القراءات القرآنية بعد القرن التاسع الهجري
أماكنها وأسباب انتشارها

يتفاوت انتشار بعض القراءات القرآنية المتواترة في ديار المسلمين، وهذه المقالة تسعى إلى تتبُّع القراءات القرآنية بعد القرن التاسع الهجري، وبيان أماكن انتشارها، ثم تعرض لتحليل أسباب هذا الانتشار في مكان دون غيره، وأهم عوامله.

المدخل:

 الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

  لا تَخْفَى أهمية القراءات القرآنية المتواترة في عقيدة المسلمين، وفي الحفاظ على تلاوة كتاب الله كما أُنزل على نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-. وقد انتشرت القراءات -كما هو معلوم- في ديار المسلمين، وصار لبعضها حضور في أماكن دون غيرها. وتحاول هذه المقالة تتبُّع أماكن انتشار القراءات القرآنية بعد القرن التاسع الهجري وأسباب ذلك؛ قَصْد إبراز تعاون المسلمين بشأن انتشارها والمحافظة عليها.

وقد اقتصرنا على القراءات القرآنية المتواترة التي انتشرت في مختلف البلدان الإسلامية بعد القرن التاسع الهجري؛ فهذه الفترة هي التي يُطلق عليها العصر الحديث، والذي يصف الفترة الزمنية التاريخية بعد عصر النهضة التي شهدتْ ظهور وسائل جديدة؛ كالطباعة، والتسجيل الصوتي، وتطوّر وسائل الكتابة والإعلام، وغيرها من التقنيات التي أسهمت في انتشار القراءات والمحافظة عليها كما سيظهر معنا.

كما أنّ هذه المقالة تُركِّز على الروايات الأكثر انتشارًا اليوم، وهي: رواية الدُّوري عن أبي عَمْرو البصري، ورواية ورش المصري عن نافع المدني، ورواية قالون عن نافع المدني، ورواية حفص عن عاصم الكوفي؛ وذلك كي يتسنّى النظر في سِرّ بقاء هذه الروايات مُنتشرة في العصر الحديث، مع العلم أنّها حلّت محلّ روايات سابقة عنها.

وفي هذا السياق، قسمنا هذه المقالة إلى قسمين؛ أحدهما مُخصَّص لأماكن انتشار القراءات القرآنية بعد القرن التاسع الهجري، والثاني لأسباب انتشار القراءات القرآنية.

القسم الأول: أماكن انتشار القراءات القرآنية بعد القرن التاسع الهجري:

يتناول هذا القسم أماكن انتشار القراءات القرآنية بعد القرن التاسع الهجري؛ خاصّة رواية الدوري، ورواية ورش، ورواية قالون، ورواية حفص.

أولًا: أماكن انتشار رواية الدوري عن أبي عمرو البصري:

هذه الرواية كانت منتشرة في العالم الإسلامي في حقبة زمنية معيّنة، وسُمِّيَتْ في بعض الأقطار بقراءة أبي عمرو، وهذا يدلّ على أنّ ما كان مقروءًا هو قراءة أبي عمرو بروايتَيْها، ثُمّ أصبحت قراءة أبي عمرو تُطْلَق على رواية الدُّوري؛ نظرًا للتشابه الكبير بينها وبين رواية السُّوسي.

ورواية الدُّوري عن أبي عَمْرو هي الرواية المنتشرة اليوم في الصومال، والسودان، وبحضرموت في اليمن[1].

وأمَّا في القرن التاسع الهجري، فكانت قراءة أبي عمرو هي السائدة في الشام والحجاز واليمن ومصر، حيث يقول الإمام ابن الجزري (ت833هـ): «فالقراءة التي عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحدًا يلقّن القرآن إلّا على حرفه خاصّة في الفرش وقد يخطئون في الأصول»[2].

 وقد انتشرتْ رواية الدوري عن أبي عمرو في مصر والشام إلى حدود القرن الثاني عشر الهجري، حيث يقول الشيخ عليّ بن محمد الضباع (ت1380هـ): «كانت قراءة عامّة المصريين على ما ظهر لي من تتبُّع سِيَر القُرّاء وتآليفهم منذ الفتح الإسلامي (...) على طريقة أهل المدينة المنورة سيَّما التي رواها ورش المصري عن نافع القارئ المدني، ثم اشتهر بعدها بينهم قراءة أبي عمرو البصري، واستمرَّ العمل عليها قراءةً وكتابةً في مصاحفهم إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري»[3].

