القراءات الحداثية للقرآن (10)
الجابري والقراءة العقلانية للقرآن

الكاتب : طارق حجي
يتناول هذا المقال اشتغال المغربي محمد عابد الجابري حول القرآن، محاولًا تسييق هذا الاشتغال في مجمل خطاب الجابري حول العقل العربي، لتبيّن ملامح هذا الاشتغال ورهاناته ومحدداته المنهجية، سواء الخاصّة أو تلك المرتبطة بمجمل خطاب القراءة الحداثية للقرآن.

  يعدُّ محمد عابد الجابري[1] أحد أهم من ابتدؤوا في الفكر العربي المعاصر هذه المحاولة للانتقال في نمط التعامل مع ثنائية الحداثة/ التقليد من التعامل التجاوري الانتقائي الأيديولوجي الذي ساد في مرحلة الخطاب الإصلاحي والنهضوي إلى التعامل التركيبي المعرفي، وهو الانتقال الذي طالما أشرنا إليه طوال مقالاتنا السابقة، باعتباره يمثّل السمة الرئيسة لــ(التأسيس الثاني لخطاب النهضة) -بعد التأزُّم الثاني والأشمل والأعمق للخطاب بهزيمة حزيران- وهو المنعطف الذي اعتبرناه أهم السياقات المعرفية الـمُنشِئَة للقراءة الحداثية للقرآن، حيث إنّ أعمال الجابري هي قراءة في التراث معرفيًّا عبر المنهجيات الحديثة (البنيوية والتاريخية بالنسبة له)، وهي دراسة لا تتَغيَّا دراسة مضمون التراث الإسلامي بل تطال إبستيماته وأبنيته المعرفية، فهي دراسة في نقد (العقل العربي) الـمُؤسِّس لكلّ مساحات المعرفة، بِذا فنحن في مشروع الجابري أمام تعامل معرفي مع كلٍّ من طرفي معادلة النهوض؛ الحداثة التي تتحوّل لأداة منهجية مُشغَّلة على التراث -كما ابتدأ الأمر مع طه حسين-، والتراث والذي يتم تناوله من حيث عمقه المعرفي الـمُؤسِّس، والجابري ليس فقط أحد الـمُدشِّنين لهذا الانتقال، بل بالأحرى لقد طبع الجابري هذه المرحلة بطابعه، فكما يمكن أن يستفاد من طرابيشي فإنّ الجابري بنقده المعرفي للعقل وبتحويله إياه إلى (مفهوم)، وبتحوله هو ذاته إلى (نجم) في سماء الفكر العربي قد فتح الباب واسعًا أمام القراءة المعرفية للتراث[i].

لكننا مع هذا وقبل كتاب الجابري الأخير عن القرآن والذي صدر مدخله في عام (2006) ثم لحقه بثلاثة أجزاء لتفسير القرآن حسب ترتيب النزول (فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول) منذ عام (2008) وإلى عام (2010)، لا نجد للجابري اشتغالًا كبيرًا بالقرآن؛ فالجابري وإلى هذه اللحظة كان مهتمًّا بدراسة الأنظمة المعرفية التراثية الثلاثة: (البيان)، (العرفان)، (البرهان). دراستها في مسارات نشأتها التاريخية (التكوين)، وفي بنيتها الداخلية (البنية)، وفي علاقاتها طوال تاريخ التراث الإسلامي. وكان مشروع الجابري يطمح بهذا لتحرير العقل العربي من (العرفان) كنظام معرفي مُؤسِّس لـ(استقالة العقل)، ولتأسيس (البيان) على (البرهان)، وهذا عبر مفهوم (القطيعة المعرفية) -الباشلاري- الذي وظَّفه الجابري من أجل التحرّر من الأنظمة المعرفية لعصر الانحطاط، أي: (العرفان) «الروح السينوية المشرقية الغنوصية»، ومن أجل تأسيس معرفتنا على البرهان، وعلى «الروح الرشدية التي يقبلها عصرنا؛ لأنها تلتقي مع روحه في أكثر من جانب، في العقلانية والواقعية ولنظرة الأكسيومية والتعامل النقدي»[ii]. لكن الجابري، وطوال هذا الاشتغال الذي وظَّف فيه جملة من المفاهيم والمنهجيات المستقاة من فلسفات (لالاند، وجان بياجيه، وجاستون باشلار)، لم يقتحم مساحة التعامل مع (القرآن) ليعيد تأسيسها هي ذاتها برهانيًّا.

لكن هذا لا يعني أن الجابري وطوال هذا الاشتغال لم يكن له أيّ اهتمامات بالقرآن، فصحيح أن القرآن ليس تراثًا كما يُصرّ الجابري، لكن لا بد أن الأنظمة الثلاثة الـمُؤسِّسة للمعرفة التراثية والتي يصف الجابري تكوّنها وبنيتها قد تنازعت في استيعاب القرآن وتأطيره وتأويله؛ لذا فقد كانت للجابري بعض اهتمامات بالقرآن قد تكون قليلة لكنها كاشفة جدًّا بل ومُمهِّدة حتى لدراسته اللاحقة حول القرآن التي ابتدأها بكتاب (المدخل)، ونستطيع تحديد هذه الاهتمامات في ثلاثة اهتمامات أساسية:

الأول: هو تحديد طبيعة القول الديني كقول عقلاني؛ فالقرآن وفقًا للجابري هو نصّ عقلاني، بل نصّ يهتم لتكريس العقلانية وإدانة ومواجهة اللاعقلانية، وهذا عبر صراعه المركزي، صراع التوحيد والشرك، فالقرآن يُبرِز دعوة التوحيد كدعوة عقلانية ويُبرِز الشرك كدعوة لا عقلانية، فالشرك ينطوي على تناقض في ذاته: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء: 22]، ونقيضه (التوحيد) هو العقلاني، وليست مسيرة الأنبياء من بدء الخليقة وإلى النبوة المحمدية -وكما يقدّمها القرآن- إلا «كفاحًا من أجل نشر العقل وترجيحه»[iii]، وهذا يجعل القرآن هو (أساس العقلانية في البيان العربي).

الاهتمام الثاني الذي سيطر على مساحة ليست بالقليلة من اشتغال الجابري، هو: نقده لطرق تعامُلٍ مع القرآن أهدرت الكثير من ممكناته العقلانية تلك وفقًا له، بالتحديد استيعابه داخل الهرمسية والفكر الغنوصي المشرقي الذي يشكل مضمون (العرفان) كنظام معرفي، فالهرمسية مُشوِّشة على عقلانية الوحي تلك، حيث تستوعب النصّ في خليط من الرؤى والأساطير التي تقضي على عقلانيته، كما تفترض أنه لا يوجد معرفة إلا مؤسَّسة على وحي؛ لذا فهي تخلط الدّين بالعلم والعلم بالدّين، والكيمياء بالتصوّف والتصوّف بالكيمياء[iv]؛ لذا فإنّ (العرفان) وفقًا للجابري لا يُشوِّش فحسب عقلانية الوحي «باستيعابه للبيان داخله» بل يؤسِّس لـ(عقل مستقيل) يريد أن يعقل عن الله كلّ شيء حتى ما لم يأمرنا الله بأن نعقله عنه، مما يعني قطع الطريق على معرفة برهانية بالعالم، بهذا فإنّ هذه المساحة من اشتغال الجابري تتعلّق بقراءة الوحي ثم بترتيب العلاقة بين قراءة الوحي وبين قراءة العالم وهي مسألة مهمّة تمامًا في منظور الجابري كما سيتضح.

