فوائد من تعليق القرآن على غزوة حمراء الأسد

تعرّضت آيات القرآن الكريم لأحداث غزوة حمراء الأسد، وهذه المقالة تتناول حديث القرآن عن هذه الغزوة العظيمة، مع الكشف عن أهم الفوائد والدروس المستفادة منها.

  تحفل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثير من المواقف الرائعة المشبَّعَة بالدروس والفوائد والعِبر والجديرة بالدراسة والحَرِيّة بالتأمل، ومن أعظم هذه المواقف ما فعله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يوم حمراء الأسد حينما خرجوا إلى الغزو في اليوم التالي لغزوة أُحُد، رغم ما حصل لإخوانهم من قتلٍ وتمثيلٍ وما حلّ بهم من مصائب مادّيةٍ كالجراح والتعب، وأخرى نفسيةٍ كشماتة المشركين واليهود بهم جرّاء الهزيمة في هذه المعركة.

وفي هذه المقالة سأحاول التعرض لذلك الموقف المهمّ في السيرة النبوية والذي استدعى نزول القرآن العظيم للتعليق عليه والثناء على الصحابة -رضى الله عنهم- وما فعلوه فيه من التمسك بطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتجلُّد لعدوّهم، وعدم خشيتهم إلّا من الله، وشدّة ذِكرهم له تعالى، وذلك رغم ما هم فيه من نَصَبٍ وما حلّ بهم من تعبٍ. وبكل تأكيد ما نزل القرآن للتعليق على حمراء الأسد إلّا لِما فيها من فوائد جمّة ودروس كثيرة خالدة بخلود القرآن وباقية ببقاء قُـرّائه ومفيدة للناس، الذين تتشابه كثيرًا أنماط تفكيرهم وتصرفهم، بقدر استفادتهم منها.

لذلك ما أحوجنا كمسلمين أن نتأمل تعليق القرآن على ما فعله الصحابة -رضى الله عنهم- في هذه الغزوة لا سيّما وأننا في زمان قد كثرت فيه الجراح وتعددت فيه الهزائم، وهو الأمر الذي يجعلنا في حاجة ملحّة إلى استدعاء أنموذج عظيم وقدوة مثالية يساعدنا الاقتداء بها والسير على خطاها في النهوض من جديد، كما يتطلع رجالنا ونساؤنا إلى محاكاتها والاسترشاد بها للتخلص من مآسينا النفسية والمجتمعية على حدٍّ سواء. فلننظر إذن كيف كان التناول القرآني لغزوة حمراء الأسد ولنبين ما فيه من دروس وفوائد، وذلك بعد أن نقدّم تذكيرًا مختصرًا بما حدث في هذه الغزوة.

غزوة حمراء الأسد:

• كان خلاصة أحداثها كما رواه أهلُ السِّيَر والتاريخ أنه لمّا انتهت غزوة أُحُدٍ يوم السبت، للنصف من شوال، رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فلمّا كان الغد من يوم أُحُدٍ -وذلك يوم الأحد لِسِتَّ عشرةَ ليلةً خلَت من شوال- أذَّنَ مؤذِّنُه -صلى الله عليه وسلم- في الناس بطلب العدوّ (المشركين الذين حاربوا في غزوة أُحُد).

• وقد أذَّن مؤذِّنُه ألّا يَخرجَنَّ معنا أَحَدٌ إلا مَن حضر يومَنا بالأمس، فلم يخرج معه أَحَدٌ لم يشهد أُحُدًا إلّا جابرَ بنَ عبد الله -رضي الله عنه-، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ليبلغ عدوّهم أنه خرج في طلبهم فيُرهبَهم ويظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم في غزوة أحُد لم يوهنْهم عن عدوّهم، حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.

• وفي إقامته هناك مرّ به معبد الخزاعي وهو يومئذ مشرك، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عَيْبَةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتِهامة، صفقتهم معه، لا يُخفون عليه شيئًا كان بها، فقال: يا محمد، أمَا والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم!

