سورة الفاتحة
(صيغة الاسم - الدلالة - مشتقات الكلمة في القرآن)

يُسلِّط هذا المقالُ الضوءَ على اسم سورة الفاتحة، فيبحث الاسم بحثًا لُغويًّا، كما يتناول علاقة اسم (الفاتحة) بمضمون السورة، ومشتقات كلمة (الفاتحة) في آيات القرآن، مع توضيح الصيغ التي وردت فيها ومدى دلالتها على ثراء النصّ القرآني.

مدخل:

  لكلّ سورة في القرآن الكريم اسم تُعرف به ويميزها عن غيرها من السور؛ ولذلك لا يوجد اسم لإحدى السور يمكن إطلاقه على سورة أخرى، فلا توجد سورة تسمى (سورة البقرة) غير هذه السورة، وهكذا في بقية السور. واختلف العلماء حول: هل هذه الأسماء توقيفية أم وضعية؟ ويميل الزركشي إلى أنها توقيفية، وقد ظهر هذا من خلال قوله: «وينبغي البحث عن تعداد الأسامي: هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فلن يعدم الفَطِن أن يستخرج من كلّ سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها، وهو بعيد»[1]. وقد أيّد السيوطي هذا الرأي بقوله: «وقد ثبت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينتُ ذلك. ومما يدلّ لذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: كان المشركون يقولون: سورة البقرة وسورة العنكبوت، يستهزئون بها، فنزل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر: 95]»[2]. ومن قالوا إنّ أسماء السور جاءت عن طريق الاجتهاد، استندوا إلى أنه لم ترد أسماء جميع السور في أحاديث نبوية، وإنما اقتصرت على بعض السور، ومنها الفاتحة والبقرة وآل عمران، وذكر بعضهم أن «لدينا بعض المصاحف خالية من هذه الأسماء، مما يرجح القول إنها أسماء اجتهادية وليست توقيفية»[3]. وأشار بعضهم إلى أنه لا يوجد في السُّنة النبوية ما يشير إلى تسمية جميع سور القرآن الكريم، وأن «الباحث المتقصِّي في كتب السُّنة وكتب التفسير بالمأثور يدرك لا محالة أن هذا مطلب عزيز المنال»[4]. وقد ردّ الدكتور عبد البديع أبو هاشم على الرأي الأخير، مشيرًا إلى أن «أسماء سور القرآن الكريم جاءت على خلاف ما يسمِّي به الناسُ، فإن كانت السورة الأولى سميت بالفاتحة، فلم تُسَمَّ السورة الأخيرة بالخاتمة. وإن سُميت بعض السور بأوائلها، فلم يطَّرد ذلك في بعضها الأكثر. وإن سُميت بعضها بأغرب ما فيها، فلم يتوافر ذلك في كلّ السور، فلو عرضت سورة النمل على اجتهادات البشر لذهبوا إلى تسميتها بسورة الهدهد مثلًا؛ لأن قصته أعجب من قصة النملة، ودوره أغرب من دورها»[5].

وإذا كان هناك خلاف حول أسماء سور القرآن الكريم هل هي توقيفية أم اجتهادية، إلا أن هناك بعض السور التي ثبت ذكرها في السنة النبوية، ومنها سورة الفاتحة، ومن ذلك ما رواه عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يَقرأ بفاتحة الكتاب»[6]. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بينما جبريل قاعد عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، سمع نَقِيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: «هذا باب من السماء فُتِحَ اليوم لم يُفتَح قَطُّ إلَّا اليوم، فنزل منه مَلَكٌ، فقال: هذا مَلَكٌ نَزَل إلى الأرض لم يَنزِل قطُّ إلَّا اليوم، فسَلَّمَ، وقال: أَبشِر بنُورَيْن أُوتِيتَهُما لم يُؤْتَهُما نبيٌّ قَبلَك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلَّا أُعطِيتَهُ»[7].

 تهدف هذه المقالة إلى بحث اسم سورة الفاتحة بحثًا لغويًّا، يبين صيغته اللغوية، والآراء حول الصيغة، وعلاقة هذه الصيغة بدلالة الكلمة، كما تتناول علاقة اسم (الفاتحة) بمضمون السورة، وذلك من خلال دلالة الاسم، وما تتضمنه السورة من مقاصد. وتتعرض المقالة لمشتقات كلمة (الفاتحة) في آيات القرآن الكريم، وتوضّح الصيغ التي وردت فيها، ومدى دلالتها على ثراء النصّ القرآني. كما تبيّن دلالات مشتقات الكلمة في الكتاب الكريم، وارتباطها بسياق الآيات الكريمة.

