كتاب (التصحيح والتضعيف للقراءات القرآنية في كتاب النشر لابن الجزري)
تأليف: د. إبراهيم بن الحسن الهلالي
عرض وتقويم

الكاتب : مونعيم مزغاب
اعتنى كتاب (التصحيح والتضعيف للقراءات القرآنية في كتاب النشر لابن الجزري) بتتبّع تصحيحات ابن الجزري وتضعيفاته لجملة من القضايا القرائية والروايات مع عرض حُججه ودراستها، وهذه المقالة تُعرِّف بالكتاب، وتسلِّط الضوء على منهجه ومحتوياته، كما تعرض لأبرز مزاياه والملاحظات حوله.

تمهيد:

  الحمد لله الكريم القائل في محكم كتابه: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، والصلاة والسّلام على من نَزَل عليه الروحُ الأمين بكلام ربّ العالمين وعلى آله وصحبه المكرمين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وبعد:

حظي كتاب (النشر في القراءات العشر) لإمام الحفّاظ وحُجّة القرّاء شمس الدين أبي الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى سنة 833هـ) بمكانة استثنائية بين علماء القراءات قديمًا لما بثّ صاحبُه في ثناياه من علوم الرواية والأداء، وصار موردًا ينهل من مَعِينه طلبة العلم حديثًا ويجعلونه مرجعًا يهديهم إلى الرشاد، فهو كتاب حقيق أن تشدّ إليه الرِّحَال، لما اشتمل عليه من صحيح النقول ودقيق الأقوال.

ولما كان هذا السِّفر مجمع الطرق المتواترة عن رواة القراءات العشر، كان حقًّا على طلبة العلم المتخصّصين في علوم القرآن والقراءات أن يبادروا إلى إنجاز دراسات تفصيلية في جزئيات دقيقة تظهر الكنوز الراكنة بين ثنايا سطوره وكلماته وعباراته.

ولما كان التصحيح والتضعيف عند ابن الجزري من الأركان الأساسية التي أسهمت في نسج كتاب النشر في القراءات العشر، بل إنه قد جعلهما -أي التصحيح والتضعيف- من موجبات تأليفه لكتابه؛ فإنّ الوقوف عند هذا المبدأ من خلال التحليل التفصيلي لما وردَ في ثنايا أبواب وفصول الكتاب يجعل القارئ يدرك المرتبة العلمية والمكانة المرموقة لابن الجزري، باعتباره إمام المحقّقين وعمدة المقرئين والباحثين في علم القراءات.

وقد أخذ الدكتور إبراهيم الهلالي[1] على عاتقه كَشْف بعضٍ من تلك الدّرر المرتبطة بالتصحيح والتضعيف من خلال تأليفه الموسوم بـ(التصحيح والتضعيف للقراءات القرآنية في كتاب النشر لابن الجزري). وهذه المقالة تُعرِّف بهذا الكتاب، وتسلِّط الضوء على منهجه ومحتوياته، كما تعرض لأبرز مزاياه والملاحظات حوله.

أولًا: كتاب (التصحيح والتضعيف للقراءات القرآنية)؛ عرض وبيان:

- بيانات الكتاب:

يعتبر كتاب (التصحيح والتضعيف للقراءات القرآنية في كتاب النشر لابن الجزري) محاولة علمية جادّة في تقريب كتاب (النشر) للمتخصّصين ولغيرهم، وهو كتاب طُبِع لأول مرّة سنة 2021/ 1442هـ، بدار السلام للطباعة والنشر بالقاهرة، وجاء في 242 صفحة من الحجم الكبير، ومضمونه واضح من عنوانه. فهو يعمل على تتبّع تصحيحات ابن الجزري وتضعيفاته لجملة من القضايا القرائية، ولِنُقول العلماء ورواياتهم القرائية، مع عرض حججه وأدلّته وبيان الصواب فيها والخطأ بناءً على تتبّع المسائل المدروسة في مصادرها الأصلية ومظانها الموثوقة.