الاهتمام الثالث الذي اهتم له الجابري، هو: إبراز أهمية الخطابات التي حاولت استعادة (العقل الكوني) في تأسيسها للمعرفة، أولًا: بتخليص (البيان) من (العرفان) من أجل استعادة عقلانيته، وثانيًا: بمحاولة تأسيس (البيان) ذاته برهانيًّا، وتخليص (البرهان) من شوائب (العرفان)، والانتباه لانفصال مساحتي القرآن والعالم في طريقة قراءة كلّ منهما بفصل (البيان) عن (البرهان)، وهذا تمَّ مع ابن حزم الذي يراه الجابري قد حاول الارتفاع عن علم الكلام واشكالاته والوصول للعقل الكوني (الفلسفة)، وثالثًا: بتأسيس (البرهان) داخل قراءة النصّ الديني، بمعنى إيجادِ تأويلٍ برهاني للقرآن نفسه، وهذا تمَّ مع ابن رشد وارث عقلانية ونقدية ابن حزم[v].

لكن في الحقيقة فهذه الاهتمامات التي حاول من خلالها الجابري التركيز على عقلانية (القرآن) أو عقلانية التعامل معه، تظلّ مُقصِّرة عن حدود بلورة (تأويل برهاني للنصّ)، فنحن لو حاولنا إيجاد عنوان مُلائِم لما يركز عليه الجابري طول اهتماماته واستدعاءاته تلك، فسيكون أنّ الجابري يحاول تحديد حدود النصّ كي يفسح مجالًا للعقل البرهاني -لو قمنا بتعديل لمقولة كانط الشهيرة- عبر تخليص (البيان) من (العرفان)، ثم فصل (البيان) عن (البرهان)، ليتأسَّس هذا الفصل بين (المعرفة العلمية القائمة على العقل البرهاني) و(المعرفة الدينية القائمة على منهجية قراءة خاصّة بها)، فالجابري يُصِرّ أنّ (العقل المستقيل) هو هذا الذي يريد أن يَعقِل عن الله ما لم يأمرنا الله بأن نَعقِله عنه، فما يبدو من هذا هو أنّ ملخص اشتغال الجابري في هذه الفترة هو أن علاقة سليمة مع النصّ هي علاقة تقوم بالأساس على تحديد مساحة اشتغاله، ربما أكثر من تحديد آليات الاشتغال عليه.

ورغم أنّ هذا قد يبدو وكأنه استعادة لهذا التعامل الذي بلوره زكي نجيب محمود ورفضه بشدة نصر أبو زيد، بل وحمَّله مسؤولية التراجع في إنجاز رهانات التنوير بصيانة الدين عن الخضوع للدرس الحديث -وهو النقد القائم على كون التأسيس الثاني للنهضة هو تأسيس يتطلب اقتحام مساحة الدّين بالدرس العلمي-، إلا أنّ هذا التشابه ليس بالقوة الكبيرة بالطبع، ليس فقط لأن القرآن يظلّ عقلانيًّا بالنسبة للجابري ولا يُوضَع في حيز الوجدان/ الأصالة كما عند نجيب محمود، لكن -والأهم- لأنّ الجابري يفترض أن (القطيعة) كآلية معرفية بين الأنظمة المعرفية مُمْكِنَة طالما تحتكم كلّ المساحات إلى (العقل الكوني) كمرجعية[vi]، وهذا خلاف ما يفترضه نصر مثلًا من كون الآلية المعرفية الـمُستخدَمة في القرآن تَكتَسِب مركزية كبيرة في آليات اشتغال العقل مما يجعلها هي التي تصيغ مجمل النظام المعرفي، (كأنها التحديد في المرتبة العليا) بتعبيرات ألتوسير[2] -أحد موظِّفي مفهوم القطيعة المعرفية-، وبالتالي فإنّ نقد العقل العربي وتحريره غير ممكن بافتراض القطائع بين أنظمته، بل بنقد آليات قراءته للقرآن وإعادة تأسيسها، ولو عُدنا لخطاب الجابري، فسنقول: إنّ خطاب الجابري كان عليه -بحكم موقعه المعرفي كعَلَم على تأسيس النهضة الثاني- عدم الوقوف عند مرحلة إحداث القطائع بين الأنظمة المعرفية، بل الانتقال إلى بلورة (تأويل برهاني للنصّ)، وهذا بالفعل ما كان يُفضِي إليه خطاب الجابري، فهذا التأويل هو ما حاوله أكثر من استطاع وفقًا للجابري القيام بفصل (البيان) عن (البرهان) أي: ابن رشد. فخطاب ابن رشد -كما سنوضح- يتضمن (تأويلية برهانية للنصّ).

لكن مع هذا بَدَا الجابري وكأنه لن ينتقل هذه الانتقالة من (مساحة الاشتغال) لـ(آليات الاشتغال)، بل سيكتفي بإعلاء (العقل البرهاني) وإدانة (العقل المستقيل)، والدعوة لانفصال الأنظمة المعرفية وعدم الخلط بينها، أما هذا الانتقال فقد كان يتطلّب ربما أزمة جديدة تُضاعِف أزمة هزيمة حزيران وهي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تفرض على الجابري أن يُقدِّم قولًا (برهانيًّا) في القرآن لا أن يستخدم البرهان في تحديد حدوده فحسب، فكما يقول هو فإن القرآن وبعد أحداث سبتمبر يحتاج أن يُعرَّف به المسلم وغير المسلم[vii]، بالطبع الجابري لا يقصد مجرد المعرفة، بل يريد أن نتعرَّف على القرآن معرفة جديدة تُعِين المسلم في أزمتَيه: حزيران، و11 سبتمبر. وتنأى بالقرآن عن (التوظيف الأيديولوجي)، معرفة تُدْرِك (برهانيته الخاصّة) التي تغلق الباب في وجه ما يُشَوِّش على (وضوحها).

من هنا نستطيع القول أنّ القراءة الجابرية للقرآن وإن بدَت وكأنها صُدفويّة أو أنها نتاج أزمة، وإن بدَا هو نفسه مترددًا في تسييقها في أيّ موقع من خطابه، (كتأسيس، أم كذيل وتكملة، أم كتتويج)[viii]، إلا أن منطلقات هذه القراءة ربما كامنة وثاوية في عمق الخطاب، أدت الأزمة لبلورتها وإلحاح ظهورها فحسب، فخطاب الجابري يُلِحّ على تأويل برهاني للقرآن، قد يكون ابتدأه بالفعل عبر حديثه عن ابن رشد الذي يستعيد الجابري ملامح تأويليته هنا بصورة كبيرة كما سنحاول أن نوضح.

لكن قبل الدخول في تفاصيل تأويلية الجابري وعلاقتها بابن رشد نريد أن نتساءل: بأيّ قدر نستطيع القول من الأساس أن قراءة القرآن برهانيًّا هي قراءة حداثية؟ أليس البرهان ذاته هو نظام معرفي ينتمي للعقلانية قبل الحديثة، بحيث إن هذه الأخيرة -كما كرَّر دومًا نُقّاد الجابري- قامت أصلًا على أنقاض الرشدية-الأرسطية (بعقلانيتها ونقديتها وأكسيوميتها) التي ينادي بها[3]، والتي ندَّعي أنه يستعيدها في قراءته للقرآن؟ فكيف لنا أن نعتبر من جهة المنهج أن قراءة الجابري هي قراءة حداثية؟ صحيح أن الجابري لن يستخدم منهجًا برهانيًّا بالطبع، وإنما ينطلق من -دعنا نقول من (منظور برهاني رشدي) كما يعبر هو في (نحن والتراث)- منظور يقرأ القرآن وفقًا لسياقه التداولي ويرفض إسقاط أنظمة فكرية خارجية عليه، لكنه يُوَظِّف من أجل هذا منهجيات عقلانية حديثة كتلك التي استخدمها في قراءته للتراث، وعلى رأسها بالطبع المنهج التاريخي، لكن يظلّ التساؤل نفسه مطروحًا على مدى حداثة هذا المنظور الرشدي ذاته، وكان هذا موضع نقد كبير لخطاب الجابري كما سنوضح.
محاولتنا هنا في هذا المقال لن تكون الدخول في نقاشات جزئية مع الجابري، كتلك التي شاعت بعدما نشر أول كتبه: (مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول: في التعريف بالقرآن) والتي دارت في معظمها حول مسائل -على أهميتها- تظلّ مسائل جزئية ويقصر تناولها والاقتصار عليها عن إدراك رؤية الجابري في مجملها وفي أبعادها الرئيسة ومحدِّداتها الأساسية؛ رهاناتٍ وآفاقًا ومنهجًا، وهي الرؤية التي سنحاول هنا تحديدها والنقاش حولها.