وتمهّد المقالة لهذا ببيان أسماء سورة الفاتحة، لما في هذا من تأكيد أن سورة الفاتحة لها أسماء أخرى، ولكن اسم (الفاتحة) هو الذي استقر في المصحف العثماني؛ وربما يكون هذا لارتباطه ارتباطًا قويًّا بمقاصد السورة.

أسماء سورة الفاتحة:      

سورة الفاتحة هي أول سورة في المصحف الشريف، وأشار العلماء إلى أن عدد آياتها سبع آيات، وعدد كلماتها خمس وعشرون كلمة، وعدد حروفها مائة وثلاثة وعشرون حرفًا[8]. وسورة الفاتحة هي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي زاد عدد أسمائها عن 20 اسمًا[9]، ووصل بها بعض العلماء إلى نحو ثلاثين اسمًا[10]، ويقول السيوطي: «وقد وقفتُ لها على نيف وعشرين اسمًا، وذلك يدلّ على شرفها؛ فإنّ كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى»[11]، ومن هذه الأسماء:

1- فاتحة الكتاب.

2- فاتحة القرآن.

3- أمّ الكتاب[12].

4- أمّ القرآن.

5- السبع المثاني؛ وسُميت بهذا الاسم لأنها تثنى في الصلاة، أو أنزلت مرتين[13].

6- القرآن العظيم؛ وسُميت بهذا لاشتمالها على المعاني الواردة في القرآن الكريم[14].

7- الصلاة، وسُميت بهذا الاسم لتوقّف الصلاة عليها، أو أنها من لوازمها[15].

8- الحمد.

9- الوافية؛ وسُميت بهذا الاسم لأن تبعيضها لا يجوز، ولاشتمالها على المعاني الواردة في القرآن الكريم[16].

10- الكنز.

11- الشافية.

12- الشفاء.

13- الرُّقية.

14- الكافية؛ وسُميت بهذا الاسم لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها ولا يكفي عنها غيرها[17].

15- الأساس؛ وسُميت بهذا الاسم لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه[18].

16- النور.

17- الشكر.

18- الدعاء؛ وسُميت بهذا الاسم لاشتمالها عليه[19].

19- السؤال.

20- تعليم المسألة؛ وقيل: إنها سُميت بهذا الاسم لأن فيها آداب السؤال؛ لأنها بُدِئت بالثناء قبله[20].

21- المناجاة؛ وسُميت بهذا الاسم لأنّ العبد يناجي فيها ربه[21].

22- التفويض؛ وسُميت بهذا الاسم لاشتمالها عليه في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5][22].

الصيغة اللغوية لكلمة (الفاتحة):

وردت كلمة (الفاتحة) في الحديث النبوي الشريف، وذلك في تركيب إضافي هو (فاتحة الكتاب)؛ حيث أُضيفت كلمة (فاتحة) إلى كلمة (الكتاب)، فعن عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا صلاةَ لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»[23].

تنتمي كلمة (الفاتحة) إلى المادة اللغوية «ف ت ح»، ويدلّ الفتح على «نقيض الإغلاق»[24]. ولم تشترك مع سورة (الفاتحة) في مادة الكلمة سوى سورة واحدة هي سورة (الفتح).

ويرى بعض العلماء أن صيغة كلمة (الفاتحة) مصدر بمعنى (الفَتْح)، وذلك مثل: (الكاذبة) بمعنى (الكذب)، وأن هذه الصيغة تدلّ على «أول الشيء، أي: بدايته؛ تسميةً للمفعول بالمصدر»[25].

وفي هذا الرأي تعسّف، ففيه تقدير غير مباشر للصيغة، وهو ما دفع أبو البقاء الكفوي إلى رفضه، مشيرًا إلى أن صيغة (فاعِلة) قليلة في المصادر[26]، وكشف عن ميله إلى أنها (صِفة)، حيث قال: «والأحسن أنها صفة ثم جُعِلت اسمًا لأول الشيء؛ إِذْ به يتعلّق الفتح بمجموعه، فهو كالباعث على الفتح، فيتعلّق بنفسه بالضرورة. والتاء إمّا لتأنيث الموصوف في الأول وهو القطعة، أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية دون المبالغة لندرتها في غير صيغتها»[27].

