تعريف بمخطوط (النشر في القراءات العشر) للإمام ابن الجزري
المحفوظ بمكتبة يني جامع بإستانبول

تعرِّف المقالة بمخطوط نفيس لكتاب (النشر في القراءات العشر) للإمام ابن الجزري، وهو المحفوظ بمكتبة يني جامع بإستانبول، وتستعرض الجانب المادي للمخطوط بذكر بيانات الحفظ وحالة النسخة، وكذلك الجانب العلمي بذكر التعليقات عليها وقيمتها العلميّة ورحلة المخطوط.

  الحمد لله ربِّ العالمين، وصلاةً وسلامًا على خير مبعوث في العالمين، وبعد:

فإنّ كتابَ الله العزيز -سبحانه- قد اشتغل فيه المشتغلون وفنُّوا فيه الفنونَ، فظهرَت مسمَّيات العلوم القرآنية وفقًا لذلك، ومنها علم القراءات الذي كان فيه الفَارسَ المُجَلَّى والعلَمَ المُعَلَّى -الإمامُ المحدِّثُ المقرئُ الشيخُ شمسُ الدين محمدُ بن محمد بن محمد الجزري، شيخ الإقراء في زمانه، وهذا كتاب «النشر في القراءات العشر» دُرَّة دمشقية من فيض دوحة عُمرية فَاح عَبَقُها الأنام، وعزَّت على مثلها الأيام، وعجزَت عن فضلها الأقلام.

وبين أيدينا نسخة فريدة منها ليس كمثلها شيء من نُسَخِها، وسنحاول في هذه السطور أنْ نَصِفَها مستعرضين جوانبها؛ المادية والعلمية.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والكتابة والورق:

هذه النُّسخة محفوظة في مكتبة يني جامع في المكتبة السليمانية بإستانبول تحت رقم حفظ (7)، وتقع هذه النُّسخة في ثلاثمائة وثمانٍ وخمسين ورقة بحسب الترقيم المذكور، في خمسة وعشرين سطرًا، بقياس مائة وثمانين مضروبة بمائتين وخمسة وسبعين ملليمترًا، وقد كُتِبَت هذه النُّسخة بخطِّ النَّسخ بشكلٍ واضحٍ، كاملة النّقط، مهملة الضبط، بحجم دقيق في أغلبه، يَدِقُّ ويتّسع، ويكبر ويصغر، على اختلاف الورق، من أولها إلى آخرها ملونةٌ رؤوس موضوعاتها الرئيسة بالحُمرة، وعليها خطوط تنبيه قد لُوِّنَت كذا بالحمرة.

2- بيانات النَّسْخ:

من الجدير بالذِّكر أنَّ هذه النُّسخة قد توالَت على مَشْقِها النُّسّاخ والأقلام، فالملاحَظ فيها تداخل الخطوط واختلافها، أما الكراسة الأخيرة فهي بخط صاحب العمل، ولم يكتف بذلك؛ بل المُستعرِض للنُّسخة ليَجِدُ أنَّ بعض مواضع فيها قد كُتبت بيده، مثل: (3/أ ، 3/ب، 4/أ، 5/أ، 5/ب، 6/أ، 8/ب، 9/أ، 270/ب).

ومثال ذلك:

خط ابن الجزري (3/ب)

«وَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَقَاتَلَ الصَّحَابَةُ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ، وَقُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ الْخَمْسِمِائَةِ، أُشِيرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَذْهَبَ بِذَهَابِ الصَّحَابَةِ، فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِتَتَبُّعِ الْقُرْآنِ وَجَمْعِهِ، فَجَمَعَهُ فِي صُحُفٍ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-».

 وانتهى من كراسته الأخيرة فاختتم نَسْخها «في بُكْرة نهار الأربعاء السادس عشر من شهر رمضان المعظم سنة ثلاثٍ وعشرين وثمان مائة، بين الركن والمقام من المسجد الحرام».

3- حالة النسخة:

وقد أصاب النُّسخةَ بعضُ البلل والرُّطوبة في أغلب أوراقها ولم تكن لهذه الإصابات أيّ أثرٍ على المادة العلمية من إخفاءٍ أو تلبيس أو إشكال أو حذف أو زيادة، مرممة في بعض أوراقها، إلا أنَّ فيها بياضًا بمقدار ورقة ونصف من أوراقها وهي الورقة (270/ب) في منتصفها عند عنوان: (رواية ورش)، حيث رُفِع القلم من ههنا إلى (271/ب) عند عنوان: (باب فرش الحروف).

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- قيمة النسخة:

ومما يدلُّ على شرف هذه النُّسخة وعُلوِّ شَأْوِها ونفاستها أنَّ مؤلِّفها أقرأَها، ومُجازَة من قِبَله بنصِّه؛ وقد أشار لذلك على طُرَّة النُّسخة الأستاذُ الشيخ أبو شاكر محمد بن علي -رحمه الله- بصورة مفصَّلة، حيث نبَّه بعد مطالعته ومباحثته إياها أنَّ هذه النُّسخة ليست كغيرها من النُّسَخ، بل هي أعلى ذكرًا وأهمّ مادةً مِن سواها حيث أقرأَها مصنِّفها، وكُتبت بعضُ قِطَع منها وكراستُها الأخيرة بخطِّه الشَّريف، ثم أكَّد أنَّ هذه النُّسخة هي المتأخرة عن نسخة (برصة) الشهيرة التي أقرأَها هناك في السنة الأولى بعد المائة الثامنة. أمّا هذه فهي التي عليها خطُّه والتي استقرَّ عليها العملُ والقول، وعند الاختلاف يُرجَع إليها ويُعتمَد عليها؛ حيث زاد على الأخيرة آراءَه التي انتهى إليها.

