استشعار عظمة الله
أهميته، وسائله، ثمراته

الكاتب : محمد الخولي
أكَّد القرآنُ على عظمةِ الله -سبحانه وتعالى- وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على تذكير أصحابه بهذا المعنى، وهذه المقالة تبيّن أهمية استشعار هذه العظمة في القلوب، والوسائل المؤدية لذلك، وأهم الثمرات؛ في ضوء القرآن الكريم.

تمهيد:

  يجتاح العالم منذ فترة فيروس كورونا، الأمر الذي نجم عنه حالة من الهلع والشعور بالخوف والانهزام في مختلف دول العالم كما هو معلوم ومشاهد، ولا شك أن فيما يشهده العالم من هذه النازلة لَأعظم الآيات الدالّة على قدرة الله سبحانه وعظمته؛ فمثل هذه النازلة وغيرها كثير مما يكشف لنا مدى ضَعْفِ الإنسان أمام قدرة الله سبحانه، وفي هذه المقالة سنحاول بيان كيفيات تعظيم الله تعالى وأهم الثمرات لهذا التعظيم.

عتاب القرآن لمن غفل عن تعظيم الله سبحانه:

لقد توجّه القرآن الكريم بالعتاب واللوم لمن غفل عن تعظيم الله سبحانه، فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، وقد تكرّر ذكر هذه الآية في ثلاثة مواضع من القرآن، وهذا التكرار يدلّ -بلا شك- على عِظَمِ معنى هذه الآية وأهميتها:

فالموضع الأول: ورد في سورة الأنعام عند الردّ على مَن أنكر نزول الوحي والنبوّة، حيث قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: 91]؛ لأنهم لو علموا قدر الله وعظمته لعلموا أنّ إنزال الوحي وإرسال الرسل هو مقتضى حكمته، وأنه لا يمكن أن يترك خلقه هملًا بلا منهاج ضابط.

والموضع الثاني: في سورة الحج في سياق الحديث عن ضعفِ الأصنام والمعبودات التي عُبدت من دون الله وعجزها عن خَلْق ذبابة ولو اجتمعت لذلك، وكذا عجزها عن مقاومة الذباب والانتصار منه إذا سلبها شيئًا من الطيب أو الطعام، حيث قال الله تعالى معقبًا على هذه الأوصاف للمعبودات الكاذبة: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: 74]، ليثبت لنفسه القوةَ والعزّةَ والغلَبة -سبحانه وتعالى-.

وأمّا الموضع الثالث: في سورة الزمر في سياق حديث القرآن عن توحيد الله ونبذ الشرك، فجاءت هذه الآية كدليل على قدرة الله وعظمته في تملُّك مقاليد السماوات والأرض ووقوعهما في قبضته وتحت سلطانه، حيث قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر: 67].

النبيّ يذكِّر أصحابه بعظمة الله سبحانه:

ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يذكِّر أصحابه بعظمة الله وقدرته كلّما مرّ بمظهر من مظاهر عظمته سبحانه؛ وذلك لتربية قلوبهم على تعظيم الله سبحانه وتوقيره، فقد رُوي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: «أنّ رسول الله قرأ هذه الآيةَ ذاتَ يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر: 67]، ورسول الله يقول هكذا بيده، ويحركها، يُقْبِل بها ويُدْبِر، (يمجِّد الربُّ نفسَه: أنا الجبار، أنا المتكبّر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم)، فرجَف برسول الله المنبر حتى قلنا: ليخِرّنّ به»[1].

ورُوي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، إنَّا نجد أنَّ الله يجعل السماوات على إصبع، والأرَضِين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك؛ فضحِك النبيُّ حتى بدَت نواجذه تصديقًا لقولِ الحبر، ثم قرأ رسول الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر: 67]»[2].

ولمّا قال أعرابيٌّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ويحَك! أتدري ما تقول؟!)، وسبَّحَ رسول الله، فما زال يسبّح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابِه، ثمّ قال: (ويحَك! إنّه لا يُستشفَع بالله على أحدٍ مِن خلقِه، شأنُ الله أعظمُ من ذلك)[3].

