الاعتراض على تحريرات القراءات من منطلق صعوبتها
عرض ومناقشة

الكاتب : أحمد كوري
تتعرَّض التحريرات في علم القراءات لعددٍ من الاعتراضات والإشكالات، ومن أبرز ما يُعترض به: صعوبة هذه التحريرات وتعقيدها، وهذه المقالة تستعرض الآراء حول هذه القضية، بين معارضي التحريرات وأنصارها، مع مناقشتها.

الاعتراض على تحريرات القراءات من منطلق صعوبتها

عرض ومناقشة[1]

يُعَدُّ موضوع التحريرات من الموضوعات التي كَثُر فيه الجدل بين المقرئين خصوصًا في عصرنا؛ وقد أورد معارضو التحريرات عدّة استشكالات عليها، وأجاب عنها أنصارها، وفي هذه المقالة نعرِض لأحد هذه الاستشكالات، وهو (صعوبة التحريرات)، فأعرِضُ أوّلًا لحُجج المعارضين، ثم أنقل ما وقفتُ عليه من حُجج الأنصار، ثم بعد ذلك أُعَـقِّب على هذه الحجج.

أولًا: حجج المعارضين للتحريرات:

يكاد المعترضون على التحريرات والمناصرون لها يتّفقون على صعوبتها، وإن اختلفوا في درجة تلك الصعوبة؛ فالمعترضون يرون أن صعوبتها أصلية ذاتية فيها ولا يمكن التغلّب عليها، والمناصرون يرون أن صعوبتها عارضة لأسباب خارجة عنها، ويمكن التغلّب عليها.

فمن المعترضين الشيخ عبد الفتاح القاضي الذي دعا إلى اطِّـراح التحريرات لصعوبتها البالغة[2]، ورأى بعضهم أنها لا تطيقها العقول؛ لأنها أمر بالغ الصعوبة في حين أن الله تعالى يسّر القرآن للذِّكر وأنزل الأحرف السبعة تخفيفًا على العباد، كما ينقل عنهم د. عبد الغفور مصطفى جعفر، في قوله: «لأننا نعرف بعضًا آخر من العلماء يقول بترك التحريرات؛ لأنها لا تطيقها العقول»[3].

ويقول: «ويضاف إلى ذلك ما شافهني به بعضهم وأشبه جملة في كلام ابن العربي، من أن مثل التحريرات أمر بالغ الصعوبة لا تطيقه العقول، في حين أن الله تعالى يريد التيسير، وأنزَل الأحرف السبعة تخفيفًا على العباد»[4].

أمّا مِن عسكرِ المناصرين فيرى الشيخ الخليجي أن سبب صعوبة التحريرات أنها متفرّقة غير مجموعة في كتب، وأكثرها منظومات يصعب فهمها على القارئ العادي، كما يقول: «لما كان العويص من مسائل فنّ القراءات غير مجموع أكثره في بعض الكتب إلّا نظمًا، على أنه غير متداول بين القارئين لقلّة وجوده، أردتُ أن أضع كتابًا يَجمعُ مُـتفرقَهُ، ويبيِّن مغلقَهُ، ويحقّق طُرُقه، ويوفي شرحه حقّه؛ فوفّقني اللهُ لجمع هذا الكتاب من أمهات الكتب بعد التحقيق التام، فجاء -بحمد الله- وافيًا بالمرام، لم يترك عويصة إلا بيَّنها، ولا مشكلة إلا حلّها، ولا مجملًا إلا فصّله، ولا خفيًّا إلا بيَّن ما احتمله، مقتصرًا على ما تعلّق بالشاطبية والدرّة»[5].

ويزيد الشيخ عبد الرازق أن أكثر كتب التحريرات ما زال مخطوطًا لا يتمكن القارئ العادي من الاطلاع عليه، كما يقول: «وللأسف، جُلّها [يعني: كتب التحريرات] مخطوط لم تُحقّق، نرجو اللهَ أن يقيِّض لها مَن عنده القدرة العلمية على تحقيقها؛ إنه سميع مجيب»[6].