وهناك رأي آخر بأنّ صيغة (الفاتحة) اسم فاعل وأنها «جُعلت اسمًا لأول الشيء؛ إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع، فهو كالباعث على الفتح، فالأصل فاتح الكتاب، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية، أي: معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معيّنة لا على ذي وصف، مثل الغائبة في قوله تعالى {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[النمل: 75]، ومثل العافية والعاقبة»[28].

والذي تطمئن إليه نفسُ الباحث هو أن كلمة (الفاتحة) صفة مشبَّهة؛ ورغم أنها على وزن (فاعِلة)، وهي صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي، إلا أنّ هناك اختلافًا بين اسم الفاعل والصفة المشبهة في الدلالة؛ حيث إنّ اسم الفاعل يدلّ على حدوث الشيء، لكنه لا يعني ثبوته ودوامه، وهو ما يتحقّق في الصفة المشبهة التي يجب أن يتوفّر فيها أربعة أمور، هي[29]:

1- المعنى المجرّد الذي يسمَّى الوصف أو الصفة.

2- الشخص، أو غيره من الأشياء التي لا يقوم المعنى المجرّد إلا بها، ولا يتحقق وجوده إلا فيها.

3- ثبوت هذا المعنى المجرّد لصاحبه في كلّ الأزمنة ثبوتًا عامًّا.

4- ملازمة ذلك الثبوت المعنوي العام للموصوف ودوامه.

وهذه الشروط الأربعة تنطبق على اسم سورة (الفاتحة)، فالمعنى المجرّد يدلّ على الوصف؛ إذ يشير إلى أن (الفاتحة) تفتتح كتاب الله -عز وجل-، وهذا المعنى يختصّ بهذه السورة المباركة، ويتميز بالثبوت، إضافة إلى الدوام الذي لا ينقطع إلى يوم الدين.

دلالة اسم (الفاتحة):

يرتبط اسم (الفاتحة) بالمعنى اللغوي لمادة «ف ت ح» الذي يدلّ على «نقيض الإغلاق». ولم يرد اسم (الفاتحة) ضمن متن السورة، لكنه ارتبط بما تدلّ عليه من معنى الافتتاح، فالمعنى اللغوي لفاتحة الشيء هو «أوَّلُه»[30]. وذكر السيوطي أنها سميت بهذا الاسم؛ «لأنه يفتتح بها في المصاحف، وفي التعليم، وفي القراءة في الصلاة»[31].

وقد ناسب الابتداء بسورة الفاتحة في المصحف الشريف؛ لأن المعاني الواردة فيها هي إجمال لما ورد في القرآن الكريم، فهي تعلّم «العباد التيمُّن والتبرك باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء الأمور، والتلقين بشكر نعم المنعم، والتوكّل عليه في باب الرزق المقسوم، وتقوية رجاء العبد برحمة الله تعالى، والتنبيه على ترقّب العبد الحساب والجزاء يوم القيامة، وإخلاص العبودية عن الشرك، وطلب التوفيق والعصمة من الله، والاستعانة والاستمداد في أداء العبادات، وطلب الثبات والاستقامة على طريق خواصّ عباد الله، والرغبة في سلوك مسالكهم، وطلب الأمان من الغضب والضلال في جميع الأحوال والأفعال»[32].

وأوضح الشيخ محمد عبده أن سورة الفاتحة اشتملت على مجمل الأمور الواردة في القرآن الكريم، فقد ورد فيها خمسة أشياء تضمّنها القرآن الكريم، هي[33]:

1- التوحيد: وذلك في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]، الذي يتضمن أنه ليس في الكون متصرف بالإيجاد والإشقاء والإسعاد سوى الله -عز وجل-، ويُضاف إلى هذا قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]، ففيه اجتثاث لجذور الشرك والوثنية، وهي اتخاذ أولياء من دون الله يستعان بهم على قضاء الحوائج.