لهذا فنحن سنبدأ التعامل مع خطاب الجابري حول القرآن من آخر ما ختم به كتابه الأول (التعريف بالقرآن)، أي: القصّة القرآنية، فهذا المنهج الذي يفترضه الجابري في قراءة القصة القرآنية قادر -كما سنوضح- على مساعدتنا على كشف أبعاد قراءة الجابري للقرآن، فمن خلال هذه القراءة نستطيع تبيّن سيطرة المنظور البرهاني-الرشدي أو (الروح الرشدية) على هذه القراءة والتساؤل حول مدى فعالية المنهجية التاريخية التي يتوسَّلها بقراءته القرآن على حسب ترتيب النزول، واكتشاف أبعاد هذه المنهجية ودورها المحدّد في بنائه المنهجي ومدى أهميتها داخل خطابه، كذلك نستطيع اكتشاف موقف الجابري من التفسيرات التراثية التي لم تكن -وفقًا له- كافية للتعرُّف على القرآن ورهاناته -الأعمق والسابقة على الأزمة واللاحقة عليها- من قراءة القرآن.

القصص القرآني؛ تعريف جديد/ قديم:

منذ البداية يحاول الجابري الإجابة عن هذا التساؤل الذي ربما يُثار عند كلّ قارئ لكتابه، حول سبب وجود قسم من كتابه هدفه بالأساس التعريف بالقرآن ويتَتَبُع (مسار تكوينه) مفرودًا بالكامل للقصص القرآني -وهو الفصل الذي يشغل نصف مساحة الكتاب-، والجابري يجيب بأن يوضِّح كون (القصص القرآني) وفقًا للقراءة التي يطرحها مهم لقسمي الكتاب السابقين كليهما، فهو من جهة مهم لإدراك محيط الدعوة المحمدية، كما أنه مهم لإدراك مسار التكوين القرآني، حيث عَبْر هذا القصص خاضَ القرآن جدله مع مشركي قريش في مكة ثم أهل الكتاب في المدينة، ممّا جعل هذا القصص حاملًا لسمات الدعوة المحمدية في تاريخيتها[ix]، هذه الأهمية للقصص في كشف مسار التكوين تزداد بقراءة الجابري التي تتعامل مع القصص القرآني وفقًا لترتيب النزول.

فالجابري يُحقِّب القصص القرآني وفقًا لمراحل الدعوة المحمدية في مكة والمدينة، حيث يُقسِّمه لثلاث مراحل: مرحلتين مكيتين ومرحلة مدنية، ويدرس القصص القرآني وفقًا لأغراضه التي تَتَساوَق مع مسيرة الدعوة المحمدية.

ويرى الجابري أنّ ثمة ثلاثة أصناف من القصص القرآني وفقًا لغرض نزولها:

الصنف الأول: يتوخى توجيه الاهتمام إلى المصير الذي آلت إليه الأقوام التي كذّبت رسلها، بمقصد أساس هو تخويف خصوم الدعوة المحمدية وتحذيرهم من نفس المصير، وهذا الصنف معظمه من قصص (أهل القرى) مع أنبيائهم الذين هم في الأغلب أنبياء عرب سابقون على بني إسرائيل.

 والصنف الثاني: يهتم بالثناء على الأنبياء والتنويه بهم وإبراز ما خصّ الله به كلًّا منهم من آيات، ومعظم هذا الصنف عن أنبياء بني إسرائيل.

والصنف الثالث: مختصّ بالمرحلة المدنية ويسيطر عليه الجدل مع اليهود والنصارى حول تصورهم لله، وتذكيرهم بنعمة الله واتهامهم بالتنكّر لها وانحرافهم عن دين إبراهيم.

هذه الأصناف الثلاثة يدرسها الجابري في تساوق مع تطور الدعوة المحمدية، في مراحل ثلاث: الأولى: من سورة (الفجر) وإلى سورة (القمر)، والثانية: من (ص) وإلى (العنكبوت)، والثالثة: من سورة (البقرة)[4] وإلى ختام مسيرة الدعوة المحمدية[x].

وفي الحقيقة ورغم أن الجابري يوحي بأن هذه القراءة للقصص وفقًا لسياقات الدعوة المحمدية التاريخية هي قراءة جديدة، إلا أننا نظنّ أن لهذه القراءة سوابق شبيهة، ربما أشهرها وأكثرها تماسكًا محاولة محمد أحمد خلف الله في كتابه: (الفنّ القصصي في القرآن)، والتي تُشابِهها كثيرًا رؤية الجابري، فخلف الله هو ربما أول من طرح في الفكر العربي الحديث تناوُل القصص القرآني وفقًا لـ(وحدة الغرض) في مقابل (وحدة القصة)[xi][5]، فخلف الله يرى -في كلام يُشبِهه كثيرًا كلام الجابري- أنّ قراءة قصص القرآن -تحديدًا قصص الأنبياء- مُكتَمِلًا وكما هي العادة في التناول التراثي -حتى إنّ هذا القصص استقل أحيانًا بكتب خاصّة وتقليد مستقل[xii]-، هي قراءة ربما غير وَفيّة لتعامل القرآن مع القصة، فالقصة القرآنية لم تُذكر كاملة إلا في قصص مُحدَّدة للغاية (قصة يوسف وقصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين)، لكن الغالب أنْ تُذْكَر القصة مرات مُتعدِّدة مُجزَّأة وفقًا لأغراض مُحدَّدة هي التي تُؤطِّر شكلَ القصة ومساحاتها، وهذه الأغراض مرتبطة بواقع ومسيرة الدعوة المحمدية، حتى إنّ خلف الله اعتبر أنّ ثمة صلة بين القصة القرآنية وبين نفسية النبي، بالتحديد نفسية النبي (النفس-خارجية) أي: المتعلقة بمعاناة الدعوة، وأن بعض القصص الذي يحكي صراعات بين الأنبياء وخصومهم هو قصص يمسرح ربما ما يتم داخل الجزيرة؛ مثل حديثه في قصة التسعة رهط من قوم صالح باعتبارهم أسياد قريش وهم يتآمرون على النبي[xiii]. ويشابهه حديث الجابري مثلًا عن ورود قصة سليمان وملكة سبأ تساوقًا مع مساومة القرشيين للنبي[xiv].

لكن لا شكّ أيضًا أنّ الجابري يمضي خطوات أبعد مع هذه الفكرة حيث إنه يقوم بعمل تحقيب للقصص القرآني وفقًا لحقب الدعوة المحمدية «نعل بنعل» كما يعبر هو، ويقوم بتحديد هذه الأغراض ويربطها بدقّة أكبر بسياقات الدعوة المحمدية، وهو ما لم يقم به خلف الله بالطبع رغم تأكيده على هذا الارتباط وضرب بعض الأمثلة، بسبب سيطرة الاهتمام الأدبي أو الفني في تحليل القصص على كتابه.

