فهم القرآن الحكيم
التفسير الواضح حسب ترتيب النزول للجابري
قراءة نقدية للمنطلقات المنهجية
(2-2)

الكاتب : مصطفى فاتيحي
تجادل هذه المقالة المنطلقات المنهجية التي اعتمدها الجابري في كتابه (فهم القرآن الحكيم). وبعد أن تناول الجزء الأول منها مفهوم القرآن عند الجابري ومآلاته، وكذلك نظرته للّغة؛ يأتي هذا الجزء الثاني والأخير ليتناول موقف الجابري من قصص القرآن ونظرته للمعجزة، وغير ذلك.

  بعد أن تناولنا في المقالة السابقة مفهوم القرآن عند الجابري ومآلات ذلك من حيث عدم استبعاد فكرة الزيادة والنقصان في القرآن انطلاقًا من اعتبار مسألة التواتر مسألة خلافية والتشكيك في أُمّية النبي صلى الله عليه وسلم، واستبعاد فكرة الإعجاز وتقزيمها إلى أبعد الحدود والتغاضي عن المعطيات العلمية في القرآن الكريم والقول بخيالية قصص القرآن وعدم واقعيته، والقول بتاريخية أحكام القرآن وظرفيتها، والمماثلة بين القرآن والكتب السماوية، وكذا التوظيف الإيديولوجي لمعهود العرب كأسلوب لعدم القول بتاريخانية القرآن بشكلٍ مباشرٍ[1].

ننتقل في المقالة الثانية إلى الحديث عن قضايا الأثر في فهم القرآن الحكيم عبر محورين؛ المحور الأول: من خلال مناقشة دعوى الجابري تفسيره للقرآن حسب ترتيب النزول، وتفسيره للقرآن بالقرآن، ثم بيان موقفه من المعجزة القرآنية، ومن قصص القرآن وخلفيات ذلك، وأيضًا موقفه من تراث المفسِّرين.

وفي المحور الثاني: تتمّ مناقشة قضايا النظر في فهم القرآن الحكيم؛ مركّزًا على آثار العقل الوضعي، والموقف من إعجاز القرآن، والتقصيد المنفلت.

أولًا: قضايا الأثر في فهم القرآن الحكيم:

1- دعوى تفسير القرآن حسب ترتيب النزول:

يعتبر الجابري أنه من الأسلم منهجيًّا الانطلاق في فهم القرآن من البحث في ترتيب نزوله على ترتيب المصحف، فيقول: «ولما كان الهدف عندنا من الترتيب حسب النزول هو التعرّف على المسار التكويني للنصّ القرآني باعتماد مطابقته مع مسار الدعوة المحمدية، فإنّ دور المنطق أو الاجتهاد لا بد أن يكون مركزًا أساسًا على المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية، والمسار التكويني للقرآن»[2].

تستوقف الجابري مقولة الشاطبي: «المدني من السّور ينبغي أن يكون منزلًا في الفهم على المكّي، وكذلك المكي بعضه مع بعض والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلّا لم يصح»[3].

هذه المقولة ولّدَت لدى الجابري كما يقول: «شعورًا عميقًا بأنّ فهم القرآن يعني فهم الكتاب. لقد تحدثتُ في التعريف عن -القرآن الكتاب- وأكّدتُ على أهمية فعل القراءة (التلاوة) في تسمية القرآن قرآنًا، ولكني لم أكن أعي بما يكفي من العمق (الحكمة) من إطلاق اسمين على مسمّى واحد. أمّا الآن فقد غَدَا من السهل عَلَيَّ القول أنّنا نستطيع أن نتعامل مع أيّة سورة أو آية أو مجموعة من آيات القرآن المتلوّ، ولا نحتاج في التواصل معها سوى إلى مقرئ يجيد التلاوة؛ ذلك لأنّ القرآن المتلوّ يكون أصل انفجاره في القلب، أمّا معنى القرآن المكتوب فيتطلّب فهمه تتبُّع ترتيبه ككتاب فيه السابق واللاحق»[4].

ولست أدري من أين أتى الجابري بهذا التمييز الغريب بين القرآن والكتاب؟ وماذا يريد أن يرتّب على ذلك؟ ثم هل قراءة القرآن مفصولة عن مراعاة القواعد والضوابط؟ فالأداء الصوتي وقواعده مرتبطان باللغة، فهل نستطيع أن نفصل بين الأداء الصوتي والقراءات؟ وهل تنفك القراءات عن قواعد اللغة؟

ثم يرى الجابري أنّ المكتبة الإسلامية تخلو من تفسير على هذا المنوال، وهو ما سيتصدّى له من خلال محاولته.

ولقد حاول الجابري إيهام القارئ بأنه صاحب فضل وسبق في تفسير القرآن حسب ترتيب النزول، مكتفيًا بالإشارة بشكلٍ محتشم للمستشرق (تيودور نولدكه)[5]، (ومحمد عزة دروزة)[6]. على الرغم من وجود دراسات عديدة في الموضوع وهي أكثر إحكامًا وجودة من دراسة الجابري؛ من حيث الاستيعاب والتصريح بالغاية من هذا المنهج وأهدافه، أذكر منها: (تفسير بيان المعاني للشيخ عبد القادر ملّا حويش)، (معارج التفكُّر ودقائق التدبُّر للشيخ عبد الرحمن بن حسن حبنّكة الميداني)، (تفسير القرآن المرتب منهج اليسر التربوي، أسعد أحمد عليّ)، (تاريخ نزول القرآن الكريم، محمد رأفت سعيد).

ولذلك ومهما حاول أيّ دارس أن يقترح ترتيبًا مغايرًا لترتيب المصحف لا مناص له من الاستناد على الروايات، وإلا سيكون الأمر تمحّلات وتوسّمات، وعندما نتوجه إلى طريق الرواية نجده لا يسعفنا في ذلك، بل يقرّ الترتيب الحالي.

 وإذا كان الأمر كذلك من حيث عدم الاطمئنان إلى الروايات في الترتيب فإن أيّ محاولة لاقتراح ترتيب مخالف للترتيب المصحفي لا تعدو أن تكون حدسًا وتخمينًا.

ثم إنّ الفوائد التي يراها أصحاب فكرة تفسير القرآن على حسب ترتيب النزول غير مسلَّم بها ولا تقف أمام النقد السليم[7].

أمّا دراسة الجابري فلم أعثر على مسألة واحدة حَلَّ فيها إشكالًا معتبرًا بناء على ترتيب النزول؛ وإنما هي انطباعات وأسئلة واستشكالات دون جواب.

أمّا عن مقولة الشاطبي: (في المسألة الحادية عشرة): «المدني من السّور ينبغي أن يكون منزلًا في الفهم على المكي»[8]. فلا وجه للاستدلال بها على صحة تفسير القرآن حسب ترتيب النزول؛ للاعتبارات الآتية:

- أن الجابري جزّ القاعدة ولم يذكرها بتمامها هنا.

- نلاحظ أن القاعدة تضمّنت قواعد أصولية من قَبِيل بيان المجمل وتخصيص عموم وتقييد مطلق أو تفصيل ما لم يُفصّل، وهذه القضايا لم يكن الشاطبي هو أول من أشار إليها، وإنما كان العمل ساريًا بها منذ القرون الأولى.

ثم إنّ هذه القواعد لا ترتبط بترتيب النزول، بل بما اصطلح عليه العلماء الوحدة البنائية أو الترتيل أو الوحدة الموضوعية.

الاعتبار الثاني: أن القاعدة ذكرها الشاطبي ضمن مجموعة من القواعد سابقة لها ولاحقة بها، ومنه ليس من المقبول أن تُستلّ قاعدة ضمن معمار من القواعد؛ لأن ذلك يخرم مبدأ التكامل والانسجام.