2- الوعد والوعيد: الأول وهو (الوعد) متضمن في قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة: 1]، ففيه ذكر الرحمة. وجاء (الوعد والوعيد) معًا في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 4]، فالكلّ في هذا اليوم يكون خاضعًا لعظمة الله -عز وجل-، يرجو رحمته ويخشى عذابه.

3- العبادة: وذلك في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]، والفاتحة كلّها تنفخ في المتدبِّر لها روحَ العبادة.

4- بيان سبيل السعادة: ويتضح هذا في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]، فقد وضع الحقّ -سبحانه وتعالى- صراطًا لتكون السعادة في الاستقامة.

5- الأخبار والقصص: ونجد هذا في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7]، ففيه إخبار عن الذين اهتدوا بشرائع الله، وأيضًا عمن جحدوا وضلوا عن الصراط المستقيم.

مشتقات مادة «ف ت ح» في القرآن:

ومن خلال البحث عن الكلمات المشتقة من مادة «ف ت ح» في سور القرآن الكريم، نلاحظ تنوّع الصيغ الواردة من هذه المادة، فقد جاء الفعل الماضي من «ف ت ح» في 12 آية في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[البقرة: 76]. وورد الفعل المضارع من المادة في 5 آيات، كما في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر: 2]. وجاء من المادة فعل الأمر الدالّ على الدعاء، وذلك في آيتين يدلّ فيهما على التوجّه بالدعاء إلى الله -عز وجل-، كما في الآية: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف: 89]. وورد المصدر (فَتْح) من الفعل الثلاثي (فَتَح) في 12 آية، منها: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}[النساء: 141]. وجاءت صيغة اسم المفعول من مادة «ف ت ح» مرة واحدة في القرآن الكريم، وقد جاءت من الفعل (فَتَّح) المزيد بحرف واحد للدلالة على التكثير، وذلك عن طريق تضعيف العين، كما أضيف إليها التأنيث، لتصبح {مُفَتَّحَةً}، وذلك في قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}[ص: 50]، وهي تبين حال أبواب جنات عدن التي تفتح كثيرًا للمتقين الذين يسكنون هذه الجنات دون لمس منهم بالأيدي، فهي «تُفتَح لهم بغير فتح سكانها إياها بمعاناة بيدٍ ولا جارحة ولكن بالأمر»[34]. كما جاءت مادة «ف ت ح» في صيغة (فَعَّال)، وهي إحدى صيغ المبالغة، والكلمة المذكورة بهذه الصيغة في القرآن الكريم اسم من أسماء الله الحسنى، وهو (الفَتَّاح)، ويدلّ على المبالغة في الفتح، يقول القرطبي: «والله سبحانه هو الفتَّاح؛ لذلك فيفتح ما تغلَّق على العباد من أسبابهم، فيغني فقيرًا ويفرج عن مكروب، ويسهل مطلبًا، وكلّ ذلك يسمى فتحًا»[35]. وقد جاء هذا الاسم في آية واحدة، هي قوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}[سبأ: 26]. وورد من مادة «ف ت ح» اسم الفاعل (الفاتح) المجموع جمع مذكر سالم، ليصبح {الْفَاتِحِينَ}، وذلك في قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف: 89]. والمعنى هنا «أي: خير الحاكِمين؛ فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا»[36]. جاء جمع التكسير في صيغة منتهى الجموع {مَفَاتِح}، وذلك في ثلاث آيات، منها: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}[القصص: 76].

دلالات الكلمات المشتقة من «ف ت ح» في القرآن:

يدلّ المعنى الأساسي لكلمة (فتح) في اللغة على إزالة الإغلاق، ومن هذا المعنى العام تتولّد المعاني الإضافية المرتبطة بالمعنى الأساسي، وتتحدّد فيها دلالة الكلمة حسب سياق ورودها في الجملة. ويتميّز المعنى الإضافي بأنه «مفتوح وغير نهائي، بخلاف المعنى الأساسي. ومن الممكن أن يتغيّر المعنى الإضافي ويتعدّل مع ثبات المعنى الأساسي»[37]، ولذلك نجد ثراء النصّ القرآني؛ فمعنى الكلمة فيه لا يتحدّد من خلال المعجم، وإنما من خلال النظر في سياقها ضمن الآيات الشريفة. ومن هنا، فإننا نجد اختلاف معنى كلمة (فتح) بحسب مجيئها في آيات القرآن الكريم، وحسب الصيغة التي وردت بها.

