مناهج الحداثيين في قراءة النص القرآني
نظرات تحليلية نقدية

تُسلِّط هذه المقالة الضوء على المناهج التي يشيع استخدامها في كتابات الحداثيين، ثم تبيِّنُ مدى حضور هذه المناهج داخل كتاباتهم، مع محاولة تقويم توظيف هذه المناهج عند الحداثيين العرب ونقده.

مدخل:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

  فإنّ القراءات الحداثية للقرآن الكريم تحاول أن تفرض نفسها في الساحة الثقافية الإسلامية، ولا يخفى الخطر الكبير الذي قد تشكله هذه القراءات على التفسير المنضبط بالأصول الإسلامية؛ لا سيما وأنها تستمد بنية منهجية وافدة من حضارة أخرى وليست مأصولة من رحم التراث، وتحاول التعاطي مع القرآن من خلال هذه البنية، الأمر الذي يجلب إشكالات عديدة.

ومن هنا تأتي أهمية هذه المقالة التي تهدف إلى تحليل المناهج الحداثية أوّلًا، ثم انتقادها علميًّا لمعرفة مدى توافُقها مع الأصول الإسلامية المعتبرة لدى جمهور علماء هذه الأمة، ومدى انسجامها مع خصائص اللغة العربية، ومع معاني ومقاصد القرآن الكريم.

وفي هذا السياق، تمّ تقسيم هذه المقالة إلى ثلاثة أقسام يسبقها تمهيد يُعرِّف بالمنهج والحداثة، ويذكُر محدِّدات المعالجة؛ وأمّا الأقسام فهي على الشكل الآتي: يُعرِّف القسم الأول بالمناهج التي يشيع استخدامها في كتابات الحداثيين، ويتناول القسم الثاني حضور هذه المناهج داخل كتابات الحداثيين، ويسعى القسم الثالث إلى تقويم توظيف هذه المناهج عند الحداثيين العرب ونقد هذا التوظيف.

تمهيد:

تعريف المنهج:

- المنهج لغة: «النون والهاء والجيم أصلان متباينان: الأول النَّهْج، الطّريق. ونَهَج لي الأمرَ: أوضَحَه. وهو مُستقيم المِـــنْهاج. والمـَــنْهج: الطَّريق أيضًا، والجمع المناهج. والآخر الانقطاع»[1].

- والمنهج اصطلاحًا هو: «مجموعة من القواعد المنضبطة، تُعتمد باستعمال مجموعة من الوسائل والأساليب المناسبة عبر مراحل، لبلوغ أهداف محدّدة»[2].

تعريف الحداثة:

- الحداثة لغة: «الحاء والدال والثاء أصلٌ واحد، وهو كونُ الشيء لم يكُنْ. يقال حدثَ أمرٌ بَعْد أن لم يكُن»[3].

- الحداثة اصطلاحًا: هي «مصطلح وُضِع لمذهب مُعيّن له أصوله الفكرية المحددة، المخالفة، بل الرافضة لدين الله وشرعه»[4].

محدِّدات معالجة الموضوع:

الخطوات المتبعة في هذه المعالجة؛ هي:

- تعريف وتحليل بعض المناهج الغربية الحاضرة في أقوال الحداثيين؛ كالبنيوية، والتفكيكية، والتأويلية، وذلك لتلمُّس أهم أدوات ومميزات هاته المناهج.

- ثمّ تقويم توظيف هذه المناهج عند الحداثيين العرب، وانتقادها علميًّا استنادًا إلى الأصول الإسلامية المتفق عليها.

وتقتصر معالجة هذا الموضوع في جانبها التطبيقي على دراسة ثلاثة نماذج لحداثيين عرب؛ وهم: محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعبد المجيد الشرفي.

القسم الأول: التعريف بالمناهج التي يشيع استخدامها في كتابات الحداثيين:

أوّلًا: البنيوية:

تعريف البنيوية:

البنيوية هي «منهجية نقدية تحليلية، تقوم فلسفتها على اعتبار البنية الذّاتية للظواهر بمعزل عن محيطها الخارجي والتأثيرات الأخرى، فهي تنظر إلى تلك الظواهر من الداخِل، وتفترض أنّها مغلقة على ذاتها»[5].