ويرى د. عبد الغفور أن سبب صعوبتها ضعف الهمم، والمشقة البالغة في استخلاص كلّ طريق على حِدَة من النّشر، كما يقول: «والسبب في صعوبتها ضعف الهمة مِنْ مَنْ ينشدها ليكون مثل ابن الجزري في العلم القلبي بها»[7]، ويقول: «والسبب في التأليف في التحريرات المشقة البالغة في استخلاص كلّ طريق على حدته من النّشر ليقرأ على نظامه بعد العلم به منه»[8].

ويرى الشيخ محمد عبد الحميد أبو رواش أن التحريرات في حاجة إلى توضيح وتبسيط، كما يقول: «وفي الحقيقة إنّ علم التحريرات في أمسّ الحاجة إلى جهدٍ كبيرٍ من علماء القراءات؛ كي يوضحوا معالمه ويكشفوا عن أسراره عن طريق تحقيق كتب المحررين المخطوطة وتبسيطها لطلاب هذا العلم»[9].

ويرجع الشيخ عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى صعوبة التحريرات إلى أنها تحتاج إلى اطّـلاع واسع وذهنٍ ثاقب وبحث واستقراء، خصوصًا تحريرات الطيّبة فهي صعبة وطويلة لكثرة طرقها، كما يقول: «فائدة: طرق الشاطبية والدرّة لا تزيد على واحد وعشرين طريقًا؛ لأن لكلّ راوٍ طريقًا واحدًا، ما عدا إدريس عن خلف في اختياره فله طريقان في الدرة؛ ولذلك كانت تحريراتها سهلة وخفيفة، أمّا طرق الطيبة فهي كما سبق زهاء ألف طريق؛ لأن لكلّ راوٍ من الرواة العشرين طريقين وكلّ طريق من طريقين... إلخ، يقول ابن الجزري :

باثنين في اثنين وإن لا أربع .. فهي زها ألف طريق تجمع

ولذلك كانت تحريراتها صعبة وطويلة، فبذل المحرِّرون جهدهم وحصروا الآيات القرآنية وبينوا ما فيها من الأوجه الممنوعة والجائزة من خلال هذه الطرق في تصانيفهم»[10].

ويعترف بصعوبة التحريرات قائلًا: «فعنَّ لي أنْ أكتب رسالة مختصرة حول تحرير القراءات المتواترة. وقد تردّدت في بداية الأمر لعلمي أني لستُ أهلًا للكتابة في التحريرات لصعوبتها، ولم أصل فيها إلى درجة شيوخي»[11].

ويرجع الشيخ محمد إبراهيم محمد سالم صعوبةَ التحريرات إلى اتساع أمرها ودقّة طرقها وعدم إسعاف النصوص الصريحة، كما يقول: «وجهدت في التصحيح ما أمكنني، وأعتذر بعد ذلك، وللمطَّـلِع أن يتخذ طريق السلامة عندما يشكل عليه حكم من الأحكام، وما دامت الوجوه المذكورة بكلّ كتابٍ من ما في هذه الرسالة لا تتعارض مع التحريرات -وبخاصة ما جاء في (الروض)- فلا مانع من الأخذ به والقراءة بمضمنه؛ إذ قد يفوت المحرّر بعض التحقيقات الموجودة بنفس الكتب لاتساع أمر التحريرات، وقد لاحظتُ ذلك بنفس كتب التحرير؛ تلحظ هذا من ما جاء في (تحرير الأزميري للنشر)، ومعلوم ما لابن الجزري في هذا العلم إذ هو محقّقه، وأيضًا تعقَّب المتولي الأزميري في بعض تحقيقاته وصححها، وذلك كلّه -كما قلتُ- لاتساع أمر التحرير ودقّة طرقه. والله أعلم»[12].