هذه الأغراض التي يذكرها الجابري سواء تلك الخاصّة بالأصناف العامّة للقصص التي ذكرناها منذ سطور، أو تلك الخاصّة بتشكيل القصص وسردها حسب واقعة نزولها، هي بالطبع أغراضًا جزئية داخلة في إطار غرض أوسع يهتم الجابري لتوضيحه منذ البداية كملمح وخصيصة أساس للقصة القرآنية، وهو غرض (ضرب المثل) والمرتبط بالسِّمَتَين الأُخريَين اللتين يعتبرهما الجابري مميزتين لدراسته حول القصة القرآنية؛ (أي: الاقتصار في التعامل مع القصة من خلال ما يقول القرآن والتخلّص من ثقل المرويات التوراتية (الاسرائيليات)، و(لا تاريخية القصة القرآنية)، بمعنى أنها لا تهدف لسرد تاريخ واقعي ومُحدَّد المعالم بل إنها تقتصر على هدف هو ضرب المثل والعبرة ونظم جدال الرسول مع معاصريه في إطار (تاريخ مقدّس)[6]، فالقصة القرآنية وفقًا للجابري هي (بيان بمثابة البرهان على قضية توجد خارج القصة)[xv]، وهو التعريف الذي عاد الجابري ليُعَنْوِن به خاتمة اشتغاله على القصص تأكيدًا لتعريفه هذا.

وقراءة هذه القصة (البيانية/ البرهانية) وفقًا للإسرائيليات هو خروج من البيان والبرهان نحو الغنوصيات الـمُتسرِّبة عَبْرها وغير المقصودة للنصّ القرآني العقلاني وفقًا للجابري، كذلك قراءتها كدلالة على تاريخ الأنبياء حيث هو خلط بين مساحة البيان/ البرهان القرآني ومساحة البرهان العلمي، فهذا البرهان/ البيان القرآني مرتبط بسياقات الدعوة المحمدية فهي التي تمنحه برهانيته الخاصّة.

لذا فنحن نستطيع اعتبار تعامُل الجابري مع القصة تكثيفًا للتعامل الحداثي العربي مع القصة[7] أي: القصة كتمثيلٍ غرضه العبرة لا التاريخ، لكن مع تعميق لرهانات هذه الرؤية عَبْر استخدامها في إحداث القطيعة بين الأنظمة المعرفية الثلاثة، والتأكيد كذلك على بيانية/ برهانية القرآن، كدلالة أعمق لمفهوم العِظة، وهذا هو أحد أسباب أهمية أن يكون للقصة قسم في كتابٍ أوّل يعرِّف بالقرآن، ربما أكثر من الأسباب التي يذكرها الجابري (كشف مسار التكوين ومسار الدعوة)، حيث إنّ هذا التعريف يقتضي إبراز عقلانية الخطاب (وبرهانيته الخاصّة) -في تلك المساحة تحديدًا التي عُومِلَت دومًا بلا عقلانية أو بإخضاعها لعقلانية خارجة عن سياقها الخاصّ وفقًا له- تمهيدًا لبلورة تأويل برهاني للقرآن، والذي قام به الجابري بعد هذا في تفسيره (الواضح) حسب ترتيب النزول بأجزائه الثلاثة وصفحاته التي تتخطى الألف ومائة صفحة.

القرآن وفقًا لترتيب النزول؛ التأويل البرهاني للقرآن:

لو عُدنا للخطابات التي اعتمد عليها الجابري في إبراز التعامل البرهاني مع القرآن مثل ابن حزم وابن رشد، فسنجد أن تأويلهم للنصّ يعتمد على ملامح خاصّة اهتم الجابري لإبرازها في كتابه: (تكوين العقل العربي) واستعادها هنا في تأويليته للقرآن؛ الملمح الأول: هو (عقلانية القول الديني)، فما يعارض العقل يتم تأويله. الثاني: أن القرآن يُفسِّر بعضه بعضًا، فإذا عارضَت آيةٌ ما قام عليه البرهان العقلي يتم تأويلها بردِّها لبقية القرآن، لآيةٍ أخرى تشهد على المعنى الحقيقي، أي: الموافق للعقل. الملمح الثالث: هو الفصل فيما يُؤوَّل وما لا يُؤوَّل، فهناك ثلاث مسائل لا يجوز فيها التأويل: (الإقرار بوجود الله، وبالنبوة، وباليوم الآخر)، أما ما عدا ذلك فيجوز فيه التأويل، بشرط احترام الوحدة الداخلية للقول الديني، وعدم الخروج على قواعد اللسان العربي في التأويل، ومراعاة المستوى المعرفي لمن يُوجَّه إليه التأويل[xvi].

هذه القواعد الثلاث، وهي قواعد رشدية بالأساس لها بذورها في خطاب ابن حزم الأندلسي، تستمر مع الجابري في تأويليته ذات (الروح الرشدية)؛ فالجابري يُؤكِّد على مساحة من مساحات القرآن هي للتسليم ولا مجال للعقل/ التأويل فيها، كما أنه يقوم بتأويل ما لا يتفق مع العقل، مثل اختياره في آية الإسراء التأويل الـمُتَماشي مع العقل، وهو أنّ الإسراء والمعراج كان رؤيا لا إسراءً ومعراجًا بالجسد، كذا رفض كون آية القمر: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر: 1]، حديثًا عن انشقاقٍ تمَّ في القمر كما تروي الروايات[xvii].

لكن ثمة ملمح رابع وإن كان هو عند الجابري مُضَمَّن فيما سبق لكن ظننا إنه يحتاج أن يَبرُز مستقلًا، وهو دلالة (وحدة القول الديني) عنده، فـ(وحدة القول الديني) عند الجابري والقائِمَة عند ابن حزم وابن رشد، تعني بالتحديد قراءته وفقًا لسياقه وفصله عن أيّ مجال سياقي أو معرفي آخر، بمعنى فصل القرآن عن العرفان، وهذا التفسير للوحدة من الجابري شديد الأهمية في أكثر من جانب.

فمن خلال هذا التفسير للوحدة نفهم الرهان الأكبر لفكرة (تاريخية القرآن) -هذه الفكرة متعدّدة الرهانات عند كلّ من يستخدمها- عند الجابري وموقعها في منظوره الرشدي، فالرهان الأكبر هنا لهذه الفكرة ليس تأسيس (الدرس الحداثي للنصّ) ولا (أرخنة عدد من التشريعات) بدمج التاريخية والتقصيد في تأويليةٍ للقرآن، ولا (رهان إبستمولوجي يؤسّس لفعل الزحزحة)، كما وجدنا عند حداثيين آخرين[8]، بل رهان هذه الفكرة بهذا المعنى وهذه العلاقة بينها وبين (الوحدة) هو عزل القرآن عن أنظمة معرفية وتأويلية تُهدِر البعد العقلاني لهذا النصّ، الذي يبدو -وفقًا للجابري- لا يتضح إلا بوضع القرآن في سياقه التاريخي، أو بدمجه في سياق البرهان الفلسفي ذي الطبيعة الخاصّة.

كذلك تأتي أهمية هذه الرؤية لـ(وحدة القرآن)، في أنها تحاول تجاوز هذا الإشكال الذي يرِد على القراءة التاريخية للقرآن، أي: إشكال إهدار وحدة النصّ كما ذكرنا سابقًا تفصيلًا[9]، باعتبار الجابري التاريخية لا مفتتة لوحدة النصّ بل هي مرادفة للوحدة أو مؤسِّسة لها بالأحرى، فالجابري -وكما يقول- اكتشف هذه الوحدة أثناء تتبُّعه لترتيب القرآن وفقًا لأسباب النزول حيث اكتشف وجود ترتيب منطقي يباطن هذا الترتيب التاريخي[xviii]؛ لذا فإنّ الجابري يُقسِّم القرآن لأقسام تتساوق مع مسار الدعوة المحمدية؛ فيقسِّمه لمكي ومدني؛ المكي خاصّ بالعقيدة والأخلاق، والمدني يتناول التشريعات، ثم يُقسِّم المكي لِسِتّ مراحل؛ الأولى: خاصة بالنبوة والربوبية والألوهية. والثانية: في البعث والجزاء ومشاهد القيامة. والثالثة: في إبطال الشرك وتسفيه عبادة الأصنام. والرابعة: الصدع بالأمر والاتصال بالقبائل. والخامسة: حصار النبي وأهله في شِعب أبي طالب. والسادسة: مرحلة فكّ الحصار وعرض النبي نفسه على القبائل[xix]. فكليات القرآن (الـمُشكِّلة لوحدته) مُساوِقة تمامًا لتاريخ الدعوة المحمدية.

