تأويلات الحداثيين لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
عرض ونقد

وَعَدَ الله -عزّ وجلّ- بحفظ كتابه العزيز في جملة من الآيات، من أشهرها: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقد قدّم عددٌ من الحداثيين تأويلات خاصّة لهذه الآية تتعارض مع هذه الحقيقة المتفق عليها، وتعمل هذه المقالة على بيان هذه التأويلات ومناقشتها ونقدها.

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فمِنَ المستقرّ في قلوب المسلمين وعقولهم أنَّ القرآن الكريم محفوظٌ من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل؛ وذلك لأنّ الله -وهو الحفيظ- قد وَعَد بحِفْظِه، ولن يُخلِف اللهُ وعدَه، وقد تحقّق مِن وَعْدِ الله بذلك ما تقرّ به عيون الموحِّدِين من حِفْظ القرآن في الصدور، وحفظه في السطور؛ وذلك لأنّ «ما حفظَ اللهُ تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيعَ منه شيء»[1].

وفي القرآن الكريم جملة من الآيات التي تدلّ على وَعْدِ الله بحِفْظِ كتابه العزيز، ومن أشهرها قوله تعالى في سورة الحِجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9].

ومع أنّ حِفْظَ الله القرآنَ الكريم «حقيقة يعلمها أولو العِلْم من خصوم الإسلام، كما يؤكّدها تاريخ القرآن الكريم»[2]، فقد وجدنا أنَّ الحداثيين شكّكوا في هذه الحقيقة المتّفق عليها، ومن ثم حاولوا تقديم تأويلات خاصّة لآية سورة الحِجْر تتوافق مع رُؤاهم وتكرّس لعدم دلالة الآية على حِفْظ القرآن الكريم، وبِغَضّ النظر عن طبيعة أهدافهم من وراء ذلك إلا أنَّ هذه الدعوى حينما كانت تصدر من مستشرقين عُرِفوا بالعداء والحقد على الإسلام قيل: إنّ الشيء من معدنه لا يُستغرب، لكن الغريب حقًّا صدور مثل هذا الزَّعْم ممن يقول أكثرهم إنهم مجتهدون مسلمون أصحاب مشروعات تجديدية في تفسير القرآن الكريم.

وفي ضوء ذلك جاءت هذه المقالة لتبرز ما ادّعاه هؤلاء الحداثيون من تأويلات بل تحريفات في معنى هذه الآية الكريمة، لتستقيم لهم دعواهم فيما يتعلّق بحِفْظ القرآن الكريم، وهيهات فهي باطلة من أساسها، منحرفة في منهجها وأهدافها ومنطلقاتها، مُضِلَّةٌ في نتائجها، فتعمل على بيان تأويلاتهم للآية واتجاهاتهم فيها، وتناقش هذه الاتجاهات وتبيّن الموقف منها، وذلك بعد تمهيد نبيّن فيه فَهْم المفسِّرين لآية سورة الحجر، ونشير فيه لبعض الآيات الأخرى الدالة على حفظ القرآن الكريم.

تمهيد:

أولًا: اتّفق المفسِّرون على أنّ المرادَ بالذِّكْر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} القرآنُ الكريم، وممن نَقل الاتفاق على ذلك أبو الحسن الواحدي، وأبو الفرج ابن الجوزي[3].

ويشهد له ما ذَكره اللهُ قبلها في قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر: 6]، وذلك أنّ القرآن الكريم هو الذي نزَّله اللهُ على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان سبب رميهم إياه بالجنون حين نَسَبه صدقًا وحقًّا إلى الله ربّ العالمين.

وعلى ذلك فقولُه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} رَدٌّ على هؤلاء المشركين الذين سَخِروا من النبيّ بقولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}، بهذا الأسلوب المؤكّد الذي فيه كبت لهؤلاء المشركين، وردع لهم، وإعلان بما يملأ صدورهم حسدًا وحسرة؛ فقد أبَوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبيّ إنه تلقّى الذِّكْر منها، فقالوا: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ولم يقولوا -ولو على سبيل الاستهزاء- نَزّل اللهُ عليه الذِّكْر، فجاءهم قول الحقّ -جلّ وعلا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} بهذا التوكيد القاطع الدالّ عَلى كمالِ الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل، وجاء قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} بالجملة الاسمية للدلالة على دوام الحِفْظ له واستمراره، وأفادت الآية الكريمة أنّ الله -سبحانه- هو الذي يتولّى حِفْظه من كلّ عبث، وصيانته من كلّ سوء. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند الله، فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه؛ فإنهم لو فعلوا لكان لهم من ذلك حُجّة على أنه ليس من عند الله! وقد حفظ اللهُ القرآنَ الكريم، هذا الحفظ الربانيّ، الذي أبعدَ كلَّ ريبة أو شكّ في هذا الكتاب، فلم تمسسه يدٌ بسوء، على كثرة الأيدي التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها الله، وأبطل كيدها وتدبيرها[4].