ويقول: «أذكرُ هنا كتبًا أخرى بها رواية خلاد عن سليم عن حمزة ولم يرد ذكرها في طرق الطيبة؛ لإتمام الفائدة وسيرًا مع كتب التحرير التي أوردتها، وسأذكرُ هنا ما أمكنني تحقيقه وأعتذر عن الخطأ؛ لسعة التحريرات ولعدم إسعاف النصوص الصريحة في كلّ حكم من الأحكام. وأكرّر قولي بأن المطلوب من هذه الرسالة وغيرها من كتب القراءات والتحرير هو اللهج الدائم والجهد المستمر في تلاوة كتاب الله حبًّا فيه وابتغاءً لوجه الله وتحققًا بما لأهل القرآن، وهم أهل الله وخاصته»[13].

ويرجع الشيخ محمد كريم راجح صعوبة التحريرات إلى أن القارئ بها سيقرأ كلّ الكتب التي جمع ابن الجزري في النشر وكأنه يقرأ كتابًا واحدًا لكن بدون أن يلفِّق بين كتابين، يقول: «فإن الطيبة لا يفهمها ويحسن وجوهها إلا من آتاه اللهُ صبرًا على حُبّ العلم وصبرًا على إجادة تحقيقه وحفظه (...) وجرب أن تحفظ جزءًا من هذه الوجوه التي ذكرها، ثم تؤديها من ذاكرتك، فإنك واجدٌ من ذلك عنتًا ومشقة. وعلماء القراءات حرصًا منهم على أن يحرروا الوجوه، كتبوا في ذلك كتبًا سموها كتب التحرير، والتحرير معناه: أن يقرأ القارئ الطيبة وهي تجمع عدّة كتب تختلف رواياتها ووجوهها عن بعضها بحيث يقرؤها وكأنه يقرأ كتابًا واحدًا بحيث لا يخلط وجهًا من هذه الوجوه التي لم ينصّ عليها في كتاب مع وجه آخر نصّ عليه فيه، فهو وإن كان يقرأ الكتب التي جاء بها ابن الجزري كلها في وقت واحد وأداء واحد، فإنه بهذه التحريرات كأنه يقرأ كتابًا واحدًا؛ وفي ذلك من الصعوبة ما فيه، وكلّ هذا حتى لا تتداخل الأوجه ولا تختلف الروايات ولا يحصل التلفيق»[14].

ويُرجِع الشيخ شريف أبو العلا العدوي صعوبة التحريرات إلى أنها تحتاج إلى اطلاع واسع وذهن ثاقب وحافظة واعية: «وعلم التحريرات علم صعب يحتاج إلى اطلاع واسع وذهن ثاقب وحافظة واعية؛ ولذلك فإنه لا يؤخذ إلا عن الجهابذة من محققي علماء القراءات، وهو أشبه ما يكون بعلم علل الحديث»[15].

ويتابعه في ذلك الشيخ رمضان بن نبيه بن عبد الجواد هدية، ويزيد عليه أن علم التحريرات كتصحيح وتضعيف الأحاديث، لا يُقْدِم عليه إلا أهل البحث والاستقراء[16]؛ لذلك نجد ظاهرة عامة لدى المحررين، هي توقعهم أنّ كتبهم ستتضمن أخطاءً واعتذارهم المسبق عن هذه الأخطاء، كما نرى عند الشيخ النوري والشيخ المتولي والشيخ محمد إبراهيم محمد سالم[17].

من الـمُثُل على صعوبة التحريرات أنّ منظومة (فتح الكريم) للمتولي قد قرّرت على طلاب معهد القراءات الأزهري، ثم لاحظ الأساتذة صعوبتها البالغة على الطلاب؛ فنقّحها ثلاثة من أساتذة المعهد وقُـرِّر هذا التنقيح، ثم أحسّ المسؤولون مرة أخرى أن هذا التنقيح لم يخفّف من صعوبتها فألغوا مادة التحريرات نهائيًّا، كما يقول د. الدوسري: «ومع ظاهرة ضعف الدراسة النظامية، طالب بعض طلاب معهد القراءات الأزهري بعدم تقرير التحريرات بزعمهم أنها صعبة، وساعدهم على ذلك بعض العلماء الذين لم يتلقوا القراءات من طريق الطيبة»[18].