لكن في الحقيقة فإنّ هذا المفهوم للوحدة وهذا التقسيم للقرآن إلى كليات تُساوِق الدعوة، والذي أريد به تجاوز إشكال صلة الوحدة بالتاريخية يثير هو ذاته عددًا ليس بالقليل من الإشكالات؛ الإشكال الأول: هل بالفعل وجود كليات للقرآن مُتساوِقة مع التاريخ هي ما تعنيه الوحدة؟ ويرتبط به الإشكال الثاني: هل من الأساس القرآن يُساوِق تاريخ الدعوة؟ هذان الإشكالان مترابطان، وهما سِمة ليس فقط لتاريخية الجابري -ذات الرهان الخاصّ-، بل لما يمكن أن نسميه (التاريخية الواقعية) أو (التاريخية البسيطة) مع الجابري ونصر[10]، حيث نجد في هذه التاريخية التي تتبنَّى (تاريخًا قصير المدة) و(تاريخًا يوميًّا)، وكأنَّ ثمة افتراضًا لابتداء القرآن في القرن السابع الميلادي، مما يعني أنه نصّ لا تاريخَ سابقًا له، وهذا في الحقيقة يكاد يكون مستحيلًا بالنظر إلى علاقة القرآن بالواقع القرشي عشيّة الدعوة وأثناءها؛ فالقرآن كنصٍّ لا يُماشي تاريخ عشية الدعوة، ولا يساوق مسيرة الدعوة، وعلاقته بهما شديدة التعقيد، ما بين الرفض والإنشاء والإبقاء والتعديل، فهو يتشابك معهما باستمرار ويفصل نفسه عنهما بإبراز تميُّز نظام الإسلام العقدي والشعائري والسردي، وهذا يعني أنّ للنصّ ومرتكزاته وجودًا سابقًا يعطيها وقائعيتها في مقابل التاريخ القرشي عشية الدعوة وأثناءها؛ لذا فحتى لو بقينا داخل سياق (التاريخيات) فسيبدو أن تلك التاريخية التي تلجأ لـ(تزامنية واسعة) و(تاريخ واسع المدة) أكثر منطقية من هذه التي تعتمد (التاريخ ضيق المدة)، حيث تتعامل تلك مع النصّ كنتاج لطبقات تاريخية طويلة تعطيه حضوره وحركته في مواجهة الواقع الجاهلي، أمّا اعتباره نتاجًا لعشية الدعوة، أو مُساوِقًا للدعوة، فإنه يجعل النصّ إمّا بلا بوحدة أو بوحدة مستعارة من خارجه[11]، والجابري نتيجة رؤيته هذه اعتبر له فقط (كليات) مُرتَبِطة بواقعه التاريخي، وهذه الكليات لا تسمى وحدة، فهذه الكليات الـمُرتَبِطة بالسياق التداولي للوقائع وللمخاطَبين لا تحُقِّق حتى الوحدة على مستواها الأدنى، أي: كونها (وحدة دلالية لها تماسك دلالي مهما تعدّدت السياقات التداولية)[xx].

أما الإشكال الثالث الذي تثيره (كليات الجابري) فهو أنّ التقسيم الذي افترضه الجابري من أجل تأطير هذه الكليات/ المراحل ليس تقسيمًا ناتجًا عن مراقبةٍ لتاريخ الدعوة ولا لتاريخ القرآن بالأساس، بل هو تقسيم مُسقط ومُقحم على القرآن وعلى تاريخ الدعوة كليهما؛ فتقسيم القرآن إلى (قرآن مكي عقائدي وأخلاقي) و(قرآن مدني تشريعي)[12]، يتجاهل كثيرًا من الوقائع؛ حيث إننا نجد في القرآن المكي -وفقًا لنفس القوائم التي يعتمدها الجابري- بدايةً لمعظم التشريعات والشعائر: (الأمر بالإنفاق في معظم السور، والصلاة والنحر في سورة الكوثر، تحريم الربا في سورة الروم)[xxi]، فلم يكن في المدينة سوى بلورة هذه التشريعات والشعائر الناشِئة في مكة.

وهذا التقسيم للجابري ورغم أنه شائع ومتكرّر ومتداول، وربما أكثر تأسيساته منهجيًّا كانت مع عبد الجواد ياسين وتقسيمه الدين لـ(دين في ذاته) و(تدين منصوص عليه)[xxii]، هو تقسيم غير كُفء من الناحية التحليلية حيث لا يُقدِّم لنا أيّ قدرة تفسيرية لورود تشريعات في مكة، ولا يُمكِّننا من اكتشاف العلاقات بين العقيدة والأخلاق والتشريعات والشعائر[13]، وهذا مُفتت لوحدة الظاهرة الدينية الـمُفتَرَض أنها مَنعَكِسَة في نصّ هذا الدّين على تطاوُل سِني نزوله، وهي الوحدة التي يصرُّ عليها باحثو الأديان حتى في دراستهم لأديان أقلّ تركيبًا من الأديان الكتابية، لكن هذه الوحدة لا يمكنها الظهور طالما أننا نتحدث عن (كليات) للقرآن مُتساوِقة مع الدعوة.

التأويل ليس رهانًا؛ الجابري والقراءات الحداثية للقرآن:

هذه الـمُحدِّدات أو المبادئ التي يذكرها الجابري انطلاقًا من (الروح الرشدية)، ربما لا تستطيع أن تكون برنامجًا تأويليًّا بالمعنى المفهوم، فمجرد التاريخية وتأويل ما يُعارِض العقل ليست أبدًا تقنية تأويلية، بل من الممكن اعتبارها محددًا تأويليًّا فحسب، لكن تبقى مهمّة تحديد موقعها في عملية استخراج المعنى القرآني التي هي المهمّة الـمُفتَرَضة للتفسير، وهذا هو ما لا يحدث طوال كتاب الجابري، الذي يتحوّل لكتاب يُقارِن القرآن بالسيرة ويُخلِص في ربط القرآن بمعقولية سياقه دون أن يخبرنا عن إمكانية الاستفادة التأويلية من هذا التسَاوُق بما هو أكثر من رفض الغنوصيّات ورفض الخلط بين مساحات العلم والدين، ولعل هذا ما جعلَ الكثيرين ينتقدون الجابري على عدم وضوح قدرة كتابه على (جعل القرآن معاصرًا لنا)؛ لأن هذا التعصير للنصّ يتطلب بالطبع كشفًا تأويليًّا عن مرتكزاته أو كشفًا تأويليًّا عن (العالم الذي يخلقه) أو الدخول معه في (حوار تأويلي) منطلق من وضعيتنا التاريخية، وهو ما لم يحدث في كتاب الجابري.

وهذا في الحقيقة يجعلنا نتساءل عن الفائدة التي يقدمها لنا كتاب الجابري ككتاب في (تفسير القرآن)، أي: ما هي الفائدة التي يقدّمها كتاب الجابري في استخراج المعنى القرآني. فهذه الفائدة -على ما يبدو- ضئيلة للغاية، وربما لا يمكننا أن نكتفي بكون الكتاب قد يكون مفيدًا في التأريخ للسيرة[14]، فالكتاب هو كتاب عن القرآن، ومُعَنْوَن بكونه فهمًا وتفسيرًا.

