تعظيم القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم-
تأملات في لطائف كلام القرآن عن النبيّ وخطابه له

تحاول هذه المقالة أن تتبع جانبًا من خطاب القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكلامه عنه، وتبين ما في ذلك من لطائف وأسرار تبرِز حفاوة القرآن بالنبي -صلوات الله وسلامه عليه- وتكشف عن مدى تعظيمه له.

  إنّ مَن تأمَّل القرآن كلّه وجده مليئًا بتعظيم قَدْرِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، سالكًا سبيل التلطُّف في خطابه، غير أنّ من الأمور التي لا يتم التركيز عليها في هذا الصدد هو تأمُّل طريقة خطاب القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكلامه عن هذا النبي، فهذه الخطابات وهذا الكلام يكشف عند تأمّله مزيدَ عنايةٍ وإجلالٍ للنبي -صلوات الله وسلامه عليه-، وفي هذه المقالة سنحاول أن نتتبع جانبًا من خطاب القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكلامه عن هذا النبي، ونتتبع ما فيه من لطائف وأسرار تبيّن لنا حفاوة القرآن بالنبي -صلوات الله وسلامه عليه- وتكشف لنا عن مدى تعظيمه له. ومن ذلك:

1- صرف الخطاب المتعيّن في حقّه إلى أصحابه تنزيهًا له:

إنّ من السُّبل التي يسلكها القرآن في إجلال هذا النبيّ الكريم أنه يفرّق بين مقامه ومقام كلِّ مَن دونه في الخطاب، فإذا كان في السياق ما لا يناسب ما له من المقام والتقدير فنجد القرآن يصرف الكلام عنه إلى غيره مزيدَ إجلالٍ وتبجيلٍ له -صلى الله عليه وسلم-.

- وتأمل قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}[الأنفال: 43].

فمَن نظر في هذا السياق وجد أن الخطاب كان متعينًا في حقّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوالي في قوله: {مَنَامِكَ}، وقوله: {أَرَاكَهَمْ}، فكان مقتضى السياق أن يتم الخطاب على هذا النحو، فيقول: (لَفَشِلْتَ)، لكنه عدل عن خطابه إلى خطاب أصحابه مع عدم تعيُّن السياق فيه؛ تعطُّفًا وتلطفًا في شأن حبيبه -صلى الله عليه وسلم-.

ولقد تنبّه المفسّرون إلى هذه النكتة مبكرًا، فقال ابن جرير الطبري: «وإن الله، يا محمد، سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك اللهُ عدوَّك وعدوهم: {فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا}، يقول: يريكهم في نومك قليلًا فتخبرهم بذلك، حتى قويت قلوبهم، واجترؤوا على حرب عدوهم، ولو أراك ربُّك عدوَّك وعدوَّهم كثيرًا، لفشل أصحابُك، فجبنوا وخاروا ولم يقدروا على حرب القوم، ولتنازعوا في ذلك»[1].

فانظر كيف تنـبّه ابن جرير لهذا الانتقال من خطاب النبيّ إلى خطاب أصحابه، لئلا يتعيّن الخطاب بالفشل في جنابه -صلى الله عليه وسلم-.

ويتنبه الرازي لذلك، فيقول: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا} [أي النبي]، لذكرتَه [أنت] للقوم [أي للصحابة]، ولو سمعوا ذلك لفشلوا [أي الصحابة] ولتنازعوا [أي هم أيضًا][2].

فانظر إلى هذا الأسلوب القرآني الرفيع في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

- وتأمّل ما ورد في أواخر هذه السورة من قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}[الأنفال: 67].

ونزول هذه الآية لمّا جمَع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسرى بدر؛ استشار فيهم أصحابه، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله هم قرابتك، ولعلّ الله أن يهديهم بعد إلى الإسلام؛ ففادِهم واستَبْقِهم، ويتقوّى المسلمون بأموالهم. وقال عمر بن الخطاب: لا يا رسول الله، بل نضرب أعناقهم؛ فإنهم أئمة الكفر. وقال عبد الله بن رواحة: بل نجعلهم في وادٍ كثير الحطب ثم نضرمه عليهم نارًا، وقد كان سعد بن معاذ قال وهو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العريش وقد رأى الأسر: لقد كان الإِثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال. فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر ومال إليه، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأَولى والأهْيَب على سائر الكفار كان قتل أسرى بدر، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً}[محمد: 4][3].