أدوات البنيوية:

أدوات البنيوية ثلاثٌ؛ وهي:

الأولى: النّسق أو البنية:

والنسق يُقصد به «البنية كاملة، بما فيها من عناصر، وتعني (البنية) العلاقات القائمة بين هذه العناصر، فأيّ عنصر لغوي تتحدّد قيمته حسب وقوعه في النّص، وما بينه وبين غيره من علاقات داخل النّص»[6].

الثانية: التّزامن:

والتزامن يعني «زمن حركة العناصر مجتمعة داخل البنية»[7].

الثالثة: التعاقب:

التعاقب هو: «زمن تخلخُل البنية وتهدُّم أحد عناصرها، الأمر الذي يجعل البنية تنفتح على الزمن حتى تستعيد عنصرًا آخر بدلًا من العنصر الذي انهدم، وبذلك تستعيد البنية نفسها وتستمر»[8].

ثانيًا: التفكيكية:

تعريف التفكيكية:

التفكيك هو: «قراءة في محنة المعنى (...)، يعني أنّه لا مجال للقبض على المعنى الذي هو دومًا مثار الاختلاف والتعدد أو الانتهاك والخروج أو الالتباس والتعارض»[9].

آليات ومفاهيم التفكيك:

فصل الفكر عن الواقع باعتماد مفاهيم الاختلاف المرجئ والانفصال بين قطبي العلامة (الدالّ والمدلول):

ترى التفكيكية أنّ «حُضور المعنى غير قابل للتحقق»[10]؛ لأن كل كلمة في اللغة تقودنا إلى أخرى في النظام الدلالي، وبهذا يكون كلّ معنى مؤجلًا بشكل لا نهائي.

والعلاقة التي تربط بين الدالّ والمدلول «اتسمت في الرؤية التقليدية بنوع من الثبات والوضوح»[11]؛ غير أنّ الطّرح التفكيكي «أحدث نوعًا من التباعد الذي يصل إلى حدّ الانفصال بين قُطبَي العلامة ليتحقّق اللعب الحرّ للمدلولات ولا نهائية المعنى»[12].

هذا «الانفصال الحاصل بين الدالّ والمدلول قضية لغوية في البداية ووُجودية في النهاية، ذلك أنّ انفصال الدالّ عن المدلول، هو انفصال العقل عن الواقع»[13].

تجاوز اللوغومركزية (أو المقولات المركزية) والمسكوت عنه (أو اللامفكر فيه):

إنّ اللوغومركزية أو التمركز حول اللوغوس (الكلام أو العقل أو المنطق)، هي «الاعتراف بوجود أصل أسمَى يمثل مركزًا أو مصدر إشعاع يشع بالحقيقة، وبقية الأشياء لا يمكن أن تؤسس لهويتها إلّا بالنظر إلى موقعها من هذا المركز»[14]؛ لكن الهدف من «الطرح التفكيكي هو نقد هذه الفكرة والقضاء على المركز»[15].

والتفكيك حسب عليّ حرب يسمح بتجاوز المسكوت عنه بمساءلة «الخطاب المحكوم بمنطق الهوية عن البداهات التي ينبني عليها ويسكت عنها»[16].

علم الكتابة ومسألة الشفهي والكتابي:

مشروع علم الكتابة (أو الغراماتولوجيا) لا يخرج عن «السياق العامّ لفلسفة التفكيك، وهو تحدّي ميتافيزيقا الحضور. وعلى هذا الأساس كانت الغراماتولوجيا تحدِّيًا لتفضيل الكلام على الكتابة، وقَلْبًا للمعادلة المتمركزة»[17].

إنّ نقطة الخلاف الجوهري بين الكلام والكتابة هي الحضور؛ أي «حضور المتكلم في حال حدوث الكلام، وبالتّالي حراسته للمعنى وقتله لفعل الدّلالة، على عكس الكتابة، التي استطاعت التحرر من كاتبها، وتستطيع فتح المجال أمام حرية التأويل واللعب الحرّ للمدلولات»[18].

ثالثًا: التأويلية (أو التأويل المقاصدي):

تعريف التأويلية:

التأويل في أدقّ معانيه «يُركِّز عادة على مقطوعات غامضة أو مجازية يتعذّر فهمها. أمّا في أوسع معانيه فالتأويل هو توضيح مرامي العمل الفني ككل ومقاصده باستخدام وسيلة اللغة»[19]. والهيرمنيوطيقا هي باختصار «نظرية التأويل وممارسته»[20].