الاعتبار الثالث: لماذا كلّما وجد الجابري فكرة توافق مذهبه عند عالم من علماء الإسلام يحتفي به، ولم يعدّ موقف ذلك العالم موقفًا إيديولوجيًّا، ولم يعدّ ضمن الأطر والقوالب المغلقة والأفكار المتلقاة. وهو نفس المسلك الذي نحاه الجابري في الأجزاء الأربعة -على سبيل المثال- الإشادة بابن تيمية في قضية الأمّية ووصفه بالعالم الفقيه المحقّق.

إنّ هذا الطريق في دعوى تفسير القرآن حسب ترتيب النزول مكشوف النتائج والمآلات، من حيث أوّل القائلين به من المستشرقين، وليس العيب في أن تكون الفكرة استشراقية، ولكن موقف المستشرقين من القرآن والسنّة ومن الإسلام يجعل الأمر محطّ نظر وتأمُّل.

ثم تهافت مستندات الدعوى من حيث ضعف نجاعتها في فهم القرآن الكريم، أضِف إلى ذلك أنها تندرج ضمن الأفكار المؤسّسة للقول بتاريخية القرآن، بأساليب فنية ودون إثارة ردود أفعال بشكل مباشر.

ولقد صرّح الجابري أنّ الوقت لم يَحِن بعدُ لممارسة النقد (الفولتري اللاهوتي)، وعليه لا بد من التدرّج في ذلك من داخل بنية القرآن ونسقه، وهذا من أخطر ما عند الجابري عندما يرفض القطيعة مع التراث، لكنه بذكاء كبير يأخذ بتلابيب القارئ بشكلٍ هادئ إلى القول بما يقول به دعاة القطيعة.

نجد ابن عاشور يثبت أنّ بعض السور المكية فيها آيات مدنية، وبعض السور المدنية فيها آيات مكية[9]. وعلى هذا القول فإن ادّعاء ترتيب آخر غير ترتيب المصحف يتوجّب عليه حلّ هذا الإشكال المتعلّق بورود آيات مدنية في سور مكية.

وهناك أمر بالغ الأهمية، ولقد تعمد الجابري عدم الخوض فيه، وهو خلل منهجي بيِّن، ويتعلق بالتناسب بين السور، وهو مبحث جليل كشف فيه العلماء قديمًا وحديثًا عن نفائس وفرائد علمية، وكشفوا عن إعجاز القرآن في ذلك، وهو وجه من أوجه نَظْم القرآن وإحكام آياته وتفصيلها، ومن الذين برعوا في هذا الميدان جلال الدين السيوطي في (تناسق الدرر في تناسب السور)، وأبو جعفر بن الزبير الغرناطي في (البرهان في ترتيب سور القرآن)، وعبد الله بن الصديق الغماري في (جواهر البيان في تفسير سور القرآن).

2- دعوى تفسير القرآن بالقرآن:

تُعَدّ قاعدة تفسير القرآن بالقرآن من القواعد المنهجية الكلية الكبرى التي يعتمدها المفسِّر مِن أجلِ بيان معاني القرآن، وتكمن أهميتها في كونها تحفظ للنصّ القرآني تكامله وانسجامه وبنائيته ووحدته العضوية، فهل كان إعمال الجابري لهذه القاعدة بهذا المقتضى؟ أم أنّ له مسلكًا آخر في إعمالها؟

والجواب عن هذا التساؤل نلتمسه من خلال نماذج وأمثلة:

- تفسير: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85]، أي: مَن سلَك طريقًا سوى ما شرعه الله، فلن يُقبل منه. ونحن نرى أن عبارة ابن كثير، إذا أُخِذَت في عمومها، تلتقي مع عبارة (الزمخشري) الذي فسّر الإسلام في الآية بدِين التوحيد. وبالتالي فالمعنى الذي نرجّحه هو كما يأتي: «ومَن يَتَّبِع دينًا غير منزل من الله (التوحيد، شرع الله) فلن يُقبل منه، بمعنى أنّ مَن يتّبع دينًا غير دين إبراهيم فلن يُقبل منه، وهذا يفيده السياق ويشهد له الواقع؛ فقد اعترف الإسلام باليهودية والنصرانية وفرض على أهلها الجزية في مقابل الزكاة»[10].

وإِذْ يحاول الجابري إثبات أنّ المقصود في الآية بالإسلام الأديان التوحيدية، فإنه يقع في تناقض مع ما ذهب إليه من أنّ الإسلام لم يُطْلَق على الجماعة المسلمة إلا في وقت متأخّر من البعثة، حين يقول في موضع آخر: «فاصطلاح الإسلام يعني الاستسلام والخضوع، ويكتسي في الحقل الدلالي العربي الخضوع لسلطة جماعة أو دولة، وهكذا لم يبدأ استعمال هذا اللفظ في القرآن إلا بعد أن صار مَن كانت تدعوهم قريش (أتباع محمد) جماعةً يجمعها كونها أتباع رئيس معيّن هو النبي -صلى الله عليه وسلم- من جهة، وانفصالها عن قريش من جهة أخرى، وهكذا، فعندما لم تكن هذه الجماعة قائمة كان الذي يستجيب للدعوة المحمدية يوصف بلفظ: {تزكّى}»[11].

إذن كيف يستقيم اعتبار الإسلام يطلق على كلّ الأديان التوحيدية ويتأخّر إطلاقه على الجماعة المؤمنة حتى تصبح لها دولة؟!

ثم إنّ حمل معنى الإسلام على ما ذكر الجابري لا يؤيّده لا واقع ولا سياق؛ أمّا الواقع فإنّ الأديان السابقة تمّ تحريفها بنصّ القرآن وواقع الحال، من تغيير أحكام الله وادّعاء ألوهية المسيح وعزير. ولا يخفى التفصيل الوارد بشأن ذلك في قصص القرآن.

أمّا السياق فإنه على العكس من ذلك لا يسعف الجابري فيما ذهب إليه، يقول ابن عاشور: «عطف على جملة: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ تَبْغُونَ} وما بينهما اعتراض، كما علمت، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة، وردّ لقولهم: نحن على ملة إبراهيم، فنحن ناجون على كل حال. والمعنى: من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام»[12].

فلو أنّ الجابري -كما زعم- يفسّر القرآن بالقرآن لَتتبّع موارد لفظ الإسلام، ولم يستنتج من اللفظ ما يبرّر به صحة الأديان المحرَّفة.

- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9].

يقول الجابري: «وخلاصة الأمر أنه ليس ثمة أدلّة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس، منذ جَمْعِهِ زمن عثمان، أمّا قبل ذلك فالقرآن كان مفرّقًا في صحف وفي صدور الصحابة. ومن المؤكّد أنّ ما كان يتوفّر عليه هذا الصحابي أو ذاك من القرآن -مكتوبًا أو محفوظًا- كان يختلف عمّا كان عند غيره، كمًّا وترتيبًا. ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعِهِ زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولّوا هذه المهمّة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذُكر في مصادرنا.

وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]؛ فالقرآن نفسه ينصّ على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنَّسْخ. قال تعالى مخاطبًا رسوله الكريم: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى: 6- 7]، وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[النحل: 101]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الحج: 52]، وقال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 106]».

يقول الجابري: «ومع أنّ لنا رأيًا خاصًّا في معنى الآية -في بعض هذه الآيات-، فإنّ جملتها تؤكّد حصول التغيير في القرآن، وأنّ ذلك حدث بعلم الله ومشيئته»[13].

عند التأمّل في موقف الجابري هذا نرى حجم الاضطراب والتناقض؛ ومدعاةُ ذلك الرغبةُ في الوصول إلى نتيجة مقرّرة سلفًا، وهي تثبيت القول بوقوع الزيادة أو النقصان، فكيف يستقيم تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن يصرّح بالحفظ الإلهي لكتابه المجيد، وكيف يستنتج الجابري من الآيات التي تناولَت موضوع النَّسْخ وقوعَ الزيادة بمشيئة الله، مع الفارق بين وقوع الزيادة والنقص من الصحابة ومشيئة الله لذلك، إضافة إلى عدم اتفاقه مع فكرة النَّسْخ، ومنه فهو يصادر على المطلوب، أضِف إلى ذلك عدم تفسيره للآية بمعنى الجملة القرآنية فكيف يضمّنها ذلك المعنى هنا؟

3- ادّعاء أن فكرة الإعجاز من اختلاق علماء الإسلام:

 يرى الجابري أنّ «المعجزة القرآنية زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت مُتمثّلة في الجانب اللغوي، فلما اتسعَت رقعة الإسلام، ودخلَت فيه شعوب كثيرة، وظهرَت فِرَق مناهضة للإسلام من أتباع الأديان الأخرى كالمانوية، أصبح من الضروري على علماء الإسلام توسيع مجال الإعجاز ليشمل معانيه وليس لفظه فقط. استشهدوا في ذلك بما ورد في القرآن من إخبار بالغيب، وبما ذكره من أخبار الأقوام الماضية»[14].