وقد ذكر الطبري وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمّا تكلّم أصحابُه في الأسرى بما ذُكِر دخل ولم يُجبهم ثم خرج، فقال: «إنّ الله تعالى يُلين قلوب رجال ويُشدد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم: 36]، ومثل عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة: 118]، ومثلك يا عمر مثل نوح قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح: 26]، ومثل موسى قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ}[يونس: 88]، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنتم اليوم، فلا يُفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق. وفي هذا الحديث قال عمر: فهَوِيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلتُ»[4].

وهذه الآية قد تنازع فيها المفسّرون تنازعًا كبيرًا؛ فبين قائلٍ يرى أنّ هذه الآية عتب من اللهِ للنبي -صلى الله عليه وسلم-[5]، وهو قول لا يسعفه خصيصة التركيب في الآية، فإن كلمة: (نبيّ) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم والشمول، وليست بذاتها في النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وعلى قول من قال: إنه لم يكن نبيٌّ له أسرى قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم- حتى يكون الكلام منصرفًا إليهم، فيمكن أن يوجه على أنه على مهيع الإيماء للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

فتأمّل، هل رأيتَ خطابًا أسمى أو أرفع من هذا الخطاب؟! يومئ له في سياق التعميم من غير أن يواجهه بالخطاب، مع أنّ الشأن والحدث متعيّن بينه وبين أصحابه -عليه الصلاة والسلام-، لكنه اللطف الإلهي في خطاب النبي.

وأمّا العتاب في قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}[الأنفال: 67]، فهو «يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {تُرِيدُونَ} أيها المؤمنون، {عَرَضَ الدُّنْيَا} بأسركم المشركين، وهو ما عرَض للمرء منها من مال ومتاع، يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها، {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}[الأنفال: 67]، يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جنّاته بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض، يقول لهم: فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا، لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها»[6]. بهذا الكلام المتين علّق الإمام الطبري على هذه الآية في تفسيره.

وممن تنبّه لهذا الملمح ابن عطية، إذ يقول: «هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله -عز وجل- لأصحاب نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان، والإخبار هو لهم؛ ولذلك استمر الخطاب بــ{تُرِيدُونَ}، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر باستبقاءِ الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عَرَض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشِري الحرب»[7].

وممّن أبدع في توجيه هذه الآية وصرّح بهذا المعنى فيها هو ابن عاشور في تفسيره، إِذْ يقول: «والمعنى أنّ النبيءَ إذا قاتل فقتاله متمحِّض لغايةٍ واحدة، هي نصرُ الدّين ودفعُ عدائه، وليس قتاله للمُلْك والسلطان، فإذا كان أَتْباع الدّين في قِلّة كان قتل الأسرى تقليلًا لعدد أعداء الدين، حتى إذا انتشر الدّين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال، وانتفاء خشية عود العدو إلى القوة. فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيءٍ}. والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء، وليس موجهًا للنبيء -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه ما فعل إلّا ما أمره اللهُ به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: 159]»[8].

وقد كان مقتضى السياق أن يقابل: (تريدُ عرَض الدنيا)؛ لأن المعنى كان متعلقًا بشأن الأنبياء، لكنه عَدَلَ عن خطابه إلى خطاب أصحابه بقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}[الأنفال: 67]، ولم يقل: (تريدُ عرَض) تعطفًا وتلطفًا وتنزيهًا لهذا النبيّ أن يريد الدنيا دون الآخرة.

2- التصريح بمقامه النبوي في مواطن الشبهة؛ تبرئةً لساحته، ورِفعةً لمكانته:

مثال ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 50].

فإن الخطاب في هذه الآية موجّه إلى النبيّ في صورة المخاطبة بقوله: {أَحْلَلْنَا لَكَ}، ثم تعاقب الخطاب على مواجهته بالمخاطبة: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}، {أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ}، وهكذا إلى قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، ففيه «إظهارٌ في مقام الإضمار؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقال: (إن وهبت نفسها لك). والغرَض من هذا الإظهار ما في لفظ (النبيء) من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبةٌ لكرامة النبوءة»[9].

وإيماء إلى أن هذا الأمر وتبعاته داخل تحت عباءة النبوة، ودائرة الحفظ الإلهي، فليس فيه مدخل لطعن بشري، أو استهجان نفسي، فانظر لهذا التنزيه الذي يحيط به اللهُ نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-[10].

«والعدول عن الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيءُ} بأن يقال: (إن أراد أن يستنكحها)؛ لِما في إظهار لفظ النبيء من التفخيم والتكريم.

وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية، وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعيّن عليه نكاحُها ولم يَجُزْ له ردُّها، فأبطل اللهُ هذا الالتزام بتخيير النبيء -عليه الصلاة والسلام- في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الردَّ مأذونٌ به»[11].

ويجلِّي الإمام البيضاوي هذا النظر الدقيق بقوله: «والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبيّ مكررًا، ثم الرجوع إليه في قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، إيذانٌ بأنه مما خُصّ به لشرف نبوّته، وتقريرٌ لاستحقاق الكرامة لأجله»[12].

فسبحان مَن هذا كلامه، والصلاة والسلام على مَن شرّفه ربه هذا التشريف والتعظيم.

3- عدم مواجهته بشبهات المشركين وصرفها إلى غيره؛ حفظًا لخاطره عليه الصلاة والسلام:

وتأمل قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[القلم: 51].

«والمعنى: إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرًا بحيث يكادون يُزِلُّون قدَمَك، أو يُهلكونك، من قولهم: نظر إليَّ نظرًا يكاد يصرعني، أي: لو أمكنه بنظره الصَّرْع لفعله، أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين؛ إذ روي أنه كان في بني أسد عيّانون، فأراد بعضهم أن يَعِين رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- فنزلَت»[13].

ومَن تأمَّل هذا السياق وجده متمحِّضًا في خطاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- بتعيّن كاف الخطاب في حقّه، والمعنى: وإن يكاد الذين كفروا يا محمد ينفذونك بأبصارهم من شدّة عداوتهم لك، ويزيلونك فيرمون بك عند نظرهم إليك غيظًا عليك. فترى تمحّض السياق خطابًا له -عليه الصلاة والسلام-، لكنه أعقب ذلك بقوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}، وكان مقتضى السياق أن يقال: (ويقولون إنك لمجنون)؛ ليستقيم الكلام على جهة الخطاب السابقة، لكن الخطاب حَمَل الكلام على غائب بقوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}، ولم يقل: (ويقولون إنك لمجنون)، بل أقام غائبًا مقام رسول الله؛ ليصرف إليه قولهم وكذبهم لئلا تتعين الشبهة في حقّه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ويدلّ على هذا الملمح دلالة اللحاق والتي تدلّ على الانتقال التام إلى الغائب في شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي يرشح في تفسير قوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم: 52]، أن يكون كناية عن الرسول، كما اختاره السمعاني في تفسيره[14].

فتأمّل هذا الملمح القرآني العجيب والذي راعى أن لا تتعين الشبهة في جنابه -صلى الله عليه وسلم-، على أنه من الحسن أن نستحضر مفتتح هذه السورة لتأمُّل هذا التناسب المقطعي بين مطلع السورة ومقطعها الأخير، فقد افتتحت هذه السورة بالقسَم على نفي هذه الشبهة التي ذكرَتها السورة في آخرها، قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم: 1، 2]، والفارق بين هذا السياق وبين ما اختتمت به السورة من صرفِ الكلام إلى غيره، أنّ مطلع السورة واجَهَه بنفي التُّهمة عنه، أمّا نهاية السورة فكان الكلام في إثبات التهمة في حقّه من قِبل المشركين، ففي مقام نفيها واجَهه بالخطاب، وفي مقام حكاية إثبات المشركين لهذه الشبهة صرَفها إلى غيره. ويلاحظ أنه لما نفى الجنون عنه أعقب ذلك بما يكون كالدلالة القاطعة على صحة هذا النفي؛ وذلك لأن قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} يدلّ على أنّ نِعَم الله تعالى كانت ظاهرة في حقّه؛ من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المَرْضِيَّة، والبراءة من كلّ عيب، والاتصاف بكلّ مَكْرُمة. وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، فاللهُ تعالى نبّه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له: (إنه مجنون)[15].

ثم استطرد القرآن في ذكر أوصافٍ من كماله -عليه الصلاة والسلام- بقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 3، 4]، وفي هذا تعريف لمَن رماه بالجنون بأنّ ذلك كذبٌ وخطأ؛ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرْضِيَّة كانت ظاهرة منه، ومَن كان موصوفًا بتلك الأخلاق والأفعال لم يَجُزْ إضافة الجنون إليه؛ لأنّ أخلاق المجانين سيّـئة، ولمّا كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصَفَها اللهُ بأنها عظيمة؛ ولهذا قال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص: 86]، أي: لستُ متكلِّفًا فيما يظهر لكم من أخلاقي؛ لأن المتكلِّف لا يدوم أمرُه طويلًا بل يرجع إلى الطبع[16].