- هدف الكتاب:

في سياق بيان أهمية موضوع الكتاب نصّ الدكتور/ إبراهيم الهلالي على هدفه منه، فقال: «الهدف الأساس الوقوف عند هذه النصوص [يقصد ما ارتبط بالتصحيح والتضعيف في كتاب النشر] ودراستها دراسة وافية بُغية معرفة الجديد عند ابن الجزري في هذا الكتاب، وكذا الوقوف على مدى إسهامه في تقويم علم القراءات، وتصحيح آراء وأقوال العلماء أو تضعيفها وتوهينها، وبيان ما فيها من خلل ووهن مدعمًا انتقاداته بالحجج والبراهين المناسبة»[2]. ذلك أنّ ابن الجزري التزم الجمع الوافي للقراءات وتحرير القول فيها، حيث قال -رحمه الله-: «لم أدَع عن هؤلاء الثقات الأثبات حرفًا إلا ذكرته، ولا خُلْفًا إلا أثبتّه، ولا إشكالًا إلا بيّنته وأوضحته، ولا بعيدًا إلا قرّبته، ولا مفرقًا إلا جمعته ورتّبته، منبِّهًا على ما صحّ عنهم وشذّ، وما انفرد به منفرد وفذّ، ملتزمًا للتحرير والتصحيح والتضعيف والترجيح معتبرًا للمتابعات والشواهد، رافعًا إبهام التركيب بالعزو المحقّق إلى كلّ واحد جمعَ طرقًا بين الشرق والغرب، فروَى الوارد والصادر بالغرب، وانفرد بالإتقان والتحرير، واشتمل جزءٌ منه على كلّ ما في الشاطبية والتيسير؛ لأنّ الذي فيهما عن السبعة أربعة عشر طريقًا، وأنت ترى كتابنا هذا حوى ثمانين طريقًا تحقيقًا، غير ما فيه من فوائد لا تُحصى ولا تُحصر، وفرائد دُخِرَت له فلم تكن في غيره تُذكر، فهو في الحقيقة نشرُ العشر،  ومَن زعم أن هذا العلم قد مات قيل له حَيٌّ بالنشر»[3].

- منهج الكتاب:

لقد ألزمَ الباحثُ نفسه بمنهجية محكمة لدراسة النصوص وتحليل حالات التصحيح والتضعيف الواردة بين دفتي الكتاب، وسطر مراحلها وخطواتها كالآتي[4]:

1- كتابة النصّ.

2- ذِكْر الإطار الذي وردَ فيه النصّ مع ذكر الموضوع العام الذي يعالج النصّ من خلاله.

3- ذِكْر حكم القرّاء في الموضوع المدروس.

4- تحديد وجهة التضعيف والتوهيم.

5- ذِكْر مظانّ هذا التضعيف إن أمكن.

6- ذِكْر من قال بنفس الرأي الموهم إن وُجد.

7- ذِكْر حجج وأدلة صاحب النصّ الموهم.

8- ذِكْر ردّ ابن الجزري على صاحب الرأي الموهم مع الأدلة والبراهين سواء من كتاب النشر أو غيره من مصنفات ابن الجزري.

9- ذكر رأي بعض الأئمة الأعلام في القراءات سواء أيدت كلام ابن الجزري أو خالفته مع إبداء بعض الملاحظات التي يجدها ضرورية.

10- الرجوع أحيانًا إلى كتب الطبقات والتراجم بتفصيل على من وهمهم ابن الجزري لعلّه يجد ما يغني دراسته.

هذا، وقد نوّهَ الباحثُ إلى أنّ «المراحل المنهجية لهذه الدراسة لم تطبق على جميع النصوص؛ لأنّ طبيعة النصوص الواردة تختلف، فأحيانًا لا يذكر ابن الجزري من وهمهم ويترك الأمر على إطلاقه، وأحيانًا لا يذكر مظانّ النصّ الموهم، وأحيانًا أخرى يحكم على النص بالضعف دون تقديم الحجة والبرهان...»[5].