وأُطلق على القرآن «الذِّكْر» لأوجه؛ منها:

أ- ما فيه من الموجبات للتذَكُّر والاعتبار.

ب- ولأنه أيضًا يُذكر فيه أخبار الأوّلِين.

ج- ولأنه شرف لمن تمسّكَ به، ينال به صاحبه ذِكرًا جميلًا، وثناءً حسنًا كما قال -جلّ ذِكره-: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف: 44].

ثانيًا: ذهب أكثرُ المفسِّرين إلى أنّ الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يعود على القرآن الكريم، ونَسَبَ هذا القولَ للأكثرين ابنُ عطية، وابنُ الجوزي، وأبو حيان الأندلسي[5].

وذهب فريق من العلماء إلى أن الضمير يعود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مَكْرِكُم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يُظهِر الله به الدِّين.

وقول الأكثرين -وهو أنّ الضمير عائد إلى القرآن الكريم- أَوْلَى وأرجح وأشهر وأظهر؛ لأنّ المقام يقتضيه، وظاهر السياق يدلّ عليه، ولأنه المصرّح به في الآية الكريمة بكلمة: {الذِّكْرَ}، ومن المعلوم أنّ عود الضمير على مذكور أَوْلَى من عوده على غير مذكور[6].

قال الشهاب الخفاجي: «وكون الضمير للنبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف الظاهر»[7]. ووجدير بالذكر أنّ مَنْ قال: إنّ الضمير عائد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يَنْفِ أحدٌ منهم حِفْظَ الله القرآنَ الكريم؛ لتضافر الأدلة على ذلك، وأيضًا فإنّ حِفظ الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-يقتضي حِفْظ القرآن الذي نزل عليه، وجعله حجّته، وآية نبوّته الكبرى، ومعجزته العظمى.

ثالثًا: هذه الآية الكريمة هي إحدى الآيات الدالّة على وعدِ الله بحفظ القرآن الكريم، وثَمَّ غيرها في تقرير هذا المعنى، ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 41- 42]، والذِّكْر هنا القرآن أيضًا في قول الجميع، قاله الماوردي[8]، ومن معاني الآية الكريمة أنه ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزل من ربّ العالمين، وأنه محفوظ من أن يُنقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يُزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه[9].

ومنه أيضًا قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21- 22]، ووجه الدلالة في ذلك أن قوله: {مَحْفُوظ}، فيه قراءتان متواترتان؛ إحداهما وهي قراءة الأكثرين: {مَحْفُوظٍ} بالجر على أنه صفة {لَوْحٍ}، وحِفْظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حِفْظ القرآن، والقراءة الأخرى وهي متواترة أيضًا -قراءة نافع- برفع {مَحْفُوظٌ} على أنه صفة للقرآن[10]، أي: هو قرآنٌ مجيدٌ محفوظٌ، وهذا صريح في الدلالة على حِفظ الله القرآنَ المجيد، ولله الحمد والمنة.

وبعد هذا البيان نشرع في ذِكْر تأويلات الحداثيين لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، مع بيان سبب تهافتها:

ذهب الحداثيون في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عِدّة مذاهب، وحاصل ما ذهبوا إليه -بحسب ما وقفتُ عليه- ينحصر في أربعة اتجاهات، وفيما يأتي نبيّن كلّ اتجاه منها، ثم نتبعه بمناقشة تبرز عِلّته وتبيّن إشكاله:

الاتجاه الأول: ذهب بعض الحداثيين إلى حمل الآية على معنى الأمر بالحفظ لا الوعد بالحفظ، فالآية -في زعمهم- أمرٌ لنا بحفظ الذِّكْر لا أنّ اللهَ قد تكفّل بحفظه.