وتعدُّ مادة «ف ت ح» في القرآن الكريم ثرية بالدلالات؛ حيث تختلف الدلالة بحسب السياق الوارد في الآيات، وقد جمع كتاب (المفردات) للأصفهاني، وكتاب (بصائر ذوي التمييز) للفيروزآبادي هذه الدلالات[38]، ومن أهمها:

1- الفتح بمعنى إزالة الإغلاق: وقد جاء على وجهين؛ الأول: حسّي يمكن أن تراه العين، مثل فتح المتاع، في قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}[يوسف: 65]. والثاني: معنوي تدركه البصيرة، مثل فتح أبواب الخيرات، في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف: 96].

2- الفتح بمعنى القضاء والحُكْم: كما في قوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}[سبأ: 26].

3- الفتح بمعنى إرسال الرحمة: كما في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر: 2].

4- الفتح بمعنى النصر: كما في قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 52].

5- الفتح بمعنى إظهار المستَغلَق من العلوم: كما في قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[البقرة: 76].

خاتمة:

يتبيّن من هذه المقالة وقوع اختلاف بين العلماء حول أسماء سور القرآن الكريم: هل هي توقيفية أم اجتهادية؟ ولكن هناك بعض السور التي ثبت ذكرها في السّنة النبوية، ومنها سورة الفاتحة. ويتضح أن سورة الفاتحة هي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي زاد عدد أسمائها عن 20 اسمًا، وأنه وصل بها بعض العلماء إلى نحو ثلاثين اسمًا، وأن اسم (الفاتحة) هو الذي استقر في المصحف العثماني؛ ربما لارتباطه ارتباطًا قويًّا بمقاصد السورة الكريمة التي تفتتح المصحف الشريف، وتمثِّل المعاني الواردةُ فيها إجمالًا لِما ورَد في القرآن الكريم.

ويتضح من المقالة أن كلمة (الفاتحة) تنتمي إلى المادة اللغوية «ف ت ح»، وأن الفتح يدلّ على «نقيض الإغلاق». كما يتبيّن أنه لم يشترك مع سورة (الفاتحة) في مادة الكلمة سوى سورة واحدة هي سورة (الفتح). ويرى بعض العلماء أن صيغة كلمة (الفاتحة) مصدر بمعنى (الفَتْح)، وهو ما رفضه بعضهم الآخر، مشيرًا إلى أن الكلمة (صِفة)، وهناك رأي ثالث بأن صيغة (الفاتحة) اسم فاعل. وأوضح الباحث أن كلمة (الفاتحة) -اسمًا لهذه السورة الكريمة- تنطبق عليها شروط (الصفة المُشَبَّهة).

وتشير المقالة إلى أن اسم (الفاتحة) لم يرِد ضمن متن السورة، لكنه ارتبط بما تدلّ عليه من معنى الافتتاح. وتبين أن مشتقات مادة «ف ت ح» في القرآن الكريم، تميّزت بالتنوّع، فقد جاءت في صيغ مختلفة، شملت: الفعل الماضي في 12 آية، والفعل المضارع في 5 آيات، وفعل الأمر الدالّ على الدعاء في آيتين، والمصدر في 12 آية، واسم المفعول في آية واحدة، وصيغة المبالغة في آية واحدة، واسم الفاعل بصيغة الجمع في آية واحدة، كما ورد جمع التكسير في صيغة منتهى الجموع {مَفَاتِح}، في ثلاث آيات.

وفي الجانب الدلالي، يتضح أن مادة «ف ت ح» في القرآن الكريم ثرية بالدلالات، وأنها تضمنت خمسة معانٍ، هي: إزالة الإغلاق، والقضاء والحُكْم، وإرسال الرحمة، والنصر، وإظهار المستَغْلَق من العلوم.

 

[1] البرهان في علوم القرآن، للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (1/ 270)، مكتبة دار التراث، القاهرة، دون تاريخ.

[2] الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (1/ 150-151)، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، الرياض، 1422هـ-2001م.

[3] موجز علوم القرآن: د. داود العطار، مؤسسة الأعلى للمطبوعات، طـ3، بيروت، 1415هـ-1995م، ص183.