وعمَدَ الباحث إلى إلغاء جملة من النصوص لاعتبارات عدّة، منها: عدم تعلّقها بعلم القراءات؛ مثل تضعيف الأحاديث، ونصوص تكرّرت أكثر من مرّة، ونصوص تفقد القوة اللازمة للدراسة؛ كأن يتعلّق الأمر بتصحيح النطق بحرف من حروف الهجاء أو خطأ في تقديم كلمة على أخرى، أو أن يوهم أحدهم في اسم علم من الأعلام، ونصوص تتعلّق بالأعداد، أو نصوص انتقدها ابن الجزري بصيغة غير جازمة كصيغ التمريض نستشف منها الظنّ بدل اليقين كأن يقول: «لعلّه أراد كذا» و«أحسبه وهمًا».

 وقد ألغَى الباحثُ أيضًا نصوصًا أخرى يذكر فيها ابن الجزري حكم القرّاء في مسألة معيّنة فيذكر لبعضهم حكمًا ولبعضهم الآخر حكمًا آخر فيعمد إلى تصويب الرأيين معًا، كما أنّ هناك نصوصًا انتقد ابن الجزري أصحابها لكنه التمس لهم الأعذار فاعتبر أخطاءهم سهوًا أو سبق قلم[6].

- محتويات الكتاب:

استهلَّ المؤلِّفُ الكتابَ بفهرس للمواضيع، تلَتْه مقدّمةٌ تضمّنت سيرة موجزة لابن الجزري[7] -رحمه الله-، وفصّل القول في تعريف كتاب النشر في القراءات العشر كاشفًا عن أهمية الموضوع والمنهج المتبع في الدراسة.

ثم انتقل إلى تمهيدٍ خصّصه لظاهرة تضعيف القراءات وإنكارها، وقد أورد فيه جملة من النماذج التي تدلّ على ردّ القراءات وإنكارها، وقد حرص على إيراد أمثلة من مختلف العصور ابتداء من عصر الصحابة -رضوان الله عليهم- وهُم بمعيّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وخصّص لكلّ قرن أكثر من نموذج.

وقد قسّم الكاتبُ كتابه إلى قسمين كبيرين؛ خصّص القسمَ الأول للأصول القرائية، حيث قام بدراسة النصوص التي تضمّنت عملية التصحيح والتضعيف الواردة في كتاب ابن الجزري والمتعلّقة أساسًا بأصول القراءات، وقد نحا في ذلك الترتيب الذي ارتضاه ابن الجزري في كتابه، وأعطى عنوانًا لكلّ نصّ بما يناسبه من مواضيع، وقد بلغَ عددُ النصوص التي تمّت دراستها في هذا القسم الأول واحدًا وخمسين نصًّا، موزّعة على أبواب عدّة؛ مثل باب الوقف، باب الاستعاذة، باب البسملة، باب الإدغام، باب المد، باب الهمز، باب الإدغام الصغير، باب الإمالة، باب الترقيق، باب اللامات، باب الوقف على أواخر الكلم، باب الوقف على مرسوم الخط.

أمّا القسم الثاني فمحّضه لدراسة النصوص الواردة في مبحث (فرش الحروف) من كتاب النشر للقراءات العشر، وبلغ عددها أربعة وعشرين نصًّا مع ذكر السورة التي ورد النصّ فيها.

 وختم بخاتمة تضمّنت أهم النتائج والملاحظات المنهجية والمعرفية التي خلص إليها الباحث. وقد بلغَت اثنتين وعشرين ملاحظة مختصرة ودقيقة.

وعلى عادة البحوث الأكاديمية وَضَع في أواخر الكتاب فهرسًا للآيات القرآنية برواية حفص عن عاصم، وآخرَ للأحاديث النبوية الشريفة، وثالثًا للمصادر والمراجع.