وممن زعم ذلك د. نصر أبو زيد حين قال: «وقول الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، لا يعني التدخُّل الإلهي المباشر في عملية الحِفْظ والتدوين والتسجيل، بل هو تدخُّل بالإنسان المؤمن بالبشارة، والحضّ والحثّ والترغيب على أهمية هذا الحِفْظ، وفهم الحِفْظ على أنه تدخّل مباشر من الزاوية الإلهية فهم يدلّ على وعي يضاد الإسلام ذاته من حيث إنه في جوهره الدِّين الذي أنهى العلاقة المباشرة بين السماء والأرض إلا عن طريق التوجُّهات والإرشادات المضمّنة في القرآن الكريم، وفي سُنّة الوحي الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم»[11].

وهذا التأويل للآية الكريمة تأويل باطل، وبيان ذلك على النحو الآتي:

1- أنه مناقض تمام المناقضة لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}؛ إِذْ إنّ هذه الجملة صريحة في أنّ الله وعَد -ووعده حَقّ- بحِفْظ القرآن بنفسه وذلك في قوله: {وَإنَّا}، فكيف يقال مع ذلك إنه لا يعني التدخل الإلهي المباشر، مع أنّ التعبير بالتدخّل غير لائق بجلاله -جلَّ وعزَّ- فالقرآن كلامه، لا كلام غيره، ومن حقّه أن يتكفّل بحفظه وحمايته.

2- من المتقرّر لدى أهل اللغة أيضًا أنّ قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جملة خبرية، ودعوى أنّ الآية تدخل بالإنسان المؤمن بالبشارة، والحضّ والحثّ والترغيب على أهمية هذا الحِفْظ يجعلها جملة إنشائية على معنى الأمر والطَّلَب، وهذا خلاف الظاهر، ولا يعدل عن الظاهر إلا بحُجّة وبرهان، وهذا من دلائل فساد هذا التأويل أيضًا.

3- دعوى أنّ الإسلام أنهى العلاقة المباشرة بين السماء والأرض إلا عن طريق التوجُّهات والإرشادات المضمّنة في القرآن الكريم، وفي سُنّة الوحي الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ دعوى عارية عن الحقّ والرشد، بل القرآن وحيه وإن هبط إلى الأرض، واللهُ وعَد بحفظه على كلّ حال، ولم يقيّده بزمان، أو مكان، ونزول القرآن لا يعني قطع صِلَته بمن أنزله وقاله ابتداء، فمنه بدأ وإليه يعود.

وقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} «أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كلّ شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيها ثم في قلوب أمّته، وحفظ اللهُ ألفاظَه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرِّف محرِّف معنى من معانيه إلا وقيّض اللهُ له من يبيّن الحقّ المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين...»[12].

4- لا ينبغي إغفال أنّ القرآن الكريم يختلف عن الكتب المنزلة السابقة، حيث إنّ الله أَوْكَلَ حِفْظ الكتب السابقة إلى الناس، وليس الأمر كذلك في القرآن الكريم.

 وقد أحسن إسماعيل بن إسحاق القاضي (ت282هـ) حين سُئل لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال: قال الله تعالى، في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}[المائدة: 44]، فَوَكَلَ الحفظ إليهم، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فلم يجز التبديل عليهم[13].

الاتجاه الثاني في تأويل الآية الكريمة: ذهب بعض الحداثيّين إلى أنّ المراد بالحفظ الموعود به حفظ المعنى والمضمون، لا حِفْظ النصوص والألفاظ.

يقول عبد المجيد الشرفي: «الذِّكْر الذي وعَد اللهُ بحفظه هو المحتوى، وليس الظرف، هو مضمون الدعوة بما انطوتْ عليه من تبشير وإنذار ومن توجيه وإرشاد، وليس الألفاظ والتعابير التي صِيغت فيها تلك الدعوة، والتي دوّنت في ظرف معيّن، وتنسب إلى أقوام بأعيانهم، ولها نحوها وصرفها وقواعدها، ولا تختلف في هذا المستوى عن أيّ لغة أخرى، والرسول نفسه لم يَنْهَ أصحابه عن تلاوة الآيات التي حفظوها بطرق مختلفة، واعتبرها كلّها جائزة، في حين كان بعض الصحابة متمسكًا بالطريقة التي سمع النبي يتلو بها متشدّدًا في وحدة التلاوة، ويرى في تعدّدها تحريفًا لكلام الله»[14].