أدوات التأويلية:

القراءة التفسيرية الحديثة (أو الدراسة المقارنة):

الدراسة المقارنة عند الحداثيين هي «العمل على إثبات استمرارية القراءة وطمس الصراعات التأويلية بالحكم عليها بمعيار الخطأ والصواب الذي يستند إلى تصنيف ثنائي: الأرثوذكسية والهرطقات، أو الفرقة الناجية والفرق الضالة»[21].

القراءة التأويلية (أو الهيرمنيوطيقا):

يقترح الحداثيون القراءة التأويلية التي تبحث عن معانٍ متجدِّدة للنصّ، وتجعل القارئ يتعلّق بروح النصّ ومقاصده لا بحرفيته؛ كما تجعل النصَّ حيًّا بالنسبة للقارئ، ويجيب عن إشكالات عصره وظروفه وثقافته. وهذا ما عُرِف في الفكر الغربي بالهيرمنيوطيقا[22].

القسم الثاني: حضور هذه المناهج داخل كتابات الحداثيين:

إنّ ظهور هذه المناهج التي أشرنا إليها في كتابات الحداثيين هو أمر بَيِّن لمن يطالع كتاباتهم وتحليلاتهم للقرآن الكريم؛ ولهذا فإننا سنكتفي بإثبات نقول قليلة تدل على الغرض دون توسّع.

أوّلًا: حضور البنيوية في كتابات الحداثيين:

حضور مفهوم البنية:

يوظف محمد أركون في تحليله للخطاب القرآني مفهوم: «البنية العاملية»[23]، على أنّها «مجموعة الضمائر التي تتجادل داخل النصّ القرآني»[24].

وعندما يقول أركون بأنّ «القرآن نفسه يلح على وجود كلام إلهي، أزلي، لا نهائي محفوظ في أمّ الكتاب، وعلى وجود وحي منزل على الأرض»[25]، فإنه يلجأ إلى المنهج البنيوي الذي يدرس النصّ في ذاته بعيدًا عمّا يدور خارجه باعتباره بنية مستقلة، وجميع التأويلات يجب أن تكون من داخل النصّ.

فمثلًا، أثناء تحليله للبنيات النحوية لسورة الفاتحة اعتبر أركون أنّ آيات الفاتحة تنقسم إلى نوعين من الجُمَل: جُمل أصلية، وعددها أربع: 1- {بِسْمِ اللَّهِ}. 2- {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. 3- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. 4- {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وما سواها: جُمَل شارحة[26].
وأمّا ما يتعلّق بالنظم والإيقاع في السورة الكريمة، فقد تكلّم عن «وجود قافية (إيم) متناوبة مع قافية (إين) في سورة الفاتحة»[27].

ثانيًا: حضور التفكيكية في كتابات الحداثيين:

حضور مفهوم العلامة:

اعتمد الجابري على المنهج التفكيكي الذي يعتمد على الفصل بين قُطبَي العلامة (الدالّ والمدلول)؛ حيث بدأ الجابري أوّلًا بالتشكيك في معنى (الآية) في القرآن الكريم بقوله: «جميع العبارات القرآنية التي ورد فيها لفظ (آية) إنما تُحِيل إلى معنى (العلامة) والحجة والدليل»[28].

ثمّ شرع في دراسة آية المحكم والمتشابه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران: 7] في سياق الآيات السبع الأولى من سورة آل عمران.

وخَلصَ الجابري -اعتمادًا على العلامات وعلى أسباب النزول- إلى أنّ «الآيات المحكمات هي العلامات والدلائل والظواهر الكونية التي تدل على أن الله إله واحد»[29]، وأنّ الآيات المتشابهات «هي العلامات التي أراد الله بها إثبات فعل خارق للعادة لأنبيائه ورسله»[30].

استخدم الجابري إذن التفكيكية التي تُتيح للقارئ تفسير العلامات بالمعنى الذي يشاء.

حضور مفهوم المقولات المركزية واللامفكر فيه:

عندما يقول أركون بأن التمييز بين «نوعين من الوحي أو بين مستويين من الوحي بالأحرى موجود في نظرية المعتزلة القائلة بخلق القرآن»[31]، فهو يستخدم المنهج التفكيكي الذي يستغل مختلف الأيديولوجيّات لتقويض تاريخ المقولات المركزية، والتشكيك في جميع المرجعيات التي تُشَكِّل «اللامفكر فيه الأعظم بالنسبة لتاريخ الفكر الإسلامي»[32].