ثانيًا: كتاب التصحيح والتضعيف؛ نقد وتقويم:

1- أبرز مميزات الكتاب:

بداية، يمكن الجزمُ أنّ هذا الكتابَ يلمس فيه القارئ المنصفُ جدّيةً في البحث، واحترامًا للحقّ، وتوفرًا على معالجة الموضوع بروح متحرّرة من أسر الأفكار السابقة أو الأقوال الشائعة، وقدرة بارزة على الموازنة بين الأدلة والمقارنة بين الدلالات وإدراك سليم لمعاني الكلمات والاصطلاحات في ضوء سياقها وسباقها وتوظيفاتها اللغوية السليمة. وتظهر هذه المميزات في جملة من العناصر أسردها كالآتي:

• الجمع بين المنهج النقدي والدراسة المصطلحية:

إنّ المصنَّف الذي بين أيدينا يمكن إدراجه ضمن نوعين من الدراسات؛ الأولى دراسة نقدية تحليلية في مجال القراءات القرآنية مَؤسَّسة على قاعدة أن تكون البينةُ والحُجّة وسلامة المنطق هي ميزان الأخذ والردّ والقبول والرفض. والثانية دراسة في المصطلح القرائي، فالكتاب برمّته دراسة تطبيقية لمصطلحي التصحيح والتضعيف عند ابن الجزري في كتاب النشر، ومن هنا تنبثق أهمية موضوع الكتاب، فهو يزاوج بين المنهج النقدي والدراسة المصطلحية.

• الانضباط المنهجي والأمانة العلمية:

لقد سيج الكاتب عمله بخطوات منهجية واضحة منذ البداية، ونبّه منذ البداية إلى تعذّر تتبّع الخطوات المذكورة كلّها في دراسة جملة من النصوص مما ساعده على تقديم عمل منضبط لمنهجه؛ ومما زاد العملَ بهاءً تميّزُه بالأمانة العلمية حيث لا يخفى على القارئ مدى حرص الكاتب على عزو الكلام إلى أصحابه، وعدم التصرف في مختارات شواهده، مع مناقشة ما ورد كلمة كلمة دون تقويل المنقول عنه ما لم يقل. ويتبع شواهد الموافقة بشواهد المخالفة بأمانة كاملة تاركًا لقارئه سبيل الاهتداء ممهَّدًا، يفعل ذلك بأسلوبٍ سلسٍ ولغة سهلة غير معقدة، تستهوي القارئ غير المتخصص وتيسر له الفهم دون عناء ومشقة.

• الشجاعة العلمية في مناقشة القضايا القرائية:

لم يكتفِ الدكتور الهلالي بمجرّد النقل، بل كان يناقش كلام ابن الجزري مناقشة الخبير بقضايا القراءات وتفاصيلها في تواضع العلماء وجرأة الحكماء دون تهيُّب أو تسيُّب. ساعده على ذلك تخصّصه الأكاديمي في مجال القراءات وكتاباته المتعدّدة حول كتاب (النشر) خاصّة.