فانظر هذا الاعتناء البالغ من السورة بتنزيه مولانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونفي الشُّبَه عنه، والمبالغة في التلطّف والتعطّف لهذا الجناب الكريم.

4- التعبير بالنظم المفيد للتمازج بين حقّ الله وحقّ رسوله صلى الله عليه وسلم:

وتأمل قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفتح: 9].

والتعزيز: النصر والتأييد، وتعزيزهم الله كقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ}[محمد: 7]. والتوقير: التعظيم. والتسبيح: الكلام الذي يدل على تنزيه الله تعالى عن كلّ النقائص.

ومَن تأمَّل هذه الآية وجد أنّ سياق الآية قد صَدّر جهتين، وهما: جهة الله، وجهة رسوله-صلى الله عليه وسلم-. ثم أعقبها بذكر ضمائر متعدّدة تحتاج أن ترجع إلى هاتين الجهتين، كلٌّ بما يناسبه؛ فيرى جمهور المفسرين أن الضمائر في: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، هما للنبي عليه السلام، {وَتُسَبِّحُوهُ} هي لله، وهي صلاة البَرْدَيْن. وهو الذي حرّره ابن عطية في تفسيره[17].

فتأمّلْ كيف ذكر اللهُ جهتين: جهته -تعالى-، وجهة رسوله. ثم يكون إرجاع المذكورات التالية إلى كلّ جهة بما يناسبها؛ فقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ} راجع إلى رسول الله، وقوله: {وَتُوَقِّرُوهُ}، راجع إليه أيضًا، وقوله: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} راجع إلى الله تعالى، فهو من الطيّ والنشر المعكوس، ودلالته التلازم والتعانق بين حقوق الله وحقوق رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فتأمّل -رعاك الله- هذا الأسلوب الذي فيه دلالة على هذا التقارن والتناوب بين ما لله وما لرسول الله تعظيمًا وتوقيرًا وأداءً للحقّ.

5- تقديم العفو على العتاب؛ حفظًا لقلبه صلى الله عليه وسلم:

وتأمل قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[التوبة: 43].

ونزول هذه الآية متعلّق بأنّ بعض المنافقين استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر، وأَذِنَ لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[18]، وأهل التأويل في هذه الآية فريقان:

الفريق الأول: يرون أنّ في هذه الآية عتبًا خفيًّا لطيفًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع قطعهم بأنّ العتب الصريح من الله للنبيّ غير واقع قطعًا في القرآن كلّه[19].

وهؤلاء قد استلمحوا هذا الملمح العزيز من تقديم ما حقّه التأخير وتأخير ما حقّه التقديم، فإن مقتضى السياق أن يقدَّم العتابُ أولًا، ثم يُـثَنَّى بالعفو، لكن هذا السياق قدّم العفو على العتاب، وهذا من لطف الله تعالى بنبيّه أن بدأه بالعفو قبل العتب، ولو قال له ابتداءً: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}؛ لتفطّر قلبُه -عليه الصلاة والسلام-. فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حقّ سيد البشر -عليه أفضل الصلاة والسلام-[20].

ويتفطن لهذا الملمح السمعاني بقوله: «وفي تقديم قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} معنًى لطيفٌ في حفظِ قلبِ النبيّ»[21].

ويُبدِع ابن عاشور في تحرير هذا الأسلوب ودلالته في تفسيره بقوله: «وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرامٌ عظيم، ولطافةٌ شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعتاب. وفي هذا الافتتاح كناية عن خفّة موجب العتاب؛ لأنه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي. وتسميةُ الصفح عن ذلك عفوًا ناظرٌ إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأُلْقِيَ إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلة إيماءً إلى أنه ما أَذِنَ لهم إلا لسبب تأوّلَه ورَجَا منه الصلاح على الجملة، بحيث يسأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم، وهذا من صيغ التلطّف في الإنكار أو اللوم، بأن يُظْهِر المنكر نفسه كالسائل عن العلّة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأنّ تَرْك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرَض آخر لم يتعلّق به قصد النبيء -صلى الله عليه وسلم-. وفي زيادة: {لَكَ} بعد قوله: {يَتَبَيَّنَ}، زيادة ملاطفة بأنّ العتاب ما كان إلّا عن تفريط في شيء يعود نفعه إليه»[22].