تبيّن ممّا سبق أنّ قراءة أبي عمرو انتشرت في القرن التاسع الهجري وبعده في الشام، والحجاز، واليمن، ومصر إلى حدود القرن الثاني عشر. وبعد ذلك، بدأتْ هذه القراءة في الانتشار في أواسط إفريقيا؛ كالصومال، والسودان.

ثانيًا: أماكن انتشار رواية ورش المصري عن نافع المدني:

رواية ورش هي من أقدم الروايات التي انتشرت في اتجاه الغرب الإسلامي انطلاقًا من المدينة المنورة ومصر، وهي اليوم الرواية المنتشرة في بلاد المغرب العربي (الجزائر، والمغرب، وموريتانيا)، وفي بعض نواحي مصر، والسودان، وتونس؛ حيث يقول ابن عاشور (ت1393هـ): «القراءات التي يُقْرَأُ بها اليوم في بلاد الإسلام مِن هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع (...) برواية وَرْش في بعض القُطْر التونسيّ، وبعض القُطْر المصري، وفي جميع القُطْر الجزائريّ، وجميع المغرب الأقصى وما يَتْبَعُه من البلاد، والسُّودان»[4].

ومن أهمّ ما لاحظ الشيخ الحصري (ت1400هـ) في رحلاته أنّ بعض أهل السودان يقرؤون القرآن برواية ورش خاصّة في مدينتي: دنقلة ودارفور، وبقراءة أبي عمرو في سائر مناطق السودان الأخرى. ويحكي الحصري أيضًا قولهم أنّ قراءة ورش كانت منتشرة في مدينة دنقلة على وجه الخصوص أيام مملكة الفونج (ق10هـ)، ثم ضعفت بمرور الزمن. أمّا في دارفور فلا يزالون يقرؤون بورش حتى يومنا هذا[5].

تبيّن ممّا سبق أنّ رواية ورش كانت منتشرة في مصر، والسودان، والمغرب الإسلامي. ثم بعد القرن التاسع الهجري بقيتْ هذه الرواية منتشرة في المغرب، والجزائر، وموريتانيا، وبعض مناطق مصر، والسودان، وتونس.

ثالثًا: أماكن انتشار رواية قالون عن نافع:

رواية قالون هي أيضًا من أقدم الروايات التي انتشرتْ في اتجاه الغرب الإسلامي انطلاقًا من المدينة المنورة، مرورًا بمصر وليبيا إلى حدود إفريقيّة.

وهذه الرواية منتشرة اليوم في ليبيا، وفي بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري؛ حيث يقول ابن عاشور (ت1393هـ): «القراءات التي يُقْرَأُ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القُطْر التونسيّ وبعض القُطر المصريّ وفي ليبيا»[6].

تبيّن ممّا سبق أنّ رواية قالون كانت منتشرة في المناطق الممتدة بين مصر وإفريقيّة، وبقيت بعد القرن التاسع الهجري منتشرة في ليبيا، وفي بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري.

رابعًا: أماكن انتشار رواية حفص عن عاصم:

رواية حفص هي الرواية الأكثر انتشارًا في العالم اليوم، وقد بدأ انتشارها من الكوفة وبغداد ومكة. وبعد القرن التاسع الهجري انتشرت في تركيا والشام، حتى انتشرت في جميع المشرق وفي الجزيرة العربية ومصر.

يقول محمد المرعشي (ت1150هـ): «والمأخوذ به في ديارنا (مرعش في جنوب تركيا) قراءة عاصم ورواية حفص عنه»[7].

ويظهر أنه بعد انتشار قراءة حفص في تركيا، فإنه بدأ الانتشار في الشام في القرن الثاني عشر الهجري، وفي القرن الثالث عشر في مصر، حيث يذكر الفقيه ابن عابدين الحنفي الدمشقي (1198- 1252هـ) أنّ الحنفية «اختاروا قراءةَ أبي عَمْرٍو وحفصٍ عن عاصم»[8].