يستعمل أركون إذن المنهج التفكيكي للتّشكيك في إلهية النص القرآني المــُنزَّل على الأرض، وذلك بتفريقه بين «كلام الله، والوحي، والكتاب المقدّس، والشريعة الإلهية»[33].

حضور مسألة الشفهي والكتابي:

يرى الشرفي أنّ لفظ القرآن لا يمكن إطلاقه إلّا على الرسالة الشفوية التي بلّغها الرسول -صلى الله عليه وسلم- للصحابة، وأنّ «الذِّكْر الذي وعد الله بحفظه هو المحتوى وليس الظرف»[34].
كما يرى أنّ الكيفيّات التي رافقت نصّ القرآن دخلها الكثير من الوضع، وقد تناسى الشرفي أنّ تلقِّي القرآن كان يعتمد على المشافهة والكتابة في آن واحد؛ حيث إنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يراجع ما كتبه الكُتّاب في مصاحفهم[35].

حضور مسألة علاقة الفكر بالواقع:

وظّفَ الجابري بعض أدوات التفكيكية؛ حيث أثار مشكلة علاقة الفكر بالواقع، ومشكلة الأبدي والزمني، ومشكلة المطلق والنسبي[36].

ثالثًا: حضور التأويلية في كتابات الحداثيين:

حضور الدراسة المقارنة أو القراءة التفسيرية الحديثة:

يُميِّز الشرفي بين «القراءة التفسيرية في القديم حين كانت من اختصاص المؤمنين، والقراءة التفسيرية الحديثة»[37] التي هي مِلْكٌ مشاعٌ بين المؤهَّلِين فنِّــيًّا للقيام بها مهما كانت عقيدتهم.
ويُوضِّح الشرفي بأنّ الدّارِس المـُقارِن لا يُرضيه التفسير التقليدي؛ لأنّ «منهجه يفرض عليه عدم المفاضلة بين التأويلات»[38].

حضور القراءة التأويلية:

قَرّر الشرفي بأنّ «العبرة ليست بخصوص السبب ولا بعموم اللفظ معًا، بل في ما وراء السبب الخاص واللفظ المستعمل له يتعيّن البحث عن الغاية والقصد. وفي هذا البحث مجال لاختلاف التأويل بحسب احتياجات الناس واختلاف بيئاتهم وأزمنتهم وثقافاتهم»[39]، مُستنِدًا إلى أمثلة تشكك في فرضية أركان الإسلام[40].

لذا فهو يجمل خصائص القراءة التأويلية في «البحث عن معانٍ متجددة للنصّ ملائِمة لظروف الحياة المتجددة هي كذلك»[41]. ويوضح الشرفي أنّ «الألفاظ يمكن أن تكتسب أبعادًا جديدة، كما يمكن للقارئ بهذه القراءة أن يتعلق بروح النص ومقاصده لا أن يتقيد بحرفيته»[42].

فمثلًا، يرى الشرفي أنّ القرآن الكريم حثّ على صوم رمضان، إلّا أنّه «ترك الباب مفتوحًا لعدم صومه والتعويض عن هذا الصوم بإطعام مسكين أو مساكين»[43]، واستدلّ على ذلك بالآية المنسوخة[44]: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184].

يستخدم الشرفي إذن التأويلية ليشكك في المعاني الحرفية للقرآن الكريم وفي الأحكام المستنبطة منها؛ بدعوى البحث عن المقاصد الإلهية الشاملة وراء الألفاظ.

القسم الثالث: المناهج المستعملة من قِبَلِ الحداثيين، نقد وتقويم:

إنّ تطبيق المناهج الغربية على النصوص الدينية العربية أوقع الحداثيين في أخطاء وتناقضات كثيرة؛ نظرًا لخصوصية القرآن الكريم من جهة بالمقارنة مع الكتاب المقدّس عند النصارى، ونظرًا لخصوصية اللغة العربية بالمقارنة مع اللغات الأخرى من جهة أخرى.