وهذا الادّعاء من الجابري يكشف عدم مراعاته لما زعم من تفسير القرآن بالقرآن، فالقرآن نفسه يؤكّد على شمولية إعجازه، وخلود ذلك واستمراريته، وهو دليل صدق النبي عليه الصلاة والسلام.

إِذْ كيف يزعم بعد ذلك الجابري أنه يفسّر القرآن بالقرآن، وهو يغضّ الطرف عن الآيات الكثيرة التي تنصّ بشكل صريح على إعجاز القرآن دون حصر أوجه إعجازه؟ بل تُطلق التحدي أمام المنكِرين ليظاهر بعضهم بعضًا إن استطاعوا لذلك سبيلًا، وليس فقط الآيات التي تصرّح بالتحدي، ولكن أيضًا الآيات الكثيرة التي تنفي عن القرآن الكريم كلّ خلل أو عِوَج أو شك، ودون تقييد مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}[الكهف: 1]، وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[يوسف: 1]، وقوله أيضًا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف: 109]، وغيرها من الآيات التي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال قصر معناها على الاستقامة اللغوية فحسب، وإنما يتّسع معناها ليكشف عن تميّز القرآن الكريم بما يفوق الكلام البشري وعلى مرّ العصور والأزمان بمعطياته اللغوية والعلمية والتاريخية والاجتماعية والنفسية.

ثم إنّ القول بحصر المعجزة في الجانب اللغوي فقط مآله غير سليم؛ لأنّ الإعجاز في هذه الحالة يتوجّه للعرب وحدهم، وهذا يتنافى مع عالَمية القرآن الذي جاء هداية للعالمين.

وعليه يرى ابن عاشور أنّ الجانب اللغوي والبلاغي وأفانين القول في القرآن ونَظْمه متوجّه إلى العرب، وأمّا ما أودع في القرآن من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية فهو متّجه إلى سائر الناس في كلّ زمان ومكان[15].

4- قصص القرآن في فهم القرآن الحكيم.

 يستهلّ الجابري القسم الثالث من المدخل بالحديث عن قصص القرآن، حيث يعتبره نوعًا من ضرب المثل[16].

يقول: «وهكذا فكما يضرب القرآن المثَل برجلَيْن أو بجنّتين من دون تحديد، وكما يُجرِي حوارًا بين أهل الجنة وأصحاب النار، والقيامةُ لم تَقُم بعد؛ فكذلك الشأن في قصص الأنبياء التي يذكرها إنها للذِّكْر والموعظة والعبرة، وهكذا فكما أنّنا لا نسأل عن صحة القصة التي وراء الأمثال التي تضرب لموقف أو حال إلخ؛ لأنّ المقصود بالمثَل ليس أشخاصه بل مغزاه، فكذلك القصص القرآني في نظرنا. والصدق في هذا المجال -سواء تعلّق الأمر بالمثل أو بالقصة- لا يلتمس في مطابقة شخصيات القصة والمثل للواقع التاريخي، بل الصدق فيه مرجعه مخيال المستمع ومعهوده»[17].

كما يشيد الجابري بدراسة (خلف الله، الفنّ القصصي في القرآن الكريم)، الذي اعتبر أنّ قصص القرآن عبارة عن أقوال أنطقها القرآن على لسان بعض الشخصيات[18].

كما يرى: «بما أنّ الهدف من القصص القرآني هو ضرب المثل واستخلاص العبرة، فلا معنى لطرح مسألة الحقيقة التاريخية؛ إذ الحقيقة التي يطرحها القصص القرآني هي العبرة، هي الدرس الذي يجب استخلاصه»[19].

كما يرى الجابري: «أنّ هناك تطابقًا إلى حدّ كبير بين جُلّ الحوادث التاريخية التي يحكيها قصص القرآن عن أنبياء بني إسرائيل وما جاء في التوراة والإنجيل»[20].

ثم يقرّر أن من مميزات دراسة القرآن عنده تتبّع القصص القرآني حسب ترتيب النزول وليس حسب ترتيب المصحف كما جرت العادة.

يقول: «نتعامل مع القصص القرآني إذًا حسب ترتيب النزول، وهدفنا تتبّع تطوّر هذا القصص مع تطوّر الدعوة المحمدية من جهة، والتعرّف من جهة أخرى إلى الكيفية التي وظّف بها القرآن هذا القصص كنوع من أنواع البيان لنصرة هذه الدعوة. إنّ حاضر القصص القرآني هو نفسه حاضر الدعوة المحمدية منظورًا إليه من خلال كفاح الأنبياء من أجل تبليغ رسالاتهم»[21].

بعد أن عرضتُ لموقف الجابري من قصص القرآن الكريم أسجّل الملحوظات الآتية:

لقد أرسل الجابري أحكامًا جاهزة لم يبرهن على صدقها، وأطلق العِنان لقلمه وهو الناقد للبيان والداعي إلى الاقتصاد في العبارة، أطلق العِنان لقلمه مستعملًا من العبارات ما ننزّه مثله عن نظيرها، حيث حملت من المعاني السلبية الشيء الكثير، فهو يشير إلى أن القصص القرآني مجرّد ضرب للمثل، ولا يتضمّن حقائق تاريخية بالضرورة، وأنه جاء مساوقًا لمعهود العرب، ولا يمكن أن يُفهم منه غير أخذ العبرة، وأن توزيعه في القرآن الكريم يحتاج إلى إعادة ترتيب، بل ذهب إلى تطابق قصص القرآن مع ما ورد في التوراة والانجيل، ولم يُشِر ولا مرّة واحدة إلى هيمنة القرآن وتصويبه لِمَا وردَ في الكتب السابقة، بل لم يتوانَ الجابري عن التصريح بموافقته لِما انتهى إليه صاحب (الفنّ القصصي) الذي اعتبر قصص القرآن أساطير، كما يُورِد من الإسرائيليات أخبارًا ثبت زيفها الصريح ومع ذلك لا يعلِّق عليها ولا يوثقها. ثم استعماله لغة تقريرية وثوقية في أمور تحتاج إلى تمهّل قبل إصدار الأحكام.

ولقد ضمّن تفسيرَه لبعض الآيات الواردة حول القصص غرائبَ من الإسرائيليات لا تليق بمقام الأنبياء من مثل تفسيره {خَصْمَانِ}: «هما ملَكان يمثلان داوود وزوج المرأة التي تزوجها غصبًا»، وفسّر (النعجة) بالمرأة، وساق القصة دون التعليق عليها أو نقدها[22].

والغريب أنه يرى أنّ قصص القرآن غير واقعي، فما الغاية إذن مِن ذِكْر قصة لا تليق بمقام الأنبياء؟!

ومما يثير الاستغراب أنّ الجابري لم يُشِر إلى الدراسات الجادّة التي تناولتْ بعمق قصص القرآن (كموريس بوكاي، وفضل حسن عباس، ومحمد عليّ الصلابي، وعلي سيف العبيدي، والتهامي نقرة، وغيرهم). كما أنه لم يشِر إلى ما يفيد تعديل وجهة نظره السابقة في دراسته حول ابن خلدون وتأسيسه لعلم العمران البشري، حيث لم يقف على أثر الرؤية القرآنية في تشكيل وعي وفكر ابن خلدون، فالجابري يرى أنّ ابن خلدون حاول تأسيس البيان الإخباري على البرهان[23].