كيف نتعرّف على عظمة الله سبحانه وكيف نقدره حقّ قدره؟

إنّ العبد إذا أراد أن يتعرّف على عظمة الله سبحانه وقدرته؛ فعليه أن يسلك مسلك القرآن في ذلك، فالقرآن الكريم سلك في الحديث عن عظمة الله سبحانه ثلاث طرائق:

الطريقة الأولى: التعريف بأسمائه سبحانه وصفاته:

فالناظر في كتاب الله تعالى يجد أن الله سبحانه وتعالى عرّفنا بنفسه عن طريق أسمائه وصفاته التي لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات القرآن، حتى عدَّ العلماءُ الأسماءَ والصفات أحد أركان باب التوحيد، ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر: 22-24].

ويقول الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}: «هذا بيانٌ لعظيم جلاله وسَعة أوصافه، بأن له الأسماء الحسنى، أي: له كلّ اسمٍ حسنٍ، وضابطه: أنه كلّ اسم دالّ على صفة كمال عظيمة؛ وبذلك كانت حسنى، فإنها لو دلّت على غير صفة، بل كانت عَلَمًا محضًا لم تكن حسنى، وكذلك لو دلّت على صفة ليست بصفة كمال، بل إمّا صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح، لم تكن حسنى، فكلّ اسم من أسمائه دالّ على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها. وذلك نحو العليم الدالّ على أن له علمًا محيطًا عامًّا لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكالرحيم الدالّ على أن له رحمة عظيمة، واسعة لكلّ شيء. وكالقدير الدالّ على أن له قدرة عامة لا يعجزها شيء، ونحو ذلك»[4].

الطريقة الثانية: الحثّ على التفكّر في مخلوقاته سبحانه:

فالتفكّر من أشرف العبادات، ومن أَجَلِّ الأعمال القلبية التي تُعِين على تزكية النفوس وزيادة وترسيخ الإيمان، فإنّ هذا الكون بما فيه من الآيات المنظورة لَخير شاهدٍ على قدرته وعظمته سبحانه، واتصافه بصفات الجلال والكمال؛ لذلك أمَرَنا -عزّ وجل- في غير آية من كتابه العزيز بالنظر في الكون والنَّفْس والتدبُّر في آياته المنظورة، كما أمرَنا بالتدبّر في آياته المسطورة، بل وامتدح اللهُ أهلَ التفكُّر ووَصَفهم بأنهم «أُولو الألباب»، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 190-191].

يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «في ضمنِ ذلك حثُّ العباد على التفكّر في السماوات والأرض، والتبصُّر بآياتها، وتدبُّر خلقها، وأبْهَم قوله: {آيات} إشارة لكثرتها وعمومها؛ وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ما يُبْهِر الناظرين، ويُقْنِع المتفكّرين، ويجذب أفئدة الصادقين، وينبّه العقول النيّرَة على جميع المطالب الإلهية، فأمّا تفصيل ما اشتملت عليه، فلا يمكن لمخلوق أن يحصره، ويحيط ببعضه، وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة، وانتظام السير والحركة، يدلّ على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه وشمول قدرته»[5].

الطريقة الثالثة: الاعتبار بأخبار السابقين وما فعل الله بهم:

فلقد سطّر القرآنُ عددًا من القصص والأخبار التي تصوّر لنا عظمة الله سبحانه وقدرته، وكيف أنه سبحانه قهر الظالمين وأهلك المتكبرين، وذلك للاعتبار بهذه القصص ومعرفة عِظَم الله سبحانه وجليل قدره، فقد أهلك سبحانه أقوامًا بالريح، وأقوامًا بالصيحة، وأقوامًا بالمطر، وأقوامًا بالغرق، وأقوامًا بالأمراض والأوبئة، فهو سبحانه لا يُعجِزه شيء وهو على كلّ شيء قدير، وما خبرُ قوم عاد وثمود وفرعون وهامان وقارون وقوم نوح وقوم لوط وغيرهم من الأمم عنّا ببعيد، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم: 50-55].

وقال تعالى في إنذاره للكفار: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[فصلت: 13-18].