• ثم خرج معبد الخزاعي من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحمراء الأسد، حتى لَقِيَ أبا سفيان بن حرب ومَن معه بالرَّوحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله وأصحابه، وقالوا لأنفسهم: أصَبْنا حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، لنَكُرَّنّ على بقيّتهم فلنفرُغنَّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدًا، قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمدٌ قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقًا، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنقِ عليكم شيء لم أر مثله قط، فقال أبو سفيان: ويلك ما تقول! قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمَعْنا الكَـرّة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فثنى ذلك أبا سفيان ومَن معه.

• ثم مرّ بأبي سفيان ركبٌ من عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولِم؟ قالوا: نريد المِيرَة، قال: فهل أنتم مبلِّغون عنّي محمدًا رسالةً أُرسلكم بها إليه وأحمِّل لكم إبِلَكم هذه غدًا زَبيبًا بعُكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنّا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه؛ لنستأصل بقيّتهم، فمرّ الرّكْبُ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله وأصحابه: «حسبنا الله ونعم الوكيل».

• ثم انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وأنزل الله تعالى في حمراء الأسد: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 172]... الآيات[1].

القرآن وغزوة حمراء الأسد:

علّق القرآن على غزوة حمراء الأسد في أعقاب تناوُله لغزوة أُحُد، وبذلك يظهر جليًّا ما بين الغزوتين من ارتباط وثيق، سواء على صعيد الوقائع على الأرض أو على صعيد التناول القرآني لأحداثهما. وقد وقفنا في مقالٍ سابقٍ مع غزوة أحُد وتناوُل القرآن لها[2]، والذي كان مطوّلًا جدًّا على عكس ما فعله مع غزوة حمراء الأسد، حيث كان تعليقه عليها مختصرًا في بضع آيات فقط، ورغم ذلك فإننا نجد في هذا التعليق القرآني القصير جملة من الدروس والفوائد المرتبطة بعدة نقاط مهمة، ومنها:

جزاء الإحسان إحسان:

بدأت الآيات التي تناولت غزوة حمراء الأسد بمدح المؤمنين الذين استجابوا لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، عندما دعاهم إلى الخروج إلى تلك الغزوة رغم ما هم فيه من القرح والكلوم من جرّاء ما أصابهم في يوم أحُد، والذي لم يكد يمرّ عليه سوى يوم واحد، مما تنوء عن حمله الجبال، فقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 172]. وكان -صلى الله عليه وسلم- يتَغيّا بخروجه ذاك أن يطارد المشركين فيُشعرهم بجَلَدِه وقوّته، وكان القرح الذي أصاب الصحابة يوم أحُدٍ شديدًا إلى حدِّ أنْ رُوي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان كل ذلك لإثخان الجراحات فيهم، وكان فيهم من يتوكّأ على صاحبه ساعة، ويتوكّأ عليه صاحبه ساعة[3]. وقد بيّن القرآن أن هذه الاستجابة السريعة من الصحابة -رضي الله عنهم- للنبي -صلى الله عليه وسلم- رغم ما هم فيه من قرح عظيم تدلُّ على إحسانهم الذي دفعهم إلى طاعة النبي وعلى تقواهم التي منعتهم من معصيته، الأمر الذي جعلهم مستحقّين للأجر العظيم والثواب الجزيل، فإن الربّ تعالى كريم ولا يضيع أجر مَن أحسن عملًا، وقد أحسنوا -رضي الله عنهم-.ومعنى القرح: القتل والجراح[4].

ويظهر هنا بجلاء أن الله -عز وجل- لكرمه وفضله يقابل الإحسان بالإحسان، ويكافئ التقوى بأجرٍ عظيم وإفضالٍ كبير، كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن: 60]. وإن كان مقابلة الإحسان بالإحسان وشكر العمل الصالح من جميل فعل الربّ تعالى، فإنّ مِن أجملِ ما يتصف به المؤمن كذلك أن يكون شاكرًا لنعم الناس وأفضالهم عليه وإن قلّت، وهذا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لم ينسَ للمطعِم بن عَدِيّ يومًا أنه أدخله مكة في جواره عندما رجع مكسور القلب من الطائف فلمّا كلّمه جبير بن المطعم -بعد سنين- في أُسارى بدر قال له: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلّمني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتهم له». وما ذلك إلا ليردّ له جميله ويشكر له صنيعه[5].