 فإنْ كان سراج الدين البلقيني (المتوفى: 805هـ) يقول في محاسن الاصطلاح: «ولكن الانتهاض لمجرّد الاعتراض من جملة الأمراض»[8]، فإن الدكتور/ إبراهيم الهلالي تميّز -حفظه الله- بتحقيقِ المسائل وإشباعِها دراسةً في غير إطالة مملّة أو اختصار مخلّ، وبذلِ الجهد في تتبّع خيوطها ضمن مصنّفات أرباب فنّ القراءات، كي يعطي كلّ ذي حقّ حقَّه، واستدراكاتُه على ابن الجزري -على قلّتها- تنبئ بشجاعته العلمية وتدقيقاته المحكمة.
ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك، ما ورد في دراسته لرواية ﴿ضئاء﴾ عن قنبل وقول ابن مجاهد فيها في الصفحة 108 وما بعدها، وقد ورد فيها:
«قال ابن الجزري: أمّا ﴿ضياء﴾، فرواه قنبل بهمزة مفتوحة بعد الضاد في الثلاثة، وزعم ابن مجاهد أنه غلط مع اعترافه أنه قرأ كذلك على قنبل وخالف الناسَ ابنُ مجاهد في ذلك فرواه عنه بالهمزة ولم يختلف عنه في ذلك».
فقال الدكتور الهلالي معقّبًا: «وقراءة ﴿ضئاء﴾ بهمزة مفتوحة بعد الضاد قراءة سبعية متواترة رويت عن قنبل، وقد ذكَر ابنُ مجاهد نفسُه أنه قرأها على قنبل، وفي الوقت ذاته ينقل عنه ابن الجزري تغليط هذه الرواية، وفي هذا إشكال واضح». ثم يؤكّد أنه رجع إلى كتاب السبعة لابن مجاهد فوجده يقول: «قرأ ابن كثير وحده: ﴿ضئاء﴾ بهمزتين في كلّ القرآن؛ الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قرأت على قنبل، وقرأ الباقون بهمزة واحدة في كلّ القرآن، وكان أصحاب البزي وابن فليح ينكرون هذا ويقرؤون مثل قراءة الناس: (ضياء)، وأخبرني الخزاعي عن عبد الوهاب بن فليح، عن أصحابه، عن ابن كثير أنهم لا يعرفون إلا همزة واحدة بعد الألف في ضياء».
وشرح الكاتب هذا بقوله: «...ويبدو أن كلام ابن مجاهد ليس فيه ما يدلّ على إنكاره لهذه الرواية حيث لم يصرح بأنها غلط، بل لقد اكتفى بذكر إنكار أصحاب البزي وابن فليح؛ وحكاية الإنكار ليست إنكارًا»، ثم قال: «ومما يدلّ على أنّ ابن مجاهد لم ينكر رواية قنبل عن ابن كثير أنه صرّح بروايتها عنه وأنها متواترة، وكيف ينكرها وهو شيخ الصنعة وإمام الأئمة».
ليخلص إلى خلاصة مفادها: «إنّ تعقيب ابن الجزري على كلام ابن مجاهد فيه نظر والله أعلم» ...وإنّ تعقب ابن الجزري كان أَوْلَى أن يوجّه إلى أصحاب البزي وعبد الواحد بن فليح
.[9] فكان بهذا قد استدرك على ابن الجزري توهيمه لابن مجاهد.

• جمالية العرض وحسن التنسيق الفني للكتاب:

تميّز الكتاب بجمالية العرض وحسن الجمع، والانسجام الداخلي من خلال إحسان التنظيم والتبويب وإتقان التنسيق والترتيب إلى الحدّ الذي جعل الموضوعات في الكتاب تشبه حبات متناسقة في عقد بهيّ لا تنافر بينها ولا تنازع.

نفس التناسق الجميل يلحظه القارئ بين فقرات المبحث الواحد، حيث ينتقل الكاتب من فكرة إلى أخرى، ومن استدعاء شاهد إلى تحليله ومن ثم إلى الاستنتاج بشكلٍ سلسٍ لا يتعب الذّهن، وجاءت أنواع الخطوط المعتمدة وأحجامها مساعدة للعين أيضًا غير مرهقة للبصر.