ولتعزيز رؤيته يرى أنّ علم التاريخ قبل ابن خلدون كان متأثرًا بالرؤية البيانية، ولم يكن فيه مجال للممارسة العقلية كما هو الشأن في النحو والفقه والتحليل البلاغي؛ وإنما جمع المادة التاريخية والتحقّق من رواتها، إلى أن جاء ابن خلدون الذي اختلف الوضع معه، حيث رام أن يرتفع بالعلم من مجرّد سرد الأخبار إلى العمل العلمي القائم على النظر والتحقيق[24].

يقول ذلك وابن خلدون يستدلّ بشكلٍ صريح بِكَمٍّ هائل من الآيات القرآنية على تحليله وقراءته للأحداث والوقائع، وبصدد ذلك نجد (عماد الدين خليل) يقوم بعمل إحصائي للآيات الواردة في (المقدّمة) مبينًا سياق حديث ابن خلدون واستثماره للآيات في كشف السنن التاريخية، وصياغة القوانين والقواعد[25].

كما ينبه (عماد الدين خليل) إلى أنّ ابن خلدون يؤكّد رؤيته وحسّه الديني من خلال صيغة أخرى تميّزت بها مقدمته بشكلٍ يلفت النظر، ألا وهي اختتام كلّ فصل أو مقطع من فصول مقدمته ومقاطعها بعبارة دينية، آو آية قرآنية، أو جزء من آية من مِثْل: (والله أعلم)، أو (الله يحب المتقين)، (والله غالب على أمره). وأحيانًا تخلّل هذه التعابير والمقاطع القرآنية ذات المغزى صميمَ فصوله، فلا يكتفي بأن يضعها في نهاية كلّ فصل بل يدخلها في ثنايا معطياته حيثما اقتضت الحالة، وفي هذا مزيد دلالة على تصور ابن خلدون لمدى الحضور الإلهي في التاريخ، من مِثل: (ما شاء الله)، (يأذن الله)، و(الأمر لله)، (والله أعلم)[26].

وليس الأمر عند ابن خلدون مجرّد تقليد، لكن الأمر أبعد من ذلك وأبعد من مجرّد الإحساس الديني لدى ابن خلدون، فالرجل -فضلًا عن ذلك- يرى في حركة التاريخ -وقائعَ وسننًا- انعكاسًا لمشيئة الله سبحانه وقدره في العالم[27].

ويمضي (عماد الدين خليل) في الاستدلال والتعليل لبيان عمق ونسقية الرؤية القرآنية والخلفية الدينية لابن خلدون عندما يتحدّث عن التّرف والأخلاق وقيام الدُّوَل ونموّها وسقوطها ومداولة الأيام.

ونفس المسلك نحَاه (عبد الحليم عويس) عندما حاول التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون، فقد برهن على أنّ ابن خلدون أفاد من جهود السابقين؛ (ابن حزم وابن النفيس والغزالي) وغيرهم من الأعلام الذين كانت لهم نفس اهتمامات ابن خلدون، ومِن ثَم فالقول أنّ ابن خلدون أحدث قطيعة مع مَن سبَقه، أو أنه اخترع الحديث عن علم العمران أو فلسفة التاريخ دون منطلقات أو مقدمات أمرٌ لا يستقيم علميًّا ومنهجيًّا وواقعيًّا[28].

بل إنّ حضور الجانب الغيبي في فكر ابن خلدون دفع (عبد الرحمن بدوي) إلى قولٍ قاسٍ في حقّ ابن خلدون عندما أشار إلى: «أنّ المميز الأكبر بين ابن خلدون وفلاسفة الحضارة والاجتماع والسياسة في العصر الحديث هو غلبة الروح الدينية على اتجاهه في التفسير والتعليل، وهو أمر مفهوم بطبعه لدى مفكّر ينتسب بكلّ روحه إلى الحضارة الإسلامية، وإلى العصر الوسيط، ومن العسير أن تعثر في تأويلاته وتعليلاته على نزعة عقلية صريحة (rationaliste)، وأنَّى لنا أن نظفر بها عند رجل يؤمن بالكهانة والرؤيا والسحر، ويسمح للخوارق بأن تدخل عوامل في توجيه الأحداث التاريخية»[29].

وإن كانت عبارة (عبد الرحمن بدوي) فيها بعض القسوة، ولكن يستنتج منها وفاء ابن خلدون لخلفيته الدينية ومجاله التداولي من الإيمان بالغيب والمطلق، والاستدلال بالوحي في تحليله وترجيحه، وهو ما جعل بدوي يصفه بما ذكر.

5- موقف الجابري من تراث المفسِّرين:

إذا أمعنّا النظر في أسلوب الجابري في التعاطي مع تراث المفسرين يمكنُ تسجيل كثير من التجاوزات والاختلالات، أبرزها ما يأتي:

- في الغالب ترِد عنده كتب المفسِّرين في سياق الذمّ والرمي بالإيديولوجية والأفكار المتلقّاة.

- ادّعاء إجماع المفسِّرين في قولٍ ما، دون استقصاء لأقوالهم وتوثيقها.

- تكراره لعبارة: (تقول مصادرنا)، دون العزو لها.

- الطريقة الانتقائية في ذِكر الأقوال لدعم وجهة نظره؛ مثل تأييده لوجهات نظر المعتزلة: كقضية خلق القرآن، وعدم رؤية الله يوم القيامة[30].

- التسوية بين المصادر، يقول في ذلك: «لا يتّسع المجال هنا للحديث المفصَّل عن مصادرنا، ولا عن الموضوعات التي كتب فيها القدماء والتي تتصل بصورة أو بأخرى بما ندعوه هنا بالظاهرة القرآنية، سنكتفي بالقول: إننا من الناحية المبدئية لا نستثني أيّ مصدر، عربيًّا كان أو غير عربي، إسلاميًّا أو غير إسلامي. المهم عندنا هو ما يقدّمه لنا هذا المصدر أو ذلك من معلومات تكون لها فائدةٌ ما في بحثنا. ومع ذلك فإن المصادر الإسلامية، والقديمة منها خاصّة، هي عمدتنا»[31].

- التسوية بين القرآن والتوراة والإنجيل:

يقول: «لا يتميز القرآن عن حقيقة التوراة والإنجيل لا بمصدره ولا بمحتواه، وإنما يتميّز بكونه نزل بلسان عربي مبين»[32].

- هناك أفكار ذات جذور استشراقية جليّة، ولا يشير إلى ذلك[33].

- ادّعاء السبق في المجيء بتفسير حسب ترتيب النزول، والتغاضي عن الدراسات العديدة في الموضوع.

ثانيًا: قضايا النظر في فهم القرآن الحكيم:

1- آثار العقل الوضعي:

لم يستطع الجابري على طول دراسته في أجزائه الأربعة أن ينعتق من ترسّبات الموقف الوضعي من قضايا الوحي والدين، بل تظهر بشكلٍ جلي أحيانًا وبشكلٍ ضِمني في أحايين كثيرة، فكانت تُغالبه العبارات فلا يستطيع لها دفعًا.  

يقول (لؤي صافي): «إنّ المثلب الكبير الذي يعيبه الجابري على العقل العربي يكمن في احتفاظه بأحكام متعالية وأحكام قيمية كلية، ورفضه أن تختزل بنيته إلى مجموعة أحكام تجريبية، أي: إلى عقل وضعي كما هو حال العقل الغربي المعاصر، الذي يعتمده الجابري أساسًا مرجعيًّا لنقد العقل العربي. إننا لا نختلف مع الجابري في أنّ العقل العربي المعاصر عقل تراكمي غارق في ذاتيته، ومفتقد للنظر الموضوعي؛ وهو لذلك عقل يحتاج إلى إعادة تشكيل من خلال تقويم التراث الفكري الذي صنعه. لكننا نختلف معه في الأُسس التي انطلق منها والمنهجية التي اعتمدها، وبالتالي في النتيجة التي توصَّل إليها. فالعقل العربي المسلم الذي أقام الحضارة الإسلامية التي سادت معظم أرجاء المعمورة لقرون عشرة ونيِّف، لم يتشكَّل في عصر التدوين كما يدّعي الجابري، بل تشكَّل إبّان نزول الوحي على الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-. فتجاهُل دورِ الوحي في تحويل العقل العربي من عقلٍ قَبَلي مادي غارق في ذاتيته ذي نزعة حصرية متكبرة، إلى عقلٍ حضاري إنساني رافضٍ لكلّ النزعات الحصرية، سواء أكانت عِرقية أم قومية أم طبَقية، وراغبٍ في البحث والاختبار والتدقيق والتمحيص = تجاهلٌ لا يستوي والنظر الموضوعي»[34].

