينطوي عليه من ترغيب وترهيب، وتبشير وإنذار:

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ ‌عَلَى ‌جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر: 21- 22].

(خاشعًا) ذليلًا خاضعًا، (متصدّعًا) متشقّقًا، الصدع الشقّ في شيء صلب = «فاصدع بما تؤمر» أي شُقَّ جماعتهم بما تؤمر به وهو التوحيد.

هكذا القرآن العظيم كلام الله تعالى، بات جلالة ووقارًا وعظمة، فهو حريٌّ أن تذلّ وتخضع له الجبال التي هي أقوى أوتادٍ في الأرض، وأن تنشق لهيبته وجلاله؛ لأنه أقوى منها وأرسخ؛ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ‌جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 143].

41- في تصوير مَن يملك خزائن العلم ولكن لا يفيد منها شيئًا، وهي أقرب إليه من حبل الوريد:

{مَثَلُ الَّذِينَ ‌حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الجمعة: 5].

(أسفارًا) کُتبًا، جمع «سِفْر» وهو الكتاب.

أطرف تصوير، وأظرف تمثيل، وأصدق تقرير، لمن كانت وسائل العلم منه على التمام وهو لا يستفيد منها، أو كان عالمًا بعلم ولكن لا يعمل به، فهو شبيه بحمار أُوقِرَ كتبًا -والكتب أوعية العلم؛ فإنّ كلًّا منهما لم يستفد من الكتب التي لديه، والعلم الذي يحمله على ظهره أو في صدره.

42- في تمثيل من أوتي بسطةً في الجسم، ورئيًا في المنظر، وزخرفًا في القول، وهو أحمق رعديد، يخاف من ظِلّه:

{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ ‌تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: 4].

(خُشُب) جمع «خَشَب»، (مسنّدة) ممالة إلى ما يُسندها كالحائط.

وهذا خلاف من أُوتي بسطةً في العلم والعقل والجسم، فهذا الثاني عالم قوي أخو صدق، وذلك الأول جاهل جبان عدوّ، خدّاع منظره، زُخرف قوله.

43- في أنّ كلّ امرئ مجزيّ بعمله، له ما كسب وعليه ما اكتسب، لا ينفعه أو يضره في ذلك حسَبٌ أو نَسَب:

{‌ضَرَبَ ‌اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم: 10- 12].

ما أوضح هذا المثل وأصدقه في ميزان الأعمال، فإنّ الأعمال أنفسها هي الموازين والمقاييس والمعايير لأنفسها، لا دخل في هذا لشفيع ولا لصديق حميم: «يا فاطمة بنت محمد، اعملي فلن أُغني عنك من الله شيئًا».

44- في تمثيل مقام الصادقين المخلصين في أعمالهم الصالحة؛ جزاءً وفاقًا:

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * ‌قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}[الإنسان: 13- 22].

(الأرائك) جمع «أريكة» وهي سرير منجّد مزيّن في قبة، أو كلّ ما يُتّكأ عليه من سرير ومنصّة وفِراش، (زَمْهَرِيرًا) بردًا شديدًا، (قطوف) جمع «قِطف»، وهو العنقود وكلّ ما يُقطَع من الثمار أي يُقطَف، (مِزاجُها) مِزاج الشيء ما يُخلَط به، و(الزنجبيل) مادة تخلط بالماء فتستلذّ العرب بشربه، (سندس) نوع من رقيق الديباج، (إستبرق) ما غلظ من الديباج.

تصوير وتمثيل لمقام كريم، فيه نعيم مقيم، ومُلك عظيم؛ ثوابًا من عند الله، والله عنده حُسن الثواب.

هذه طائفة من أمثال القرآن العظيم باصطلاح القرآن نفسه، تصوّر لك الحقائق، وتهدي إلى سواء السبيل.

وطريقة ضرب الأمثال الصحيحة في كشف الحقائق، وبيان الأمور المهمّة، وتوضيح الشؤون المعنوية طريقة تعليمية مُثْلَى، لا تَتَيسر إلا لمن أسبغ الله عليه فضله -والله ذو الفضل العظيم- کالإمام الحجة الغزالي -عليه الرحمة- وأضرابه من الأئمة الذين أقاموا أنفسهم وعّاظًا مرشدين، وهداة مخلصين، فقد سلكوا في إرشادهم هذه الطريقة المثلى؛ {‌وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت: 43].

 

[1] نُشِرَتْ هذه المقالة في مجلة «المجمع العلمي العراقي»، مج/ 7، 1 مارس 1960م، ص3، وقد أتبع الكاتب أمثال القرآن فيها بذكر طائفة من الأمثال العراقية العاميّة، فاقتصرنا على الجزء المتعلّق بأمثال القرآن وبيانها. (موقع تفسير).

الكاتب

منير القاضي

أديب حقوقي، وشغل منصب رئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق، وتوفي عام 1389هـ/ 1969م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))