أثر القرآن في الحياة العربية (2-2)

مصطفى السباعي

كان للقرآن أثرٌ عظيمٌ في الحياة العربية، وفي هذه المقالة يستعرض الكاتب بعض أوجه التغيير التي أحدثها القرآن في حياة العرب ومجتمعهم، وكيف تعامل القرآن مع ما كان عندهم من فضائل ورذائل؟ لتُتمِّمَ ما تناوله من آثار في مقالته السابقة.

أثر القرآن في الحياة العربية[1]

  لقد كان أثر القرآن عظيمًا في تطوير المجتمع العربي من مجتمع قبلي، كلّ قبيلة فيه لها كيانها الخاصّ ورئاستها الخاصة وشعورها الخاصّ، إلى مجتمع مدني يشعر جميع أفراده بشعور الرعوية في دولة واحدة ذات نظامٍ واحدٍ، يتساوى فيه أبناؤه في الواجبات والمسئوليات، دون تفريق بين شريفٍ ووضيعٍ أو بين قبيلةٍ ممتازة وقبيلةٍ دنيئة.

لقد كانت القبائل العربية قبل الإسلام تتفاوت في الشرف والمنزلة الاجتماعية، فأشرفها قريش، وأخسّها باهلة، وفي خسة باهلة تضرب الأمثال حتى قال قائلهم:

 ولو قيل للكلب يا باهلي   عوى الكلب من لؤم هذا النسب!

 وقيل لأحدهم في فجر الإسلام: أيسرّك أن أباك باهلي وأنك في الجنة؟ فأجاب: لا أحب اللؤم بشيء! وقيل لآخر: أيسرّك أنك في الجنة وأنت من باهلة؟ فأجاب: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة!

وأسَّس القرآنُ الدولةَ عند العرب على مبدأين ثابتين:

  1. الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.
  2. العدالة المطلقة {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفِسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.

وجعل رئاسة الدولة بالمبايعة، لا وراثة ولا إكراهًا. وجعل العلاقة بين الشعب والرعية مقيدة بالقانون الذي شرعه الله لعباده، فلا يجوزه[2] رئيس ولا قوي ولا غني ولا زعيم، بل الكلّ أمام الحقّ سواء؛ (النَّاسُ سَوَاسِيَة كَأَسْنَانِ المشطِ)، وفي ذلك يقول الخليفة الصديق -رضي الله عنه-: (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق).

وكان توحيد العرب داخل جزيرتهم وإزالة الحروب والغزوات التي كانت قائمة بين قبائلهم؛ مقدمة لخروجهم من جزيرتهم برسالة تحريرية ليس لشعوب العالم يومئذٍ عهدٌ بها، وجعل منهم أمة تحمل لواء الريادة الفكرية والتهذيبية والحضارية لأمم الحضارة المعاصرة لهم، فغدوا قادة بعد أن كانوا تابعين، وأساتذة بعد أن كانوا مقلدين، ومعلِّمين بعد أن كانوا أميّين.

لقد عرفت جزيرة العرب قبل الإسلام موجات من هجرة أبنائها إلى خارج حدودها انتجاعًا للرزق والعيش، ولم تكن فيها موجة تحمل رسالة وفكرة وهدفًا تحريريًّا لمن ينتقلون إليهم، ولكن الموجة العربية بعد الإسلام كانت من طرازٍ فريدٍ أدهش العالم يومئذٍ، ولا يزال يدهش كُتّاب العالم اليوم، موجة أقامت حضارة، وأنشأت دولًا، وأزالت دولًا، ونشرت علمًا، وأسست معاهد وجامعات، وأدخلت نور العلم والثقافة إلى أوروبا في القرون الوسطى؛ فبددت ظلامهم، وفتحت عقولهم، وجعلتهم تلاميذ يدرسون كتبهم في معاهدهم وجامعاتهم أكثر من ستة قرون.

وكان خروج العرب في هذه الموجة مقرونًا بالاستعلاء الخلقي والفكري على من حاربوهم من الفرس والروم؛ مما كان له عظيم الأثر في انتصاراتهم وفتوحاتهم.

وكان من أثر هذه الموجة أيضًا أن امتدت رقعة العالم العربي، فلم يعد العرب هم سكان الجزيرة العربية وحدها، بل ضمت لجزيرتهم إلى الأبد حدود العالم العربي اليوم من بلاد الشام إلى مصر والعراق وأفريقيا وغيرها، وانتشرت لغتهم كلغة علم وحضارة إلى جميع بلاد العالم المتمدن يومئذٍ، ودخلت كثير من كلماتها وتراكيبها إلى لغاتهم.