2- أبرز الملاحظات على الكتاب:

إنّ ما سبق ذكره من المميزات المنهجية والمعرفية التي لا تخطئها عين القارئ لهذا السِّفر الممتع، لا يحول دون تسجيل بعض الملاحظات العامّة التي لا تخدش في جودة الكتاب ولا تنقص من قيمته العلمية والأكاديمية، ومن باب تجويد الجيد يمكن أن أهدي للدكتور/ إبراهيم بن الحسن الهلالي بضع ملاحظات لاحت لي خلال تصفحي للكتاب وإمعاني النظر في منهجه وأسلوبه ومضمونه:

الملاحظة الأولى: إغفالُ البيان الدقيق لمصطلحي (التصحيح والتضعيف):

كان يجمُل بالكاتب أن يخصّص مطلبًا خاصًّا بتعريف المصطلحات المتداولة في الكتاب بصفة عامة، وبشكلٍ أخصّ مصطلحي (التصحيح) و(التضعيف)، حيث يلاحظ القارئ غياب ذلك رغم ما يكتنف المصطلحين من إشكالية التعدّد الدلالي، فقد أشار المؤلّف إلى تعدّد المقصود منهما في مواضع مختلفة من المقدمة، حيث قال تارة: «إنّ المتمعن في كتاب النشر يستشفّ أن ابن الجزري وهو يعرض القضايا القرائية يعمد إلى ذكر اختلاف القرّاء ثم يرجح أقوى الآراء والأقوال، ويبين صوابها من خطئها كما ينبّه على الأوهام التي قد تقع للرواة عن الأئمة»، وأضاف تارة أخرى بعد ذلك: «إنّ التصحيح والتضعيف عند ابن الجزري لم يقتصر على القضايا القرائية المحضة إِذْ نجده يصوب بعض أقوال النحاة ويزكّي بعضها»[10].

فالتصحيح والتضعيف كما يلاحَظ هي عملية تشمل آراء القرّاء من حيث الدرس القرائي، ومن حيث الوهم الروائي، كما يشمل أقوال النحاة... فكان الضبط الاصطلاحي الواضح منذ البداية أنفع وأجدى.

الملاحظة الثانية: عدم ذكر الدراسات السابقة:

أرى أنه من المفيد منهجيًّا عند التطرّق لموضوع علمي أن يشير الباحث إلى الدراسات السابقة التي أُنجِزَتْ حول نفس الموضوع لبيان أوجه الاتفاق والاختلاف، لتظهر للقارئ مواطن الجِدة والإبداع والزيادة في الكتاب الذي بين يديه، مما يولّد لديه دافعًا أقوى للاسترسال في القراءة والتمعّن في المضامين المعرفية والأساليب المنهجية.

فكان يجدر بالدكتور/ إبراهيم الهلالي أن يذكر مثلًا ما يميز سِفره عن بحث (تنبيهات الإمام ابن الجزري على أوهام القرّاء؛ جمعًا ودراسة)، الذي أعدّه أحمد بن حمود بن حميد الرويثي، وهي رسالة علمية مقدمة لنيل درجة العالمية العالية (الدكتوراه) بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، سنة 1431هـ أي سنة 2010م.

كما أن الدكتور/ إيهاب فكري مدرّس القرآن والقراءات بالمسجد النبوي في تحقيقه لكتاب ابن الجزري -رحمه الله- (طيبة النشر في القراءات العشر)، درس مواطن عدّة من تصحيح وتضعيف القراءات وتوهيم الرواة.

وقد يتقاطع عمل الدكتور الهلالي في كثير من الجزئيات مع بحث (قواعد نقد القراءات؛ دراسة نظرية تطبيقية)، وهي رسالة دكتوراه قدّمها عبد الباقي بن عبد الرحمن سيسي، إشراف: إبراهيم الدوسري، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 2009م. وأيضًا بحث (أسباب الاعتراض على القراءات القرآنية المتواترة؛ عرض ونقد)، لابتهاج راضي عبد الرحمن، وهي دراسة منشورة ضمن مجلة علوم الشريعة والقانون، المجلد 42، العدد الأول، سنة 2015م.