لكننا لو تركنا السؤال الذي يفرضه علينا عنوان كتاب الجابري، وتساءلنا بدلًا عن هذا عن موقع كتابه من رهان اشتغاله الأساس، والذي -كما يقول الجابري- هو (التعريف بالقرآن) وإبراز عقلانية القول القرآني ونفي صلته بالأنظمة المعرفية التي يمكن أن تُشوِّش على (برهانيته الخاصّة)، وتبديد «الضباب الذي يَحُول دون التعامل العقلاني مع النصّ، الذي لم يُشِد بشيء قدر إشادته بالعقل»[xxiii]، فإننا وفقًا لهذا الرهان نستطيع القول بكفاية القراءة التاريخية التي قام بها الجابري لتحقيقه، فالجابري عَبْر هذه القراءة استطاع وضع القرآن في سياقه التداولي ونفَى أيّ صله له ببقية الأنظمة المعرفية (العرفان) و(البرهان الفلسفي)، واقتحم القصة القرآنية كمساحة رئيسة لسحب بيانية/ برهانية القرآن نحو عرفان أو برهانية مسقطة، تاركًا -ربما لمَن بعده- إكمالَ ما يريد كما عبَّر هو نفسه في خاتمة كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم).

لكن ثمة عدد من القضايا التي تثير النقاش في هذا التفسير/ التعريف الذي يُقدِّمه لنا الجابري حتى لو بدَا كافيًا كرهانٍ لعمله. أهم هذه القضايا أن الجابري يبدو في تعريفه هذا بالقرآن وكأنه يتجاهل تمامًا القراءات الحداثية للقرآن، بمعنى: هل بالفعل الواقع الفكري الحداثي العربي كان ينتظر كتابًا حول القرآن يعود إلى هذه الخطوة، أي: خطوة ربط القرآن بسياقه التاريخي ونزع التأويلات اللاعقلانية عنه؟ وإذا كان هذا الواقع بالفعل مليء بهذه المحاولات لتسييق القرآن تاريخيًّا ولقراءته عقلانيًّا ولتطبيق منهجياتٍ أحدث بكثيرٍ مما طبّق الجابري، فأين يمكن وَضْع محاولة الجابري؟ إننا لا نريد الوقوف بهذا التساؤل عن حدّ استنكار كفاية ما قام به الجابري، وإنما نريد به تسييق محاولة الجابري في سياق القراءات الحداثية.

ظنّنا أنّ محاولة الجابري ومع تشابهها في المنطلقات مع كثير من القراءات الحداثية وكذلك في مركزية التاريخية في عدّته المنهجية على خلاف بالطبع، وكما أوضحنا في رهانات التاريخية عنده، وبالرغم من محدودية محاولته على مستوى بناء المنهج التأويلي فإن لها ميزة مهمّة بين هذه القراءات؛ حيث إنها تتجاوز خطأً كبيرًا طالما انتُقِد على أساسه القراءات الحداثية، أي: الاقتصار على تأويلات جزئية للغاية للقرآن؛ فالجابري في مقابل هذه التفسيرات الجزئية يقدم تفسيرًا كاملًا يضع القرآن في طبيعته التي يتصورها (أي: القرآن كخطاب عقلاني)[15]، محشِّيًا عليه بتفسير خالٍ من أيّ أثر يثير الضباب حول عقلانيته، وإن كان هذا قد أدَّى في ظنّنا للإمعان في أحد عيوب تلك القراءات، وهو عدم بلورة تأويلية متماسكة المعالم من الناحية المنهجية والنظرية على الأقل.

وهذه الصلة التي نقيمها بين نصوص الجابري والكتابات الحداثية بتسييق قراءة الجابري داخلها، ربما تستطيع أن تجيبنا على سؤال آخر وقضية أخرى يثيرها تعريفه/ تفسيره، وهي ما قلناه منذ قليل عن غياب منهج تأويلي عند الجابري، فربما ليست القضية هي فحسب وقوف رهان الجابري عند حدّ (تبديد الضباب)، بل كذلك فإنّ الجابري لم يكن ليستطيع انتهاج هذه المناهج الرائجة في الهرمنيوطيقا واللسانيات ما بعد البنيوية، ليس فقط لأن الجابري لم يُعرَف عنه اشتغال بهذه المنهجيات طوال مشروعه، ولكن أيضًا -وهو الأهم في ظنّنا- لأن هذه المناهج لا تناسب تصورات الجابري عن الحداثة التي يريد للعرب إنجازها، فهذه المناهج لا تتفق مع (الروح الرشدية) التي يدافع عنها الجابري ويطالبنا باستلهامها، فهذه المناهج في معظمها مدينةٌ لما يُعرف بـ(الحداثة-الضد) أو (ضد التنوير) أو (التنوير المضاد)، وهي نسخة من الحداثة لها (هرمسياتها الخاصّة) التي لن يقبلها الجابري، فالجابري يبني انطلاقه وتقريبه بين الروح الرشدية والروح الحديثة على حداثة معيّنة هي الحداثة العقلانية التي أنتجت ديكارت ولوك وجاليليو لا التي أنتجت -أو أنتجها- برونو وكبلر ونيتشة وفرويد وشلايرماخر وأوتو وجادمر[16].

وهذا يذهب بنا لقضية أخرى وأخيرة يثيرها تفسير/ تعريف الجابري بالقرآن، وهو أن الجابري قرّر استلهام (الروح الرشدية) في قراءة النصّ، دون أن يمتحن هذه الروح ذاتها، فهل بالفعل (الروح الرشدية) أفضل في قراءة النصّ القرآني من (الروح السينوية) أو من (الروح البيانية) للمدونات التقليدية؟

بالطبع الجابري يمنح الأفضلية لقراءة ابن رشد انطلاقًا من نقطتين؛ الأولى: تصوره عن عقلانية الوحي وعن ترتيب العلاقة بين (البيان) و(البرهان). والثانية: اعتباره أن الروح الرشدية هي الأقرب لعصرنا؛ مما يجعلها جسرًا لجعل القرآن حين يُقرَأ بها (معاصرًا لنا)، لكن في الحقيقة فإن (عقلانية الوحي) لا تُبرِّر كذلك كون (الروح الرشدية) هي المناسبة لقراءته -بالطبع ولا الروح الرشدية هي روح العقلانية المعاصرة-؛ لأن هذا يتطلب البحث في معنى هذه (العقلانية القرآنية)، وإذا كان الجابري دقيقًا وبارعًا حين فرّق بين العقل الحديث والعقل الأشعري[xxiv]، مُنتَقِدًا التوحيد والخلط بينهم في النصّ النهضوي والتنويري العربي -فإننا لا نجد هذه البراعة تُستَخدَم هنا للتفريق بين (عقلانية الوحي) و(عقلانية ابن رشد) و(العقلانية الحديثة)، بل و(العقلانية المعاصرة)، فهذه عقلانيات مختلفة فيما بينها، ومع هذا فالجابري يتَنقّل بينها بكلّ أريحية ودونما استشكال.

لهذا فإنه ورغم اقتصار الجابري على (تعريف القرآن)، إلا أننا لا نجد بعدُ تعريفًا بالقرآن، فالقرآن هنا لم يُعرَّف بصورة إيجابية، بل كان ثمة فقط محاولة تعريفه سلبيًّا بـ(برهنته)، عبر إخراج الميثولوجي الـمُختَرِقة له والبُرهانية الـمُسقَطة عليه، محاولة فحسب لتبديد (الضباب)، وربما لهذا نعَتَ الجابري تفسيره بنعتٍ لم يستحبّه البعض[17]؛ أي (التفسير الواضح)، فتفسير الجابري بترتيب النزول هو تفسير واضح لأنه تفسير يعزِل القرآن -عبر تسييقه في الدعوة المحمدية- عن (الضباب) الذي يلفّ التفسيرات الأخرى.