لكن الجابري منسجم مع منطلقاته وطرحه؛ لأنه لا يرى أنّ الوحي صاغ العقل العربي، ولا عمل على إعادة تشكيله.

ويضيف (لؤي صافي): «أنّ استبعاد الجابري للبُعدَين البياني والعرفاني للعقل هي دعوةٌ للانطلاق من العقل الوضعي الغربي والخضوع إلى أحكامه المضمونية ونتائج تجربته التاريخية؛ وبالتالي انحصاره في مفهوم ضيّق للعقل يتجاهل جانبين هامّين من جوانب الفعل العقلي: النزوع الإشراقي والنزوع الأخلاقي»[35].

كان الهدفُ من الاستدلال بهذين النصّيْن بيانَ أن الرؤية التي كان يصدر منها الجابري لم يغيرها وما زال وفيًّا لمنطلقاته وتصوّراته؛ ففي عمله (فهم القرآن الحكيم) لم يصدر منه ما يباين رؤيته السابقة، وإنما هو مستمر في استبطانها من خلال استعماله جهازًا مفاهيميًّا ناضحًا بالحمولة الإيديولوجية ويمتح من خلفية مادية، من ذلك (مفهوم الظاهرة القرآنية).

وفيما يأتي استعراض لتناول الجابري لهذا المفهوم:

يقول: «ونحن نقصد بالظاهرة القرآنية، ليس فقط القرآن كما يتحدّث عن نفسه في الآيات التي ذكَرْنا قبل، بل ندرج فيها أيضًا مختلف الموضوعات التي تطرّق إليها المسلمون، وأنواع الفهم والتصوّرات (العالمة) التي شيّدوها لأنفسهم قصد الاقتراب من مضامينه ومقاصده»[36].

«هناك أبعاد ثلاثة في الظاهرة القرآنية: بُعْدٌ لا زمني يتمثّل في علاقتها بالرسالات السماوية، وبُعد روحي يتمثّل في معاناة النبي لتجربة تلقِّي الوحي، ثم بُعد اجتماعي دعَوي يتمثّل في قيام النبي بتبليغ الرسالة وما ترتّب على ذلك من ردود الفعل»[37].

ويضيف: «يجب أن لا ننسى أنّ موضوع بحثنا هنا ليس مادة جامدة، ولا كائنات رياضية، ولا إبداعات أدبية ولا مجرّد مساجلات كلامية أو نظريات عقلية، بل هو من نوع خاصّ ينتمي إلى ما يعبر عنه بـ(الظاهرة الدينية)، وهي تتميّز عن الظواهر الحسية والشعورية والعقلية والخيالية بكونها تجربة روحية. ومع أنّ الظواهر غير الدينية قد يحضر فيها الجانب الروحي، بهذه الدرجة أو تلك فإنها تبقى مع ذلك مشدودة إلى موضوعها الحسِّي أو العقلي أو الخيالي، ومطبوعة بطابعه. أمّا التجربة الروحية فهي -على الأقلّ كما يصفها أصحابها- معاناة مع المطلق تقع وراء الحسّ والمحسوس والعقل والمعقول، وغني عن البيان أنّ تجربة النبوّة هي أعلى قمم التجارب الروحية»[38].

«ونحن نعتقد أنه لا بد من أخذِ هذه الحقيقة بعين الاعتبار. فالظاهرة القرآنية، وإن كانت في جوهرها تجربة روحية، نبوّة ورسالة، فهي في انتمائها اللغوي والاجتماعي والثقافي ظاهرة عربية، وبالتالي يجب أن لا ننتظر منها أن تخرج تمامًا عن فضاء اللغة العربية، لا على مستوى الإرسال ولا على مستوى التلقّي»[39].

ويذكر أيضًا: «وإذا نحن انطلقنا من فهمنا للظاهرة القرآنية من هذا المنطلق، أعني: من اعتبار خصوصيات لغة العرب ومعطيات معهودهم؛ أمكننا التغلّب على كثير من الشكوك التي قد تثار في وجه صدق الروايات التي تتحدّث عن هذه الظاهرة، حتى عندما يتعلّق الأمر بأدقّ لحظاتها، أعني: لحظة البداية، على أنّ اعتبار معهود العرب بكلّ جوانبه أمرٌ ضروري لنا لجعلِ القرآن (معاصرًا) لنفسه، تمامًا مثلما أنّ تعاملنا مع هذا المعهود بكلّ ما نستطيع من الحياد والموضوعية، هو الطريق السليم -في نظرنا- لجعل القرآن معاصرًا لنا أيضًا، لا على صعيد التجربة الدينية، فذلك ما هو قائم دومًا، بصورةٍ ما، بل أيضًا على صعيد الفهم والمعقولية»[40].

كان ضروريًّا سَوق كلّ كلام الجابري حول الظاهرة الدينية دون بتره لكي لا نتقوّل عليه أو نحمل كلامه ما لا يحتمل، لكن ظهر بما لا يدع مجالًا للبس أنّ الجابري متأثّر إلى حدّ كبير بمفهوم الظاهرة الدينية في الثقافة الغربية، فهي ظاهرة بعيدة عن المعقولية، ولا يمكن البرهنة عليها، كما تعكس عدم قدرة الإنسان على استكناه عناصر الطبيعة ومواجهة المشاكل واقتراح الحلول لها.

ومنه نفهم السِّرّ وراء إسهاب الجابري في الحديث حول محيط (الدعوة المحمدية) وقراءة محيطها الثقافي لكشف كيف نشَأَت فكرة النبوّة في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ويمضي الجابري في التمحُّل من خلال استعراض كثير من الأحداث والوقائع ليصل إلى نتيجة تأثّر النبي بما يعتمل من أحداث في محيطه، مما ساعد على انبثاق فكرة النبوّة لديه؛ لذا يرى (صاحب موقف الفكر الحداثي): «إنّ منشأ مسار الكون والتكوين للظاهرة القرآنية الذي يريد الجابري الوصول إليه يتمثّل في النتيجتين المندمجتين التاليتين: انبعاث (فكرة النبوّة) والنبي الخاتم عند النبي كانت نتيجة إرهاصات (المحنة الآريوسية)، وتلك هي التي حدّدت مسار خطاب القرآن في انتماء الدعوة المحمدية إلى دين إبراهيم، وفي موقفها من الديانات الأخرى»[41].

إذن كيف لنا أن نجمع بين انبعاث فكرة النبوّة في نفسية الرسول ونموّ النصّ وتكوُّنه، وكونه وحيًا من الله؟ لا شك أنّ ذلك من التلبيسات التي توظِّف مهارة التورية والقدرة على المخاتلة والالتفاف دون التصريح بالمقصود مباشرة، عملًا بنصيحة (أحمد أمين)[42] الذي ينصح النقاد بعدم الصراحة في التعبير عن الأفكار خصوصًا إذا كانت ذات جذور استشراقية.

ويرتبط بحديثه عن الظاهرة حديثه عن ما سماه (الكون والتكوين)، ولا شك أن لهذا الاصطلاح إيحاءات لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لِتَلَمُّس مضامينها، ومنه يقول: «إنّ هذا النوع من التعامل يهتم بالتعرف على كيان النصّ، وذلك من خلال رصد عملية نموّه الداخلي من جهة، ومن خلال تتبع الكيفية أو الكيفيات التي تم التعامل بها معه خلال مسيرته نحو اكتمال وجوده بين الناس كنصّ نهائي مصون عن الزيادة والنقصان»[43].