وفيما يأتي نقد لبعض هذه المناهج الحداثية في ضوء الفكر الغربي نفسه، وفي ضوء أصول اللغة العربية والأصول الشرعية الإسلامية:

أوّلًا: نقد البنيوية:

المنهج البنيوي يقوم «ببتر النصّ وعزله عن قائله وفكره ووجدانه، وكلّ ما يُحيط به من مؤثرات، فيتعامل مع النص على أنّه قالب جامد، ثم يفسر النص بمعانٍ غير مقصودة، بل ولا يحتملها النصّ. أمّا نظرية النظم عند الجرجاني فهي تُعتمد في ترتيب معاني النصوص، وتوضيح معانيها، بإخضاعها لضوابط، حيث يُرجع ذلك كله لقوانين النحو وأصوله»[45].

والمنهج البنيوي الذي طبَّقه أركون مُستعينًا بالمنهج الألسني يهدم مصدرية النصّ القرآني ومعانيه؛ لأنّ «دلالات الوحي تنهدم بإغلاق دلالة النصّ على ذاته، وبتر مدلوله عن مقاصد الشارع الحكيم وأسباب النزول وغيرها من مفسرات النص الشرعي»[46].

فمثلًا، مِن مخاطر تقسيم أركون لآيات سورة الفاتحة أنّه بَنَى عليه أنّ «التشريعات ليست بنًى أصلية، وإنّما بنًى تابعة شعائرية»[47]؛ وكأنّ التشريعات غير مقصودة بذاتها من الشّارع الحكيم.

وأثناء قراءته لِنَظْم سورة الفاتحة فإنّ «تسميته للفواصل قوافي غلطٌ؛ إذ لا يجوز تسمية فواصل الآيات بالقوافي»[48]؛ لأنّ الله تعالى لـمّا سَلَبَ عنه اسمَ الشعر وجبَ سَلْبُ القافية عنه أيضًا؛ كما أنّ تسميته للآيات جُملًا تهدف إلى نزع القدسية عن آيات القرآن الكريم.

ثُمّ إنّ نظرية خلق القرآن التي يدعو أركون إلى إحيائها من أجل التشكيك في مصدرية القرآن الكريم؛ فَقَدْ كانت ردًّا على النصارى الذين أرادوا أن يشككوا المسلمين في عقيدتهم؛ حيث كانوا يقولون بأنّ عيسى -عليه السلام- قديم لأنّه (كلمة الله) مثله مثل القرآن[49].

والمعتزلة كي يخرجوا من هذا المأزق قالوا بأنّ القرآن مخلوق، بدَلَ أنْ يُبيِّنوا أن (كلمة الله) تعني أن الله تعالى خَلَقَ عيسى بمجرد كلمة «كُنْ؛ فكان»[50].

ثانيًا: نقد التفكيكية:

قامت التفكيكية على نَقْض «مقولة المرجعية النهائية والحقيقة المطلقة، في حين أنّ التفكيكيِّين يلقون مقولاتهم (...) على أنّها مقولات لا تُناقش»[51].

كما أنّ التفكيكية تدّعي أنّ «حضور المعنى غير قابل للتحقق»[52]؛ عكس نظرية ابن جنيّ التي ترى مناسبة الألفاظ للمعاني، وتظهر «المناسبة واضحة فيما دلّ على الحدث من الألفاظ فلكلّ حدث لفظ يناسبه من ناحية القوة أو الضعف»[53]؛ فمثلًا: حرف القاف أكثر قوة من الخاء؛ ولذلك استعملوا (الخَضْم) لأكل الرطب، و(القَضْم) للصلب اليابس.

ثم إنّ الجابري استعمل لغة التفكيك لإعطاء المحكم والمتشابه تعاريف جديدة؛ حيث يرى أنّ المحكم هو الظواهر الكونية الثابتة، والمتشابه هو كل شيء خارق للعادة. ولقد خالف الجابري هنا القاعدة المتفق عليها (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)[54]؛ حيث خصّص لفظ (الآية) بــ(العلامة) اعتمادًا على حديث ابن إسحاق المشكوك في صحته والوارد في سبب نزول الآيات الأولى من سورة آل عمران[55]، حيث يقول الجابري: «ما يهمنا هنا هو أنّ الآيات/السياق تشير بوضوح إلى أنّ الآيات المتشابهات هي كالتي احتج بها وفد نجران حين خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته»[56]. ويبدو أنّ هدفه من ذلك هو التشكيك في آيات القرآن الكريم؛ حيث لا شيء ثابت عنده إلّا الظواهر الكونية.