ولعلّ هذا الغياب لتعريف إيجابي للقرآن انعكس بوضوح على تعامُل الجابري مع مساحة من أكبر مساحات القرآن، أي: القصص؛ فالجابري لم يستطع التعريف بالقصة القرآنية تعريفًا إيجابيًّا، حيث كان همّه إظهار كونها (بيانًا/ برهانًا عن واقعة خارجة عن النصّ)، وفصم علاقتها بالميثولوجيات وبالتاريخ، لكن هذا يحصر وظيفة القصّة في وظيفة فقيرة للغاية (البرهان على قضية خارجة عنها) لا تُناسِب الزخم السردي للقرآن، إننا لا نعني أن الجابري كان عليه اعتبار القصص قصصًا رمزيًّا أو اعتباره قصصًا تاريخيًّا بالضرورة، لكن ما نعنيه هو أنّ خروج الجابري من القولين كان خروجًا سلبيًّا، غرضه الهروب من القولين؛ لذا لم يستطع الجابري طرح تساؤل حول وظائف أعمّ وأشمل للقصة القرآنية، ولا بحث عن علاقاتها بالشعائر، ولا علاقة لها بالعقائد تتخطى -فقط- مسألة محاولة تكريسها، ولكن أن تكون القصة ذاتها في بنائها وحضورها سردًا للمعتقد، فهي كالمعتقد أو أوجه (البنية الأساس للدين)[18].

إنّ فقر نتاج الجابري في ما كتب حول القرآن لا يتعلق فحسب بكون ما كتبه مجرد تعريف، بل في كون هذا التعريف نفسه ليس تعريفًا ناتجًا عن تَعرُّف إيجابي يستَكشِف سمات ما يتعرَّفه بقدر ما هو ناتج عن موضعة للقرآن في الروح الرشدية -قراءة الجابري بترتيب النزول والتي اعتبرها الجابري محاولة (لجعل القرآن معاصرًا لنفسه) هي جزء من هذه الروح الرشدية بالأساس-، لكن ما يبدو هو أن هذه الروح ليست كافية بالقدر الكبير كي تُنتِج تأويلًا، إنها تستطيع فحسب تحديد المساحات، فتستبعد الأنظمة المعرفية الفلسفية والعرفانية والكلامية ولا تَعرِض من التأويل إلا ما يناسب المستوى المعرفي للمُوجَّه إليه الـتأويل.

فالروح الرشدية ليست منهجًا تأويليًّا بل هي منظور قد يصلح كأساس لمنهجية تأويلية، لو تبلورت فربما ستكون مختلفة كثيرًا من حيث بنائها عن المنهجيات المستخدمة من قبل القراءات الحداثية الأخرى، وما يكشف عنه سيطرة هذا المنظور على ما كتب الجابري حول القرآن كآخر مساحة يعمل عليها، هو أنّ تكريس هذا المنظور العقلاني-الرشدي في أعمق مساحات العقل والوجدان العربي والذي كان رهان الجابري منذ بداية مشروعه وطوال استمرار اشتغاله الذي استمر لثلاثين عامًا، ظلّ كذلك رهانه الأخير!

 

 

 

[1] محمد عابد الجابري (1935-2010)، أحد أهم المفكرين العرب في العقود الأخيرة، حصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970، ثم عين أستاذًا للفلسفة في كلية الآداب بجامعة الرباط، له عددٌ من الكتب المهمّة، في مركزها مشروعه (نقد العقل العربي) الذي أثار الكثير من النقد ومن الإشادة، وكُتِب حوله الكثير من الكتابات، من أهم هذه الكتب:
- العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي، (1971).
- نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، (1980).
- نقد العقل العربي 1، تكوين العقل العربي، (1982).
- نقد العقل العربي 2، بنية العقل العربي، (1986).
- إشكاليات الفكر العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، (1986).
- نقد العقل العربي 3، العقل السياسي العربي، (1990).
- نقد العقل العربي 4، العقل الأخلاقي العربي، (2001).
- مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، (1995).
- المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، (1995).
- حوار المشرق والمغرب، مع حسن حنفي، (1990).
- ابن رشد، سيرة وفكر، (1998).
- مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول في التعريف بالقرآن، (2006).
- فهم القرآن الكريم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، ثلاثة أقسام، من (2008) إلى (2010).

[2] يعني التعبير العامل الحاسم من بين عوامل أخرى، وهو لا يعمل إلا عبر تضافرها، لكنه يظلّ العامل في المرتبة العليا، وقد استخدم هذا المفهوم سعيد بن سعيد العلوي في كتابه: (الخطاب الأشعري؛ مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي)، منتدى المعارف، بيروت، ط2، 2010.

[3] انظر مثلًا: الطبيعيات في علم الكلام، يمنى طريف الخولي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص128، وانظر: الرشدية أم الخلدونية، هشام غصيب، منشور في (هل هناك عقل عربي؟)، دار التنوير العلمي، الأردن، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، من ص227، وانظر: نقد العقل العربي، نظرية العقل، جورج طرابيشي، دار الساقي، بيروت، ط1، 1996، ص276.

[4] يعتمد الجابري في هذا لائحة النزول المعتمدة عن الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية، ص262.

[5] كما كنا قد ذكرنا في مقال (يوسف الصديق، والقراءة الفلسفية للقرآن)، فإننا نستطيع اعتبار الخلافِ المعاصر في التعامل مع القصة القرآنية، والاتفاقِ بينها في إدانتها للتراث التفسيري وتعامله مع القصص -قائمًا في أحد أوجهه الرئيسة على اعتبار المدونة التفسيرية أخضعت القصة القرآنية لوحدات مستقاة من قصص العهد القديم والأساطير الجاهلية، في حين تريد التفاسير والدراسات المعاصرة الـمُنتقِدَة أن نقرأ القصة وفقًا لوحدة قرآنية، لكن هذه الوحدة نفسها مختلف في تحديدها، فهناك من ينطلق من وحدة القصص (باقر الصدر)، وهناك من ينطلق من وحدة القصة (الطبطبائي)، وهناك من ينطلق من وحدة الغرض (خلف الله)، وهناك من ينطلق من الوحدة المنهجية (أبو القاسم حاج حمد)، وهناك من ينطلق من وحدتي النبوّة والرسالة كمصطلحات قرآنية (شحرور).

[6] بالطبع هذا التعامل مع القصة القرآنية مطروق ومتكرر بصورة لا نستطيع معها فهم كونه خصيصة لدراسته، اللهم إلا بتعميقه لهذه الرؤية باستخدامها لتخليص القرآن من (العرفان) و(البرهان الفلسفي والعلمي)، وكذا بالدلالة التي يعطيها للعظة.

[7] وتحديدًا الحداثي فيما بعد التأسيس الثاني للنهضة، فكما ذكرنا سابقًا في مقال (عبد المجيد الشرفي، القرآن وتحديث الإسلام) فإنّ كتاب خلف الله هو أول اشتغال مكتمل على أحد مساحات (بنية الدين الأساس) يستخدم منهجيات علمية حديثة.

[8] انظر مقالَي:
(عبد المجيد الشرفي، القرآن وتحديث الإسلام) عبر الرابط: tafsir.net/article/5116 .
و(القراءة الحداثية للقرآن عند نصر أبو زيد)؛ ثانيًا: تأسيس مقولة التاريخية عبر الرابط: tafsir.net/article/5099 .

[9] انظر: (القراءة الحداثية للقرآن عند نصر أبو زيد)؛ ثانيًا: تأسيس مقولة التاريخية عبر الرابط: tafsir.net/article/5099 .
و(القراءة الحداثية للقرآن عند نصر أبو زيد)؛ ثالثًا: القرآن من (النصّ) إلى (الخطاب) عبر الرابط: tafsir.net/article/5107 .

[10] نقصد التاريخية الـمُستَنِدة للقرآن كنصّ مُرتَبِط (مُنعَكِس أو مُتساوِق) مع الواقع، دون مسافة قبلية تُحدِّده تجاه هذا الواقع.