 فما أحوجنا إلى أن تشيع صفة الإحسان بيننا كمسلمين من ناحية، وبيننا وبين المخالفين من ناحية أخرى؛ فهي من جميل الأخلاق التي يجب أن نتخلق بها، وفى الحديث: «إنّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء»[6].

التّجَلُّد للعدوّ من صفات الرجال:

بعدما أثنى القرآن على مَن خرج إلى حمراء الأسد من الصحابة -رضي الله عنهم- وبيّن إحسانهم وتقواهم وجميل ما فعلوه وعظيم ما حصلوه من أجر بسبب ذلك، أخذ في الإشارة الضِّمنية إلى أعظم ما حصل منهم في تلك الغزوة، وهو تجلُّدهم في مصابرة عدوّهم، وعدم خوفهم إلّا من الله تعالى رغم شدة الكرب وعِظَم الخطب، فقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 173]. وإنما كان ما فعله النبي وأصحابه يوم حمراء الأسد من أفعال الكبار وصنائع الرجال؛ لأن التجلُّد للعدوّ هنا كان مسألة حياة أو موت بالنسبة للمسلمين، فهو إمّا نهوضٌ من جديد بالإسلام كدينٍ ودولة، وإمّا انتكاسةٌ لدعوته وتقهقرٌ لدولته التي ما زالت في طور النشوء، إمّا استمرارٌ لحالة الإنكسار التي لحقَت نفوسهم وأجسادهم، وإمّا انجبارٌ لخواطرهم وتطييبٌ لقلوبهم، إمّا تركُ المشركين يفرحون بنصرهم، وإمّا إفسادُ لذَّةِ النصر عليهم.

وقد اتفقت العقول الصحيحة على أن النائبات تُظهِر معادن الناس وتميز خبيثهم من طيّبهم وعظيمهم من وضيعهم وكبيرهم من صغيرهم، وكم مِن امرئٍ كان يُعتقَد أنه شجاع فلما وقعت الضائقة ظهر ضعفه وبَانَ جُبنه، وكم من رجالٍ كانت لهم مهابة فلما جاءت المحنة انكشف أمرهم وتجلى حمقهم وطيشهم. وقد قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الغلام: «يا غُلام، إنّي أعلِّمُك كلماتٍ»[7] بعضًا من القواعد الكلية التي لمّا جرّبها الناس كانت لهم في غاية النفع وقمّة الغناء، ومن أعظمها أنّ التصبُّرَ للعدوّوالتجلُّد له مجلبةٌ للنصر، وذلك حينما قال: «واعلَمْ أنّ النصر مع الصبر». ويُروى عن العرب في هذا المعنى قولهم: (إنما النصر صبر ساعة)، كما يُروى أنه لمّا سُئل فارسها عنترة بن شدّاد يومًا عن مهابة الفرسان له أَخبَر أن سبب ذلك تصبُّره على المكاره أكثر منهم.

والمتتبع لسِيَر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد التجلُّد وإظهار القوة أمام العدوّ من صفاتهم الرائعات التي خلّفت وراءها آثارًا باقيات، من ذلك ما فعلوه يوم عُمرة القضيّة لمّا أمَرهم رسول الله بإظهار التجلُّد أمام أهل مكة فاضطبعوا وأرملوا وهم يطوفون حول الكعبة؛ ليظهروا قوتهم وعدم وهنهم وضعفهم بسبب حمّى يثرب كما كان المشركون يزعمون. وأعظم من هذا بكثير ما فعلوه يوم حمراء الأسد والذي نتناوله في هذه المقالة.

يبدو إذن واضحًا أن من أهم صفات الرجال المستحقة لثناء الله تعالى ومدحه أنهم يظهرون القوة والجَلَد أمام أعدائهم حتى في وقت الضعف والشدة؛ يتغيون بذلك عزة الإسلام ورفعة أهله، وما من شكٍّ أنّ ذلك من مراد الإسلام الذي يرى -كما يرى غيره- أنّ القويّ مرهوب الجانب غير مهضوم الحق؛ ولذا دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التقوِّي، ومَدَحَ الرجل القويّ فقال: «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف»[8].