[4] تفسير سورة النور، د. إبراهيم خليفة، نقلًا عن: السورة القرآنية، د. عبد البديع أبو هاشم، بحث في: الموسوعة القرآنية المتخصصة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1424هـ-2003م، ص221 و222.

[5] الموسوعة القرآنية المتخصصة، ص222.

[6] صحيح البخاري (الحديث رقم 735).

[7] صحيح مسلم (الحديث رقم 1392).

[8] انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروزآبادي، تحقيق: محمد علي النجار، (1/ 128)، الطبعة الثالثة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وزارة الأوقاف، القاهرة، 1416هـ-1996م.

[9] انظر: البرهان في علوم القرآن، (1/ 269).

[10] نلاحظ أن الزيادة في العدد ترجع إلى تشابه بعض الأسماء التي أطلقت على السورة، مثل: (الفاتحة وفاتحة الكتاب وفاتحة القرآن)، و(أم الكتاب وأم القرآن)، و(الحمد وسورة الحمد)، و(الشفاء وسورة الشفاء)، و(الأساس وأساس القرآن)، و(الصلاة وسورة الصلاة)، انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، (1/ 128).

[11] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 151).

[12] وردت عدّة آراء في هذه التسمية، منها «تقدّمها وتأخّر ما سواها تبعًا لها؛ لأنها أَمَّتْه، أي: تقدمته، ولهذا يقال لراية الحرب: أُمّ؛ لتقدمها واتباع الجيش لها»، ومما قيل في سبب تسمية الفاتحة بهذه التسمية: «أمّ الشيء أصله؛ وهي أصل القرآن؛ لانطوائها على جميع أغراض القرآن وما فيه من العلوم والحكم»، وقيل أيضًا: «سميت بذلك لأنها أفضل السور، كما يقال لرئيس القوم: أمّ القوم»، وقيل: «لأنها محكَمة، والمحكَمات أمّ الكتاب»، انظر: السابق، ص152 و153.

[13] البرهان في علوم القرآن، (1/ 270). وأشار السيوطي إلى أنها سميت (سبعًا) لأنها سبع آيات، الإتقان في علوم القرآن، (1/ 153).

[14] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 153).

[15] السابق: (1/ 154).

[16] البرهان في علوم القرآن، (1/ 270).

[17] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 154).

[18] السابق: (1/ 154).

[19] السابق: (1/ 154).

[20] السابق: (1/ 154).

[21] السابق: (1/ 155).

[22] السابق: (1/ 155).

[23] صحيح البخاري: الحديث رقم (735).

[24] لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: عبد الله عليّ الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي، (5/ 3337)، دار المعارف، القاهرة، 1401هـ-1981م، مادة (ف ت ح).

[25] الكليات، الكفوي، تحقيق: د. عدنان درويش ومحمد المصري، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419هـ-1998م، ص694.

[26] السابق: ص694.

[27] السابق: ص694.

[28] تفسير التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، (1/ 131)، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م.

[29] انظر: النحو الوافي، عباس حسن، (3/ 281و282)، دار المعارف، القاهرة، 1974م.

[30] لسان العرب، (5/ 3339)، مادة (ف ت ح).

[31] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 151).

[32] بصائر ذوي التمييز، (1/ 129).

[33] انظر: الأعمال الكاملة، الشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم: الدكتور محمد عمارة، (4/ 23-25)، دار الشروق، القاهرة، 1414هـ-1993م.

[34] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، (20/ 122)، دار هجر، القاهرة، 1422هــ-2001م.

[35] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، القرطبي، تحقيق: د. محمد حسن جبل، (1/ 220)، دار الصحابة للتراث، طنطا، 1416هـ-1995م.

[36] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، (3/ 402)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419هـ-1998م.

[37] علم الدلالة، د. أحمد مختار عمر، الطبعة الخامسة، عالم الكتب، القاهرة، 1998م، ص38.

[38] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: سيد محمد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص370 و371، وبصائر ذوي التمييز، (4/ 161-165).

الكاتب

الدكتور إبراهيم عبد المعطي

حاصل على الدكتوراه في اللغة العربية من كلية الآداب - جامعة القاهرة، ومدير تحرير جريدة "الوفد" المصرية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))