ثم أحسّ الشيخ محمد جابر المصري بأن تنقيح (منظومة فتح الكريم) لم يؤدِّ مهمته كما كان مرجوًّا، فنقّحها مرة أخرى، تسهيلًا لتحصيلها وفهمها؛ واختصارًا لتطويلها وتذليلًا لمسائلها المغلقة، كما يقول:

«وبعدُ فخذ نظمي اختصار قواعد .. لـتحرير مـا في متن طيبة العلا

ليسهل في التحصيل والفهم حفظه .. فـقد كـلَّت الأفهام مـن ما تطوّلا

وأذكـر فـيه مـا تعيَّن عندهم .. ومـا كـان ممنوعًا وللخلف أهملا»[19].

(...)

«وقـد تـم هذا النظم بين مسائل .. مـغـلـقـة لـكن ربـي ذَلّـلا»[20].

ثم شَعَر الشيخ محمد إبراهيم محمد سالم أن هذين التنقيحين لم يُجديا نفعًا، وأنه ما زالت في الأصل والتنقيحين وجوهٌ يعسر على الطلاب فهمها؛ فنقّح الأصل والتنقيحين مرة أخرى في تنقيح جديد[21].

ثانيًا: حجج أنصار التحريرات:

يوافق أنصار التحريرات على أن فيها نوعًا من الصعوبة، لكنهم يهوّنون من تلك الصعوبة، ويرونها عارضة يمكن التغلّب عليها؛ فالشيخ محمد إبراهيم محمد سالم يضع حلًّا لمشكلة صعوبة التحريرات بأن ينصح المقرئ بأن يأخذ طريق السلامة والاحتياط عندما يشكل عليه حكم من الأحكام، وينصحه أحيانًا بترك القراءة بطرق الكتب المفقودة والتي لا يوجد منها إلا ما في (النشر) وتحريراته، فذلك القدر لا يساعد القارئ كثيرًا في القراءة بمضمن هذه الكتب لكثرة سكوت (النشر) وأوهامه؛ إذ قد أثبت المحرّرون أن (النشر) وتحريراته في حاجة إلى تحرير، فلا يمكن أن يعتمد عليها في القراءة بطرق الكتب المفقودة[22].

ويرى د. عبد الغفور، و د. الدوسري أنّ صعوبة التحريرات عارضة من ضعف الهمم، يقول د. عبد الغفور: «فمَن ترك المحافظة على نقل الهيئة الاجتماعية فقد ترك جزءًا من الرواية، وهذا نقص فيها وهو عند الكبار عيب، ومنهم صاحب المحاولة [يعني: الشيخ عبد الفتاح القاضي]، ولكنه يريد أن يخفف على الطلبة لما يراه من قصور الهمم وضعف الملكات، والحاجة إلى أجزاء أخرى من العلم كما هي يراها أهم»[23].

 ويقول د. الدوسري: «وقد استمر العمل عليها [يعني: تحريرات المتولي] في معهد القراءات بمصر فترة من الزمن، أمّا في هذه الأيام فقط ضعفت الهمم، وانحصر العمل بها عند كبار المقرئين على نطاق ضيق»[24].