بل يرى هذا الجمع من أهل التأويل أنه مع أن الآية فيها عتب خفيّ لطيف للنبي، إلّا أنها تحمل معنى أعمق وأدق، من تفضيله -عليه الصلاة والسلام- على سائر أصحاب النبوّات؛ وذلك لأنه بدأ بذكر العفو، وكذلك في جميع ما ذكر من العتاب، لم يذكر زلّته، وذكر في سائر الأنبياء الزلّات. كذا قال الماتريدي نقلًا عن طائفة من أهل التأويل[23].

والفريق الثاني: يرون أن الآية لا تحمل عتبًا ولا لومًا، بل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} استفتاح كلام، كما تقول: أصلحك الله، وأعزك الله. ولم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- ذنب يُعْفَى عنه؛ لأن صورة الاستنفار وقبول الأَعذار مصروفة إلى اجتهاده، وأمّا قوله: {لِمَ أَذِنْتَ} فهي على معنى التقرير[24].

وعلى مذهب هؤلاء لا يلزمهم قولٌ بالتقديم والتأخير، ثم يرون هذا الاستفهام الصوري ليس على حقيقته بل هو مفيد للتقرير، ولعلّك تلمح ما في هذ القول من التبجيل والتوقير لهذا النبيّ أنْ يُوجَّه له عتبٌ خفيّ، ويرونه منزَّهًا عن ذلك؛ وما هذا إلا لاستلماحهم هذا المنهج التوقيري الذي يمارسه القرآن مع هذا النبيّ على طول القرآن.

6- الإعلام بوجوب خلوّ الباطن من المنازع لحُكْمه صلى الله عليه وسلم قبل التسليم الظاهر:

وتأمل قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65].

وهذه الآية نزلت في الزبير ورجل من الأنصار قد شهد بدرًا، تخاصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شِراجٍ من الحَرّة كانا يسقيان به نخلًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اسْقِ يا زُبَيرُ ثُمّ أَرسِل الماءَ إلى جارِكَ»، فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، آنْ كان ابنَ عمّتِك؟! فَتَلَوّنَ وجهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى عرف أن قد ساءه، ثم قال: «يا زبير، احْبِسِ الماءَ إلى الجُدُرِ أو الكَعْبَينِ ثمّ خَلِّ سَبِيلَ الماءِ»، فنزلت هذه الآية[25].

وقد تنبّه شيخنا محمد إبراهيم عبد الباعث الكتاني إلى لطيفة في هذا السياق فوجد أن الآية تحمل في طيّاتها موجَبَتَين وسالِبَة؛ فأمّا الموجَبَتان فقوله: {يُحَكِّمُوكَ}، وقوله {وَيُسَلِّمُوا}. وأمّا السالبة فقوله: {لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ}، ومقتضى الترتيب السياقي أن تعطف الموجَبة على الموجَبة ثم تلحق السالبة، ومما يؤكّد هذا المقتضى أنّ السالبة عُطِفت بقوله: {ثُمَّ} الذي يفيد أن رتبة هذه السالبة متأخّرة في المقام، فلماذا توسّطَت السالبةُ هاتين الموجبتين؟ وبمعنى آخر، لماذا تقدّم قوله: {لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} على قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}؟

فيرى: أن هذه السالبة إنما هي متعلّقة بسلامة الباطن من المنازع لحكمه -صلى الله عليه وسلم-، فكأنّ التسليم الظاهر، مع أنه ضروري، لكنه لا ينبغي أن يصحبه ضجر الباطن من حكمه -صلى الله عليه وسلم-، ولعلّه استقى هذه النكتة من قول القشيري في لطائفه: فقدم وجوب زوال المعارضات بالكلية بقلبك. وقوله: {تَسْلِيمًا} مصدر مؤكد، منبئ على التحقيق في التسليم[26].

كما أنه لم يَفُت المفسّرين التنبيهُ على نكتة أخرى تتعلّق بتخصيصه -عليه الصلاة والسلام- فيرون أن في الآية دلالة تفضيل رسولنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على غيره من البشر؛ لأن الإضافة إذا خرجت إلى واحد تخرج مخرج التعظيم لذلك الواحد، والتخصيص له[27].

فيقول القشيري عند هذه الآية: «سدّ الطريق -إلى نفسه- على الكافة إلّا بعد الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فمن لم يمشِ تحت رايته فليس له من الله نفس»[28].

7- مدْحه بأُمّيته وجعْلها من معجزاته وصدق نبوّته:

وتأمل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ}[الأعراف: 157] الآية.