ويقول د. حسن حنفي: «يُغالي البعضُ وأكثرهم من اللاهوتيين المحافِظِين ويدَّعون أنّ اللهَ قد حفظ كتابه من التغيير والتبديل وأن العناية الإلهية هي الحافظة للنصوص، ومن ثم فلا داعي هناك لتطبيق قواعد المنهج التاريخي على النصوص الدينية، وإقامة نقد تاريخي للكتب المقدسة:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وهي نظرية لاهوتية صرفة، تهرب من النقد، وتلجأ للسُّلْطة الإلهية... وقد يكون معنى الآية هو حفظ المعنى، وحفظ تطبيق المعنى في الواقع، لا حفظ النصّ الحرفي المدون، فذلك ما يعتريه التغيير والتحريف والتبديل، وهو ما يتهم به القرآن أهل الكتاب، ويؤيّده النقد التاريخي للكتب المقدّسة»[15].

وهذا التأويل للآية للكريمة -وهو قَصْر الحفظ على حفظ المعنى والمضمون- تحريف لمعنى الآية الكريمة بُني على مقدمات باطلة فلا غرو أن يكون مثلها.

وبيان ذلك على النحو الآتي:

1- الآية الكريمة أفادتْ أنّ الله وعَد بحِفْظِ الذِّكْر، والذِّكْر يشمل اللفظ والمعنى، ولا يقتصر على المعنى أو المضمون، فقصره على المعنى وتخصيصه بها دعوى لا دليل عليها.

2- مادة الذِّكْر نفسها تدلّ على أنّ القرآن الموعود بحفظه ألفاظ ومعانٍ، بل الأصل في الذِّكْر أن يكون بلفظ.

وقد جاء في القرآن ما يدلّ على أن هذا الذِّكْر المراد به القرآن متلوّ ومسموع وهذا إنما يكون للألفاظ الحاملة للمعاني كما لا يخفى.

قال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}[آل عمران: 58]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم: 51- 52].

3- هذا التأويل المزعوم مبنيّ على مقدّمة باطلة وهي أنّ الذِّكْر -وهو القرآن- وحي بالمعنى دون اللفظ، وقد صرّح عبد المجيد الشرفي بذلك في موضع آخر ورأى أنه أقرب المواقف من المعقولية الحديثة[16].

ولا شك أنّ هذه مقدّمة باطلة؛ فالقرآن وحي من الله باللفظ والمعنى، ومن دلائل ذلك أنّ الرسول محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على ترديد ما يلقيه عليه جبريل -عليه السلام- من القرآن خشية أن يتفلّت منه شيء، فأنزل الله قوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: 16- 19]، فقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ}، أي: بالقرآن، {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}، أي: في قلبك، {وَقُرْآنَهُ}، أي: وأن تقرأه بعد ذلك بلسانك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، أي: فإذا قرأه عليه الملَك المبلِّغ عنّا فاتبع قراءته، والقرآن اسم للّفظ والمعنى جميعًا، وفي ذلك دليل على أنّ ألفاظ القرآن بمعانيها جُمعت في قلبه بطريق الوحي إليه، والذي يُقرأ هو الألفاظ.

والعجيب أن أصحاب هذا القول الشاذّ تمسكوا بظاهر قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء: 193- 195]، وقالوا: إنّ الذي نزل على قلب الرسول هو المعاني لا الألفاظ، مع أن الآيات نفسها تبطل كلامهم وذلك أن الله قال فيها: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، واللسان العربي لفظ ومعنى كما لا يخفى، وهو متعلّق بقوله: {نَزَلَ} على الوجه الصحيح، و(القلب) كما ينزل عليه المعنى، ينزل عليه اللفظ، وإنما آثر الحق تبارك وتعالى هذا التعبير للدلالة على أن القرآن كما وعته الأذنان، وعاه القلب اليقظان»[17].

4- حفظُ اللهِ القرآنَ الكريم من التغيير والتبديل والتحريف ليس من ادعاءات المُغالين بل هذا ما عليه إجماع المسلمين استنادًا إلى صريح القرآن الكريم.

وقد ذكر ابنُ حزم في مراتب الإجماع بَابًا عنون له: (من الإجماع في الاعتقادات يكفر مَنْ خَالفه بإجماع)، وممَّا ذكر فيه: «وأنَّ كلّ ما في القرآن حقّ، وأنّ من زادَ فيه حرفًا من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نَقْل الكافة، أَو نقص منه حرفًا أو بدّل منه حرفًا مكان حرف، وقد قامَت عليه الحُجَّة أنه من الْقُرْآن، فتمادى مُتعمِّدًا لكلّ ذلك عالمًا بأنه بِخِلاف ما فعل؛ فإنه كافِر»[18].