كما يظهر جليًّا أنّ التجلُّد أمام كل مصيبة -أيًّا كان نوعها- هو أهمّ وسائل تجاوزها، وله آثار نفسية كبيرة ومباشرة، فحريّ بنا أن نتخلق به وأن نربي أنفسَنا وأبناءَنا عليه؛ لنستطيع من خلاله التغلُّب على مشاكلنا الحياتية والدينية، وما أكثرها!

وقد قيل:

اصبِر لكلِّ مصيبةٍ وتَجلَّدِ .. واعلَمْ بأنّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ

 من فوائد التجلُّد:

أشار القرآن في تعليقه على فعل الصحابة -رضى الله عنهم- وتجلُّدهم لعدوهم يوم حمراء الأسد بعد يوم واحد من الهزيمة الثقيلة في غزوة أحد إلى بعضِ ثمار هذا التجلُّد للعدوّ وإظهار القوة له، حيث بيّن أن تجلّدهم -رضي الله عنهم- أدَّى إلى زيادة إيمانهم بالله تعالى وشدة خشيتهم له وكثرة ذِكرهم إيّاه وحسن ثقتهم فيه وتعاظم طاعتهم لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. وكأنّ الآية تقول: (الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فلم يخشوا إلّا الله فزادهم ذلك إيمانًا وذكروا الله كثيرًا بجميل الذكر، وهو «حسبنا الله ونعم الوكيل»، وعادوا منتصرين...).

وقد نتج عن تجلُّدهم -رضي الله عنهم- وحسن مصابرتهم لعدوّهم كذلك أنْ قوَّى الله قلوبهم ووضع في قلوب عدوّهم المهابة منهم فخافوهم ورحلوا عنهم إلى مكة، فعاد المسلمون إلى المدينة قريرة عيونهم مطمئنة قلوبهم: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}[آل عمران: 174]. وقد قيل في قوله: {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} أي: فرجعوا سالمين مما خُوِّفوا به، وهرب منهم عدوّهم، وأمِنُوا. وقيل: إنهم اشتروا أدَمًا وزَبيبًا، فربحوا فيه[9].

وبهذا يستبين أن من أعظم ثمار التجلّد أنْ يرهب الأعداءُ ويخنس المتربصون، وقد قيل:

عليكَ بإظهارِ التجلُّدِ للعِدَا .. ولا تظهرن منكَ الذّبول فتُحقرا

كما يتجلى أن التجلد واستحضار عظمة الله تعالى وقوّته في قلب المؤمن -لا سيما في وقت الشدة- هو سبب رئيس في ثباته أمام الصعاب، وزيادة إيمانه وتعلُّقه بالله تعالى، وذلك على عكس الخور الذي قد يضعضع الإيمان أو يشوش عليه أو يكون مدخلًا للوساوس والشك والوقوع في براثن الشيطان.

وفي قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}[آل عمران: 173]، دليل على أن الخوف من الله وحده دون غيره والمداومة على ذكره يقوِّي القلب ويزيد الإيمان، كما أنّ فيه دليلًا على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أهل السُّنة؛ لأنه -على رأي بعضهم- تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، حيث إن الله تعالى نصَّ في هذه الآية على وقوع الزيادة: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}، وعلى مذهب الذين لا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه فالزيادة إنما وقعت في مراتب الإيمان.