ويقول الشيخ عليّ بن محمد الضباع (ت1380هـ): «كانت قراءة عامّة المصريين (...) قراءة أبي عمرو البصري، واستمرَّ العمل عليها قراءةً وكتابةً في مصاحفهم إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري، ثم حَلَّت محلّها قراءة عاصم بن أبي النجود»[9].

يقول ابن عاشور (ت1393هـ): «القراءات التي يُقْرَأُ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر (....) قراءة عاصم برواية حَفْص عنه في جميع الشَّرق من العراق والشّام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان»[10].

تبيّن ممّا سبق أنّ رواية حفص بعد القرن التاسع الهجري انتشرت في تركيا والشام، ثم بعد القرن الثالث عشر الهجري انتشرت في مصر والجزيرة العربية وجميع المشرق.

واقع انتشار هذه الروايات حاليًا في الأماكن المذكورة:

انطلاقًا ممّا سبق، ومن واقع انتشار هذه الروايات حاليًا في الأماكن المذكورة، يمكن أنْ نستخلص أماكن القوّة والضعف للروايات القرآنية المنتشرة اليوم كالآتي:

أماكن القوّة:

حاليًا، تُعَدّ «رواية الدُّوري الرواية القرآنية الأكثر انتشارًا في الصومال، والسودان (خاصّة في الوسط)، وتشاد، ونيجيريا»[11]. وتعدّ «رواية قالون (...) الرواية القرآنية الرسمية في ليبيا، وفي أغلب تونس»[12].

وتنتشر رواية ورش في بلاد المغرب العربي (الجزائر، والمغرب، وموريتانيا)، وفي عدد من دول إفريقيا الغربية، مثل: (السنغال، والنيجر، ومالي)[13].

ورواية حفص «تعدّ الرواية القرآنية الأكثر شهرةً في العالم، وذلك منذ عهد الدولة العثمانية؛ لأنها كانت روايتهم الرسمية، وهي المنتشرة في جميع المشرق، وفي الجزيرة العربية، ودول آسيا، ومصر، والسودان (خاصة الجنوب والشرق)»[14].

أماكن الضّعْف:

حاليًا نجد رواية الدُّوري أيضًا في بعض مناطق حضرموت في اليمن[15]؛ كما نجد رواية قالون في «بعض القُطْر المصريّ»[16]، و«شرق الجزائر»[17].

وتُظْهِر رواية ورش انتشارًا ضعيفًا في «بعض القُطر التونسي، وبعض القُطر المصري»[18]، وبعض مناطق السودان، وتشاد، ونيجيريا[19].

وكانت رواية حفص تُظْهِر انتشارًا ضعيفًا في السودان؛ لكن، منذ القرن الرابع عشر الهجري، «بدأت رواية حفص تنتشر في معظم أنحاء السودان، وأخذت تحلّ تدريجيًّا محلّ رواية الدُّوري عن أبي عمرو البصري»[20].

القسم الثاني: أسباب انتشار القراءات القرآنية:

يتناول هذا القسم بعض الأسباب المحتملة لانتشار القراءات القرآنية، والتي ذكرها العلماءُ؛ خاصّة بالنسبة إلى قراءة أبي عمرو (رواية الدُّوري)، ورواية ورش، ورواية قالون، ورواية حفص.

وبعض هذه الأسباب عامّ يشمل جميع القراءات والروايات، وبعضها خاصّ يختصّ بقراءة أو بعض القراءات دون غيرها.

أولًا: الأسباب العامّة:

- اختيار الأئمة للقراءات والروايات:

لعب أئمة القراءات وأئمة المذاهب الفقهية دورًا مُهمًّا في انتشار القراءات والروايات القرآنية: فأمّا عن روايتي ورش وقالون، فقد اختار أئمة المذهب المالكي، أمثال سحنون، قراءةَ نافع بروايتيها؛ حيث ذكر أبو عمرو الداني أنّ: «ابن طالب (من أصحاب سحنون) أيام قضائه، أَمَرَ ابن برغوث المقرئ بجامع القيروان، ألّا يُقرِئ الناس إلّا بحرف نافع»[21]؛ ثم اختار أهل تونس من قراءة نافع الرواية المدنية، وهي رواية قالون، واختار أهل المغرب رواية ورش المصري، من طريق يوسف الأزرق المدني.