ثالثًا: نقد التأويلية:

يرى الشاطبي أنّ قضية الظاهر والباطن في القرآن من الأصول التفسيرية التي لا يسلم بها إلّا حين تُؤسَّس على المستند القطعي، ثمّ خلص إلى أنّ السبيل لاقتناص القطع في هذه القضية هو ربط الظاهر بالمفهوم العربي والباطن بالمقصود الشرعي[57].

وأنّ علاقة الظاهر بالباطن هي علاقة تكامل وتوافق، وليست علاقة تعارض وتخالف كما يذهب إلى ذلك الباطنية؛ لأنّ علاقة المخالفة تؤول حتمًا إلى «تصيير ألفاظ القرآن رموزًا مفصولة عن معانيها المقصودة، وهذا مخالف للقصد الإفهامي من إنزال القرآن باللسان العربي»[58].

غير أنّ التأويلية تُنكِر الظاهر أصلًا، وتقترح البحث عن المعاني وراء الألفاظ على غرار الباطنية.

فمثلًا: يُشكِّك الشرفي في المعاني الحرفية للقرآن الكريم، وذلك ليفتح المجال أمام التأويل الذي يُخرج النصّ القرآني عن ظاهره دون احترام أدنى شروط وضوابط الاجتهاد المقاصدي، ومنها: عدم معارضته للنصّ القطعي الذي ثَبتَ يقينًا في «منظور الشرع إمّا بالتّنصيص عليه، أو الإجماع عليه، أو ما عُلِم من الدِّين بالضرورة»[59]، ومن هذه القطعيات: العقائد على نحو أركان الإيمان الستة، والعبادات على نحو أركان الإسلام الخمسة.

فمثلًا: لا يجوز تعطيل صوم رمضان بدعوى عدم مناسبته لجميع الأمكنة والأزمنة؛ وذلك لورود نصّ قطعي في وجوبه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185].

الخاتمة:

يتبيّن ممّا سبق أنّ الحداثيين يُوظِّفون المناهج الغربية في التعامل مع قضايا التراث التي يدرسونها، وأن استعمالهم لهذه المناهج آل بهم للتشكيك في الأصول والقطعيات الإسلامية، وفي مبادئ وقواعد اللغة العربية؛ حيث شكَّكَ أركون في إلهية النصّ القرآني ومعانيه، وشكّك الجابري في آيات القرآن الكريم في مقابل الآيات الكونية الثابتة، وشكّك الشرفي في المعاني الحرفية للقرآن الكريم وفي أحكامه في مقابل المقاصد الإلهية الشاملة وراء الألفاظ.

ولذا فإن القراءات الحداثية بهذه الصورة ستكون بمثابة هدم أركان الإيمان والإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم بدعوى التجديد في المناهج لمسايرة العصر.

وفي ضوء ذلك علينا إذن اعتماد المناهج الإسلامية الأصيلة وتطويرها عوضًا عن المناهج الغربية لسببين:

أوّلًا: لأن المناهج الغربية ظهرت نتيجة التمرُّد على الكنيسة بالاستعانة بعلوم المسلمين في الأندلس بعد أن فصلوها عن أصولها.

ثانيًا: لأن هذه المناهج تُفرِغ النصوص بشكل عامّ من معانيها ومقاصدها التي كُتبت من أجلها.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، مادة (ن.هـ.ج)، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، (5/ 361).

[2] (المنهج القرآني في بناء العقيدة)، قاسمي السعيد، تحت إشراف: سعيد فكرة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية- الجزائر، 1434- 1435هـ، ص9- 13.

[3] (معجم مقاييس اللغة)، مادة (ح.د.ث)، مرجع سابق، (2/ 36).

[4] (الحداثة في العالم العربي؛ دراسة عقدية)، محمد العلي، تحت إشراف: ناصر العقل، كلية أصول الدين بالرياض، 1414هـ، (1/ 35).

[5] (البنيوية؛ النشأة والمفهوم)، محمد بلعفير، مجلة الأندلس للعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد 15، المجلد 16، 2017م، ص242.

[6] نفسه، ص249.

[7] نفسه، ص250.

[8] نفسه، ص250.

[9] (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك)، عليّ حرب، المؤسسة العربية- بيروت، ط1، 2005م، ص26- 27.

[10] (تلقي التفكيكية في النقد العربي الحداثي)، أحمد العزري، تحت إشراف: مصطفى درواش، جامعة مولود معمري- الجزائر، 2012م، ص48.

[11] المرجع السابق، ص100.

[12] نفسه، ص100.

[13] نفسه، ص100.