[11] كما ذكرنا سابقًا في مقالتنا حول نصر أبو زيد، فقد وُجد القولان في خطاب نصر؛ إمّا بنفي الوحدة والإصرار على عدم وجود مركز دلالي يوحِّد دلالات النصّ، أو -ومن أجل إنقاذ رهانات الخطاب وتحريك المعنى- القول بوحدة للنص هي عبارة عن كليات تمثّل أمنيات التنوير العربي.

[12] فهم القرآن الكريم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الأول، ص16.

[13] التشريعات والأوامر والنواهي وكما قلنا مسبقًا في مقال (القراءة الحداثية لنصر حامد أبو زيد)، ثالثًا: القرآن من (النص) إلى (الخطاب)؛ فإنها مرتبطة بتنظيم فضاء القداسة وترتيب العلاقات بين القداسة والدناسة والعالم العادي، فهي جزء من عملية (تأسيس العالم) التي يقوم بها الدّين، مما يجعلها أحد أوجه البنية الأساس للدين، ويجعل قراءتَها منفصلة عن المعتقد والقصص قراءةً مقصِّرة عن إدراك مضامينه.

[14] هكذا اعتبر مثلًا عبد الرحمن الحاج، أن الكتاب يُمثِّل إضافة لفهم السيرة النبوية قبل أن يكون إضافة لفهم القرآن، وأن اجتهاده في تعديل ترتيب القرآن حسب النزول وربطه بوقائع السيرة، يجعله أقرب إلى فهم السيرة من خلال القرآن وليس العكس. انظر: الفهم والتفسير في مسار التنزيل ومسيرة الدعوة، الجابري وإعادة (فهم القرآن الحكيم)، مجلة المحجة، العدد 20، شتاء-ربيع 2010، ص209.

[15] كتب الجابري تفسيره الذي لم يكن يفكر بداية في كتابته، بعد صدور كتاب (روح الحداثة) لطه عبد الرحمن، وهو أكثر الكتب التي ركزت على قضية أن تأويل الحداثيين لا يتعدَّى تأويلًا لبعض آيات، فهل خشي الجابري على نفس المصير لتأويلات معزولة لا تترابط، فقرّر تقديم تفسير كامل، وإن لم يكن بكلِّ العمق الكافي؟!

[16] التنوير المضاد هو مرحلة من ثلاث مراحل للتنوير: (التنوير الراديكالي)، و(التنوير المعتدل و(التنوير المضاد)، وفقًا لهذا التحقيب الثلاثي الذي طوّره صالح مصباح عبر الاستفادة من تلك المراجعات المعاصرة لتاريخ التنوير الأوروبي، والتي تعود أهمها لثلاثينيات القرن الماضي، تلك التي نؤكد على الطابع المعقد والديناميكي والتاريخي للتنوير، ومنها تأريخات هانز بروان وأعضاء مدرسة فرانكفورت وجوناثان إسرائيل، ثم وخصوصًا نصّ شتراوس الشهير (موجات الحداثة الثلاث)، (الذي يعتبر بمثابة وصية نظرية)، وهو ربما أكثر المراحل الثلاث تنوعًا، والذي يحتفي بعبارة فيكو البنيوية في تأكيده على الخبرة والمخيلة الشعرية والدين في مواجهة (بربرية العقل)، كعنوان عليه، فقد كانوا يرون للدين أهمية كبيرة؛ فحسب هردر: «تحتاج العقلانية المعرفية إلى الدين»، فرومانسيًّا لا بد من تأسيس العقلانية على اللاعقلانية، لإقامة تصور دنيوي يجمع بين العقل والإيمان على نحو مكين، يتجاوز مجرد الفصل الكانطي (التنوير المعتدل) بين المعرفة والإيمان، ويتخطى دوغمائية التنوير الراديكالي في نقده للدين. انظر: صالح مصباح، مباحث في التنوير؛ موجودًا ومنشودًا، جداول، بيروت، ط1، 2011، الفصل الأول (القول في تاريخية التنوير الأوروبي الحديث وتعدده).

[17] في مقال بعنوان: (محمد عابد الجابري وتفسير القرآن) اعتبر رضوان السيد أن التفسير وفق ترتيب النزول يزيد من غموض النصّ لا وضوحه، وظنّنا أن هذا ليس ما قصد الجابري؛ فمقصد الجابري بالوضوح هو عزل كلّ ما يشوش على عقلانية النصّ التي تتبدى في معقوليته الخاصّة المرتبطة بسياقه التداولي، وهذا يتم عبر المبالغة في تسييق القرآن في سياق الدعوة وإبراز مساوقته لمراحلها، والمقال منشور على موقع الملتقى: almultaka.org/site.php?id=843.

[18] حاولنا سابقًا محاولة أولية متواضعة في هذا السياق تحتاج لإكمال، تنطلق من كون القصة القرآنية تجلي سمت المعتقد في بنيتها ونمط سردها ذاته، وأن هذه التجلية لسمات المعتقد تبدو حين نقارن القصة بالكلام المدان قرآنيًّا مثل الأسطورة، وحددنا ثلاث سمات رئيسة للقصة القرآنية، (القصة أيقونة تدل على قائلها) في مقابل (الأسطورة أيدولة تدل على ذاتها)، (القصة بيان لاستئثار الله بالغيب) في مقابل (الأسطورة كرجم بالغيب)، (القصة تكريس لخيرية العالم الديني التوحيدي) في مقابل (الأسطورة كتكريس لعنف وصراعية العالم الديني غير التوحيدي). وظنّنا أن الخروج من الثنائيات التي خلقتها الاستشكالات الاستشراقية على القرآن من قبيل علاقته بالتاريخ أو بالكتب السابقة، والتي حتّمت على كلّ من يكتب في القصة القرآنية أن يبني نصّه في محاولة تكريس هذه الاتهامات أو مواجهتها بنفي تاريخية القصة -ولعلّ كتاب خلف الله نفسه مثال على هذا- يستطيع أن يحررنا من هذه (العوائق المعرفية) في دراسة القصة القرآنية، وفتح الكثير من المساحات لمقاربات لها أكثر جدة.

 

[i] نقد العقل العربي، نظرية العقل، دار الساقي، بيروت، ط1، 1996، ص12.

[ii] نحن والتراث، محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط6، 1993، ص52.

[iii] تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط10، 2009، ص136.

[iv] نفسه، ص183.

[v] نفسه، ص310، 318.

[vi] نفسه، ص310.

[vii] مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول: في التعريف بالقرآن، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2006، ص15.

[viii] نفسه، ص13.

[ix] نفسه، ص257.

[x] نفسه، ص261، 262.

[xi] الفن القصصي في القرآن، محمد أحمد خلف الله، ص215.

[xii] نفسه، 212.

[xiii] نفسه، ص348.

[xiv] مدخل إلى القرآن الكريم، ص275.

[xv] نفسه، ص258.

[xvi] تكوين العقل العربي، ص321.

[xvii] مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول: في التعريف بالقرآن، من ص187، إلى ص190.

[xviii] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الأول، محمد عابد الجابري، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط1، 2008، ص14.

[xix] مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول: في التعريف بالقرآن، من ص250، إلى ص253.

[xx] صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، عالم المعرفة، الكويت، العدد 164، أغسطس، 1992، ص236.

[xxi] يعتبر الجابري الأمر بتجنب الربا في سورة الروم هو مجرد أمر أخلاقي لا تشريعي! انظر: فهم القرآن الكريم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الثاني، مطبعة دار النشر المغربية، عين السبع، الدار البيضاء، ط1، 2008، ص344.

[xxii] الدين والتدين، عبد الجواد ياسين، التنوير، بيروت، ط1، ص38.

[xxiii] مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول: في التعريف بالقرآن، ص429.

[xxiv] الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط5، 1994، ص39، 40.

الكاتب

الأستاذ طارق حجي

باحث مصري له عدد من المقالات البحثية والأعمال المنشورة في مجال الدراسات القرآنية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))