ويوافقهما الشيخ عبد الرازق، ومن ثم فقد قارن التحريرات بتعلُّم اللغات؛ فمن الناس من يتكلّم لغات كثيرة، ومنهم من يصعب عليه تعلم لغة أجنبية واحدة لضعف همته، ويرى أيضًا أن الصعوبة أمر نسبي؛ فربما يصعب الشيء على شخص ويسهل على آخر، ويستشهد على ذلك بالشيخ الزيات وأضرابه الذين ما زالوا يُقْرِئون بالتحريرات ولا يجدون أيّ صعوبة في ذلك، ويرى الشيخ عبد الرازق أن صعوبة التحريرات من نقاط قوّتها؛ فلو قُضِي على التحريرات لأصبح هذا العلم مفتوحًا أمام كلّ من هَبّ ودَبّ وأدّى ذلك إلى تخريج قُـرّاء أشبه بالعوام، كما يقول: «ثم نعود إلى العالِم البارز صاحب البحث [يعني: الشيخ عبد الفتاح القاضي-رحمه الله-] فقد عبّر هذا العالم الجليل عن رأيه الشخصي في التحريرات، فدعا من يدرس علم القراءات أن يطرح هذه التحريرات؛ نظرًا لصعوبتها ونصح الدارس أن يكتفي بحفظ متن من متون القراءات كالشاطبية أو الطيبة...إلخ. أقول باختصار: إن هذه دعوى للعمل بالتركيب المحظور، الذي يوقع صاحبه في ما لا يجوز وقراءة ما لم ينزل، والذي حرّمه علماء القراءات على القرّاء المتخصّصين كما سبق، كما أنه يدعو إلى تخريج قـرّاء يشبهون العوام، ويقضي على حذّاق القراءات. وهذه دعوى مردودة لا يوافقه أحد عليها، ورأيٌ شخصيّ لا يؤيده إلا مَن رأى صعوبةً عليه في فهم التحريرات، ومن يجد صعوبةً في تعلُّم لغة من اللغات مثلًا فلا يلومن إلا نفسه، وليس من حقّه أن يدعو الناس إلى تركها، وما صعب على شخص سهل على الآخر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وها هو شيخنا الزيات رغم كبر سنه ما زال يقرئ الطيبة بتحريراتها، ونسألُ اللهَ أن يطيل في عمره[25]، وأن لا يحرم المسلمين من أمثاله، حتى يظل إسناد الطيبة متصلًا تحقيقًا لقول الله -عز وجل-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]»[26].

ويقرّ د. عبد الغفور بصعوبة التحريرات، لكنه يرى أن صعوبتها لا تنافي تيسير القرآن؛ لأن القراءة التعبدية تصحّ بدون التحريرات: «هذا التحرّر من التحريرات إلغاء للهيئة الاجتماعية وهي جزء من الرواية؛ فإنّ تلاوة القرآن تمّت على نمط كامل موصوف معروف لأرباب القراءات يراد به (بالإلغاء) تيسير التلاوة التعبدية؛ فأين هذا مِنْ مَنْ يريد أن يروي ويحرّر الرواية!»[27].

ثالثًا: تعقيب ومناقشة:

وصَل علم القراءات في مرحلة من تطوّره إلى درجة التعقيد التي وصلت إليها سائر العلوم عند المتأخرين؛ ومن هنا فقد استحدَث المقرِئون صور التحريرات كما نجد عند الشيخ النوري في إحصائه لصور ما بين السور من الوجوه؛ فقد ذكر مثلًا أن بين الفاتحة والبقرة 483 وجهًا على ما يقتضيه الضرب، والمحرّر منها 117 وجهًا[28]، وذكر أن بين البقرة وآل عمران 3598 وجهًا على ما يقتضيه الضرب، والمحرّر منها 1222 وجهًا[29].

وذلك ما يذكرنا بصور بيوع الآجال في علم الفقه[30]، وصور إرث الخنثى المشكل والمناسخات وتعدّد الآباء في علم الفرائض[31]، وصور الصفة المشبهة في علم النحو؛ فقد أوصلها الخضري إلى 21888 وجهًا[32]، وهكذا رأينا المحرِّرين ينطلقون في تصورات افتراضية بعيدة عن الواقع، فهذا الشيخ الأزميري يحرّر على وجوه ينصّ هو نفسه على أنها ممنوعة، كما يقول: «ولا خلاف عن الأزرق في تقليل {لِتَشْقَى}، وسائر رؤوس الآي إلا ابن الفحام فإنه انفرد بالفتح فيها، ولا يؤخذ به من طريق الطيبة، وإنْ أخذ به فيختصّ بالطول في البدل...»[33]، ويقول: «وأمّا الفتح في رؤوس الآي فلا يقرأ به من طريق الطيبة، وإن قرئ به...»[34].