ثم انتقل القرآن إلى بيان أنّ التجلّد للعدوّ إنْ كان من ثماره زيادة الإيمان وضمان السلامة وخذلان الأعداء، كما حدث للصحابة -رضي الله عنهم- يوم حمراء الأسد، فإنّ من آثاره عدم خوف أصحابه من الكافرين أبدًا؛ لأن الخوف إنما يكون من الله تعالى وحده: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 175]؛ ذلك لأن الشيطان لا يكفُّ أبدًا عن تخويف أولياء الله بتكثير المشركين في أعينهم وإظهارهم أقوى مما هم عليه، فلا ينبغي لهم أن يخافوا منهم أبدًا. وقيل: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} يعني: أولياءه الشياطين، ولا يخاف الشيطانَ إلّا وليُّ الشيطان[10]. وهذه الآية تدل على أن من علامات الإيمان ألّا يخاف المرء إلّا من الله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ}، وهي كقوله: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[الأحزاب: 39]، وأنه إن كان الشيطان هو مَن يخوِّف أولياءه من الكفار، ولا أضعف من كيد الشيطان؛ فلا ينبغي الخوف منه ولا من أوليائه.

 وإذا تقرر أن كل شيء مقدور وأن الله تعالى وحده هو من ينفع ويضر، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يخاف إلّا من ربه تعالى، دون غيره من المخلوقات التي مهما عَظُمَت فلا حول لها ولا قوة على الحقيقة.

ووفق منهج القرآن، إن لم يَجُز لهم الخوف من الكافرين فإنه لا يجوز لهم أيضًا أن يحزنوا على مسارعة هؤلاء الكفار إلى الكفر بالله تعالى والمبادرة إليه بالقول والفعل؛ {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}[آل عمران: 176]. وقيل في هؤلاء الذين يسارعون في الكفر: هم المنافقون، قاله مجاهد[11]. وقيل: هم مشركو قريش؛ لأنهم كانوا أقرباءه، والناس يقولون: لو كان قوله حقًّا لاتّبعه أقرباؤه، فشقّ ذلك عليه -صلى الله عليه وسلم-[12]. ولأن هؤلاء المنافقين والمشركين يبادرون دائمًا إلى الكفر ولا يصدِّقون محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، بل يظاهرون عليه كأشد ما تكون المظاهرة، فقد بيّن الله تعالى لرسوله أنّ فعلهم الشنيع هذا لن يضر الله ولن ينقص من سلطانه وعظمته شيئًا، فهم بحقّ لا يضرون إلا أنفسهم في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا العذاب العظيم.

وما أعظم القرآن وما أجمل ما يقدمه كثيرًا من نهيٍ عامٍّ للنبي وأتباعه عن الحزن مهما صار لهم من خسارة وحدث لهم من بلاء؛ لأنه مما لا يليق برجل كبير متجلِّد وقويّ، ولأنه مما يكسر القلب ويتعب النفس ويوهن البدن ويعين العدوّ ويشمت المناوئ، وكيف يحزن المؤمنون وهم الأعلَون والله معهم وقد تكفّل بنصرهم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}[آل عمران: 139]. ومن ضروب الحزن المنهي عنه أن يحزن المؤمن على ما يقوم به المجرمون من ألوان الكفر والإفراط في ذلك؛ لأن هؤلاء لن يضروا إلا أنفسهم ولن يحيق مكرهم السيّئ إلا بهم.

وفي الآيات نهيٌ عن الحزن على كفر الكفار، وقد قال القشيري -رحمه الله-: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُفْرِطُ في الحزن على كفر قومه، فـنُهِيَ عن ذلك، كما قال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[فاطر: 8]، وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف: 6][13].

شرف «حسبنا الله ونعم الوكيل»:

كان أعظم ما ذَكَر النبيُّ وأصحابُه ربَّهم به يوم حمراء الأسد الكلمة الكبيرة التي لم يخب يومًا من قالها بصدق: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، أي: كافينا وثقتنا، و{وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، أي: الموكول إليه الأمور؛ لأنه الكفيل بعباده والقائم على أمورهم بما يصلحهم. قال الواقدي: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، أي: المانع[14]. فــ«حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» من أجَلِّ ما يقال من ذكرٍ، ولشرفها كانت هي قولة إبراهيم -عليه السلام- حين أُلقي في النار، وكانت كذلك قولة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم حمراء الأسد.