وهذا النظم قد يُشْكِل بادي الرأي على من لم يُنْعِم النظر فيما تقتضيه دلالة السياق؛ إِذْ إنّ المعتاد في ذكر الأوصاف هو الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، فإنّ آخر ما يذكر من الأوصاف هو ما يبقى في نفس المتلقي، فكان مقتضى السياق أن يقال: (الذين يتبعون الأُمّي النبيّ الرسول)، وهو قول لا تسعفه خصيصة المعنى المراد من هذا السياق، ولقد تفطَّن المفسرون إلى عدد من النكات حول هذا النّظم، فيقول الزمخشري: فقدّم الرسول اهتمامًا بمعنى الرسالة عند المخاطَبِين بالقرآن[29].

ويزيد الرازي بقوله: وقدّم هذا اللفظ بحسب العُرف، فهو مختصّ بمن أرسله اللهُ إلى الخلق لتبليغ التكاليف[30].

ثم ثلّث بذكر صفة الأمّية في حقّه -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ هي لا تكون موطن تمدُّح بحيث تكون على هذا النحو من العلوّ إلا مختصّة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال القاضي أبو محمد[31].

الصفة الثانية: كونه نبيًّا، وهو يدلّ على كونه رفيعَ القَدْر عند الله تعالى.

الصفة الثالثة: كونه أُميًّا. قال الزجّاج: معنى الأمّي الذي هو على صفة أُمّة العرب. قال -عليه الصلاة والسلام-: «إنّا أُمّة أُميّة لا نَكْتُب ولا نَحْسِب».

فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان كذلك؛ فلهذا السبب وصفه بكونه أميًّا. قال أهل التحقيق: وكونه أميًّا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته.

فتقديمُ ما حقّه التأخير وتأخير ما حقّه التقديم في هذا السياق درءٌ للشبهة، وكي لا يُظَنّ أن هذه الأمّية التي هي أدنى الصفات هي صفة نقص كما في حالنا، بل جعلها في أعلى درجات الكمال؛ لأنه هو الأمي الذي علّمَ المتعلّمِين، بل لا يزال العلماء ينهلون من علمه، وبحر علمه لا تكدِّره الدِّلاء، فكانت أميته أميّة كمال وإعجاز لا أميّة نقص وعجز، كان يقرأ عليهم كتابَ الله تعالى منظومًا مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، ثم إنه -عليه الصلاة والسلام، مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ- يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير. فكان ذلك من المعجزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى}[الأعلى: 6][32]، فلذلك جعلها في حقه فوق منزلة الرسالة ومنزلة النبوّة، فتدبّر هذه النكتة، وسَلِ الله الفهم.

8- تقديمه في الخطاب على أصحاب النبوّات مع تأخُّره زمنًا:

وتأمل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}[الأحزاب: 7، 8].

«واذكر حين {أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ} جميعًا {مِيثَاقَهُمْ} بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدّين القيّم، {وَمِنْكَ} خصوصًا، {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}، وإنما فعلنا ذلك {لِيَسْأَلَ} اللهُ يوم القيامة عند تواقُفِ الأشهاد المؤمنِينَ الذين صدقوا عهدهم ووفوا به، مِن جملة مَن أشهدهم على أنفسِهم ألستُ بربكم قالوا: بلى، {عَنْ صِدْقِهِمْ} عهدهم وشهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين»[33].

ومع أن السياق جاء في الكلام على أمر يشترك فيه النبيّ مع إخوانه من أصحاب النبوّات، فكان المقتضى أن يتقدّم في الخطاب مَن تقدَّم زمانه ليتوافق الخطاب مع الخط الزمني لهم، غير أنه عَدَلَ عن ذلك فقدَّم آخرهم زمانًا، فجعله أوَّلَهم خطابًا، وجعل له صدر الكلام، «فإن قلت: لِم قدّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نوح فمَن بعده؟ قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم، فلما كان محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل هؤلاء المفضَّلين؛ قُدِّم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدّم مَن قدَّمه زمانه»[34].

يقول ابن عاشور مجوِّدًا هذه النكتة: «وقد ذكر ضمير محمد -صلى الله عليه وسلم- قبلهم إيماءً إلى تفضيله على جميعهم، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود. ولهذه النكتة خصّ ضمير النبيء بإدخال حرف (مِن) عليه بخصوصه، ثم أدخل حرف (مِن) على مجموع الباقين فكان قد خصّ باهتمامين: اهتمام التقديم، واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم -عليهم السلام-»[35].