 ولهذا فقد انتقد الشيخ المتولي هذا التردّد من الشيخ الأزميري، كما يقول المتولي: «ويؤيده قوله: "فإنْ قرئ بهذا..." إلى آخره، من وجهين؛ الوجه الأول: أنه علّق السابع على الثامن جوازًا ومنعًا، وما هذا إلا ترددٌ بيِّنٌ، كما تقدمت الإشارة إليه، وكلام الله تعالى منزّه عن مثل هذا»[35].

وهذا الضبّاع أيضًا يفرّع على افتراضات ينصّ هو نفسه على أنها غير موجودة في الواقع، كما يقول: «إنْ قلت: قد علقت الحكم بالغنة ولا غنة هنا. قلت: لقصد ملاحظتها ولو لم توجد؛ لأنها أقرب كلّي يتأتى بملاحظته جمع فروع هذه المسألة»[36].

أمّا اتهام التحريرات بأنها (لا تطيقها العقول)، وأنها منافية لتيسير القرآن، فهو اتهام مبالغ فيه؛ ذلك بأن التحريرات -لو فرضنا أنها قد حقّقت هدفها- ليست أعسر من العلوم الأخرى، ولا منافاة بين عسرها وبين تيسير القرآن؛ فتيسير القرآن حاصل بقراءته بطريق واحدة كما يقرؤه العوام، أو بقراءته بخلط القراءات المتواترة، ولا ينافي ذلك أن علم القراءات بصفة عامة ككلّ العلوم ليس في متناول العامة، كما قال د. عبد الغفور. ويمكن التغلب على نواحٍ من عسر التحريرات بتحقيق كتبها ونشرها وتبسيطها؛ فالصعوبة هنا عارضة لا أصلية، والله أعلم.

 

[1] نُشر هذا المقال بملتقى أهل التفسير بتاريخ 25/ 1/ 1432هـ، الموافق 31/ 12/ 2010م.
وأصل هذه المقالة بعنوان: (الاعتراضات على التحريرات)، وقد قدَّم لها الكاتب بنيّته عرض الاعتراضات التي استشكلها معارضو التحريرات، مع عرض أقوال أنصارها في جوابها، ثم التعقيب على ذلك بالمناقشة، ثم عرض الاعتراضات التي تجمّعت له أثناء بحثه مما لم يقف على مَن طرحها، وعرض الحلقة الأولى من هذه الاعتراضات، وهو اعتراض صعوبة التحريرات، والذي هو موضوع هذه المقالة، ولم تكتمل السلسلة.
فرأينا -نشرًا للفائدة- إعادة نشر هذه الحلقة مع تغيير عنوانها بما يدلّ على مقصودها، وكذلك إجراء تعديل طفيف على مدخل المقالة الأصلية، وكذلك عناوينها الفرعية. (موقع تفسير).

[2] انظر: أبحاث في قراءات القرآن الكريم، عبد الفتاح القاضي، مطبعة عبد الرحمن محمد بميدان الجامع الأزهر بالقاهرة، ص30-31.

[3] القراءات: دراسات فيها وتحقيقات، عبد الغفور محمود مصطفى جعفر، رسالة مقدمة لنيل درجة العالمية (الدكتوراه) في التفسير وعلوم القرآن؛ جامعة الأزهر، كلية أصول الدين، قسم التفسير وعلوم القرآن، 1976م، ص99.

[4] القراءات: دراسات فيها وتحقيقات، عبد الغفور محمود مصطفى جعفر، ص88.

[5] حلّ المشكلات وتوضيح التحريرات، محمد بن عبد الرحمن الخليجي، تحقيق: جمال الدين محمد شرف، وعبد الله علوان؛ دار الصحابة للتراث بطنطا، 1422هـ/ 2002م، ص3.

[6] تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة، عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى، نشر: المؤلف - المدينة المنورة، ط1، 1413هـ، ص44.

[7] تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة، عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى، ص85.

[8] تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة، عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى، ص85.