«الحمد لله. هذه النسخة الشريفة العظيمة الجليلة نسخة المؤلف -رحمه الله تعالى- التي أقرأها بمكة المشرَّفة، والشيخ جلال الدين المرشدي وبنوه وغيره يسمعون من لفظه الشريف وفي أثنائها مواضع كثيرة بخطِّه الشريف، والكراس الأخير كلّه بخطه أيضًا والتبليغات التي في الهوامش لا تُحصَى؛ فحينئذ يجب أن يُعلَم قدرها ويُعتمد عليها وتُراجع عند اختلاف النُّسَخ وأشباهها فإنها متأخرة عن نسخته التي أقرأها بمدينة (برصة) -وأولاده الكرام وغيرهم يسمعون من لفظه الشريف- باثنين وعشرين سنة، فإني قد وقفتُ على تلك النسخة وتشرفتُ بمطالعة أكثرها، ولله الحمد، فوجدته -رحمه الله- قد زاد في هذه النسخة على تلك أشياءَ كثيرة، والذي ظهر لي -والله أعلم- أن هذه النسخة التي استقرَّ عليها رأيُه السديد وتأليفُه السعيد، جزاه الله تعالى خير جزاء، وحَشَرَنا في زمرته ببركة القرآن المجيد مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا، آمين يا رب العالمين. قال هذه الأحرف وكتَبها بيده الفانية مالك هذه النسخة المبجَّلة الفقير الحقير المعترف بالعجز والتقصير (أبو شاكر محمد بن علي) خُوَيدِم كتاب الله والمستجير برسول الله، لَطَفَ الله به وبأُمّة محمد في الدنيا والآخرة، آمين آمين آمين. سنة 1077».

2- القراءات والسَّمَاعات والإجازات والمقابلات:

وقد قرأَ هذه النُّسخةَ المؤلِّفُ في مكة المكرمة تجاه الكعبة الشريفة بلفظه الشريف، والسامع هو تلميذه النَّجيب الشيخ جلال الدين المرشدي المكِّي الحنفي وأولاده ومن خلفهم غيرهم يسمعون، وقد توزَّعَت البلاغات بالسَّماع مكتوبة بخطِّه الشَّريف بكثرة على هوامش النُّسخة.

«بلغ السماع بقراءتي تجاه الكعبة الشريفة زادها الله تشريفًا ومن السامعين المولى الشيخ الإمام جلال الدين عبد الواحد وبنوه، كتبه ابن الجزري في سنة...».

ثمَّ أجاز -رحمه الله- في نهاية النُّسخة الرِّواية عنه لأهل مكة المكرمة بشكل خاصّ، وهم أهل ذلك السَّمَاع، ومن بعدهم لأهل عصره عامّة.

«...وقد أجاز روايته لأهل مكة المشرفة خاصّة ولأهل عصره عامّة...».

3- التعليقات والنِّكات والفوائد:

هذا.. وقد زُيِّنَت هذه النُّسخة بكثير من الحواشي والتعليقات والتصحيحات بخطوطٍ -تتقدَّم وتتأخر في الزَّمن- على الهوامش، ونقولات عديدة من عدّة مصادر ككتاب «الطبقات» لابن الجزري، و«التيسير»، و«جامع البيان».

وقد خُتمت في آخر ورقة منها بفائدة لطيفة تتَّصل بذات موضوع الباب، وهي مسألة مهمّة في قراءة نافع في رواية ورش من طريق الأزرق.

4- التملُّكات والوقفيات:

ودَخلَت هذه النسخة الشريفة في حيازة الكثير من الناس، فعَلى صفحة العنوان تملُّكات عديدة، منها: الشيخ محمد بن لطف الله بن زكريا الشهير بالعرني، ثم تملَّكَها أبو شاكر محمد بن عليّ عام سبعة وسبعين بعد الألْف.

ووَقْف صاحب المكتبة المحفوظة فيها هذه النُّسخة وهو السُّلطان أحمد بن غازي سلطان محمد خان في السَّنة الخامسة عشرة بعد المائة الأولى من الألْف الثانية للهجرة.

5- رحلة المخطوط:

والملاحِظُ لرحلة هذا السِّفر العظيم الزمانية عَبْر البلدان وانتقالها عبر الأيام من مكان لمكان يَلحَظ بعين النّاقد البصير أنَّ مؤلفها قد رفع قلمه عنها، وانتهى من نسخ كراستها الأخيرة في القرن التاسع من عام ثلاثةٍ وعشرين وثمانمائة، من بُكرة نهار الأربعاء في السادس عشر من شهر رمضان في مكة المكرمة، ثمَّ انتقلَت تملُّكًا ليدِ العرني الشيخ محمد بن لُطْف الله، وبعد ذلك استقرَّت بيدِ صاحب الفائدة المهمّة والإشارة المُلِمَّة التي رُقِمَت بيدِه على طُرَّة النُّسخة الأستاذ أبي شاكر محمد بن عليّ في سبعةٍ وسبعين بعد الألْف، ثم أخيرًا انتهت بمقرِّ مكتبة السُّلطان الواقف السَّالف الذِّكر مكتبة يني جامع بإستانبول، التي حفظَتْها إلى الآن لِتَخرُج بين أيدينا متاحةً لإفادة أهل الاختصاص وأرباب الصَّنعة.

خاتمة:

هذا.. والوصف في آثار هذه النسخة الجليلة لا ينقضي، والكلام فيها لا ينتهي، ولعَلِّي أَصبتُ منها الفائدة، وهو جهد المقلّ، والحمد لله رب العالمين.

 

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))