وهو يرصد عملية نموّ القرآن وتكوُّنه وفق قراءة أحداث السيرة، محاولًا إعادة ترتيب السور على ضوئها يفسِّر ويؤوِّل مجريات الوقائع وأهم المحطات والمنعطفات تفسيرًا ماديًّا صرفًا، من ذلك حديثه عن صحيفة المدينة التي كتبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أمّا المسألة الثانية التي كان لا بد أن تطرح نفسها على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول مقامه في المدينة، فهي مسألة (التعايش) بين مختلف الفئات التي أصبحت تقطن يثرب؛ إِذْ دون نظام يضمن التعايش السلمي، بل التعاون فيما بينها، لن يصبح في الإمكان القيام بالمهمّة التي كانت من أجلها الهجرة إلى المدينة. في هذا الإطار، ومن هذا المنظور يجب أن نقرأ (الصحيفة) المعاهدة التي كتبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار واليهود حتى لا نخرج بها من مجال المفكَّر فيه يوم كتابتها، كما يفعل كثير من الباحثين والكُتّاب المعاصرين، عربًا ومستشرقين»[44].

فماذا يقصد الجابري من عدم الخروج بها عن مجال المفكّر فيه؟ لا شك أنه يرمي إلى أنه لا مجال إلى الحديث عن تسميتها وثيقة دستورية أو الإشارة إلى فضل السبق في تقرير حقوق المواطنة، أو تقرير مبدأ الحرية، أو التنظيم السياسي، على الرغم من تصريح الوثيقة بكلّ ذلك وأكثر، وهو يفعل ذلك بقصد تقزيم دورها، ولا يكتفي بذلك بل يسميها معاهدة حربية، حين يقول: «وما ينبغي تأكيده هنا الآن هو أنّ العقد الاجتماعي الذي تأسّس عليه كيان الدعوة المحمدية في المدينة هو عقد حربي. وهذا أمر طبيعي، فما دامت الهجرة إنما كانت من أجل تنظيم الحرب ضد مشركي قريش الذين رفضوا الدعوة السلمية وحاربوها وأخرجوا أهلها من ديارهم»[45].

ثم حديثه عن الدَّور المزدوج للغنائم من خلال قوله: «لقد كان صاحب رسالة لا صاحب مطامع ومطامح، وقد عقد العزم على مواجهة جميع الضغوط والإغراءات والمضيّ قُدُمًا بالدعوة إلى الأمام. غير أن طبيعة الحياة البشرية تقتضي أنه لا بد للنجاح من وسائل، وأولى الوسائل التي يتطلّبها تجهيز السرايا والجيوش هي المال، لقد كان لا بد من أن تدخل الغنيمة كجزء أساسي في الكيان المادي، جماعة المسلمين»[46].

هذه الفقرة تكشف القدرة العجيبة عند الجابري على بثِّ معانٍ سلبية بشكلٍ ظاهرُهُ إيجابيّ، ولكن مآلاته مغرضة؛ حيث بدأ في الأول بالتذكير بأنّ الرسول ليس صاحب مطامع ولا مطامح، ولكن لينتهي أن الغنيمة وسيلة لا مناص منها.

وهو هنا وإنْ غلَّف الفكرة بعبارة لا تخلو من غمز، فإنه في موضع آخر صرح بما يريد دون مداراة أو مواربة حين يقول: «الدعوة المحمدية قد أفصحت عن مشروعها السياسي وهو الاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر»[47].

وإذا كان الجابري قال إن الصحيفة ينبغي أن تُقرأ ضمن المفكَّر فيه، لا أن يستنتج منها استنتاجات أخرى؛ لأنّ ذلك لا ينسجم مع ما يريد الوصول إليه، لكنه -وفي نفس السياق- لا يتوانى عن قراءة أحداث ماضية خارج المفكّر فيه، مثل ادّعائه بأن الزواج من أم حبيبة كان بمبادرة ذات دلالة سياسية[48].

ونفس الملحظ نقف عليه في قراءته لتحوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

ولأنه مُصِرٌّ على ترسيخ دَور الغنيمة وَجَد أمامه عقبةً كَأْدَاء، وهي فتحُ مكة سِلْمًا، فلم يقف عند سلمية الفتح ولا الدروس المستفادة منه، بل ذهب إلى الاستدلال برواية من نسج الخيال حيث يقول: «وبما أنه منع استباحة مكة وسبي أموالها، الشيء الذي يحرم جيشه من الغنيمة، فقد عمد إلى اقتراض مبالغ من أصحاب الأموال من تجّار مكة ووزّعها على الفقراء من جيشه تعويضًا لهم عن الغنيمة»[49].

ولا يخرج موقف الجابري من العبادات عن هذا المسلك، حيث يقول: «فليست العبادات في أيّ دين في متناول العقل، وما يميز العبادات أنها من المنقول لا من المعقول»[50]. والجابري يصرّح بذلك رغم المقاصد العامة والخاصة للعبادات والأبحاث العلمية تتوالى من المختصين في إثبات الجديد والمدهش في الموضوع، لكن فهم الجابري لمعهود العرب جعله شديد الحساسية لقراءة المعطيات ضمن الكشوفات العلمية الحديثة؛ مثل الطريقة التي قرأ بها الزكاة[51]، وأيضًا تفسيره لقضية المَهْر[52].

2- التقصيد المنفلت:

يرى الجابري أن العقل البياني كبَّل النصّ بطوافه حول المبنى على حساب المعنى، وأنّ الحلّ هو الانعتاق من ذلك من خلال العمل بالمقاصد، يقول: «المطلوب اليوم هو تجديد ينطلق لا من مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع بل من إعادة (تأصيل الأصول)، من إعادة بنائها. إعادة تأصيل الأصول ذلك كان مشروع الإمام الشاطبي... صاحب كتاب الموافقات الكتاب الذي حاول فيه إعادة بناء منهجية التفكير الأصولي على أساس اعتبار (المقاصد) مقاصد الشرع، بعد أن بقيت منذ الشافعي مبنية على استثمار الألفاظ (واستنباط العلل) واعتماد القياس»[53].

ويرى أنّ القواعدَ الأصولية التي ينبني عليها الفقه الإسلامي لحد الآن ترجع إلى عصر التدوين (العصر العباسي الأول)، وكثيرًا منها يرجع إلى ما بعده، أمّا قبل عصر التدوين هذا فلم تكن هناك قواعد مرسمة تؤطر التفكير الاجتهادي. والفقهاء الذين وضعوا تلك القواعد قد صدروا في عملهم الاجتهادي بمثل ما حدث بعد، وقد صدروا في عملهم الاجتهادي ذاك عن النظام المعرفي السائد في عصرهم، وعن الحاجات والضروريات والمصالح التي كانت تفرض نفسها في ذلك العصر. وبما أن عصرنا يختلف اختلافًا جذريًّا عن عصر التدوين ذاك؛ سواء على مستوى المناهج أو المصالح، فإنه من الضروري مراعاة هذا الاختلاف والعمل على الاستجابة لما يطرحه ويفرضه[54].

بشكلٍ مبتسر وموجّه، يعقد الجابري مقارنة بين الطريقة التي تعتمد -حسب زعمه- القياس والتعليل واستثمار الألفاظ، والطريقة التي تدعو إلى اعتبار المقاصد أساسًا ومنطقًا. فيرى أن الطريقة التي تعتمد على المقاصد «مقاصد الشرع، في عملية تأسيس معقولية الأحكام، وهي العملية التي بدونها لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات ولا على الظروف والأحوال المختلفة المتباينة، ولما كان مقصد الشارع، الأول والأخير، هو مصلحة الناس، فإن اعتبار المصلحة هو الذي يؤسّس معقولية الأحكام الشرعية، وبالتالي فهو أصل الأصول كلّها، وواضح أن هذه الطريقة تتحرك في دائرة واسعة لا حدود لها، دائرة المصلحة، وبالتالي فهي تجعل الاجتهاد ممكنًا ولدى كل حالة»[55].