[9] من تقديمه لـ: تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة، ص3.

[10] تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة، ص14-15.

[11] تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة، ص5.

[12] فريدة الدهر في تأصيل وجمع القراءات العشر، محمد إبراهيم محمد سالم، مطبعة حمادة الحديثة، قويسنا - مصر، 1421هـ/ 2001م، (1/ 318).

[13] فريدة الدهر في تأصيل وجمع القراءات العشر، (1/ 427).

[14] من تقديمه لـ: خلاصة ما في صريح النصّ من طريق الطيبة برواية حفص: لمحمد هيثم منيني، دار الفكر/ دار الفكر العربي المعاصر، دمشق - بيروت، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص9-10.

[15] من تقديمه لـ: الفتح الرحماني شرح كنز المعاني، الجمزوري (سليمان بن حسين بن محمد)، تحقيق: شريف أبو العلا العدوي، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص4.

[16] انظر: الروض النضير في أوجه الكتاب المنير، للمتولي (محمد بن أحمد الشافعي)، تحقيق: رمضان بن نبيه بن عبد الجواد هدية، مطابع الرحمن، الدلجمون، كفر الزيات - مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص20.

[17] انظر مثلًا النقلين السابقين عن محمد إبراهيم محمد سالم.

[18] المقصود هو الشيخ عبد الفتاح القاضي، انظر: الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات، د. إبراهيم بن سعيد بن حمد الدوسري، مكتبة الرشد - الرياض، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص358.

[19] مختصر قواعد التحرير، ضمن فريدة الدهر، (1/ 710).

[20] مختصر قواعد التحرير، ضمن فريدة الدهر، (1/ 726).

[21] انظر: فريدة الدهر، (1/ 578).

[22] انظر النقلين السابقين عن محمد إبراهيم محمد سالم.

[23] القراءات: دراسات فيها وتحقيقات، ص94.

[24] الإمام المتولي وجهوده في عالم القراءات، ص359

[25] كان هذا وقت كتابة المقالة، وقد توفي الشيخ الزيات -رحمه الله تعالى- في شعبان 1424هـ/ أكتوبر 2003م، عن تسعة وتسعين عامًا. (موقع تفسير).

[26] تأملات حول تحريرات العلماء للقراءات المتواترة: ص40-41.

[27] القراءات: دراسات فيها وتحقيقات، ص88.

[28] انظر: غيث النفع، النوري (أبو الحسن علي بن محمد الصفاقسي)، تصحيح: علي محمد الضباع، بهامش: سراج القارئ المبتدي. سراج القارئ المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي، تأليف: ابن القاصح (أبو القاسم علي بن عثمان بن محمد العذري البغدادي)، تصحيح: علي محمد الضباع، المكتبة الثقافية - بيروت، ص64-67.

[29] انظر: غيث النفع، ص172.

[30] انظر: الشرح الكبير على مختصر خليل، للدردير، في الفقه المالكي، وحاشية الدسوقي عليه، (3/ 78).

[31] انظر: الذخيرة في الفقه المالكي، القرافي (شهاب الدين أحمد بن إدريس)، تحقيق: محمد حجي (وآخرون)، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط1، 1414هـ/ 1994م، (13/ 23-27، 122-129).

[32] انظر: حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، دار إحياء الكتب العربية، (2/ 37).

[33] عمدة العرفان، الأزميري (مصطفى بن عبد الرحمن)، تحقيق: محمد محمد جابر، وعبد العزيز الزيات، مكتبة الجندي - القاهرة، ص100.

[34] عمدة العرفان، ص152.

[35] الروض النضير، ص138.

[36] صريح النصّ في الكلمات المختلف فيها عن حفص، تأليف: علي محمد الضباع، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - القاهرة، 1346هـ، ص26.

الكاتب

الدكتور أحمد كوري

أستاذ القرآن وعلومه بجامعة العلوم الإسلامية بالعيون - موريتانيا، وله عدد من الأعمال العلمية المنشورة

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))