5- لا يصحّ ما ادّعاه هؤلاء من أنَّ القرآن ألفاظٌ تنسب إلى أقوامٍ بأعيانهم، ولها نحوها وصرفها وقواعدها، ولا تختلف في هذا المستوى عن أيّ لغة أخرى؛ وذلك لأنّ القراءات القرآنية حين تنسب إلى القرّاء فيُقال مثلًا: قراءة نافع، أو عاصم، أو حمزة، فإضافة القراءة إليهم إضافة شُهْرَة واختيار لا نِسبة اختراع.

قال ابن الجزري: «إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به، فآثره على غيره، وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعُرِف به، وقُصِد فيه، وأُخِذ عنه؛ فلذلك أُضيف إليه دون غيره من القرّاء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد»[19].

وهذه القراءات المتواترة متلقّاة بالوحي، وسُنّة متّبَعة لا تحريف فيها ولا تبديل.

قال أبو عمرو الداني: «وأئمة القُرّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشَى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية إذا ثبت عنهم لم يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة؛ لأنّ القراءة سُنّة متبَعة يلزم قبولها والمصير إليها»[20].

والاختلاف بين القراءات اختلاف تنوّع لا تضاد، وله فوائده الجليلة كالتسهيل والتخفيف على الأُمّة، وما في ذلك من نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وجمال الإيجاز؛ إِذْ كلّ قراءة بمنزلة الآية، إِذْ كان تنوّع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات.

6- دعوى أنّ الرسول نفسه لم يَنْهَ أصحابه عن تلاوة الآيات التي حفظوها بطرق مختلفة مقيّد بما سمعوه منه -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لمَّا أقر قراءتهم وجَّه ذلك بقوله: «هكذا أُنْزِلَت»، وكان الصحابي نفسه يقول عن قراءته: «أقرَأَنِيها رسول الله» صلى الله عليه وسلم[21].

7- لا يصح قياس القرآن الكريم على الكتب المقدّسة الأخرى فيما يتعلق بحفظ ألفاظها من التحريف والتبديل؛ لما سبق من أن الله وَكَلَ حِفظ الكتب السابقة إلى الناس، وتكفّل بحفظ القرآن الكريم.

وسبب اختصاص القرآن الكريم بهذا «أنّ الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتي القرآن الكريم، الذي هو مَجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها. وهو بهذا التقدير الرسالة السماوية إلى الإنسانية كلّها في جميع أوطانها وأزمانها»[22]، و«ترك حِفظ الكتاب الخاتم للبشر، الذين يجوز عليهم الإهمال والتحريف والنسيان، معناه طروء وحدوث التحريف والضياع لهذا الكتاب، حيث لا وحي سيأتي، ولا رسول سيبعث، ولا كتاب سينزل... الأمر الذي لو حدث -افتراضًا- سيضلّ الناس، ولا رعاية لهم، ولا حُجّة عليهم...»[23].

8- دعوى أنّ القول بحفظ الله القرآنَ هروبٌ من النقد، ولجوءٌ للسلطة الإلهية =جرأة عظيمة على الله وكلامه حَمَلهم عليها عدم مراعاتهم لخصائص القرآن الكريم، ومنها قدسية النصّ القرآني، وأنه كلام الله الحقّ المنزّه عن كلّ نقص وعيب، ولي بحث مفرد بعنوان: «نظرات في موقف الحداثيين العرب من خصائص القرآن الكريم»، بيّنتُ فيه مواضع الخلل عندهم في هذا الباب.

الاتجاه الثالث في تأويل الآية الكريمة: ذهب بعض الحداثيين إلى أن الذِّكْر الموعود بحفظه هو القرآن المتلوّ أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- دون المكتوب في المصاحف بعد ذلك:

ذكر محمد أركون أن القرآن: «عبارة عن مجموعة من العبارات الشفهية في البداية، ولكنها دوّنت كتابةً ضمن ظروف تاريخية لم توضح حتى الآن أو لم يُكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدوّنة إلى مستوى الكتاب المقدّس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التاريخيين»[24].

وقال عبد المجيد الشرفي: «فلفظ القرآن لا يصح أن يطلق حقيقة إلا على الرسالة الشفوية التي بلّغها الرسول إلى الجماعة التي عاصرته»[25].