الله يمهل ولا يهمل:

ثم أتْبَعَت الآيات كلامها عن غزوة حمراء الأسد ببيان حقيقة مهمة، وهي أن إملاء الله للكافرين والاستمرار في الإنعام عليهم بكثير من النعم؛ كالمال والولد وتحقيق النصر في بعض المعارك وتأخير الانتقام منهم ليس خيرًا لهم في حقيقة الأمر بل هو شرٌّ لهم، حيث إنه ببقائهم وطول لبثهم في هذه الدنيا وبرفضهم للتوبة والرجوع إلى الله تكثُـرُ ذنوبهم وآثامهم، مما سيعرِّضهم لعذابٍ مهينٍ لا قِبَل لهم به في الآخرة.وقدقال القرطبي -رحمه الله-: الإملاء طول العمر ورغد العيش[15].

وهكذا كان حديث القرآن عن غزوة حمراء الأسد؛ أثنى أولًا على الصحابة الذين أجابوا دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- للغزو رغم ما هم فيه من جراحٍ وكلومٍ، ووعدهم ثوابًا كبيرًا وأجرًا عظيمًا، ثم أثبت لهم من جميل الصفات؛ التجلُّد للعدوّ والصبر على مواجهته، مبينًا أنّ ذلك كان سببًا في زيادة إيمانهم بالله وخشيتهم له وحده، وذِكرهم إيّاه في وقت الشدة بجميل الذكر، وأنّ من ثماره تحقيق النصر وضمان السلامة وخذلان الأعداء وسكون القلب. وكما أحسنوا أحسنَ الله إليهم فوعدهم الأجر العظيم في الآخرة وأفضلَ عليهم من عظيم كرمه فرجعوا إلى المدينة سالمين غانمين. ثم بيّن القرآن أنّ الشيطان وأولياءه من الكافرين لا يكفُّون عن تخويف المؤمنين بشتّى السبل، فلا ينبغي لأولياء الرحمن أن يخافوا منهم أبدًا، وكذلك لا ينبغي لهم أن يحزنوا على مسارعة هؤلاء في الكفر بالله والمظاهرة على رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم لن يضروا إلا أنفسهم. وختمت الآيات ببيان أنّ الله -عز وجل- يُملِي للكفار في الدنيا أحيانًا ليتكثّروا من الذنوب والآثام فلا يكون لهم حظ في الآخرة، ولا يملكون حجة عند الله يوم القيامة.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

[1] تاريخ الرسل والملوك، الطبري، بيروت، دار التراث، الطبعة: الثانية، 1387هـ، (2/ 534).

[2] مقال "القرآن وغزوة أحد؛ وقفات تربوية" على هذا الرابط: tafsir.net/article/5098.

[3] مفاتيح الغيب، الرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثالثة، 1420هـ، (9/ 432).

[4] جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420هـ- 2000م، (7/ 237).

[5] عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسّير، ابن سيد الناس، بيروت، دار القلم، الطبعة: الأولى، 1414/ 1993، (1/ 157).

[6] صحيح مسلم، بيروت، دار إحياء التراث العربي، (3/ 1548)، حديث رقم: 1955.

[7] المسند، أحمد بن حنبل، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421هـ- 2001م، (5/ 19)، حديث رقم: 2803.

[8] صحيح مسلم، مرجع سابق، (4/ 2052)، حديث رقم: 2664.

[9] الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه، وجمل من فنون علومه، مكيّ بن أبي طالب، مجموعة بحوث الكتاب والسنة، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة، الطبعة: الأولى، 1429هـ- 2008م، (2/ 1180).

[10] تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم، المملكة العربية السعودية، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة: الثالثة، 1419هـ، (3/ 821).

[11] المرجع السابق، (2/ 1183).

[12] بحر العلوم، السمرقندي، المكتبة الشاملة، (1/ 266).

[13] فتح القدير، الشوكاني، بيروت، دار ابن كثير، الطبعة: الأولى، 1414هـ، (1/ 462).

[14] الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى، 1422هـ- 2002م، (3/ 214).

[15] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، القاهرة، دار الكتب المصرية، الطبعة: الثانية، 1384هـ- 1964م، (4/ 286).

الكاتب

علي عبد الحكيم

مدرس مساعد بقسم الدراسات الإسلامية بكلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر، وله بعض الكتابات عن السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي المبكر.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))