وأما عن روايتي الدُّوري وحفص، فإنّ أئمة المذهب الحنفي منذ القرن الثاني عشر الهجري «اختاروا قراءةَ أبي عَمْرٍو، وحفصٍ عن عاصم»[22].

يتبيّن إذن أنّه بالإضافة إلى أئمة القراءة، فإنّ أئمّة المذاهب الفقهية لعبوا أيضًا دورًا مهمًّا في انتشار القراءات والروايات القرآنية.

- تأثير الأقطار بعضها على بعض من حيث القراءات والروايات المتيسّرة لديها:

فأمّا عن قراءة أبي عمرو، فيقول ابن الجزري: «كانت الشام تقرَأ بحرف ابن عامر (...)؛ فتركوا ذلك لأنّ شخصًا قَدِم من أهل العراق، وكان يُلَقّن الناس بالجامع الأموي على قراءة أبي عمرو، فاجتمع عليه خَلقٌ واشتهرت هذه القراءة عنه. أقام سنين، كذا بلغني، وإلّا فما أعلم السبب في إعراض أهل الشام عن قراءة ابن عامر وأخذهم بقراءة أبي عمرو»[23].

وأمّا عن قراءة نافع، فَمِنْ بين مَن أسهموا في إدخال هذه القراءة إلى المغرب الإسلامي العالِم أبو محمد غازي بن قيس الأندلسي، الذي رحل من قرطبة إلى المدينة فأخذ القراءة مباشرة عن الإمام ورش الذي انتشرت روايته بالمغرب والأندلس. وصحَّحَ غازي بن قيس مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشرة مرة، فكان من أكثر المصاحف ضبطًا في الرسم وفي القراءة؛ لقد كان إذن تأثُّر المغاربة قويًّا بالأندلسيين في مجال القراءة وعلومها[24].

وأمّا عن رواية حفص، فقد اشتهرت في الكوفة وكانت دار الخلافة حينئذ، يفِد إليها العلماء وطلاب العلم، وكان حفص متفرّغًا للإقراء عن غيره من القرّاء، ولما انتقلت الخلافة إلى بغداد انتقل حفص إليها، وأيضًا جاور بمكة وأقرَأ بها، ومكة محلّ التقاء علماء العالم الإسلامي. ودار الخلافة بغداد كانت محطّ العلماء والمتعلمين، وكَثُر فيها الناس لوفرة العيش فيها؛ فاشتهرت روايته في بغداد أيضًا، وكثر عدد الآخذين لرواية حفص، ومن ثم انتشرت في سائر البلدان[25]. كما أنّه في فترةٍ ما من الحكم العثماني الذي ابتدأ في القرن العاشر الهجري، بدأت «تنتشر رواية حفص عن عاصم المفضّلة عند الأتراك، وبدأت الدولة العثمانية تبسُطُ سلطانها على معظم أرجاء العالم الإسلامي، فصارتْ ترسِل أئمةً وقضاةً ومقرئين أتراك إلى أرجاء العالم العربي، فانتشرتْ رواية حفص عن طريقهم، وكذلك عن طريق المصاحف التي كانت تنسخها الدولة العثمانية برواية حفص»[26].

ومن أسباب سرعة انتشار رواية حفص أيضًا أنه لـمّا كانت من السهولة واليُسْر بمكان فقد كَثُر إقبال الناس عليها تلاوةً وحفظًا وتعليمًا[27].

- الطباعة والتسجيل الصوتي:

لعبت أيضًا الطباعة، ورسم الخطّ، والتسجيل الصوتي، ووسائل التدوين والإعلام بصفة عامّة دورًا في انتشار القراءات والروايات؛ حيث يقول الشيخ البيلي: «وقد طُبع في مصر منذ مدّة مصحف رواية ورش»[28].

ولقد سُجِّل القرآن برواية ورش أيضًا، وكان أول من سجّله الشيخ الحصري، فقال: «وكنتُ أوّل مَن رتّل المصحف الشريف بروايتي حفص عن عاصم، وورش عن نافع»[29].