وهذا الادّعاء باطل؛ وذلك أن المكتوب في المصاحف اليوم لا يختلف عن القرآن الذي تلاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه كما تلقّاه من جبريل -عليه السلام-، وقد تكفّل اللهُ بحفظ القرآن في الصدور والسطور، ولعلّه لهذه الحكمة سُمّي بالقرآن، وبالكتاب فـ«روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا بالألسُن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه»[26].

وجاء في القرآن الكريم تسمية القرآن بالكتاب ومجيء أحدهما في موضع الآخر أو حالًا منه، قال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت: 3]، وحاصل الأمر أنه لا فرق بينهما من حيث الحقيقة، وإنما كلّ منهما أفاد معنًى وصفيًّا فيه، ونظيرهما في ذلك {الذِّكْر}؛ ولذا جاء في القرآن ما يدلّ على أن الذِّكْر هو الكتاب العزيز وأن الذِّكْر محفوظ حال كونه كتابًا قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 41- 42]، «والذِّكْر: القرآن بإجماع»، وقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ}، جملة حالية على الأرجح، وهي من حيث المعنى داخلة في صفة الذِّكْر المُكَذَّب به، فلم يتم ذِكْر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه، وهذا كما تقول: تخالف زيدًا وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره، فهذه كلّها أوصاف[27].

هذا، وقد قضى اللهُ بأن يكون القرآن مكتوبًا، وهذا شامل لكتابته في اللوح المحفوظ وكتابته بعد ذلك، واتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كُتّابًا للوحي، ولم تتأخّر كتابة القرآن عن زمان النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والذي صنعه أبو بكر الصديق هو جَمْع القرآن في مصحف واحد، ثم نُسِخَ إلى عدّة نُسَخٍ في عهد عثمان رضي الله عنه، ولهذين الجَمْعَيْن أسباب معروفة، وقد كان التعويل في ذلك على المكتوب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمحفوظ في صدور الصحابة.

ولو تصوّرنا أنّ المصاحف لم تُكتب أصلًا، أو اختفت بعد كتابتها، فإنّ القرآن محفوظ بالصدور منقول بالتواتر، لم يُزَد فيه ولم يُنْقَص منه، فكيف وقد تحقّق فيه الأمر؛ الحفظ في الصدور والحفظ في السطور.

وتقدّم أنّ نافعًا المدني قرأ قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21- 22]، برفع: {مَحْفُوظٌ}، وهذا يعني أنّ القرآن محفوظ مع أنه في لوح، فكتابته لا تُغَيِّر شيئًا من الوعد بحفظه.

قال الواحدي: «فإن قيل: لِمَ اشتغلَت الصحابة بجمع القرآن في الصحف، وقد وعَد اللهُ حفظه، وما حَفِظَه الله فلا خوف عليه؟

الجواب أن يقال: جَمْعُهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه، ولمّا أراد حِفظه قيَّضهم لذلك، وقال ابن الأنباري: إنهم أرادوا تسهيل القرآن على الناس وتقريب مطلبه بالذي فعلوه، لكي يَسْهُلَ تناولُه على من أراد حفظه وقراءته إذا رآه مجموعًا في صحيفة، ولو لم يفعلوا ما كان يضيع؛ إِذْ ضمِن اللهُ حِفْظَه»[28].

والإجماع منعقد على أنّ القرآن المكتوب في المصاحف هو القرآن الذي تكفّل الله بحفظه.

قال ابن عبد البر: «وأجمع العلماء أنّ ما في مصحف عثمان بن عفان -وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا- هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه ولا تحلّ الصلاة لمسلم إلا بما فيه»[29].

وقال ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) تحت عنوان: (باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر مَن خالفه بإجماع): «وأنّ القرآن المتلوّ الذي في المصاحف بأيدي الناس في شرق الأرض وغربها من أول {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إلى آخر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، هو كلام الله -عزّ وجلّ- ووحيه أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مختارًا له من بين الناس»[30].