[14] نفسه، ص52.

[15] نفسه، ص53.

[16] (نقد النصّ)، عليّ حرب، المركز الثقافي العربي- بيروت، ط4، 2005م، ص8.

[17] (تلقي التفكيكية)، مرجع سابق، ص56.

[18] نفسه، ص55.

[19] (دليل الناقد الأدبي)، مرجع سابق، ص88.

[20] نفسه، ص88.

[21] (علوم القرآن في المنظور الحداثي)، أحمد بوعود، دار الكلمة- القاهرة، ط1، 1436هـ- 2015م، ص111.

[22] يُنظر: المرجع نفسه، ص111- 112.

[23] (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني)، محمد أركون، دار الطليعة- بيروت، ط2، 2005م، ص62.

[24] نفسه، ص62 (الهامش).

[25] المرجع السابق، ص22.

[26] يُنظر: (القراءة المعاصرة للنصّ لسورة الفاتحة عند محمد أركون)، محمود عليّ، مجلة القلم، العدد 4، 2015م، ص48- 49.

[27] (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني)، مرجع سابق، ص134.

[28] (فهم القرآن الحكيم)، محمد عابد الجابري، دار النشر المغربية- الدار البيضاء، ط1، 2009، (3/ 168).

[29] (علوم القرآن في المنظور الحداثي)، مرجع سابق، (3/ 173).

[30] نفسه، (3/ 173- 174).

[31] (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني)، مرجع سابق، ص22.

[32] نفسه، ص48.

[33] نفسه، ص22.

[34] (الإسلام بين الرسالة والتاريخ)، عبد المجيد الشرفي، دار الطليعة- بيروت، ط2، 2008م، ص50.

[35] يُنظر: (علوم القرآن في المنظور الحداثي)، مرجع سابق، ص156- 157.

[36] يُنظر: المرجع نفسه، ص176.

[37] نفسه، ص111.

[38] المرجع السابق، ص111.

[39] (الإسلام بين الرسالة والتاريخ)، مرجع سابق، ص80.

[40] نفسه، ص61- 65.

[41] (علوم القرآن في المنظور الحداثي)، مرجع سابق، ص111.

[42] نفسه، ص111.

[43] (الإسلام بين الرسالة والتاريخ)، مرجع سابق، ص64.

[44] يُنظر: (صحيح البخاري)، دار ابن كثير- دمشق- بيروت، ط1، 1423هـ- 2002م، ص1103.

[45] (البنيوية؛ النشأة والمفهوم)، مرجع سابق، ص245.

[46] نفسه، ص259.

[47] (القراءة المعاصرة للنص لسورة الفاتحة عند محمد أركون)، مرجع سابق، ص49.

[48] نفسه، ص50.

[49] يُنظر: (تاريخ المذاهب الإسلامية)، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي- القاهرة، ط1، ص148.

[50] (تفسير القرآن العظيم)، ابن كثير، تحقيق: سامي السّلامة، دار طيبة، ط2، 1420هـ- 1999م، (2/ 477).

[51] (تلقي التفكيكية في النقد العربي الحداثي)، مرجع سابق، ص86.

[52] المرجع السابق، ص48.

[53] (نظريات ابن جني في دلالة الألفاظ وموقف المحدَثين)، أمين محمد فاخر، حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية- جامعة قطر، العدد 1، 1399هـ- 1979م، ص198- 199.

[54] يُنظر: (هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟)، سالم بن محمد، تحت إشراف: عثمان بن محمد، جامعة المعرفة العالمية- السعودية، 1436هـ، ص57.

[55] يُنظر: (لباب النقول في أسباب النزول)، جلال الدين السيوطي، مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت، ط1، 1422هـ- 2002م، ص53.

[56] (فهم القرآن الحكيم) للجابري، مرجع سابق، (3/ 172).

[57] يُنظر: (حدود التأويل في القول بثنائية الظاهر والباطن في القرآن عند الشاطبي)، محماد رفيع، مجلة منار الهدى، العدد 14، 2009م، ص39- 55.

[58] نفسه، ص39- 55.

[59] يُنظر: (الاجتهاد المقاصدي)، د. نور الدين الخادمي، دار ابن حزم، ط1، 1431هـ- 2010م، ص209.

الكاتب

إبراهيم بنيحيى

حاصل على شهادة الإجازة تخصص العقيدة والفكر، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))