هذا بعض آثار القرآن على الحياة العربية واللغة العربية، ولولا القرآن لما بقيت اللغة العربية واحدة يتكلم بها جميع أبناء البلاد العربية، وهذا هو سرّ خلود اللغة العربية، لا كما يذيع الشعوبيون من أعداء الإسلام من أن القرآن جمَّد اللغة العربية وحال دون تطورها!

نماذج رائعة من أثر القرآن:

ونكتفي أن نورد هنا بعض النماذج الرائعة التي أوجدها القرآن في العرب، وقد كانت قبله بعكس ما خلدت فيه في التاريخ:

فهذا عمر بن الخطاب كان في الجاهلية فتى لاهيًا كفتيان قريش، فإذا هو بعد الإسلام محرِّرُ العالم من أكبر دولتين باغيتين، ويصبح مديرًا لممالكهما بأحسن وأفضل مما كانت تدار به في عهودهما.

وهذا خالد بن الوليد لم يكن في الجاهلية إلا فتى شجاعًا يحسن الحرب في غزو قبيلته على قبيلة عربية أخرى، فإذا هو بعد الإسلام قائد جيوش الموجة العربية الجديدة، يتغلب على قوّاد الدولتين الكبيرتين ويلحق بها أكبر الهزائم؛ مما جعله في التاريخ حقًّا مع الخالدين.

ونتابع هذه النماذج العجيبة المذهلة إلى أن نصل إلى امرأة كانت في صدر شبابها في الجاهلية قد فقدت أخويها، فجزعت وأنشدت القصائد الطوال في رثائها وبكائهما، ومما يحفظه كلُّ تلميذ في مدارسنا اليوم قولها في رثاء أخيها صخر:

 يذكّرني طلوع الشمس صخرًا      وأذكره لكلّ غروب شمس

 ولولا كثرةُ الباكين حولي      على إِخوانهم لقتلتُ نفسي

 فلا واللهِ لا أنساك حتى      أفارقُ مهجتي ويشقّ رَمْسِي

 فقد ودعتُ يوم فراقِ      صخر أبي حسان لذاتي وأُنْسِي

 فيا لهفي عليه ولهف أمي      أيصبح في الضريح وفيه يمسي؟

هذا مع أنّ صخرًا وأخاه لم يقتلا في سبيل مبدأ، ولا في سبيل أمة، ولا في الدفاع عن حقّ أو رسالة، وإنما قُتِلَا على عادة الجاهليين في قتل بعضهم لبعض.

فانظر إليها كيف انقلبت من امرأة جزعة هلوعة تلبس الخيش وتزهد في الحياة، وهذا كان شأنها في الجاهلية بعد مصرع أخويها، انظر إليها كيف انقلبت في الإسلام، وهي عجوز نيّفت على الثمانين تعطي أروع الأمثلة لبسالة المرأة العربية المسلمة وفدائها وتضحياتها.

لقد ذهبت مع الجيش في فتوح العراق ومعها أولادها الأربعة، فلما كانت ليلة القادسية فقالت لهم: يا بني؛ أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم، ولا فضحتُ خالكم، ولا هجنتُ حسبكم، ولا غيرتُ نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيّهَا الذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت على سياقها (وحللت نارًا على أرواقها)، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها (عند احتدام خميسها)؛ تظفروا بالغنم والكرامة في الخلد والمقامة.

فلما بلغها قتلهم قالت: (الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته). قالت هذا وهي في سنّ الثمانين وليس لها غير أولادها الذين فقدتهم، ومستحيل أن يبلغ حزن المرأة على أخويها كحزنها على أولادها الأربعة، ولكن القرآن خلق منها امرأة أخرى تسجل في تاريخ المرأة العربية أمثلة يندر أن تسجل امرأة أخرى مثلها في أيّ أمة من أمم العالم.

***


[1] مجلة حضارة الإسلام، م:8، 1383هـ -1964م، العدد العاشر، ص: 1062-1065.

 [2]في الأصل: "يجوز من"، وهي مشكلة، وقد أثبتنا ما رأيناه أقرب للمعنى بحسب السياق.

Tafsir Center for Quranic Studies | مركز تفسير للدراسات القرآنية

www.tafsir.net