وقد أجاب الزمخشري عن اعتراض قد يرِد على هذه النكتة بنظير لها، قد يبدو أنها تعكّر صفو هذه النكتة بكلام بديع فتأمّله إذ يقول: «فإن قلت: فقد قُدِّم عليه نوح -عليه السلام- في الآية التي هي أخت هذه الآية، وهي قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}[الشورى: 13]، ثم قُدِّم على غيره. قلتُ: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك؛ وذلك أنّ الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة، فكأنه قال: شرع لكم الدّين الأصيل الذي بُعِث عليه نوح في العهد القديم، وبُعِث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبُعِث عليه مَن توسّطَ بينهما من الأنبياء المشاهير»[36].

وأقول: إنّ التقدم الزمني لا يعني فضيلة زائدة، وإنما التقدّم في الخطاب مع اقتضاء التأخُّر هو قُطب التفضيل ومداره، فانظر كيف قدّم اللهُ حبيبَه وجعل له صدر الخطاب لئلا يتقدّم عليه أحد، وانظر هذه الحظوة التي نالها هذا النبي عند سيده ومولاه.

9- الحشد الإلهي في مقام الدفاع عنه حالة شِبه الإيذاء:

وتأمل هذا في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم: 4].

والمعنى: هو تحذير زوجتي النبي -صلى الله عليه وسلم- (عائشة وحفصة) من مجرد العزم على التظاهر عليه أو الإقدام على ما يؤذيه =من أن الله هو الذي ينصره، وملائكته والصالحون من الخلق كلهم نصراء لهذا النبيّ الكريم عليكما، غير أن هذه الآية تشتمل على ملمح غريب من هذا الحشد العظيم الهائل لنصرة هذا النبي، كما أن مَن تأمَّل السياق وجد أن هذا الحشد لم يتعلّق بوقوع إيذاء له -صلى الله عليه وسلم- في الماضي، بل تعلّق بمجرد الشرط في حدوثه بما يدل عليه قول تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا}، فتأمَّل هذا الحشد العظيم في مقابل امرأتين ضعيفتين؛ فذكر هذا إبلاغًا في التهويل، وإلّا فالواحد من هؤلاء المذكورين يكفي لأزواج رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- جميعًا[37].

وتأمَّل كيف جعل: «{وَالْمَلَائِكَةُ} على تكاثر عددهم، وامتلاء السماوات من جموعهم، {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين {ظَهِيرٌ} فوج مُظاهِر له، كأنهم يد واحدة على من يعاديه، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟!»[38].

 وتأمل كيف جمع بينَ الظهيرِ المعنويِّ والظهيرِ الصُّوريِّ؟! كيف لا، وإنّ جبريل ظهيرٌ لهُ -عليهما السلام- يؤيّده بالتأييدات الإلهية، وأبو بكر وعمر وزيراهُ وظهيراهُ في تدبيرِ أمورِ الرسالةِ، وهما المقصودان بقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}[39].

ولم نَرَ مثل هذا العون والعصمة والتأييد الرباني لأحد من الأنبياء والرسل وسائر البشر، للمبالغة في تعظيم شأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتخلّص من مكر النساء، وتبديد أوهام المشركين والمنافقين من محاولات الكيد والأذى وإلحاق الضرر[40].

10- قسَمه تعالى بعظيم قدره:

قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر: 72].

وقد اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسَمٌ من الله -جل جلاله- بمدّة حياة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وأصله ضَمّ العين، من العُمر، ولكنها فُتحت لكثرة الاستعمال. ومعناه: وبقائِك يا محمد، وقيل: وعيشِك. وقيل: وحياتِك. وهذه نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف.

قال ابن عباس: «ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد -صلى الله عليه وسلم-، وما سمعتُ اللهَ تعالى أقسم بحياة أحد غيره».

وقال أبو الجوزاء: ما أقسم اللهُ تعالى بحياة أحد غير محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أكرم البرية عنده[41].

وكثيرًا ما يورد القرآن القسَم في معرض الذَّوْد أو الذَّبّ أو التعظيم لهذا النبيّ الكريم، كما في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}[الحاقة: 38، 39]، ولا قَسَم أعمّ وأشمل من هذا القسم؛ إِذْ قد جمع الله في هذا القسَم كلَّ ما الشأن أن يُقسم به من الأمور العظيمة؛ من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته، إذ يجمع ذلك كلّه الصِّلَتان بما تبصرون وما لا تبصرون، فمِمّا يبصرون: الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب، وما لا يبصرون: الأرواح والملائكة وأمور الآخرة.