الملاحظة الثالثة: عدم الترجمة للأعلام:

من أبرز الملاحظات التي أثارت انتباهي عدمُ الترجمة للأعلام المذكورين في ثنايا الكتاب على كثرتهم[11]، ولو بالإشارة إلى تاريخ وفاتهم، ومعلوم أنّ التذكير بتواريخ الوفاة تمكّن القارئ -غير المتخصّص على الأقلّ- مِن معرفة مَن استدرك على الآخر، ومَن أخذَ مِن الآخر حين تتطابق الأقوال أو تتعارض. بل إنّ المؤلّف لم يُشِر إلى تاريخ وفاة ابن الجزري نفسه لا في غلاف الكتاب ولا في الفقرة الخاصّة بترجمته، ولعلّ عذره في ذلك أنه لكثرة اشتغاله على إنتاجات ابن الجزري صارتْ عنده معرفة تاريخ وفاته من البدهيات فلم يعر لها اهتمامًا.

وقد وقع للكاتب لَبْس في معرفة (أبي السماك) الذي قال عنه في هامش الصفحة 182: «أحسب أنه أبو السمال باللام لا بالكاف، والناظر في غاية النهاية لابن الجزري لا يجد هذا الاسم: أبو السماك، وإنما المترجم له هو أبو السمال وهو من قرّاء الشواذ». وقد رجعت إلى بعض كتب القراءات والتفسير فوجدت أن الآلوسي يذكرهما مقترنين، حيث قال في معرض تفسير قوله تعالى: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: 20]: «وقرأ أبو السمال (باللام) العدوي، وأبو السماك (بالكاف) الغنوي، وأبو السميقع: {هُوَ خيرٌ وأعظمُ} برفعهما على الابتداء والخبر، وجعل الجملة في موضع المفعول الثاني»[12]، بل إنّ ابن الجزري ذكره في نشرِه في باب اختلافهم في الاستعاذة[13]. وجاء في لسان الميزان: «(أبو السماك) العدوي المقري البصري له حروف شاذة لا يعتمد على نقله ولا يوثق به اسمه معتب بن هلال»[14]ولعلّ المسألة تحتاج إلى مزيد تحقيق.

خاتمة:

لا شكّ أنّ تراثنا القرائي الضخم ما زال يحتاج إلى دراسات علمية جادّة، يستوي في ذلك المخطوط منه والمطبوع، ووجب أن تشمل هذه الدراسات مختلف أبواب الدرس القرائي ومجالاته، وقد خاض الدكتور الهلالي غمار الدراسة النقدية/ المصطلحية باختياره موضوع التصحيح والتضعيف وكان موفّقًا فيها إلى حدّ بعيد، وخلص إلى تسجيل خلاصات عدّة أوصلها إلى اثنتين وعشرين، من أهمها:
- إنّ صحة القراءة لا ترتبط بأعداد معيّنة من القرّاء قَلّتْ أو كَثُرَتْ، ولا تتعلق بأعلام معيّنين دون سواهم، كما أنها ليست منحصرة في كتب معيّنة؛ كالشاطبية والتيسير.
- إنّ للقياس القرائي مجالًا محدودًا وضوابط مخصوصة، متى استعمل القياس القرائي دونها أفضى إلى الخطأ والزّلَل، وقد عقّب ابن الجزري في النشر على مَن أساء استعمال القياس فوقع في المحذور.
- قد يكون للقراءة أكثر من وجه، فينسب بعض المصنفين وجهًا واحدًا لأحد القرّاء ظنًّا منه أن ذلك الوجه هو الجائز دون غيره، فيقع في الخطأ، وقد نبّه ابن الجزري على ذلك في نصوص عدة...
لقد كانت هذه جولة سريعة بين مباحث الكتاب ومسائله، لا تُغني إطلاقًا عن قراءته وسبر أغوار أفكار صاحبه بتعبيره وأسلوبه الأصلي؛ فلم أقصد عرض ملخّص للكتاب بقدر ما أردتُ تنبيه القارئ إلى نفاسة الكتاب وأهميته في بابه، مع بيان بعض المآخذ التي لا يخلو عنها عمل بشرٍ، فالكمال لله وحده سبحانه. 
وفي الختام، أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء همومنا. آمين.