ونظرًا «لانتشار رواية حفص عن عاصم بين معظم المسلمين فإنّ غالبية المصاحف تُطبع وفق روايته، وتأتي بعد ذلك المصاحف المطبوعة برواية ورش عن نافع، حيث طُبِعَت في مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة وفي بلاد المغرب العربي وسوريا وقَطَر. وطُبعت مصاحف برواية قالون في ليبيا وتونس والجزائر. وبرواية الدُّوري في السودان والمدينة المنورة»[30].

ثانيًا: الأسباب الخاصّة:

- اعتقاد بعض الناس بأنّ قراءة أبي عمرو أفصح من القراءات الأخرى:

الأقوال التي وقفتُ عليها، والتي يمكن إدراجها ضمن هذا السبب، ذُكِرَت خاصّة بالنسبة إلى قراءة أبي عمرو:

قال أحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه: قراءة أبي عمرو أحبّ القراءات إليّ، هي قراءة قريش، وقراءة الفصحاء[31].

هذا القول لا يفيد صراحة أنّ قراءة أبي عمرو أفصح من القراءات الأخرى؛ لكن القول الذي ذكره السيوطي صريح في ذلك، حيث قال مُقارنًا بين القراءات المتواترة: «وأفصحُها أبو عَمْرٍو والكِسائيّ»[32]، فربّما هذا هو السبب -في نظره- في انتشار هذه القراءة في أنحاء العالم الإسلامي.

إنّ القول الذي يُرْجِع سبب انتشار قراءة أبي عمرو إلى تميُّزها عن غيرها من حيث فصاحتها =فيه نظرٌ شديد؛ لأنّ كل قراءة متواترة هي من عند الله، وقد نزلتْ بالعربية الفُصحى قطعًا. وعلماء البلاغة أنفسُهم يعتبرون فصاحة الكلمة متعلّقة بالسياق الذي وردت فيه؛ فقد تكون فصيحة في سياق، وغير فصيحة في سياق آخر. يقول الجرجاني: «وهل تَجد أحدًا يقولُ: (هذه اللفظةُ فصيحةٌ)، إلّا وهو يعتبرُ مكانَها من النَّظْم، وحُسْنَ مُلائمةِ معناها لمعاني جاراتها، وفَضْلَ مؤانستها لأخواتها؟»[33].

والألفاظ القرآنية كلُّها فصيحة في السياق القرآني؛ كقوله تعالى: {‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}[التوبة: 38]؛ فرغم أنّ لفظة {اثَّاقَلْتُمْ} فيها تنافر خفيف للحروف؛ إلا أنها فصيحة في سياقها فهي تصف التصاق الذين تخلّفوا عن الجهاد بالأرض وصفًا دقيقًا، تمامًا مثل الالتصاق الشديد للِّسان بالأسنان حين النطق بهذه الكلمة؛ نظرًا للمرور من صوت حلقي (ألف الوصل) إلى صوت لثّي (الثاء).

قال ابن عطية: «وقوله: {اثَّاقَلْتُمْ} أصله (تثاقلتم)، أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل، كما قال: {فادَّارأتم}، وكما تقول ازَّيَّنَ (...)، وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره (تثاقلتم) على الأصل (...)، وقوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم، وهو نحو من أخلد إلى الأرض»[34].

يتبيّن إذن أنّ الترجيح بين القراءات من حيث فصاحتها أمرٌ يحتاج إلى إعادة النظر، وأنّ اعتبار المميزات اللغوية للقراءات سببًا في انتشارها =قد ينسحب فقط على أنّ يُسْر هذه المميزات يختلف من قُطْرٍ لآخر.

- اعتقاد بعض الناس بأنّ قراءتي نافع وعاصم أصحّ سندًا من القراءات الأخرى:

كقول السيوطي: «وأصحُّ القراءات سَنَدًا نافعٌ وعاصم»[35]، وهذا القول أيضًا فيه نظرٌ؛ لأنّ كلّ قراءة قرآنية متواترة «وافقت العربية ولو بوجهٍ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصحّ سندها»[36]؛ فإذا صحّ أنّ هذه الشروط الثلاثة تُفيد بمجموعها التواتر، فلا يصحّ مع ثبوت التواتر تفضيل قراءة قرآنية متواترة على أخرى من حيث السّنَد.