وعليه حسب الجابري، فإنّ بناء معقولية الحكم الشرعي على أسباب النزول في إطار اعتبار المصلحة يفسح المجال لبناء معقوليات أخرى عندما يتعلّق الأمر بـ(أسباب نزول) أخرى، أي: بوضعيات جديدة. وبذلك تتجدد الحياة في الفقه وتتجدد الروح في الاجتهاد وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كلّ زمان ومكان[56].

والسؤال البديهي الذي يرِد على موقف الجابري: إذا كنّا سنعتمد المصلحة بلا ضوابط ولا قيود لغوية، فما الحاجة أصلًا للرجوع للنصّ، ولا للنظر فيه أو استنطاقه؟ ومنه نفهم قصد الجابري والغاية التي يرنو الوصول إليها من خلال النماذج والأمثلة التي يسوقها؛ كموقفه من زواج المتعة، حين يقول: «ونحن نرى أنّ في عصرنا ما يحمل على النظر إلى زواج المتعة على أنه (يحلّ للمضطر)؛ فغلاء المهور، والصعوبات التي يواجهها معظم شباب اليوم في العثور على سكن مقبول وبثمن مقبول...إلخ، مما يضطره إلى الزنا أو إلى ما يسمى بـ(الزواج العرفي) أو بغيره من الأسماء التي في معناه... كلّ ذلك يبرّر العودة إلى العمل به، بوصفه من المباح للمضطر... وبما أن الرِّق قد صار اليوم محرَّمًا دوليًّا، وهذا ينسجم مع التوجّه القرآني، فإن باب الإباحة الذي فتح لزواج المضطر من الإماء، وهو مغلق الآن بمنع الرِّق، يجب أن يفتح في وجه زواج المتعة. وإلّا فإنّ الزنا بـ(الرقيق الأبيض) سيبقى مفتوحًا ينتج مزيدًا من الزناة ومزيدًا من الرقيق الأبيض»[57].

3- إعجاز القرآن عند الجابري:

يتسم موقف الجابري من قضية الإعجاز في القرآن بالتأرجح بين النفي والإثبات، فهو يصرح في موضع بالقول: «لقد اكتسى هذا التحدي طابع التعجيز فوصف القرآن بأنه معجِز، وبما أنه خصّ به النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو معجزة له. وبما أن الدعوة المحمدية كانت موجّهة في البداية إلى المشركين بمكة بنصّ القرآن نفسه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}[الأنعام: 92]. فإنّ هذا الإعجاز بقي قائمًا، ما دام المخاطبون به هم العرب وحدهم، ولكن عندما اتسعت رقعة الإسلام وأصبحت تضم أقوامًا من غير العرب صار من الضروري طرح قضية الإعجاز القرآني بالصورة التي يمكن أن يواجه بها غير العرب، خصوصًا أصحاب الديانات المناهضة للإسلام كالمانوية؛ ومن هنا وسّع علماء الإسلام مضمون الإعجاز القرآني ليشمل معانيه. وهكذا أصبح المسلمون ينظرون إلى القرآن على أنه معجِز ليس بلفظه فقط بل بمعانيه أيضًا، مستندين في ذلك إلى ما ورد فيه من الإخبار بالغيب، ومن أخبار الأقوام الماضية التي لم تُذكر في الكتب السماوية السابقة...إلخ»[58].

وكدأب الجابري في إرسال الأحكام تاركًا القارئ يستنتج ما بين السطور، فإنه كان يقول الشيء ونقيضه في هذه المسألة، ومنه يمكن أن نطرح على وجهة نظره الأسئلة الآتية: هل إعجاز القرآن كان في البداية مقصورًا على المبنى دون المعنى؟ إلى أن اختلقه علماء المسلمين فجأة نتيجة للتحديات المطروحة عليهم، ثم هل طرحهم لمسألة الإعجاز بالمعنى ينسجم مع روح القرآن أم أن الأمر متكلَّف ومقحَم؟ هل المنطق يقبل أن يكون القرآن، الذي هو باعتراف الجابري معجزة الرسول الوحيدة، أن يتضمّن وجهًا وحيدًا للإعجاز مع اتساع موضوعاته وغنى قضاياه، وفوق ذلك كونه كلام الخالق سبحانه؟ ذلك ما لا نجد له جوابًا عند الجابري.

ثم إنه يعقد مقارنة غير موفَّقة بين فرادة القرآن وغيره من الإنتاجات البشرية، فتوَصّل إلى استنتاجات خاطئة تكشف الموقف الحقيقي للجابري من مسألة الإعجاز برمّتها، حيث يقول: «وهل يستطيع اليوم أمهر الكُتّاب وأعلاهم شأنًا أن يأتي بمثل القرآن، أو بمثل سورة من سوره؟ بل لا أحد من الشعراء اليوم يمكن أن يأتي بشِعر يُماثل شعر المتنبي، ولا بخطبة مماثلة لخطبة قس بن ساعدة، أو بمقامة من جنس مقامات الهمذاني أو الحريري، بل لا بقصائد تتطابق مع قصائد نزار قباني؛ ذلك لأنّ الإبداع في القول كما في الرسم والنحت، كما في الفكر والفلسفة، لا يمكن تقليده لسبب بسيط هو أنّ التقليدَ بالتعريف غيرُ الإبداع. والوحي المحمدي -القرآن- إذا نُظر إليه من المنظور الأدبي[59] فهو قمة البلاغة والإبداع. وأمّا من المنظور الديني فهو تجربة روحية فريدة»[60].

وزعمه هذا غير سليم: «لأنه لا يصح وصف الأعمال البشرية الإبداعية بالإعجاز إذا قُصد به تشبيهها بالإعجاز القرآني؛ لأن القرآن الكريم كلام الله المعجِز الذي يمثل المعجزة الحقيقية الخالدة. وأمّا تلك الأعمال الإبداعية فهي ليست معجزة من الناحية النظرية والعملية؛ فمن الناحية النظرية إنه لا يصح عقلًا أن يُقال: إنّ هذه الأعمال الإبداعية معجزة، ولا يمكن الإتيان بمثلها، إنه لا يصح ذلك؛ لأنّ أيّ عمل بشري مهما كان إبداعه يمكن أن يُقلَّد، أو يُنتَج من جديد بتكرار التجربة عند نفس الشخص، أو عند شخص آخر، فيُؤدي ذلك إلى إنتاج نفس العمل، أو قريب منه، أو أحسن منه، بِغَضّ النظر عن القُرب أو البُعد الزمنيين. لذا لا يصح أبدًا إصدار حكم نظري بأنّ هذا العمل الإبداعي لا يمكن الإتيان بمثله، أو بأحسن منه، أو بقريب منه. ومن يقول ذلك فهو قد خالف العقل؛ لأنه لا يُوجد أيّ مانع عقلي بعدم إمكانية تكرار إبداعات البشر وتشابهها فيما بينها.

 وأمّا من الناحية العملية فإن الواقع يشهد على أن الأعمال الإبداعية لكبار المبدعين في العالم تتكرّر أعمالهم في الواقع المشهود؛ لأن تجارب البشر تتكرّر بطريقة أو أخرى، فقد تتشابه كثيرًا، وقد تختلف كثيرًا، وقد تجمع بين التشابه والاختلاف معًا. فيأتي إنتاجهم انعكاسًا لتجاربهم على المستويين العقلي والوجداني. علمًا بأن أعمالهم لا تخلو من النقائص والسلبيات مهما بلغت من القوّة والإيجابية وحازت على صفات الكمال. وأمّا الأمثلة التي ذكرها الجابري، فهو قد بالغ في تضخيمها، وتوجيهها الوجهة التي يريد الوصول إليها»[61].