 

 

[1] صاحب الكتاب الدكتور إبراهيم بن الحسن الهلالي، من مواليد الثالث من نوفمبر سنة 1965م، مدينة وجدة/ شرق المغرب، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية تخصّص دراسات قرآنية من جامعة محمد الأول بوجدة سنة 2000م، حاصل على دبلوم الدراسات العليا في الآداب تخصّص التفسير والحديث من جامعة محمد الأول بوجدة سنة 1997م، حاصل على شهادة استكمال الدروس تخصّص القرآن والحديث من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس سنة 1993م.
ومن مصنفاته المطبوعة: (استدراكات ابن الجزري على الإمام الداني)، و(تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والعادات والنيات)، و(الكلمة النافعة)، و(مصطلحات القراءات: دراسة في النشر في القراءات العشر لابن الجزري)، وغيرها. وله أيضًا مقالات علمية عدّة منها: (قضايا تدبر القرآن الكريم)، مقال منشور بشبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات.
كما له مؤلّفات قيد المراجعة، من أبرزها: (تحقيق لمخطوط رسالة لسيدي محمد بن طيب البوعزاوي)، و(تفسير أبيّ بن كعب؛ جمع وترتيب)، و(سماع القرآن).

[2] التصحيح والتضعيف، ص16.

[3] النشر في القراءات العشر، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، المحقق: عليّ محمد الضباع (المتوفى 1380هـ)، الناشر: المطبعة التجارية الكبرى، (1/ 56- 57).

[4] التصحيح والتضعيف، ص17.

[5] التصحيح والتضعيف، ص18.

[6] انظر مقدمة الكتاب، ص14 وما بعدها.

[7] كان ابن الجزري -رحمه الله تعالى- على مذهب الشافعية، وقد درس على علماء كبار، وأذن له بالإفتاء، فكان إمامًا في القراءات حتى لُقّب بحقّ: إمام المقرئين؛ وذلك لعلوّ شأنه وسموّ مرتبته ونباهته في هذا الفنّ الجليل، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها ولم ينسج على منوالها وقد تجاوزت التسعين. ومن أبرزها: القراءات والتجويد، تحبير التيسير في القراءات العشر، تقريب النشر في القراءات العشر، التمهيد في علم التجويد، طيبة النشر في القراءات العشر، المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه = المشهورة بالمقدمة الجزرية، منجد المقرئين ومرشد الطالبين، النشر في القراءات العشر، إتحاف المهرة في تتمة العشرة، أصول القراءات... تُوفي -رحمه الله- سنة 833هـ. 
أهم الكتب التي ترجَمت لابن الجزري: غاية النهاية، (2/ 247)، الضوء اللامع (9/ 255)، شذرات الذهب (7/ 204)، فهرس الفهارس (1/ 233)، الإعلام (7/ 45)، معجم المؤلفين (11/ 291)، وكتاب شيخ القراء الإمام ابن الجزري للدكتور/ محمد مطيع الحافظ.

[8] انظر: مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح، تحقيق: د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، دار المعارف، (1 / 240).

[9] انظر هذا بتفصيل في: التصحيح والتضعيف، ص108- 109.

[10] التصحيح والتضعيف، ص15.

[11] من الأعلام الذين يظهر لي أنه كان حريًّا بالكاتب تقديم تعريف مختصر لهم: ابن الباذش، ابن غلبون، ابن القاسم، عليّ بن بليمة، ابن الفحام، ابن سوار، ابن وردان، ابن جماز، عبد العزيز الفارسي... وغيرهم.

[12] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، المؤلف: شهاب الدين الآلوسي (المتوفى: 1270هـ)، المحقق: عليّ عبد الباري عطية، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1415هـ، (15/ 126).

[13] النشر في القراءات العشر، (1/ 249).

[14] لسان الميزان، (7/ 58).

الكاتب

الدكتور مونعيم مزغاب

حاصل على دكتوراه اللغة العربية وآدابها، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))