الاتجاه الرابع: ذهب أحد الحداثيّين وهو المهندس محمد شحرور إلى التغاير والاختلاف بين القرآن والذِّكْر؛ استنادًا إلى قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}[ص: 1]، وذلك حين قال: «وإذا نظرنا أيضًا إلى الربط بين القرآن والذِّكْر في سورة (ص) لوجدناهما مربوطين بأداة (ذِي) وهذه الأداة تستعمل للدلالة على صفة الشيء لا على الشيء نفسه...»، إلى أن قال: «إنّ القرآن مجموعة القوانين الموضوعية الناظمة للوجود ولظواهر الطبيعة والأحداث الإنسانية، وأساسه غير لغوي ثم جعل لغويًّا؛ لقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[الزخرف: 3]... والذِّكْر هو تحوُّل القرآن إلى صيغة لغوية إنسانية منطوقة بلسان عربي...»، إلى أن قال: «الذِّكْر ليس القرآن نفسه، وإنما هو أحد خواصه وهو صيغته اللسانية حصرًا»[31].

واستند أيضًا إلى الفرق بين الذِّكْر والقرآن بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}[يس: 69].

وهذا الكلام فاسد في ذاته باطل من أساسه، وهو مبنيّ على مغالطات كثيرة ومفاهيم مخترعة زعمها صاحبها في كثير من كلمات القرآن الكريم، لا يتّسع المقام لمناقشته أو بيان فساد منهجه الذي سار عليه فيها، وقد كفانا مؤنة ذلك عددٌ من الباحثين[32].

والذي نحتاج إلى بيانه هنا أنّ تفريقه بين القرآن والذِّكْر بما ادّعاه لا يصح؛ وذلك أننا ذكَرْنا آنفًا أنه رُوعي في تسمية القرآن كونه متلوًّا بالألْسُن، كما رُوعي في تسميته كتابًا كونه مدوّنًا بالأقلام، وهنا نقول: ورُوعي في تسميته بالذِّكْر كونه مذكِّرًا للناس، وشرفًا لمَن تمسّك به ونحو ذلك مما تقدّم ذِكْرُه في سبب تسمية القرآن بالذِّكْر، فإذا جاء اقتران القرآن بالذِّكْر وصفًا أو عطفًا مما يفيد تغايرًا، فإنه تغاير في الأوصاف لا في الذات والحقيقة، وهذا ما أغفله د. شحرور في عامة ما ذكره من فروق بين القرآن والكتاب والفرقان والذِّكْر وغيرها، فأتى بفروق لم يُسبق إليها، ولا يشهد لها لغة ولا عقل، ونقول له -دفعًا لرؤيته الفاسدة في قضية التغاير-: إنّ الله -جلَّ ذِكْره- قال عن نفسه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}[الحديد: 3]، فهل هذا العطف يقتضي تغايرًا بالذات فيكون الآخِر غير الأول، ويكون الحديث في الآية عن أربع ذوات؟!

فإن قال: نعم فتلك مصيبة لا نحتاج معها إلى مزيد، وإن قال: إنّ المغايرة باعتبار ما في كلّ اسم من صفة تختصّ به وكلّها أسماء لله وأوصاف، فهذا عين ما نقوله في القرآن والذِّكْر والكتاب، ولله الحمد.

ودعوى أنّ القرآن أساسه غير لغوي ثم جعل لغويًّا لقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[الزخرف: 3]، ينقضها أنّ الأمر لو كان كما زعم في التفريق بين القرآن والذِّكْر لقيل: (إنّا جعلنا ذِكْرًا عربيًّا) وليس {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} على اعتبار أن الذِّكْر هو الصيغة اللغوية.

وإنما المعنى أنه على هذه الصفة قرآن عربي، وأنزله اللهُ كذلك؛ تيسيرًا منه سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[يوسف: 2].

ولا يخفى أن ما ادّعاه من أن الذِّكْر صيغة لغوية إنسانية باطل؛ فالقرآن أو الذِّكْر كلام الله لا تصرُّف لبشرٍ فيه، وليس للرسولَيْن (جبريل ومحمد عليهما السلام) منه إلا شرف التبليغ.

وأخيرًا، فقد كَثُر في القرآن الكريم ما يدلّ على أنّ القرآن يُقرأ ويُتْلَى ويُقَصّ، وهذا كلّه يهدم دعواه، ولو كان الأمر كما زعم من التفريق بين القرآن والذِّكْر لجاء التعبير في هذه الآيات بالذِّكْر لا بالقرآن.