و(لا أقسم) صيغة تحقيق قسم، وأصلها أنها امتناع من القسم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمقسَم به خشيةَ الحنث، فشاع استعمال ذلك في كلّ قسم يراد تحقيقه، وسوق الكلام على هذا النحو؛ تحقيقًا لمضمونه على طريقة الإقسام الواردة في القرآن.

فيا ترى على أيّ شيء عظيم أقسم اللهُ بكلّ عظيم؟! إنّ هذا القسم لم يقع في القرآن إلا في هذا الموضع دفاعًا عن هذا النبي العظيم، ودفعًا لما يُلقيه هؤلاء المستهزئون من كونه كاهنًا أو شاعرًا، فرَدَّ القرآن بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الحاقة: 40-42].

خاتمة:

وبعد هذا التطواف في النصّ القرآني أظهرت المقالة هذا السموّ القرآني في خطابه -صلى الله عليه وسلم-، وأبانت عن هذا القدر والمقدار الذي ناله النبيّ المختار في القرآن الكريم، فاعْجَبْ لهذا القرآن الذي عظّم النبيّ وأجَلّه وبجّلَه في ظلّ هذه الأزمة التي يعيشها عالمنا اليوم من إساءة مَنْ لا خلاق له لهذا النبيّ الكريم، إنّ أعظمَ من بجّل هذا النبيّ وأجَلّه هو ربُّه -تعالى-، وليس النبيّ بعد ذلك محتاجًا أو مفتقرًا إلى إجلال هذا أو ذاك، ولا يضرّه إساءة هذا أو ذاك، لكننا نشير إلى هذا السموّ القرآني في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ليزيدنا الأمر حبًّا له وتقديرًا وإجلالًا، وصلى الله وسلم على مولانا محمد وآله.

 

[1] تفسير الطبري (13/ 596).

[2] تفسير الرازي (15/ 488).

[3] تفسير ابن عطية (2/ 552).

[4] تفسير ابن عطية (2/ 552)، تفسير الطبري (11/ 271).

[5] انظر: تفسير الماتريدي، وتفسير السمعاني.

[6] تفسير الطبري (11/ 271).

[7] تفسير ابن عطية (2/ 552).

[8] التحرير والتنوير (10/ 74).

[9] التحرير والتنوير (22/ 69).

[10] تفسير النسفي (3/ 38).

[11] التحرير والتنوير (22/ 69).

[12] تفسير البيضاوي (4/ 235). ومما يلاحظ في ذات الصدد أن التصريح بلفظ النبوّة هاهنا يدفع ما يثار كثيرًا في زماننا من قِبَل بعض الشانئين حول تعدّد زوجاته -عليه الصلاة والسلام-، وما يتصل بحبه للنساء وغير ذلك، فهذا التصريح بمقام النبوّة وتكراره إيماءٌ إلى أن أفعاله في هذا الشأن خارجة من مشكاة النبوّة، لها ما للنبوّة من أحكام الضمان الإلهي والاختيار الرباني.

[13] تفسير البيضاوي (5/ 238).

[14] تفسير السمعاني (6/ 32).

[15] تفسير الرازي (30/ 600).

[16] انظر: تفسير الرازي (30/ 600).

[17] تفسير ابن عطية (5/ 129)، تفسير الماوردي (5/ 313).

[18] تفسير السمرقندي (2/ 62).

[19] انظر: حاشية ابن المنير على الكشاف (2/ 274).

[20] حاشية ابن المنير على الكشاف (2/ 274).

[21] تفسير السمعاني (2/ 313).

[22] التحرير والتنوير (10/ 210).

[23] تفسير الماتريدي (5/ 379).

[24] تفسير ابن عطية (3/ 38).

[25] تفسير الماوردي (1/ 504).

[26] تفسير ابن عطية (2/ 74).

[27] تفسير الماتريدي (3/ 241).

[28] تفسير القشيري (1/ 344).

[29] تفسير الزمخشري (2/ 462).

[30] تفسير الرازي (15/ 380).

[31] تفسير الزمخشري (2/ 462).

[32] تفسير الرازي (15/ 380).

[33] تفسير الزمخشري (3/ 524).

[34] تفسير الزمخشري (3/ 524).

[35] التحرير والتنوير (21/ 275).

[36] تفسير الزمخشري (3/ 524).

[37] تفسير الماتريدي (10/ 85).

[38] تفسير الزمخشري (4/ 567).

[39] تفسير أبي السعود (8/ 267).

[40] التفسير المنير للزحيلي (28/ 310).

[41] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (1/ 119).

الكاتب

محمد يحيى جادو

باحث في التفسير وعلوم القرآن، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))