ثمرات التفكّر في قدرة الله وعظمته:

وبعدُ أيها القارئ الكريم بعد ما عرَضْنا لبعض الأسباب المُعِينة على تعظيم الله سبحانه نختم حديثنا بالكلام عن ثمرات التفكّر في عظمة الله سبحانه وقدرته:

الثمرة الأولى: أن يوحِّد العبدُ ربَّه سبحانه، ولا يخاف إلّا منه ولا يرجو سواه، ولا يتحاكم إلّا له، ولا يَذِلّ ولا يخضع إلّا لعظمته -جلّ وعلا-؛ فإبراهيم -عليه السلام- حينما ناظر قومه وأثبت لهم عدم أهلية معبوداتهم للعبادة، وجّههم لعبادة الإله الحقّ العظيم الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما، فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام: 78، 79]، وهذا ما ينبغي أن يترسّخ في قلب المؤمن بعد مشاهدة عظمة الله سبحانه وقدرته.

الثمرة الثانية: شعور العبد بالاطمئنان والعزّة والرفعة، وعدم الشعور بالخوف أو الذلّ أو الهُون حتى في أصعب الظروف وفي أشدّ الأحوال؛ لأنه يأوي إلى ركن شديد، ولقد جسّد لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشعور في أصعب المواقف التي مرّ بها عند الهجرة، حينما وقف الكفار أمام الغار فخاف أبو بكر عليه، فقال له: «لا تخف إن الله معنا»، فقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 40]، وكذلك عندما تيقّن بنو إسرائيل من الهلاك على يد فرعون قال لهم موسى -عليه السلام-: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، فقد قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء: 61، 62].

الثمرة الثالثة: أنْ نخشاه سبحانه ونعظِّمه، فلو علمَ العبدُ ما لله من عظمةٍ ما عصاه، ولو علم أسماءَه وصفاته وكماله وجلاله ما أحبّ غيره، ولو علم فضله وكرمه ما رجا سواه، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28]، يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «إنما يخشاه حقّ خشيته العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلّما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى -كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر»[6].

الثمرة الرابعة: أن يعرف العبد قدره، وأن لا يغترّ بقدرته، ويعلم أنه مهما بلغ من القوة والعلم فإنه في قبضة الله وتحت قهره سبحانه، فقد قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 18]، يقول ابن كثير -رحمه الله-: «أي: هو الذي خضعت له الرقاب، وذلّت له الجبابرة، وعَنَت له الوجوه، وقهر كلّ شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوّه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره»[7].

الثمرة الخامسة: الاجتهاد في طاعة الله والعمل على مرضاته، فمَن عرف عظمة الله سبحانه احتقر أعماله وشعر بالتقصير في جنابه، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم الليل حتى تتفطر قدماه لتأدية حقّ شكر الله؛ لأنه أعرف الناس بالله سبحانه، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «كلما شَهِدْتَ حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرَفْتَ الله، وعرفت النفس، وتبيّن لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للمَلِك الحقّ ولو جئتَ بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته. وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضُّله، ويثيبك عليه أيضًا بكرمه وجوده وتفضله»[8].

الثمرة السادسة: اللجوء إليه سبحانه في الشدائد، والتضرع إليه سبحانه عند نزول المصائب، فقد قال -عز وجل-: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يونس: 107]؛ لذلك وجَب علينا هذه الأيام أن نلجأ إلى الله سبحانه بالدعاء والرجاء والتضرّع أن يرفع عنا هذا البلاء، فلا كاشف له إلّا هو سبحانه برحمته وفضله -عز وجل-.

وختامًا: هكذا تعرّفنا أيها القارئ الكريم على بعض السُّبل التي تُعِين على تعظيم الله سبحانه وتعرفنا على بعض الثمرات التي تترتب على التفكّر في عظمته وقدرته، ونسألُ اللهَ سبحانه أن يرزقنا العلم به، وأن يملأ قلوبنا بخشيته وتعظيمه، وأن يجعلنا نخشاه كأننا نراه، وصلِّ اللهم وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

[1] رواه أحمد (5414)، والنسائي في الكبرى (7648).

[2] رواه البخاري (4811)، ومسلم (2786).

[3] رواه أبو داود (4726).

[4] تيسير الكريم الرحمن، ص309.

[5] تيسير الكريم الرحمن، ص161.

[6] تفسير ابن كثير: (6/ 544).

[7] تفسير ابن كثير: (3/ 244).

[8] مدارج السالكين: (1/ 194).

الكاتب

محمد الخولي

باحث دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وكاتب ومحرر محتوى في عدد من المواقع الإسلامية والدعوية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))