- اعتقاد بعض الناس سُنِّيّة قراءة نافع دون القراءات الأخرى:

عن مالك بن أنس، قال: «قراءة نافع سُنَّة». وقال عبد الله بن وهب المصريّ: «قراءة أهل المدينة سُنَّة»، قيل له: قراءة نافع؟ قال: «نعم، وعلى قراءة نافع اجتمع الناس بالمدينة»[37].

والقول بأنّ «قراءة نافع سُنَّة» لا يعني أنّ القراءات المتواترة الأخرى ليست بسُنَّة؛ بل كلُّها ثبتَتْ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

كما أنّ بعض الدراسات تُرْجِع أسباب اختيار المغاربة لها: تسهيل الهمز الذي تتميز به قراءة نافع، عن غيرها من القراءات؛ فقد رُوي عن الإمام مالك أنه كان يكره القراءة بالنبر (أي بتحقيق الهمز)، باعتبار ما جاء في السيرة من أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن لغته الهمز (أي لم يكن يظهر الهمز في الكلمات المهموزة، مثل: مومن، ياجوج وماجوج، الذيب...[38]

لكن القراءات التي تمتاز بتحقيق الهمز ثبتَتْ بالتواتر عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكلّ ما في الأمر أنّ لهجات قبائل العرب تختلف. وعامة العرب لا تهمز إلّا أعراب بني تميم ومَن لحق بهم من هذيل. عن الفرّاء أنه قال: «العرب لا تنطق بهمزة ساكنة إلّا بني تميم، فإنهم يهمزون، فيقولون: الذئب، والكأس، والرأس»[39]. وقال الشيخ الضباع: «وإنما تنوّعت العرب في تخفيف الهمز... لكونه أثقل الحروف نطقًا، وأبعدها مخرجًا.‏ وكانت قريش والحجازيون أكثرهم له تخفيفًا»[40].

الخاتمة:

تناولَت هذه المقالة انتشار بعض الروايات القرآنية بعد القرن التاسع الهجري؛ كما تناولَتْ بعض الأسباب التي يذكرها العلماء، والتي قد تكون أسهمتْ في هذا الانتشار؛ منها ما هو عامّ، ومنها ما هو خاصّ:

من الأسباب العامّة:

- اختيار الأئمة للقراءات والروايات، سواء كانوا أئمة المذاهب أو أئمة القراءات.

- تأثير الأقطار بعضها على بعض من حيث القراءات المتيسّرة لديها.

- الطباعة، والتسجيل الصوتي، ووسائل الإعلام.

ومن الأسباب الخاصّة:

- اعتقاد بعض الناس بأنّ قراءة أبي عمرو أفصح من القراءات الأخرى.

- اعتقاد بعض الناس أنّ قراءتي نافع وعاصم أصحّ سندًا من القراءات الأخرى.

- اعتقاد بعض الناس سُنِّيّة قراءة نافع دون القراءات الأخرى.

وفي الأخير، فمِن أجْلِ نَبْذِ التعصّب لقراءة دون أخرى، والحفاظ على القراءات القرآنية المتواترة جميعها؛ فإنني أقترحُ هذه التوصيات:

- عدم فرض السُّلْطة الحاكمة طباعة قراءة واحدة ومنع طباعة القراءات المتواترة الأخرى.

- عدم الترجيح بين القراءات المتواترة بأيّ سبب كان؛ بل فقط يمكن اختيار ما تيسَّر منها مع عدم إقصاء القراءات المتواترة الأخرى.

- تعاون البلاد الإسلامية في الحفاظ على القراءات المتواترة تلاوةً، وخطًّا، وتفسيرًا؛ حسب ما يُتقنه كلّ بلد من القراءات والروايات.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

[1] مقدمات في علم القراءات، محمد أحمد مفلح وأحمد خالد شكري ومحمد خالد منصور، دار عمار- عمّان (الأردن)، ط1، 1422هـ- 2001م، ص63.

[2] غاية النهاية في طبقات القراء، ابن الجزري، تحقيق: ج. برجستراسر، مكتبة ابن تيمية، 1351هـ، (1/ 292).