خاتمة:

يتبيّن مما سبق أنَّ للحداثيّين تأويلات متهافتة في معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، يمكن تقسيمها إلى أربعة اتجاهات:

الأول: حمل الآية على معنى الأمر بالحِفْظ لا الوعد بالحِفْظ. والثاني: المراد بالحِفْظ الموعود به حِفْظ المعنى والمضمون، لا حِفْظ النصوص والألفاظ. والثالث: الذِّكْر الموعود بحِفْظِه هو القرآن المتلوّ أيام النبيّ -صلى الله عليه وسلم-دون المكتوب في المصاحف بعد ذلك. والرابع: دعوى التغاير والاختلاف بين القرآن والذِّكْر.

وتبيّن أنها تأويلات مبنيّة على مقدّمات باطلة؛ كقياس القرآن الكريم على الكتب المنزلة الأخرى في طروء التحريف والتبديل عليها، وعدم مراعاة خصائص القرآن الكريم؛ فلا غرو أنْ جاءت هذه التأويلات منحرفة، بمنأى عن سياق الآية الكريمة ودلالات ألفاظها، وإجماع المسلمين على حِفْظ الله للقرآن الكريم، بحيث يمكن القول بأنها باطنية جديدة تُفضي للهدم والتبديد لا البناء والتجديد، والله أعلم.

 

 

[1] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 98)، دار الآفاق الجديدة- بيروت.

[2] التفسير القرآني للقرآن (7/ 218) لعبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي- القاهرة.

[3] التفسير البسيط للواحدي (12/ 547)، الناشر عمادة البحث العلمي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1430هـ. وزاد المسير لابن الجوزي (2/ 525)، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

[4] ينظر: إرشاد العقل السليم لأبي السعود (5/ 69)، والتفسير القرآني للقرآن (7/ 218).

[5] المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي (3/ 352)، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ، وزاد المسير (2/ 525)، والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (6/ 468)، دار الفكر- بيروت، الطبعة: 1420هـ.

[6] ينظر: تفسير القرآن للسمعاني (3/ 131)، دار الوطن، الرياض- السعودية، ومفاتيح الغيب للرازي (19/ 123)، دار إحياء التراث العربي- بيروت، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 527)، دار طيبة.

[7] حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (5/ 283)، دار صادر- بيروت.

[8] النكت والعيون للماوردي (5/ 185)، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

[9] ينظر: مفاتيح الغيب (27/ 567)، وتفسير ابن كثير (7/ 183).

[10] ينظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 399)، والبحر المحيط (10/ 447)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (30/ 254)، الدار التونسية للنشر- تونس.

[11] النصّ، السلطة، الحقيقة، د. نصر حامد أبو زيد، ص69- 70، المركز الثقافي العربي، الطبعة: الأولى.

[12] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص429، مؤسسة الرسالة.

[13] ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب.

[14] الإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي، ص50، دار الطليعة- بيروت، الطبعة: الثانية، 2008م.

[15] رسالة في اللاهوت والسياسة، باروخ سبينوزا- ترجمة: حسن حنفي، ومراجعة: فؤاد زكريا، هامش ص27، في المقدمة، الناشر: مؤسسة هنداوي.

[16] ينظر: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص37.

[17] المدخل لدراسة القرآن، د. محمد حسين الذهبي (1/ 67-68)، مكتبة السنّة- القاهرة، الطبعة: الثانية.

[18] مراتب الإجماع لابن حزم الأندلسي، ص174، دار الكتب العلمية- بيروت.

[19] النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/ 52).

[20] جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، جامعة الشارقة- الإمارات، الطبعة: الأولى.

[21] من ذلك ما وقع لعمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم -رضي الله عنهما-، والقصة أخرجها الشيخان في مواضع، منها: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب مَن لم يَرَ بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا، (6/ 194)، ح5040.

[22]التفسير القرآني للقرآن (7/ 219).

[23] حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص301، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1424هـ-2003م.

[24] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل لـ محمد أركون، ص41، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى، 1999م.

[25] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص49.

[26] النبأ العظيم، د/ محمد عبد الله دراز، ص41، دار القلم.

[27] ينظر: المحرر الوجيز (5/ 19).

[28] التفسير البسيط (12/ 547).

[29] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (4/ 278).

[30] مراتب الإجماع، ص173.

[31] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص62- 63، الأهالي للطباعة والنشر.

[32] من هذه البحوث على سبيل المثال: بيضة الديك؛ نقد لغوي لكتاب (الكتاب والقرآن) ليوسف الصيداوي.

الكاتب

الدكتور محمد حامد حسن عطية

عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف، وله عدد من المؤلفات والبحوث العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))