ولم تسلم تلك الأعمال التي استشهد بها من نقدٍ أبَان عن اختلالات جمة انطوت عليها، وأنَّى لها أن تقارَن بالقرآن الذي يعرض منهج الحياة. وهي كذلك أعمال أمضى أصحابها زمنًا في تهذيبها وتشذيبها، ولا يخفى حجم التكلُّف الذي يطبعها، من سجع مصطنع وخيال جامح ومبالغات جلية. وهناك أمر مهم لم يلتفت إليه الجابري، وهو أن القرآن في سياق التحدي والإعجاز لم يطلب من معارضيه الإتيان بشيء فريد؛ وإنما وقع التحدي بالإتيان بمثل القرآن، وهذا أيضًا مسلك القراء المعاصرين في تهريب القضايا خارج محل النزاع، وكنت أوَدّ ألّا يقع الجابري في مثل ذلك. كما أشير إلى أنّ فكرة المماثلة بين فرادة الإبداع في القرآن والإنتاجات الأدبية ليست من بنات أفكار الجابري، بل هو مسبوق فيها منذ زمن بعيد.

خاتمة:

نخلص من المقالتين إلى القول إنّ دراسة الجابري لم تخرج عن نظيراتها مما سمي بالقراءات المعاصرة للقرآن الكريم؛ إنْ على مستوى المنطلقات وآليات الاشتغال، أو النتائج والأهداف، كما أنها كانت دون ما زعم الجابري وتعهّد بالإتيان به، إِذْ يفسّر القرآن حسب ترتيب النزول، فلم نكن سوى أمام جملة من الخواطر والأحكام الجاهزة المشككة في المسلّمات والدعاوى العريضة دون بيّنة.

وتكمن خطورة دراسة الجابري من جهة مكانة الرجل العلمية، بالمقارنة مع باقي القراء المعاصرين، ومن جهة قدرة الجابري على المخاتلة من خلال استعمال ألفاظ التكريم في حقّ القرآن والصلاة على الرسول الأمين، والتفنّن في تجنّب العبارات المستفزة كما يفعل أركون ونصر حامد أبو زيد مثلًا.

كما نستخلص أنّ واجبَ الوقت في هذا الميدان إطلاعُ الباحثين في علوم القرآن والتفسير على المناهج المعاصرة التي يتوسّل بها القرّاء الحداثيون في قراءة الوحي، حتى لا تبقى تلك الميادين حكرًا عليهم؛ لأنّ التجارب العلمية تثبت أن الاستيعاب شرط محوري من أجل التجاوز، ومنه فإنّ تحصيل تلك الحقول المعرفية يزوِّد الباحث بعُدّة منهجية تسعفه في إدراك انحساراتها وحدودها وانعطافاتها وسياقات إنتاجها.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أهمية بذل جهود جماعية لتدقيق بعض المباحث في مظانّ علوم القرآن؛ لأنها تتضمن عبارات ومواقف يدلف منها أولئك القرّاء لممارسة النقد الهدّام.

 

 

[1] يمكن مراجعة المقالة الأولى على هذا الرابط: tafsir.net/article/5430.

[2] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص245.

[3] الموافقات في أصول الشريعة، إبراهيم بن موسى أبي إسحاق الشاطبي، بشرح عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1975م، (3/ 406).

[4] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، ط4، 2015م، (2/ 9- 10).

[5] تاريخ القرآن، تيودور نولدكه.

[6] التفسير الحديث؛ ترتيب السور حسب النزول، محمد عزة دروزة.

[7] ينظر مناقشة ذلك في: تفسير القرآن على ترتيب النزول؛ منبعه وفوائده، محمد مجلي أحمد ربابعة، العدد 1- 2010.

[8] الموافقات، (4/ 256).

[9] الموافقات، (1/ 92).

[10] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 145).

[11] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (1/ 180).

[12] التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393)، الدار التونسية للنشر، 1984م، (3/ 302- 303).

[13] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص232.

[14] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص170- 171.

[15] التحرير والتنوير، (1/ 105).

[16] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص257.

[17] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص258.

[18] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص259.

[19] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص259.

[20] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص259.

[21] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص262.

[22] فهم القرآن، (1/ 203).

[23] بنية العقل العربي؛ دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، ط9، 2009م، ص548.

[24] يقول الجابري: «فليس الشيطان وحده هو الذي يستطيع أن يجد في المقدّمة ما يرضيه، بل إنّ المؤمن والملحد، والكاهن والمشعوذ، والفيلسوف والمؤرّخ، ورجل الاقتصاد، وعالم الاجتماع، وحتى كارل ماركس نفسه... كلّ أولئك يستطيعون أن يجدوا في المقدمة ما به يبرّرون أيّ نوع من التأويل يقترحونه لأفكار ابن خلدون». (فكر ابن خلدون العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ص8). أقول: أين هذا الموقف ممن اشتغل بالدرس الإبستمولوجي وعُرف بنقد البيان، أم هي الخلفية البنيوية التي تقوّض أيّ فهمٍ ثابت، وتؤسِّس لسيولة المعنى وميوعته؟ وإذا كان ذلك شأن المقدمة فأنَّى لنا أن نفيد منها ونستثمر معطياتها، وأعتقد أن القراءة الإيديولوجية للمقدمة هي التي تكمن وراء هذه المواقف.

[25] ابن خلدون إسلاميًّا، عماد الدين خليل، المكتب الإسلامي- بيروت، ط1، 1983، ص50- 56.

[26] ابن خلدون إسلاميًّا، عماد الدين خليل، ص57.

[27] ابن خلدون إسلاميًّا، عماد الدين خليل، ص58.

[28] التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون، عبد الحليم عويس. كتاب الأمة، عدد 50، قطر، ط1، 1996م، ص69.

[29] مؤلفات ابن خلدون، عبد الرحمن بدوي، المجلس الأعلى للثقافة، 2006م، ص33.

[30] فهم القرآن، (1/ 143).

[31] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص25.

[32] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص194.

[33] الشُّبَه الاستشراقية في كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، الصديق بوعلام، وعبد السلام البكاري.

[34] إعمال العقل؛ من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية، لؤي صافي، دمشق، دار الفكر، دمشق، 1998م، ص45.

[35] إعمال العقل؛ من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية، لؤي صافي، ص46.

[36] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص23.

[37] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص24.

[38] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص26.

[39] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص27.

[40] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص28.

[41] موقف الفكر الحداثي العربي من أصول الاستدلال في الإسلام؛ دراسة نقدية تحليلية، محمد بن حجر القرني، البيان مركز البحوث والدراسات، ط1، 1434هـ، ص322.

[42] يقول أحمد أمين: «لا تنسبها للمستشرقين صراحة، ولكن ادفعها للأزهريين على أنها بحث منك، وألبسها ثوبًا رقيقًا؛ لا يزعجهم مسّها». التأويل الحداثي للتراث، إبراهيم السكران، ص65.

[43] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص20.

[44] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 10).

[45] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 14).

[46] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 20).

[47] العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، 2000، ص58.

[48] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 26).

[49] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 28).

[50] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 114).

[51] وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، محمد عابد الجابري، ط5، 2015م، ص149.

[52] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 208).

[53] وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، محمد عابد الجابري، ص57.

[54] وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، محمد عابد الجابري، ص63.

[55] وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، محمد عابد الجابري، ص58.

[56] الدين والدولة وتطبيق الشريعة، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، 2011م، ص176.

[57] فهم القرآن؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، (3/ 256).

[58] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص94- 95.

[59] وهذا مظهر من مظاهر تقزيم المعجزة القرآنية، وتقليص حضورها في الجوانب الأدبية فقط.

[60] المدخل إلى التعريف بالقرآن، ص94.

[61] أباطيل وخرافات حول القرآن الكريم والنبي محمد عليه الصلاة والسلام؛ دحض أباطيل عابد الجابري وخرافات هشام جعيط، كبير علال، دار المحتسب- الجزائر، 2008م، ص98.

الكاتب

الدكتور مصطفى فاتيحي

حاصل على الدكتوراه من جامعة القاضي عياض بمراكش - المغرب، وأستاذ التعليم التأهيلي الثانوي.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))