[3] الإضاءة في بيان أصول القراءة، عليّ بن محمد الضباع، ط1، المكتبة الأزهرية للتراث- القاهرة، 1420هـ- 1999م، ص57.

[4] التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر- تونس، 1984هـ، (1/ 63).

[5] يُنظر: رحلاتي في الإسلام، محمود الحصري، مطابع شركة الشركات بالعباسية، ط2، ص159.

[6] التحرير والتنوير، (1/ 63).

[7] جهد المقل، محمد بن أبي بكر المرعشي، تحقيق: د. سالم قدوري، دار عمار للنشر والتوزيع- عمان، ط2، 1429هـ- 2008م، ص320.

[8] ردّ المحتار على الدِّرّ المختار شرح تنوير الأبصار، محمد أمين بن عابدين، تحقيق: عادل أحمد وعليّ محمد، دار الكتب العلمية- بيروت، (2/ 262).

[9] الإضاءة في بيان أصول القراءة، ص57.

[10] التحرير والتنوير، (1/ 63).

[11] القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، جمعة أحمد، مجلة التكامل المعرفي، المجلد: 2، العدد: 2، دجنبر 2019، جامعة السلطان شريف عليّ الإسلامية، بروناي- دار السلام، ص204.

[12] القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، ص204.

[13] يُنظر: القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، ص203.

[14] القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، ص200.

[15] مقدمات في علم القراءات، ص63.

[16] التحرير والتنوير، (1/ 63).

[17] القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، ص204.

[18] التحرير والتنوير، (1/ 63).

[19] يُنظر: القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، ص203.

[20] القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، ص205.

[21] ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، القاضي عياض (ت544ه)، تحقيق: محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية- بيروت، (1/ 483).

[22] ردّ المحتار على الدِّرّ المختار شرح تنوير الأبصار، مرجع سابق، (2/ 262).

[23] غاية النهاية، (1/ 292).

[24] لماذا اختار المغاربة رواية ورش؟، عبد الكريم بن عبد الرحمن، موقع الألوكة المجلس العلمي majles.alukah.net/t50962، تاريخ الإضافة: 14- 02- 2010.                                       

[25] يُنظر: ما سبب انتشار رواية حفص؟، يسري حسين محمد سعد، موقع طريق الإسلام islamway.net، تاريخ الإضافة: 19- 09- 2018.

[26] يُنظر: القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر، ص200.

[27] يُنظر: ما سبب انتشار رواية حفص؟، مرجع سابق.

[28] الاختلاف بين القراءات، أحمد البيلي، دار الجيل- بيروت، والدار السودانية للكتب، ط1، 1408هـ- 1988م، ص82.

[29] رحلاتي في الإسلام، ص205.

[30] مقدمات في علم القراءات، ص64.        

[31] يُنظر: إبراز المعاني من حرز الأماني، أبو شامة المقدسي (ت665هـ)، دار الكتب العلمية، ص7.

[32] الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي (ت911هـ)، تحقيق: محمد إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ- 1974م، (1/ 276).

[33] دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ)، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة- دار المدني بجدة، ط3، 1413هـ- 1992م، ص44.

[34] المحرر الوجيز، ابن عطية الأندلسي (ت542هـ)، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 1422هـ، (3/ 34).

[35] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 276).

[36] النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، تحقيق: عليّ محمد الضباع، مطبعة مصطفى محمد- مصر، (1/ 9).

[37] يُنظر: المقدمات الأساسية في علوم القرآن، المؤلف: عبد الله بن يوسف بن عيسى بن يعقوب اليعقوب الجديع العنزي، الناشر: مركز البحوث الإسلامية ليدز- بريطانيا، الطبعة: الأولى، 1422هـ- 2001م، ص194.

[38] لماذا اختار المغاربة رواية ورش؟، عبد الكريم بن عبد الرحمن، مرجع سابق.     

[39] جامع البيان في القراءات السبع، أبو عمرو الداني (ت444هـ)، جامعة الشارقة- الإمارات، ط1، 1428هـ- 2007م، (2/ 570).

[40] الإضاءة في بيان أصول القراءة، ص25.

الكاتب

إبراهيم بنيحيى

حاصل على شهادة الإجازة تخصص العقيدة والفكر، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))